هكذا قرأت! (قراءة في قصيدة “برج الثّور المأكول” للشّاعر الفلسطينيّ علي هيبي)
تاريخ النشر: 08/11/21 | 10:56بقلم: خالديّة أبو جبل/طرعان
قصيدة من ديوانه الّذي سيصدر قريبًا بعنوان “ابن رشد يورق في الاحتراق” تحمل عنوان “برج الثّور المأكول” وهو عنوان لافت وفيه من الغرابة ما فيه، فكيف يجتمع البرج والثّور؟ والبرج في العادة للحمام وليس للثّيران! ولِمَ يكونُ لهذا الثّور برج وهو مأكول ومُتآكل! أفلا يعلم بحاله ولا يعي موته وينتظر من يوقعه؟ كدأب موت “سليمان” النّبيّ الّذي لم يدلّ على موته إلّا النّمل! “فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ”. بالطّبع مع الفارق الجوهريّ بين المشّبه والمشّبه به “سليمان” النّبيّ (عليه السلام) أم لكبرياء وغرور وغباء، أم كلّها مجتمعة معًا؟ ثمّ ماذا مع باقي أشباح الثّيران المتآكلة؟ أم أنّ الشّاعر جعلهم كلّهم في جسد ثور واحد خائر متهالك، يسكن برجًا عاجيًّا ولا يرى أبعد من أنفه.
“بين نديم وقصيدة وكوب أترفّل”
هي حالة السّكر القصوى، نديمٌ قدّم له الكأس أفرغه في جوفه، وأفرغ هو ما في جوفه في قصيدة مختالًا، متبخترًا، يخطو، يخشى على لذّة سُكْره من مرأى عهر مدينة لبست ثوب الإثم، ورسمت في وجهها ملامح التّقى!
“لمدينة حسيرة الرّأس
مكشوفة الثّدييْن
عن طهارة بارعة الكذب”
مدينة يؤمّها الحجّاج يرجون توبة وخلاصًا في حرميْن صارا مرقصًا لشيطان مريد، بكلمة من غانية تجادل في كلام الله، وتؤوّله لصالح أطماع شهواتها وسفاهة فكرها وساساتها. وفي هذا إشارة لتسييس الآيات والأحاديث النّبويّة والفتاوى والقضاء، حسب ما ترتضيه نفوس الحكّام المترهّلين فكرًا وقيادةً، حتّى يبدو الشّاعر متلفّعًا باليأس يخنقه القنوط،
“آه لواقع مغلوب
بغيمة سرياليّة بيضاء
لا شتاء، هذا اللّيل
لا شتاء”
في حين كان تبختره وخيلاؤه أوّل سكره وتعاميه عمدًا عن هذه المدينة حتّى لا تُفسد عليه سكرته، فنرى الحزن يتسلّل إلى نفسه ليهدأ قليلًا وترتدي نفسه ثوبًا حريريًّا ناعمًا صيفيًّا ترفل وتتهادى به دلالة على الشّفافية والصّدق في المشاعر، يقوده هذا الحزن الأنيق لصوت عبد الحليم حافظ في أعذب طبقات حزنه وأكثرها كرامة يوم غنّى لجمال عبد الناصر، لكنّ عبد الناصر مات ورحل فماتت الكرامة وغابت الأغنية:
“بصورة عبد الحليم حافظ
تعزف من لحن طبقيّ
في الصّوت السّابع
لمقام يزداد سكونًا
من قامة جمال عبد النّاصر
لا غناء هذا اللّيل
لا غناء”
يذهب الشّاعر بعيدًا بكأسه يطلب منه المزيد، يعتصر أحشاءه ليتلذّذ بآخر قطرات قنينة ذاهبة إلى مثواها الأخير، بعد أن ضحّت بنسغها ومائها وإكسيدها لإخماد لهب نار تتّقد في جوف شاعر حزين، بروحه المجروحة وخياله النّشيط يكتشف الشّاعر العلاقة بين حقيقتيْن متباعدتيْن فيُقارب بينهما بإيحاء ذكيّ غريب، حين يشبّه القنينة الفارغة الذّاهبة إلى مثواها الأخير “كالشّهداء الطّاهرين من كلّ رجس”.
وفي ذلك تعبير عن الحالة النّفسيّة والأحاسيس الغامضة المبهمة الّتي تتعانق فيها المشاعر.
“قلت: أتشنّف بعصارة آخر إكسيد الكأس
غير المبرمج على لائحة القنينة
الأخيرة الهازجة بفراغها
واكتمال عمرها وأكفانها
الذّاهبة إلى مثواها الأخير
كالشّهداء الطّاهرين من كلّ رجس”
ينفض الشّاعر عن كاهله ذنوب من اجترّوا أفكارهم ومبادءهم، فكانت وما زالت عوْدًا على بدء، رموْا بأثقالهم بعيدًا، ولم يفلحوا إلّا في تعميق المأساة وسدّ طرق حلّها، وجلد الذّات بسوط أجنبيّ، فغشي على أبصارهم وأفئدتهم ليصدّقوا ما بهم من جهل وبؤس.
“فعادوا سعداء بانطوائهم
إلى عمق/ عقم/ قمع الذّات
بالسّياط الأجنبيّة المتوارية عن الأنظار”
تصرّف الشّاعر ببراعة في هذه الأفعال الثّلاثة، حيث وصل من خلال كلّ فعل إلى معنى واحد ووحيد وقاطع، جسّد فيها معاناة الانسان العربي. حيث يمضي غير مكترث بما أغرقوا فيه الشّعب من بحر وهم وسراب وكذب وشعارات جوفاء، وهم معتكفون خلف الأبواب الموصدة، وبأجمل ما يكون من الصّور الشّعريّة يرسم لنا علاقة حسّيّة ملموسة، ولكن لا وجود لها في الواقع.
“وكثبان السّحب البيضاء تمادت سدولها
وأمواج اللّيل أرخت همومها”
ليظهر مدى اليأس “من سحب بيضاء” فارغة من المطر، والتّراخي واللّامبالاة الّتي أصابت حكّامنا، فلا استبسال ولا مقاومة، “لا بلاء هذا اليوم، لا بلاء”.
في دعاء للمتضرّع لله يرجوه أن يحفظه من حوله وخلفه وأمامه ومن تحته ومن فوقه، نرى الشّاعر يرسم صورة أخرى تتعانق مع ما قبلها وتتآلف معها بانسجام جميل لتكمل صورة السّواد الّذي يلفّه من كلّ اتّجاه، وكأنّه يسأل الله متى يستجاب الدّعاء! ويعود الشّاعر ليشبّه نقيضيْن: السّواد بالرّذاذ الأبيض الكثيف والثّلج! لكنّه فتات ثلج في عتم قعر قدح فارغ، وفي هذه الصّورة دلالة قويّة على البرودة القاتلة الّتي دبّت في أوصالهم، والسّواد القاتم الّذي قضى على كلّ بارقة أمل.
“عجيبة هذه الدّنيا
بدون كؤوس الخواطر المفعمة بخمر الرّؤيا
بدبيب النّمل ونبيذ الأمل الأخضر
كقنينة فارغة
كقلب مثقوب
كشريط خالٍ
كطعام تشنّن
كعصف مأكول
والأخطار مثلُ غبارٍ جوّ”
في هذه السّطور يظهر الشّاعر فلسفته وتفسيره للدّنيا الّتي يراها بكلّ هذه الأوصاف الموغلة بالأسى: فارغة، مثقوب، خالٍ، تشنن (تلف) صفصف.
كعصف مأكول، أوراق أشجار مصفرّة داستها أقدام الحيوانات متآكلة مهترئة، يراها الشّاعر منتهية وآيلة على سقوط وخراب، إن لم تجد من ينقذها بفكره الأخضر اليانع وباتّساع رؤياه الثّاقبة وباتّباع الفكرَ الثّوريّ والأمل السّاطع والعمل الدّؤوب والكفاح بجدّ وسلاح.
يواصل الشّاعر الإتيان بالصّور الشّعريّة الإيحائيّة مستوحيًا إيّاها من قصص وأساطير الشّعوب، فكأنّي به يُنهي فترة الانتصارات مع أسطورة خيول طروادة الماقبل الميلاد والماقبل الهجرة، إشارة للدّيانتيْن: المسيحيّة والإسلاميّة، وأظنّه لم يذكر اليهوديّة مع أنّها الأقدم، تهيئة لعصر ما بعد الميلاد والهجرة وبدء التّناحر على تسييس الأديان. فلم يعرف التّاريخ سكونًا ولا هدأة بال فيما بعد الهجرة، حيث توالت النّكبات والانكسارات تحت مسمّى انتصارات زائفة، ولا زالوا في غيّهم وتيههم يعمهون. يظنّون أنّ الدّنيا ملك إيمانهم تنتظرهم برحابة صدرها أنّى أتوها راغبين. مثل “بنلوبي” زوجة “أوذيس” الوفيّة الّتي ظلّت ترفض الخاطبين طوال فترة غياب زوجها حتّى عاد إليها في النّهاية وخلّصها.
“السّادرين في الإثم والهزيمة
ما بين قصيدة لأثينا الحالمة
وفرس لإسبارطة العنيفة
وأوذيس الحكيم نديمي الهارب
والزّوج المتعب قبل الحرب
وبعد الحرب
الباحث عن حبّه المجدول
على طبق عذابات “بنلوبي” السّاهرة”
يُعاود الشّاعر تكرار تشبيه الحالة الضّبابيّة الّتي يعيشها ونعيشها عن طريق المزج بين الرّسائل اللّغوية والإيحائيّة بعدّة صور مختلفة بارعة. “وخيوط تنبعث من بحر هائج كمارد، لا يرى إلّا هوّة “سيزيف” وأمراء الحبّ الشّبقينَ ونور البهتان وسورة الإفك”.
“بين قصيدة جافّة
كوجه قحبة قديمة
وكوب مقلوب
كحظ سافر
كواقع هشّ أعلن إفلاسه
:
:
ككهف بلا أهلٍ كانوا ينتظرون الشّمس”
تشبيه حادّ وقاسٍ يناسب قسوة صمت الشّارع العربيّ الغارق في وحدته وصمته وانتظاره لمعجزة تأتيه من السّماء، وهو في شبه موت أكيد. ويعود شاعرنا على بدء، يلوذ بصمته بعد أن فرغ كأسه وتركه النّديم بعد أن خارت قواه من تعب، إشارة لكثرة السّكارى الهاربين من واقع الحياة، الواقعين في شرك وعود “عرقوب” بوعده لهم بالنّجاة! إشارة لفتاوى رجال الدّين ووعود متفقّهين، وهم أبعد النّاس عن الدّين وعن رسالته في الحياة.
“وأنا أتذارى بصمتي
وكوبي الفارغ يدير ظهر زلاله لهمومي
وغروب النّديم في آخر اللّيل
وعرقوب العربيّ يُبين عداوة شيطان”
وكما بدا مختالًا، متبخترًا، يترفّل بين نديم وقصيدة وكأس، يصل النّهاية مترفّلًا، لكنّي أظنّه مترفلًا كفنًا ينتظر مع المنتظرين ساعة أُكله كثور أبيض، أدرك أنّه أُكل يوم أُكل الثّور الأسود. وما كان غصنه إلّا ذاويًا وبرجه إلّا برجًا هاويًا في محيطٍ خاوٍ وخليجٍ عاوٍ في حقل أسود من النّفط”.
“في حقل أسود
بين ذئاب ونعامات
وبرج ذاوٍ
ومحيطٍ خاوٍ
وخليجٍ عاوٍ
وحوت
وأسماك قرش
“ليت الفتى معي”
قصيدة حكت عن واقع معيش، أعاد الشّاعر صياغة مفرداته، حيث جعل من القصيدة كيانًا منتميًا إليه أكثر من انتمائه إلى عالم الواقع، وهو ما رفع من قيمتها الفنّيّة وأبعدها عن الرّتابة المملولة. وقد تزوّد الشّاعر لرحلته تلك بثقافة أدبيّة وفنّيّة وتاريخيّة واسعة وحسّ عالٍ بقيمة الكلمة ودقّة تعبيرها ودلالتها وموسيقاها وموقعها وتآلفها مع زميلاتها من الكلمات ذوات الظّلال الوارفة والّتي تصنع صورًا جماليّة تنمو كلّها في روح واحدة متآلفة يشّعُ الخاطر منها بوضوح، على ما فيها من غموض محبّب وموحٍ برمزيّته، ممّا جعل القصيدة في النّهاية متينة الأفكار والمعاني عميقة الصّور والدّلالات ومفعمة بثروة ثقافيّة مميّزة.