“يافا حلمٌ في ظلال الواقع”- قراءة في رواية “نوّار العلت” للكاتب محمّد عليّ طه

تاريخ النشر: 16/11/21 | 8:43

بقلم: لينا الشيخ- حشمة
“نوّار العلت” رواية سياسيّة بالدرجة الأولى، تؤكّد العلاقة بين الأدب والسياسة والواقع. كيف لا والكاتب الفلسطينيّ مأزوم بالسياسة؟! مأزوم بها لأنّ مكانه بوتقة من الصراع السياسيّ، مكانه هو قضيّته وقضيّة وطن ووجود. هي رواية ترصد الواقع السياسيّ الذي تعيشه الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل دون أن تغفل عن واقعهم الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ. تحصر الأحداث في العقود الأخيرة فتكشف معاناتهم اليوميّة والواقع المعيش وصراعاته. تصوّر رحلة الحياة بين البحث عن الذات وشرعيّة الوجود والبحث عن لقمة العيش.
تقوم الرواية على جدليّات التضادّ، كاليمين مقابل اليسار، الذات والآخر، المدينة والقرية، الحبّ والبغض، الحياة والموت وغيرها. وهي تضادّات تنبثق بالأساس من الصراع بين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. فلمّا كان واقعنا يقوم على صراع سياسيّ فإنّ حبكة الرواية تقوم على هذا النزاع والمواجهة بين الطرفين. فيضع الكاتب الطرفين أمام مرآة الذات كاشفًا أسباب العداء ومشاعر كلّ طرف وأزمته مع الآخر. كما يرصد اليهوديّ بصراعاته ورواسبه والجانب الإنسانيّ فيه، مصوّرًا علاقته مع العرب، والعلاقات بين اليهود أنفسهم حيث يوظّف شخصيّات يهوديّة من أصول مختلفة لإظهار الصراع بين الأشكناز والشرقيّين والكشف عن نظرة كلّ فئة منهما للعربيّ، ثمّ يتناول ازدياد تطرّف اليمين مقابل تراجع اليسار الذي بات يعتبر تهمة وشتيمة.
يحبك الكاتب روايته من التضادّ بين حلم منشود وواقع موجود. فيحلم بالسلام وانتهاء الاحتلال وشرعيّة الوجود. لكنه لا يطلب من الفلسطينيّ تنازلًا أو تذلّلًا لإرضاء الآخر. لم يطلب منه تنازلًا عن قوميّته أو هويّته. فإنّ بحث عن مصالحة فلا يطلبها إلّا في نطاق الاحترام المتبادل واحترام التقاليد والتراث وشرعيّة الوجود. وهذا ما كانت تجسّده علاقة يافا بسمير. فالحبّ بينهما معادل موضوعيّ للعلاقة السياسيّة بين الشعبين، للسّلام المسكون بالمحبّة الإنسانيّة والعدل والاعتراف بالآخر وانبثاق الحياة. وحتّى يتمّ ذلك يجب أن تكسر الحواجز ويكون اللقاء والانكشاف والتنازل عن الآراء المسبقة والاعتراف بحقوق الآخر. أمّا حبّ نفتالي اليمينيّ المتطرّف فإنّه حبّ يصنع قاتلًا متطرّفًا شرسًا يقتل الأحلام والمستقبل. إذًا يعرض الكاتب المشكلة والحلّ. والحلّ موجود لكنّه مشروط. وهو ليس مشروطًا بالطرف العربيّ الذي قدّم تنازلات جمّة بقدر ما هو مشروط بالإسرائيليّ. لكنّ الكاتب على ما يبدو مقتنع بأنّ الحلّ الحلم في ظلال هذا الواقع، وفي ظلّ ازدياد الصوت اليمينيّ المتطرّف، ليس بالأمر القريب.
ومن جانب آخر يرصد الكاتب معاناة الأقلّيّة العربيّة من العنف والجريمة، حيث الشرطة تتعامل معها من منطلق “بطّيخ يكسّر بعضه”(ص38). والحلّ لهذا كما يؤكّده الكاتب هو الثقافة والعلم ونبذ الجهل والتخلّف، كقول صبري: “العلم هو الذي سوف ينقذنا من التخلّف”(ص32). فكان بيته مثالًا يوتوبيًّا، إذ قالت الأمّ فاطمة: “بنينا هذا البيت على الحبّ والكرامة والاستقامة. أولادي لا يكذبون، ولا يسرقون، ولا ينافقون”(ص231). تبنّى بيتها العلم والثقافة وحرّيّة الرأي وحقّ الاختلاف. وكأنّي بالكاتب يهمس صارخًا: “كيف نستطيع التعاطيَ مع الآخر الذي يدّعي أنّنا شعب متخلّف جاهل ونحن نقتل بعضنا بعضًا؟ وكيف نستطيع الصمود إذا لم نكن ندًّا قويًّا مثقفًا قادرًا على الحوار دون التنازل عن حقّه”؟! على المجتمع العربيّ إذًا أن يتخلّص من أمراضه الداخليّة حتّى يبرأ جسده ويعزّز وعيه فيقوّم لسانه ويده. وحينها سيفوّت الفرصة على الشرطيّ الساعي دومًا لأن يجعل منه المتّهم والقاتل، مثلما فعل كلّ من أحمد وسمير في الرواية.
تختلف صورة العربيّ لدى الإسرائيليّين بحسب الوعي الفكريّ والسياسيّ، لكنّ الكثيرين يعتبرونه عدوًّا، مُتخلّفًا، مُخرّبًا و “العربيّ القذر”. فيدافع الكاتب عنه مختارًا شخصيّات أكاديميّة مثقّفة تتفوّق على الآخر المدجّج بالقوّة والشعور بالأفضليّة بأخلاقها وحبّها. فسمير كان قادرًا على صنع الحياة وتطهير حبيبته يافا من أدران البغض. بينما تمرّغ عشق نفتالي بكراهيّته التي قادته لقتل حبيبته من أبناء جلدته. ممّا يذكّرنا بقتل رئيس الحكومة “إسحق رابين”. يظهر العربيّ في الرواية بصورة الرجل الذي يحترم المرأة ويقدّرها. ويتناقض هذا مع ادّعاء والد يافا الذي يرى بالمجتمع العربيّ ذكوريًّا يقتل النساء بحجّة “شرف العائلة”، فرأت يافا في سمير حبيبًا شريكًا يقدّرها كامرأة وإنسان، بخلاف نفتالي الذي اعتبرها قطعة من ممتلكاته، فيقتلها حين تتركه ويلصق التّهمة بحبيبها سمير، فما أسهل اتّهام العربيّ!
يؤكّد الكاتب على دور الثقافة في تطهير الوعي ورقّيّه كضرورة لصنع التغيير عند الطرف الآخر أيضًا، فيختار أن تلتقي يافا بنفتالي خلال خدمتها العسكريّة حيث يحرّضها على الفلسطينيّ بكراهيّته السوداء. أمّا لقاؤها بسمير فيكون خلال دراستها الأكاديميّة فتعيش معه قصّة حبّ إنسانيّة أرقى. وحتّى يؤكّد الكاتب قناعته هذه يجعل أوري ضابط الشرطة غير مستعدّ لقراءة أيّ كتاب، فيمسي رمزًا للجهل والغباء، الجهل الذي يقود للعنصريّة والعنف، والغباء الذي يعزّر شعور النقص لديه فيغفل عن خيانة زوجته.
حين عرف سمير يافا كانت تحمل أفكارًا سيّئة عن العرب وتحمّل الفلسطينيّين استمرار الصراع معتقدة كمعظم الاسرائيليّين أنّها تملك الحقيقة(ص135)، لكنّه ينجح بتغيير أفكارها ويزيل الرواسب من عقلها فتغدو أكثر قدرة على تقبّل الآخر وحبّه واحتوائه. علّمها سمير حبّ الحياة، فأدركت كيف تكون الحياة ضدّ التطرّف والموت فتترك نفتالي وتزور قريته وتنام في بيتهم. يافا هي الشخصيّة الإسرائيليّة الوحيدة في الرواية التي تغيّر وجهة نظرها إزاء العرب. لم توافق سمير على آرائه كلّها لكنّهما تناقشا من منطلق محاولة الإقناع وشرح الموقف، ولم يفسد اختلاف الرأي المودّة والحبّ بينهما. كان سمير يؤمن أنّ لقاءها بأمّه الحلّ لصنع الحياة. كان يقول: “أنت وأنا سنشرق غدًا جميلًا”، “عندما نلتقي معًا تختفي عقود من الكراهيّة”، “فتستقلّ الدولة الفلسطينيّة، وتحلّ قضيّة القضايا”(ص241)، فتردّ: “أنا وأنت سنغيّر العالم”. ينجح سمير ويافا في اليوتوبيا التي رسمها الكاتب على الورق بتوحيد عالمين متصارعين، لكنّ نفتالي المستوطن المتطرّف ينهب الحياة ويقتل الحلم بقتل يافا. ممّا يعني أنّ الكاتب يتراجع مؤكّدًا غلبة الواقع على الحلم، على الرغم ممّا تعد به روايته من أمل!
لم تمثّل الشخصيّات ذاتها لذاتها بل هي سيميائيّة رمزيّة. كما كان اختيار أسمائها موفّقًا ومدروسًا. فلمّا كانت الرواية تدور وفقًا للمعطيات النصّيّة في بداية القرن الحادي والعشرين كانت فاطمة في الستينيّات. واسم فاطمة اسم عربيّ تقليديّ. وفاطمة المهجّرة من الطنطورة رمز للأرض والأقلّيّة الفلسطينيّة التي بقيت تعيش هنا وعانت كذلك من التشرد والتهجير الداخليّ. وهي تمثّل التغيير الحاصل على هذه الأقلّيّة، فلم تكن ربّة منزل ولا فلّاحة مثلما كانت صورة المرأة الفلسطينيّة في قصص المراحل الأولى، بل يجعلها الكاتب معلّمة مثقّفة متقاعدة، ربّت أولادها على طلب العلم وحبّ القراءة، تحدّثت العبريّة وناقشت يافا. ولمّا كان الزوج/ الأب رمزًا لسلطة الدولة فإنّ فقد فاطمة لزوجها صبري يعني فقدها لسيادة دولتها الفلسطينيّة. لذا أصرّ الكاتب على ذكر العبارة “سمير يتيم الأب ويافا يتيمة الأمّ”، أي سمير ابن لفاطمة الأرض والأقلّيّة الفلسطينيّة التي أصبحت تحت سيادة الدولة اليهوديّة، وهو جزء من الشعب الفلسطينيّ الذي فقد دولته، وينتمي للقوميّة العربيّة. أمّا يافا فهي بلا أمّ لأن إسرائيل هي الدولة اليهوديّة الوحيدة في العالم.
ليس المطلوب في المصالحة التي يريدها الكاتب بين الطرفين أن تتزوّج فاطمة فتنسى قوميّتها العربيّة الفلسطينيّة، فحين تسأل يافا سميرًا: “ماذا لو عرّفنا والدي بوالدتك؟” يردّ: “أمّي لن تعرف رجلًا بعد أبي”(ص217)، أي لن تتزوّج فاطمة من يوسف فتضطرّ لتغيير هويّتها. لن تتنازل عن هويّتها الفلسطينيّة العربيّة وستبقى على تراثها متمسّكة بأرضها. لذا قالت فاطمة ليافا: “نعيش معركة البقاء. نريد أن نعيش بهدوء وبكرامة وبمساواة”(ص231).
وإذا دلّ اسم صبري على الصبر، دلالة صبره على قضيّته الفلسطينيّة التي لمّا تنته، فسمير يثير لدى يافا التساؤل حول هويّة حامله، بخلاف اسم أحمد. ويأتي اسما أحمد وسمير مناسبين لفكريهما وتوجّهاتهما. ويرمز “يوسف أهروني”، والد يافا وضابط الجيش، لدولة إسرائيل وحكومتها التي تقبل علاقة يافا بسمير على مضض، لكنّه يعترف بأنّه “لا يكره العرب لكنّه لا يثق بهم”. كما اعترف بأنّه “يحقّ للعرب أن يكرهونا، فنحن نداهم بيوتهم ليلًا ونوقفهم على الحواجز”(ص95). لم يكن يساريًّا ولا يمينيًّا لكنّه لم يرتح لعلاقة ابنته مع نفتالي لكرهه لليمين المتطرّف، لكنّه بالنسبة إليه يهوديّ وأفضل من العربيّ. حذّرها منه قائلًا: “قد يرتكب نفتالي جرمًا. قد يقتل عربيًّا بدم بارد”(ص97)، لكنّه لم يتوقّع بأن تقوده كراهيّته السوداء للعربيّ لأن يقتل ابنته لأنّها أحبّت عربيًّا.
أمّا يافا فوصفتها فاطمة: “بتحكي شويّة عربي. بُنيّة لا طويلة ولا قصيرة، لا سمرا ولا بيضا، لها عينان زرقاوان مثل نوّار العلت.. والله كأنّها بنيّة عرب”(ص29). وقد علّق ابنها أحمد بقوله: “يهوديّة بنيّة عرب أو صهيونيّة بنيّة عرب”(ص29). هذا وصف معادل لدولة إسرائيل وشعبها بعد تعرّفها على سمير وأمّه. “لا طويلة ولا قصيرة” دلالة مساحتها، “لا سمرا ولا بيضا” أي سكّانها من أصول وألوان متعدّدة. و”لها عينان زرقاوان” دلالة البحر، بحر يافا، واسمها يافا. أمّا “بتحكي شويّة عربي” فنسبة للأقلّيّة الفلسطينيّة.
“تخلّصت يافا من الأفكار المسبقة عن الآخر”، “الآخر إنسان من لحم ودم. الآخر يحبّ ويكره، يفرح ويحزن يضحك ويبكي. الآخر في مدينتي وفي شارعي وفي غرفتي”(ص238). لقد أدركت يافا أنّه لا مجال للانفصال عن العرب، لذا تقول: “إنّ والدها لا يستطيع أن يكون بعيدًا عن العرب، العرب مواطنون في الدولة”(ص165)، ووالدها هو السلطة، وبيتها هو الدولة. ولمّا جعلها الكاتب تتحرّر من ثقافة الكراهيّة للعرب وتقرّر الزواج من سمير كان اختيار اسمها موائمًا لهذا. إذ لم يختر اسمًا عبريًّا بل اسمًا يقبل وجهين؛ فيافا لها وجودها في التاريخ الفلسطينيّ وحاضره، ولها وجودها الإسرائيليّ كذلك. فيدلّ على هويّة مزدوجة قابلة للتقاسم. هكذا صنع مستقبلًا متعالقًا مشتركًا دون محو للماضي الفلسطينيّ، بل انطلاقًا منه وتعزيزًا لشرعيّة وجوده. واسم يافا كنعانيّ ويعني الجميل، ولقّبت “بعروس فلسطين”، ويافا جميلة مثلما رآها سمير.
أمّا أوري ضابط الشرطة فكان يحلم بالترقية على حساب أحمد وسمير، فالقاتل يجب أن يكون عربيًّا. أمّا فارس فهو عشيق شولا زوجة أوري. كان فارس متعلّمًا مثقّفًا لكنّه لم يجد عملًا بالتدريس فالتحق بمهنة فأرسلته الشركة إلى بيت أوري لإصلاح الغسّالة، فأعجب شولا واتّخذته عشيقًا. وأوري الذي يعاني من عقدة النقص يريد أن يعيش كالمجتمع الذي فوق “حيث لكلّ زوجة عشيق”. لكنّه يتذمّر من اختيار شولا فيقول بألم: “عشيق عشيق أو صديق صديق! أمّا أن يكون عربيًّا فهذه مصيبة، أنا لا أثق بعربيّ في بيتي”(ص75). هكذا أصبح فارس “جزءًا من البيت” لكنّه “ليس شريكًا مئة بالمئة”(ص247) حسب وصف أوري. “ولولاه لما تعطّر وما مارس الرياضة وما أثنى على جمال شولا”(ص247).
اعتقد أوري أنّه سيحصل على الترقية، لكنّه يتفاجأ بقول شولا: “سمع فارس الخبر.. فغادر البيت مهمومًا. كان صعبَا عليه أن يراك بعد أن قالوا في نشرة الأخبار إنّ المفتّش هنّأ أبراهام على اكتشافه الجريمة”(ص49). يترك فارس البيت لأنّه يدرك أنّ أوري سيصبّ غضبه عليه لأنّه عربيّ. فتنتهي الرواية بمفارقة تمثّل الواقع بسخرية. بيت أوري هو تجسيد للدولة، وأوري رمز للسلطة. إنّ دخول فارس إلى بيته يعني أنّ العربيّ له وجود وهو جزء من الدولة، لكنّه من وجهة نظر أوري يقدّم خدمة، كعامل أو مصلّح أو طبيب أو غيره. وإذا قُبِل كصديق أو عشيق فسيجد من يحرض ضدّه وعلى وجوده، وسيتعرّض للتشكيك والاستهجان والاتّهام لأنّه منزوع الشرعيّة أصلًا.
أمّا شولا فهي المرأة التي تمثّل الفئة التي تتعامل مع فارس بعين إنسانيّة متساوية. كانت شولا ترى بالإنسان إنسانًا، فهناك عربيّ جيّد وهناك عربيّ سيّئ، تمامًا مثلما هناك يهوديّ جيّد ويهوديّ سيّئ. التعميم خاطئ”(ص 73). كانت شولا تلومه على قسوته وتعامله غير الإنسانيّ مع العرب وادّعائه بأنّه لا يثق بعربيّ لأنّه لا يوجد عربيّ جيّد، فتردّ عليه: “تأبى أن تكون حضاريًّا لأنّك عشت طفولتك في نظام دكتاتوريّ أغلق أفواه الناس وسلب حرّيّاتهم… هذه عقدتك. أنا أعرف لماذا تكره العرب. أنت لا تستطيع أن تكون رجلًا عصريًّا”(ص73). أمّا فارس فلا يثق بالشرطيّ الذي يراه المتّهم دومًا، أي لا يثق بحكم الدولة عليه.
وهكذا، علاقة شولا بفارس تقابل علاقة يافا بسمير. لكن، إذا كانت علاقة يافا بسمير صورة للحلم المنشود فإنّ علاقة شولا بفارس تجسيد للواقع المعيش دون تجميل وأحلام. وهي أكثر ارتباطًا بالواقع. فالعربيّ لا يزال منزوع الشرعيّة ومتّهمًا، و”ليس شريكًا مئة بالمئة” مثلما صرّح أوري. يضعنا الكاتب إذًا بين حكايتين، حكاية سمير ويافا، وهي الحلم الذي يصوغه بحبره، وتأخذ معظم الرواية، وحكاية شولا وفارس وهي حكاية يفرضها الواقع عليه فيرصدها بنسبة أقلّ بكثير، كنسبة وجود الأقلّيّة العربيّة هنا. وهي التي يختارها لينهي روايته ليذكّرنا بسطوة الواقع وغلبته. ممّا يعني أنّه يجانس المضمون بالشكل.
تعتمد الرواية على آليّات حداثيّة ككسر التتابع الزمنيّ وتهشيم الحبكة التقليديّة باتّكائها على تيّار الوعي والمونولوج والاسترجاع الفنّيّ والتداعي والاستباق وغيرها. كما يطعّم الكاتب روايته بالحكاية الشعبيّة والفكاهة والسخرية وتوثيق التراث الفلسطينيّ وعاداته وتقاليده، وجغرافيّة الأماكن وأسمائها ونباتاتها. وليس هذا بغريب عنه فهذا من ديدن الكاتب محمّد علي طه في أدبه عامّة.
ولعلّ أبرز الآليّات التي تؤكّد رسالة الرواية هي تعدّد الأصوات (البوليفونيّة)، أي توزيع السرد على شخصيّات متعدّدة. وقد ترك الكاتب شخصيّاته، إضافة إلى الراوي، تسرد الأحداث وتقدّم أفكارها من وجهة نظرها، وتتحدّث بلسانها بالضمير المتكلّم، ضمير البوح والاعتراف، سواء كانت الشخصيّة فلسطينيّة أو إسرائيليّة، كأحمد وسمير وأوري ويوسف ويافا. لم يحرم الشخصيّة اليهوديّة من التعبير عن وجهة نظرها، عدا نفتالي اليمينيّ المتطرّف الذي يؤمن بتغييب الصوت العربيّ ووجوده، فينتقم الكاتب منه بتغييب صوته وتهميشه لأنّه قاتل السلام والأحلام.
ومن جهة أخرى أكّد الكاتب على تعدّديّة مجتمعه العربيّ مثلما يتوق إليه. فجعل البيت العربيّ مثقّفًا متعدّد التوجّهات، فكانت فاطمة متديّنة وكان صبري نقيضها. أمّا أحمد فيختلف عن سمير في أنّه يرى باتّفاق أوسلو اتفاقًا خاطئًا ولا يؤمن بيسار صهيونيّ. أمّا سمير فيؤيّد التعاون مع اليسار اليهوديّ واتّفاق أوسلو. لكنّهما قادران على الحوار واحترام رأي الآخر دون إلغائه. وكانت قريتهم نموذجًا للوفاق السياسيّ في الانتخابات، بخلاف البلدة المجاورة التي نهشها العنف والبذاءات.
هكذا بنى الكاتب الرواية بطريقة يتوافق فيها مضمونها ورسالتها مع شكلها وأسلوبها. فالرواية السياسيّة عمومًا تفضّل تعدّد الأصوات لأنّ ذلك يحقّق لها قدرًا أكبر من الموضوعيّة، إذ يأتي تعدّد الأصوات، إضافة إلى كونه آليّة حداثيّة ورفضًا واعيًا لأساليب القصّ التقليديّة، رمزًا للديمقراطيّة وتعدّد وجهات النظر. إذ يؤدّي إلى زوال الراوي الأحاديّ العليم بكلّ شيء، ويلغي فكرة أحاديّة الصوت الذي يسعى إلى التسلّط وفرض الرأي وسلب حقوق الآخر. وهذا ما يمثّله المستوطن نفتالي. فتمسي الرواية مجموعة رؤى وأصوات تتقاسم السرد بتعدّديّة وديمقراطيّة واحترام الرأي كمَثَل الحياة التي يتوق إليها الكاتب حيث يتقاسم فيها المتنازعان الأرض والحياة بحقّ وعدل وحرّيّة.
أمّا العنوان “النصّ الموازي” مثلما يسمّيه جيرار جينت، فهو العتبة الأولى للرواية، حيث تعتبر من أهمّ العتبات في دراسة النصّ الأدبيّ. إذ يعتبر العنوان في المنظور السيميائيّ إشارة ومفتاحًا ضروريًّا لسبر أغوار العمل الأدبيّ وتأويله لتشكيل الدّلالة. الأمر الذي يجعله يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من النصّ، وبه يكتمل. “نوّار العلت” هو لقب منحته الأمّ فاطمة ليافا قائلة: “عيناك مثل نوّار العلت”. ونوّاره لونه أزرق، رمز البحر. وهذا ما يؤكّده وصف سمير لها: “يافا عروس البحر”(124)، و”حيفا ببحرها الأزرق”(ص228)، و”عيناك بحري الذي أتشهّى أن أغرق فيه”(ص239). أمّا العلت فنبات. والنبات لا يكون إلّا بارتباطه بالأرض. والعلت من نباتات هذا الوطن، ومنه يحضّر طعام فلسطينيّ تراثيّ. والتراث يعني الماضي. والماضي هو التّاريخ وعمر الإنسان وجذوره وذاكرته، أي زمان. والوطن والأرض مكان. والزمان والمكان وجود وحياة. والإنسان زمكانيّ، وبهما تتكوّن حكاياته وذاكرته ووجوده. ونوّار العلت تؤكّد تمسّك الأقلّيّة الفلسطينيّة بوطنها وتراثها وأرضها. فيقول أحمد: “لا يزال فكر الترانسفير معشّشًا في عقول قادة إسرائيل وليس لنا إلّا الصمود والبقاء، ولا خيار سوى الانغراس في أرض الوطن”(ص50)، ويكون انغراسه بقراره زراعة الأرض. لقد كانت أسرته مشدودة بالأرض، فوالده صبري كان مزارعًا، وهو كذلك قرّر زراعة الأرض كمصدر رزق حين سدّت في وجهه سبل العمل.
ولماذا يختار الكاتب عنوانًا يدلّ على النبات؟ لأنّ النبات هو الأرض. وإذا فَقَد الفلسطينيّ شيئًا فَقَدْ فَقَدَ الأرض. والنبات والأرض يعني خصوبة واستمرار حياة. وقد ربط بالنبات اللون الأزرق دلالة البحر. ويافا كانت المدينة، والعلت رمز للقرية ومعالمها. أي يجمع المدينة والقرية، والبحر والبرّ، وكلّ معالم الوطن وجغرافيّته. وفاطمة رأت بجمال يافا جمال الأرض والوطن فأكّدت انتماءها لوطنها وأرضها. ففي العلت الأرض والناس وتراثهم وطعامهم وذاكرتهم. وعليه، إنّه عنوان يؤكّد الانتماء والتعالق الوجدانيّ بالأرض. فيحتفي الكاتب بالطبيعة ويغازلها كما يتغزّل الرجل بالحبيبة وجسدها، كغزل سمير بيافا. فتكون الأنثى والأرض شيئًا واحدًا، لا تنفصل عنها أو عن جمالها ورائحتها وطعم زرعها. نوّار العلت يدلّ على الجمال فيوحي به. لذا لا غرو بأن تتضمّن لوحة الغلاف وجه امرأة جميلة وعلى وجهها نبتة العلت وزهره الأزرق. إذًا ليست لفظة نوّار العلت محايدة إنّما هي الدلالة ذاتها، هي وجهة النظر الفلسطينيّة، دلالة ذاتيّة تكشف فكر الكاتب وانتماءه وعاطفته، وتدلّ على تمسّكه بالأرض والبقاء والهويّة والتراث.
وإذا كانت فاطمة من أطلق اسم نوّار العلت ونبع وصفها من مفاهيمها وعاداتها فسارة أمّ يافا أطلقت عليها “شجرة الكمّثرى”(ص196). والكمّثرى شجرة الإجاص. ولماذا اختار الكاتب شجرةً لسارة والعلت النبتة الصغيرة لفاطمة؟ لماذا لم يختر الخبّيزة مثلًا؟ وهي نبتة تقارب العلت كبرًا وارتفاعًا! لماذا أصرّ الكاتب على منح “الشجرة” للطرف اليهوديّ والنبتة الصغيرة للطرف الفلسطينيّ؟ لقد أراد الكاتب برأيي أن يوازي ذلك على المستوى السياسيّ على خريطة الواقع، فالكمّثرى من حيث الكبر كإسرائيل. ويتأكّد هذا المعطى بقول سمير: “نحن نريد 22% من الوطن”(ص219). أوَ لعلّه يماثل هذه النسبة بين العلت والكمثرى؟! ربّما! فالمعنى عند الكاتب والدلالة عند القارئ. وما يؤكّد تساؤلي هذا واعتقادي بعدم عشوائيّة هذه المعطيات ما ورد في الرواية من حديث بين سمير ويافا، والمذكور في دفتر مذكّرات يافا الزهريّ المعنون بـ “شجرة الكمثرى ونوار العلت”: “يقول لي: تعالي نزرع زيتونة. فأقول له: تعال نزرع قرنفلًا وفلًّا ونعناعًا”(ص 239). فلماذا يريد هو أن يزرع زيتونة، أي شجرة، في حين تريد هي أن تزرع “قرنفلًا وفلًّا ونعناعًا”، أي نباتات كالعلت؟ لماذا يعاكس ما منحته فاطمة وسارة ليافا؟ يافا هي كالشجرة عند أمّها اليهوديّة، وهي كالنبتة الصغيرة عند فاطمة الفلسطينيّة، فلماذا يريد سمير ابن فاطمة أن يزرع شجرة في حين يافا ابنة سارة تريد أن تزرع نبتة صغيرة؟ وكأنّي بالكاتب يبحث عن معادلة حسابيّة تقلب الموازين التاريخيّة وتساوي الدَيْنَ فتساوي بينهما! فهل المعادلات الحسابيّة على الورق، وفي العمل الأدبيّ، تعيد الحقّ وتساوي بين اثنين غير متساويين فعلًا؟!
وأخيرًا، إذا كان النوّار يحمل معنى النور فهل بقتل يافا قتل لنور المستقبل؟ هل سيقتل الحلم في ظلال الواقع؟
(ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي يوم 11.11.2021)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة