يوميات نصراوي: أحدات في الذاكرة من “استقلال إسرائيل”
تاريخ النشر: 29/11/21 | 14:37نبيل عودة
كلما احتفلت اسرائيل بسنة أخرى على قيامها، استعيد في ذاكرتي الكثير من الصور والذكريات المرتبطة بهذه المناسبة ومنها حدثان لا يغيبان عن ذاكرتي أبدا.
1 – ما نفتقد اليه..
اولهما: لقاء مع طلاب يهود ثانويين يساريين وشيوعيين في حدود العام (1960) تفاجأ الطلاب اليهود اننا لا نحتفل باستقلال الدولة. وعبثا حاولنا بمفاهيمنا السياسية الأولية ولغتنا العبرية الضعيفة ان نشرح ما يؤلمنا في هذا اليوم. بعد حوار طويل أشبه بالحوار السفسطائي، او حوار بين طرشان، نجحنا بمساعدة مرشدتنا التي هي أيضا لا تعرف العبرية بشكل مقبول، في إيصال ما يؤلمنا. راودتني فكرة. سألتهم: ما هو شعوركم بمثل هذا اليوم الذي يسمى استقلال اسرائيل؟ كان ردهم متشابها، الشعور بالأمان والسعادة ان لهم دولة تحميهم وتجعلهم أسوة بجميع الشعوب. قلت لهم فورا اول جملة تيسرت لي بالعبرية: “هذا بالضبط ما نفتقد اليه”… واضفت بلغة مكسّرة بمساعدة سائر الزملاء العرب والمرشدة: استقلالكم يعني تشريد أكثر من مليون فلسطيني من شعبنا. استقلالكم يعني مصادرة أراضينا. استقلالكم يعني اننا صرنا مواطنين اقل شأنا منكم. استقلالكم يعني إرهاب الحكم العسكري وتقييد حريتنا بالتصاريح. استقلالكم جرَّ علينا كوارث تدمير 500 بلدة عربية وطرد سكانها، وربما اضفت نماذج اخرى ليست اقل شانا.
كان ذلك منذ أكثر من نصف قرن والتطورات عمّقت حدة النزاع مع الفلسطينيين ومع سائر الشعوب العربية حتى التي وصلت بغفلة من زمن عربي ضائع الى “اتفاقات سلام” او اتفاقات غير مكتوبة… مهينة لكل منطق سياسي سليم، وتحولت الى وكيلة للحديث مع الشعب الفلسطيني باسم اسرائيل.
2 – موضع انشاء فقط!!
في مناسبة استقلال أخرى للدولة، وكان الحكم العسكري يتحكم باستبداد وقمع وإرهاب مع الأقلية العربية الباقية في وطنها، بدون رقيب تحت مظلة قوانين الانتداب الاستعماري البريطاني لفلسطين. الحكم العسكري فرض على المواطنين العرب فقط، كانت تخضع له جميع مناحي حياتهم من فرص العمل والوظائف في المؤسسات وصولا لحق التنقّل داخل الوطن (للعمل خارج بلداتنا كنا نحتاج الى تصاريح عسكرية محدودة بالزمن والساعة) الى النفي والإقامات الجبرية ضد المناضلين وبرز تعسّف الحكم العسكري بالتحكم بالتعليم العربي والمناهج التعليمية والتوظيف لسلك التعليم بدءا من إرهاب المعلمين، وقد ساد الخوف بين المعلمين من إمكانية طردهم من التعليم اذا لم يلتزموا بالتعليم حسب الكتب المنهجية الضعيفة والتافهة والتي تشوّه اللسان والعقل. وقد انتشرت في تلك الفترة ظاهرة طرد المعلمين العرب من سلك التعليم، لأن الحكم العسكري لم يعد يثق بتبعية المعلم والتزامه بالبرنامج التعليمي المقرر في دوائر السلطة الصهيونية.
هناك معلومات ان ظاهرة السيطرة الأمنية على جهاز التعليم ظلت سائدة بقوة حتى سنوات قليلة ماضية وهناك شكوك اليوم بان جهاز التعليم العربي ما زال يخضع لرقابة أمنية شديدة رغم الاتساع الكبير في مساحة الحرية التي أنجزت بثمن نضالي كبير.
لذلك كان الخطر على لقمة العيش مسلّطا فوق الرؤوس. ساد وقتها جو كئيب في مدارسنا. امتنع الكثير من المعلمين عن التعبير عن آرائهم حتى في مواضيع ثقافية أو إضافة معلومات والتوسع في مواضيع الدراسة خوفا من سيف الفصل من العمل، المؤسف ان هذه الظاهرة لم تؤرخ بشكل يظهر ممارسات الحكم العسكري الذي أطلقته دولة اسرائيل على رقاب الأقلية العربية، فارضة حكما عسكريا استعماريا إرهابيا مطلقة يده الحرة بالتضييق حتى على لقمة الخبز للمواطنين لدرجة خوف المواطن من التعبير عن رأي لا يقع جيدا على آذان “زلم” دوائر الحكم العسكري. وقد تحول بعض المعلمين الى مخبرين رغما عنهم، او استسلاما للأمر الواقع، وربما بعض الطلاب أيضا أصبحوا عيونا تراقب وتدون وتنقل؟!
في عشية “الاستقلال” (عام 1958) إذا لم تخنّي الذاكرة، وكنت طالبا بالمدرسة الابتدائية، طلب معلم العربية من صفنا ان نكتب موضوع انشاء بهذه المناسبة “السعيدة للعرب”، شرح لنا استاذ اللغة العربية (مرغم اخاك لا بطل) كيف “تطورنا وتقدمنا” (وصرنا “أشبه بالإنسان”؟) وانتشرت المدارس والتعليم وصار العرب بفضل دولة اسرائيل عمالا في المصانع وفي البناء، دون ان يذكر ان مصادرة الأرض، التي كان يملك العرب منها 93% قبل “الاستقلال” أجبرت الفلاحين للتحول الى العمل المهني ونقلتهم عنوة من مجتمع فلاحي الى مجتمع عمالي مع مشاكل هذا الانتقال القسري وتناقضاته الصعبة على جميع المستويات.
كنت ابنا لوالد شيوعي وام مثقفة اهتمت بتدريسي اللغة العربية على صفحات جريدة الحزب الشيوعي (الاتحاد).. وصرت قارئا ممتازا منذ الصف الثالث ولم اترك كتابا في مكتبات أبناء العائلة الكبار الا وقرأته حتى ولو لم افهم الكثير من نصوصه، وكنا نعاني وقتها من حصار ثقافي، ومنع الكتب من العالم العربي وكل طباعة كتاب يجب ان تمر على الرقابة العسكرية. سحرتني الروايات والقصص، وبدأت منذ الصف الرابع في صياغة القصص مقلدا ما أقرأ. ومن هنا عشقت الإنشاء العربي، ولكن شرح المعلم لم يعجبني ويتناقض مع المعرفة التي نشأت عليها والمعلومات التي بدأت تشكل بداية وعيي السياسي المبكر.
كتبت موضوعا عن النكبة والتشريد واللاجئين ومصادرة الأرض والحكم العسكري، لا اتذكر بالتفصيل ما كتبته، بعد اسبوع من كتابتي للإنشاء دخل مدرّس اللغة العربية بوجه غير طبيعي. ظننا لوهلة انه مريض. وضع حقيبته على المنضدة، التقط دفترا تبين انه دفتري، وناداني بصوت مخنوق شعرته يكبت مخارج الكلام: نبيل.. خذ دفترك واذهب الى غرفة المدير. عرفت انه دفتر الإنشاء. لم افهم السبب، لكن وجه المعلم وصوته المخنوق أدخلني بحالة خوف. ماذا كتبت حتى يستحق هذا التجهم والإرسال لغرفة المدير الذي كان يعرف بقسوته وهناك حديث عن تعاونه مع أجهزة الأمن؟
هل سُر بما كتبته عن استقلال الدولة؟
استقبلني المدير بصراخ وتهديد لم أعهده، للحقيقة شعرت بخوف شديد وارتباك وجف حلقي ولم أنبس ببنت شفة. شعرت أني بعد قليل سأُعلّق على حبل المشنقة. بعد وجبة الصراخ والتهديد والوعيد والتنويه بالخطر على مستقبلي، فهمت أني كتبت موضوعا يعتبر تجاوزا خطيرا يعرّضني للعقاب من الشرطة. ويعرّض معلمنا لخطر الطرد من التعليم. أمرني المدير ان أنصرف الى البيت ولا أعود الا مع والدي ليتعلم كيف يربيني.
وصلت الى منجرة والدي، وكان نجارا مستقلا، بصعوبة افهمه ابنه المرعوب ما جرى. ما أخرجني من رعبي ان والدي بدأ يتذمر بغضب من المدير وسياسة السلطة الغاشمة واعتقادها ان تشويه الحقائق سيغير من الواقع. كنت عادة أقرأ قصصي ومواضيعي التي أكتبها على مسامع “جمهوري” العائلي، لذلك كان والدي على علم بما كتبت. قال لي لا ترتعب ليذهبوا الى الجحيم، يريدون ان يعلموا الطلاب على الخنوع والخوف، ما كتبته في موضوعك هو الحقيقة التي لا يمكن تزويرها.
شعرت بالاطمئنان والراحة.
رافقني في الطريق عائدا الى المدرسة. دخل غرفة المدير وانا مختبئ وراءه. لم يعط للمدير ان يقول أكثر من جملة: هل انت على علم بالحماقة التي كتبها ابنك؟ فرد عليه: ان حماقة ابني أفضل من تضليل جهاز التعليم وتشويه عقول الطلاب. فقال المدير ان مستقبل الولد سيكون في خطر. فقال والدي بغضب: طز في مستقبله إذا بني على الكذب والتزوير. بالطبع ذاكرتي لا تحتفظ بنصوص دقيقة لما جرى. لكني اكتب عن مجمل الحدث الذي لم يغادر ذهني كلما كتبت مقالا او قصة وربما ذلك الحادث المترسّب في ذهني جعلني حادا في مواقفي، بل وعنيفا أحيانا في نقدي لمواقف أرى انها تفتقد للمصداقية.
وهكذا عدت الى الصف منتصرا ومستوعبا ان الحقيقة يجب ان تقال.