نقاطُ الالتقاءِ والافتراقُ الأمريكيِ والإسرائيليِ حولَ فلسطين
تاريخ النشر: 28/11/21 | 10:03بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
من النادر جداً أن تختلف الإدارة الأمريكية، أياً كانت ديمقراطية أو جمهورية، مع الكيان الصهيوني أياً كانت حكومته ورئيسها، ولعله من السفه وقلة العقل، ومخالفة المعهود ومناقضة المنطق، أن نعتقد أن الإدارة الأمريكية من الممكن أن تختلف أو تتناقض يوماً مصالحُها مع الكيان الصهيوني، فتصطدم معه وتتعارض وإياه، أو تقاطعه وتعاقبه، وتضغط عليه وتجبره، وتُكرهه على ما لا يريد أو تحمله على ما لا يرغب، وإن اختلفت معه ظاهرياً، فهي تختلف شكلياً لا جوهرياً، ونظرياً لا عملياً، وقد لا تظهر خلافاتهما على السطح، ولا يعرف بها العامة، وإنما تدار في الكواليس، وتعالج في الخفاء، ويتم التوصل إلى حول مشتركة بشأنها، بفضل الوسطاء وجماعات الضغط اليهودية الأمريكية وغيرها، التي تسعى لضمان المصالح الإسرائيلية وتقدمها على غيرها، وتعمل على ضبطها واستيعابها وعدم تضخمها أو خروجها عن السيطرة.
لكن مما لا شك فيه، أن إدارة الرئيس جون بايدن قد انقلبت على سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأنه يسعى ومساعدوه تدريجياً للتنصل من بعض وعود سلفه، وإبطال بعض قراراته، واستحداث أخرى جديدة تتوافق مع فهمه للسياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وقد بدا ذلك واضحاً ومتوقعاً، ولم يكن غريباً أو صادماً، إذ كان الرئيس الأمريكي بايدن قد أعلن عن كثيرٍ منها خلال حملته الانتخابية، ولم يخفِ معارضته لسياسة ترامب وسعيه لتغييرها في حال فوزه، وهو ما أصبح بالفعل بعد توليه منصب الرئاسة، علماً أنه أجرى تغييراتٍ أخرى ذات أبعادٍ قانوينة، كتلك التي فرضها خلال اتفاقه مع الأونروا لإعادة الدعم الأمريكي لها بشروطٍ واضحةٍ صريحةٍ، تعتمد على النصوص القانونية وليس على الرغبات والعواطف الشخصية، بما يكبلها ويقيد عملها، ويحد من القطاعات المستفيدة منها.
بدأت أولى خطوات الرئيس الأمريكي بايدن العملية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، بتغيير السفير الأمريكي إلى الكيان الصهيوني دافييد فريدمان، وهو اليهودي المتهم بأنه صهيوني متطرف وجندي إسرائيلي سابق، وأنه صديقٌ مقرب لنتنياهو، وتعيين السفير توماس نيدس مكانه، علماً أنه يهودي أمريكي، ويؤيد الكيان الصهيوني، إلا أن أفكاره التي تشكلت إبان خدمته مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، تدل على أنه يمتلك رؤية مختلفة عن رؤية سلفه، خاصة فيما يتعلق بالمواطنين الفلسطينيين، وأنه لن يتم ما بدأه سلفه، ولن يواصل نهجه، بل سيعتمد مقاربة رئيسه تجاه الحكومة الإسرائيلية.
توافق تغيير السفير الأمريكي مع انتهاء مهمة صهر الرئيس الأمريكي السابق جاريد كوشنير، المبعوث الخاص إلى الكيان الصهيوني وفلسطين خاصةً، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وتعيين الشاب الدبلوماسي المخضرم، الأمريكي العربي اللبناني الأصل، هادي عمرو، الذي بدا في طريقة عمله وطبيعة اتصالاته ولقاءاته، وفي توصياته العامة وقناعاته الشخصية مختلفاً كلياً عن سلفه، إذ حذر من مغبة استمرار الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، ووصف أوضاع سكانه بأنها مأساوية، وأوصى رئيسه بضرورة العمل على تخفيف الحصار، وتمكين السكان من العيش الكريم.
ورأى أن تردي أوضاع السلطة الفلسطينية المادية، وإن كانت تتحمل جزءً كبيراً من المسؤولية عنها، بسبب حالة الفساد الإداري المخيف الذي تعيشه، من الممكن أن تؤدي إلى انهيار السلطة وسقوطها، وتفكيك مؤسساتها الأمنية وبناها التنظيمية والاجتماعية والسياسية، وهو ما من شأنه أن يفجر الأوضاع في الأوساط الفلسطينية، ويقود إلى تفشي العنف وشيوع الفوضى العامة في المنطقة، وهو الأمر الذي لا يخدم المصالح الإسرائيلية، ولا يحقق لها الأمن والاستقرار الذي تمتعت به السنوات الماضية، ولهذا فهو يدعو ويعمل على دعم السلطة الفلسطينية سياسياً ومالياً.
وبخلاف ترمب الذي دعا إلى صفقة القرن التي تحرم الفلسطينيين من حقهم في دولةٍ مستقلةٍ، يؤيد بايدن حل الدولتين، ويدعو الكيان الصهيوني إلى القبول به وعدم تدمير فرص هذا الحل، عبر إجراءاتٍ أحادية وخطواتٍ استباقية، فهو الحل الذي من شأنه أن يحقق الأمن والاستقرار في المنطقة كلها، بما فيها أمن إسرائيل وسكانها، وشرعية وجودها، واحترام حقوقها، وسلامة حدودها وضمان سيادتها.
وترفض إدارة الرئيس جو بايدن السياسات الاستيطانية الإسرائيلية، وتدعو إلى كبح جماحها ومنع انتشارها، وتصف المستوطنات المشادة في القدس الشرقية والضفة الغربية بأنها مستوطناتٌ غير شرعية، وتعتبر قرارات مصادرة الأراضي والسيطرة عليها، أو احتلال البيوت الفلسطينية وطرد سكانها منها، والحلول مكانهم برعاية عناصر من الجيش والشرطة، أعمالاً عدوانية ومخالفاتٍ قانونيةً، ينبغي على الحكومة الإسرائيلية الكف عنها، والتوقف عن تشجيع المستوطنين والمتطرفين عليها.
تؤكد إدارة بايدن عزمها على إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وهي التي أغلقها سلفه، ومنع الفلسطينيين من الاستفادة منها، وأعلن اعترافه بالقدس عاصمةً أبديةً موحدة للكيان الصهيوني، ورفض أي سيادة غير الإسرائيلية عليها، إلا أن الرئيس الأمريكي يصر على عودة قنصلية بلاده للعمل في الشطر الشرقي من مدينة القدس، وتمكينها من تقديم مختلف الخدمات القنصلية، والمادية الخاصة بالمؤسسات المدنية والأهلية الفلسطينية، الصحية والتعليمية والإجتماعية والإنمائية.
مما لا شك فيه أن هناك تباينٌ ما بين سياسة بايدن وسياسة سلفه ترامب، ولكن الأول مهما بدا مختلفاً ومغايراً، فإنه لن يبتعد كثيراً عن السياسة الأمريكية التقليدية، أقلها تلك التي اتبعها والرئيس باراك أوباما عندما كان نائباً له، فالذي لم يقدم للفلسطينيين شيئاً ذا شأنٍ على مدى ثمانية سنواتٍ كاملةٍ، كانت فيها الظروف الدولية أفضل، والعلاقات العربية أمتن، فإنه لن يقدم لهم شيئاً في ظل الهرولة العربية نحو إسرائيل، واعترافها بها وتطبيعها معها، وستبقى المصالح الإسرائيلية في سياسته هي الثابت الوحيد، وهي المقدمة، وأمنهم وسلامة وجودهم وتفوقهم هو الضابط في العلاقات، والحكم في السياسات، وَعيَّ من وَعى أو جِهِلَ من جِهِلَ.