صباح بشير:عن رواية “الجرجماني” للأديب حسن حميد
تاريخ النشر: 20/11/21 | 15:51عن دار دلمون الجديدة صدرت رواية “الجرجماني” للأديب حسن حميد (2020م)، وتقع في مئتين وثمانين صفحة، بُنيت أحداثها على شخصية واحدة محوريّة تكتب رسائل أحادية الجانب، احتشدت بين سطورها الشخوص وتداعت فيها الحكايات والأحداث.
وحتى لا يقع الكاتب في فخ البطل الواحد، استعان ببعض الشخوص الثانوية التي تعاضدت معه وجاءت مجتمعة بين طيات رسائله، فحققت الشمولية وغدت عوامل مساعدة في نمو النص ومساره، وساهمت في جمالياته التي ظهرت واضحة في اللغة والشكل السردي ونقل الواقع بشكل فني مشوّق.
بطل الرواية الجرجماني هو شخصية ديكتاتورية، مريض بجنون العظمة، السيكوباتية والفصام، نشأ يتيما رباه عمه الزبيدي وزوجته رضوى مع أولادهم، أحباه وبذلا كل ما بوسعهما ليتعلم، عاش طفولة صعبة ومراهقة غير مستقرة، عانى اليُتم، الإهمال، العنف والفقر، ثم لاقى نجاحا كبيرا؛ ليصبح بعد ذلك الرجل الأول في بلاده، ورغم تمتعه بقدر كبير من الذكاء، إلا أنه لم يكن راضٍيا عن نفسه وعلاقاته، ومن خلال اندفاعيته وميله للغش والكذب ومعاداة الآخرين، وعدم إحساسه بالتعاطف أو الندم على ما يقترف من أخطاء، تدهورت علاقته بالجميع، مما سبب له صراعا نفسيا عميقا، فلم يترك أحدا من شرّه، كان يغطي أفعاله الشريرة بالخير الظاهر والمبطن بالأذى المفرط، ولحماية نفسه أحاطها بحصانة وحكم مطلق، فقمع شعبه وشكّله وفقا لمصالحه الخاصة.
في الجامعة كان غشّاشا يسرق أسئلة الامتحانات، ويتحرش بزميلاته الطالبات! يهوى العراك، يعتبر الحياة مسرحا للمغامرة، يشعر وكأنه ولد في كف الفقد، فهو لم يعرف أمه ولا أباه، ظل كائنا ضعيفا يمطر قلبه ببكاء كتوم كلما سمع أحدا ينادى: أمي، أبي! وفي إحدى الرسائل كتب عن طبيعة شخصيته العدوانية وقناعاته: “الناس ما احترموا الأنبياء والرسل لأن اللطف والرقة، الصبر والبشاشة صفات طبعوا بها، لم يهابوهم وهم أهل معجزات! ستالين، ما أقام ملكه إلا بصورته الراعبة، والإنسان بطبعه لا يخاف القانون والأعراف إنما يخاف القوة الكامنة وراءها، فمن هم حولي ما استجابوا وحنوا رؤوسهم لي، إلا لاستشعارهم قوتي وجسارتي”.
كان يعتبر الضحك أمام الآخرين عيبا وقلّة هيبة، والعبوس من متممات الشخصية، هكذا كان قاسيا حاقدا على كل من أحبهم، يساعدهم ثم ينقلب عليهم لأتفه الأسباب، ينتقم ويتخلص منهم، ثم يعزي نفسه: “دائماً كنتُ مقتنعا بالجزاء الذي يتلقاه الآخرون مني؛ وهذا ما يريحني، ويجعلني صافيا”! وفي الحب كان دافعه الوحيد للدخول في أي علاقة عاطفية، هو محاولة إيجاد امرأة تملأ الفراغ الهائل في داخله، في النهاية يقوم بالتخلص منها وقتلها! اعترف بقتله للكثيرين، منهم عشيقاته، عمه وزوجته التي ربته كأبن لها وأولادهما، ثم كتب: “أردت أن أخفيهم من الحياة لأنهم كانوا يعرفون عني ما يذلني، وما يجعلني غير قادر على النظر في وجوههم، ما كنتُ أريد لأحد منهم أن يشاركني الحياة، كنت كثير الهجس من أن أحدا منهم سيتحدث عني بسوء” ثم يبرر جرائمه بقوله: معذور ومضطر، فأنا أُبعد الأذى عن نفسي فقط!
مثلت هذه الشخصية حالة من الديكتاتورية الفردية بتسلطها تسلطا شاملا على الأرض، الثروة، الشعب، وفي محاكاة وتَّنَاص أدبي مدهش استعاد الكاتب قصة جلجامش وأنكيدو، وشبهها بصداقة البطل وربعة، تعالقها وتناظرها، فمثلما كان حال جلجامش في وحدته وعزلته، وبطشه بمن حوله واستحواذه على كل شيء وتسخيره له، كان حال بطل قصتنا أيضا، فقد ظل يشعر بالوحدة والفزع، ويعيش دون صديق أو سند، لذلك قرّب (أنكيدو) إليه، كذلك خلق خيال الجرجماني شخصية صديقه الذي ظلّ يكتب اليه راجيا حضوره مساندته والالتحاق به.
حزن البطل بعد أن ضاقت عليه نفسه فكتب لصديقه: “لا شيء يملأ عيني، لا جمالا جديدا ولا طعاما أشتهيه، لا أمكِنَة أهفو إليها ولا هدأة تشعرني بالأمان، لا أحاديث سارّة ولا أصدقاء، لا مشاعر مشبعة بالحنين لأب أو أم، أنا وحيد أهجر الناس إلى المقابر، أمشي بين القبور، أنادي أصحابها وأسألهم عما تركوه وراءهم، أبدو مثل مجنون وصوتي ينادي الأموات! في المقبرة أرمي أحزاني كلها، نصف همومي وربع مواجعي، وشيئا من مخاوفي وأخرج”.
ظل يكتب لصديقه “ربعة” ويرجوه أن يعود، طلب منه أن يخبره بأنه حيّ ويحبّه، وهذا ما دَلّ على حاجته العميقة للحب، راح يتساءل: هل أنت اختراع وخيال يا ربعة؟ لو قدّر لك أن تجيب قل لي لأرتاح! في النهاية يعترف بأن ربعة كان مجرد شخصية خيالية عاشت في ذهنه فقط! وأن مراسلته والحديث معه كانت حاجة لا بدّ منها، كي لا يصير صدره مستودعا للهموم والجرائم.
انتقد حميد الجهل المجتمعي فكتب: “مجتمعنا يقدس الماضي لأنه يعيشه؛ لا يموت الأجداد والآباء فيه، إنهم يرحلون فقط! تاريخهم أشبه بالمدونات التي نصرّها ونشدّ عليها بالأيدي القوية، لا أحد يهتم بالحاضر قدر اهتمامه بالماضي، بل الماضي وآباء الماضي وأجداده والمرويات التي تناقلتها الذهون والذواكر جيلا بعد جيل، وبذلك يصير من له ماضٍ وأجداد وآباء من أصحاب النسب والمكرمات، يصير نورا يهتدي الآخرون به، فالنسب والماضي وما تناقله الآخرون يصير أهم وأجلّ من المدرسة والكتاب!”
تظل فلسطين حاضرة في كتابات حسن حميد، حتى في هذا العمل الفلسفي الذي تطرق إلى معنى الحياة، واستكشف مفهوم الخير والشر وما بينهما، كتب الجرجماني لصديقه: “يا ليتنا كنا كبارا في السن وشاركنا في حرب فلسطين، تلك المواجهة عددتها حربا، أسماء كثيرة كنا نتداولها، وتغفر أنت خطاياها لأنها شاركت في حرب فلسطين، أقول لك معاندا لماذا تتذكرهم وقد أورثونا الهزيمة، نحن اليوم ندفع ما رتبته علينا هزيمة (1948م)، تقول لي عز الدين القسّام، الحاج أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، عبد الكريم قاسم، عبد القادر الحسيني، أحمد الشقيري وغيرهم، كانوا أنبياء لأنهم وضعوا أرواحهم على المذبح الفلسطيني، كي لا يأخذ الإنجليز واليهود فلسطين، وكي لا يغيب تاريخها”.
ذكرتني هذه الرواية بالفيلم العالمي الشهير “الجوكر” الذي قام ببطولته الفنان “خواكين فينيكس”، والتي تدور فكرته حول الشخصية السيكوباتية وسلوكها الإجرامي، وأيضا مسرحية الفنان محمد صبحي “تخاريف الديكتاتور” التي قلّد فيها هتلر وبعض الزعماء في إطار كوميدي ساخر، كذلك مسرحية “الزعيم” للفنان عادل امام، كل ذلك وأكثر عبّر عنه حسن حميد في روايته؛ ليجسّد تلك الدلالات، ويبدو أنه أدار هذا العمل باحترافية استقاها من معايشته وخبرته الحياتية، فوظف خياله باحثا في سياق الوجود الإنساني، وعالج فكرته بعمق لأجل تقديمها بنجاح وحب، ولأجل أن يبقى معنا على قيد الأدب والعطاء.