تغريد حبيب تغرّد بحبّ في روايتها الثّانية فتنتصر على الظّلام والكبت بالفنّ والحرّيّة
تاريخ النشر: 29/11/21 | 22:07بقلم: علي هيبي
أوّل الكلام:
الكاتبة القصصيّة والفنّانة التّشكيليّة “تغريد حبيب” ابنة قرية “دير حنّا” الّتي تمتاز بتلالها الشّامخة نحو أعالي المجد وبتاريخها الضّارب جذوره في أرض الوطن الفلسطينيّ، وهي ضلع من أضلاع مثلّث “يوم الأرض” الخالد، ذلك اليوم الّذي لاطمت فيه كفّ الجماهير العربيّة مخرز السّلطة، واستطاعت هذه الجماهير من الشّبوب عن طوق الخوف والانتقال من حالة التذلّل والرّضوخ للسّلطة إلى حالة من المواجهة الكفاحيّة والمطالبة بالحقوق برؤوس شامخة وتحقيق الأهداف بالنّضال ضدّ السّلطة وليس باستجدائها.
تمتلك “تغريد” ناصية الكتابة الأدبيّة: رواية وقصّة وقصصًا للأطفال وخواطر، وناصية الفنّ التّشكيليّ ريشة وألوانًا ولوحات، وينعكس ذلك في كونها ناشطة ثقافيّة وعضوًا في الهيئة الإداريّة لجمعيّة “إبداع”، وهي رابطة للفنّانين التّشكيليّين العرب، وفي الوقت نفسه هي عضو في “الاتّحاد العامّ للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48”. هذه الكاتبة تصدر هذا العام (2021) روايتها الثّانية بعنوان صادم يشير إلى مفارقة كبيرة هو “القبلة السّوداء”، فمنذ البداية تضعنا الكاتبة في خضمّ أحداث تلمّح إليها منذ عتبة النّصّ، “العنوان”، والّذي يُجمع معظم النّقّاد والباحثين في الأدب على أهمّيّته، بل على مركزيّته بما يمتلك من دلالات موحية بالأحداث الرّوائيّة المقبلة. فالكاتبة كانت لها تجربة أولى في كتابة الفنّ القصصيّ والرّوائيّ على وجه الخصوص فقد ألّفت روايتها الأولى بعنوان “هل الحبّ خطيئة” وأصدرتها سنة (2012) ولعلّ عنوانها الّذي يأتي على مضمون سؤال يظهر للوهلة الأولى والثّانية وينطوي على احتماليْن على الأقلّ، فالحبّ قد يكون خطيئة دنسة وقد يكون عاطفة طاهرة مقدّسة، وهذا رأي الكاتبة الّتي تقول في آخر روايتها الثّانية، والّتي نحن بصدد معالجتها بأدوات ذاتيّة ذوقيّة استقرائيّة، ليست محكومة بقوانين نقديّة صارمة ولا بمدارس واتّجاهات ولا بمذاهب ومقاييس علميّة، وأنا لست ناقدًا كما عبّرت عن ذلك في كثير من المواضع، كان أبرزها ما جاء عنوانًا لكتابي “لست ناقدًا” الّذي صدر سنة (2019) تقول الكاتبة: “الحبّ معجزة تُصنع به المعجزات، الحبّ نور له في الظّلمات” (ص 14) ولعلّ الكاتبة بهذه المقولة الّتي وردت في السّياق الرّوائيّ تردّد صوت الفقهاء العرب الّذين تناولوا نظريّة الحبّ عند العرب، فقالوا بأنّ الحبّ يجعل الجبان شجاعًا والبخيل كريمًا. وللكاتبة تجربة في الكتابة القصصيّة فقد أصدرت مجموعتيْن: الأولى “كأسًا شربت” سنة (2010) ضمّت القصص القصيرة وبعض الخواطر والمجموعة الثّانية “عذريّة بخمس قطع نقديّة” سنة (2017) ومجموعتيْن قصصيّتيْن للأطفال، ممّا يدلّ على انثيال كتابيّ قصصيّ ومتنوّع.
القبلة السّوداء:
منذ أن قرأت هذا العنوان، وهو عتبة النّصّ كما يصفه النّقّاد شكّل عندي إشكاليّة ما، والعنوان بنظري سواء كان لقصيدة أو لقصّة أو لرواية ليس هو جزءًا من النّصّ، ومع ذلك يشكّل العنوان بنظر الكثيرين من الباحثين والنّقّاد بداية إشعاع ينير الطّريق نحو المبنى المعماريّ للرّواية، إنّه الباب أو العتبة الّتي تنبعث منها دلالات وظلال موحية نحو الأحداث الرّوائيّة منذ البداية في المرسم، عندما كانت القبلة ذات بياض ونور وحبّ يشرق ويوقظ الأحاسيس النّائمة، حتّى قمّة الأحداث عندما أشعل القلب حبّ جديد، وكانت النّهاية عن إشراقة روحانيّة وجسديّة أملتها الحاجتان، جعلت القبلة البيضاء النّورانيّة الأولى قبلة سوداء، كانت في ظرف عصيب، في ظلام دامس الحلكة والسّواد. “القبلة السّوداء” هو العنوان المختار الّذي جعلته الكاتبة الفطينة للأحداث بربط أوّلها بآخرها، وبه تضعنا الكاتبة منذ بداية النّصّ أو الرّواية أمام مفارقة ذات إيحاءات ودلالات على ما سيحدث وفق ميزان التّنبّؤ والغموض الّذي تكلّم عنه “فورستر” في كتابه الشّهير “أركان الرّواية”. وراعته الكاتبة بشكل متوازن في بداية النّصّ وأقلّ من ذلك في آخره، حيث مالت إلى تسارع في تسلسل الأحداث وتراكمها، فلفظة “القبلة” موحية برقّة وعذوبة وجمال ولقاء، ولقد قال شاعرنا “أحمد شوقي” على تفعيلة الخفيف:
“نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ – فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ”
من قصيدته الّتي يتصدّرها هذا البيت الشّهير:
“خدعوها بقولِهِمْ حسناءُ – والغواني يغرّهنّ الثّناءُ”
وماذا بعد هذا التّسلسل الغراميّ إلّا قبلة حارّة يطبعها العاشقون على شفاههم التّواقة للّقاء والحبّ، بالأحاسيس الّتي أضرمها الحرمان والتّرمّل والرّوتين الحياتيّ في خضمّ حياة زوجيّة خلت من أنس المشاعر الجيّاشة رغم توفّر الجمال الوارف على كلّ محاسن الجسد ومفاتنه. لقد تعوّدنا على قبلة حارّة تتفتّق عن أحاسيس ملتهبة، وتعوّدنا على قبلة خفيفة فوق الجبين يطبعها أخ على جبين أخته، أو قبلة مع ضمّ وشمّ بعد فراق دام طويلًا، أو قبلة رقيقة بيضاء تلامست فيها الشّفاه بخفّة رومانسيّة حالمة. أمّا هذه القبلة السّوداء من أين تجلّلت بسوادها! والسّواد قتامة وقبح وظلام وخوف، وقد قال الشّاعر الطّبيب “إبراهيم ناجي” صاحب “الأطلال” الكلثوميّة الغناء والسّنباطيّة الموسيقى في وصف حالة تلك اللّحظة السّعيدة والهناءة العظيمة على جمالها وخوفها:
“يا لحظةً ما كانَ أسعدَها – وهناءةً ما كانَ أعظمَها
مرّ الغريبُ فباعدَتْ يدَها – وخلا الطّريقُ فقرّبَتْ فمَها”
هذا الظّلام هو سرّ الخوف! نعم ولكنّه في الوقت نفسه هو إمكانيّة اللّقاء، فمتى ينبلج فجر حبّ مع انبلاج السّحر والصّباح السّاحر! ومتى يستطيع الإنسان أن يعشق بحرّيّة ويعلن عن عشقه أمام النّاس في ساعة نور وتحت ضوء شمس ولا يختبئ الحبّ وهو أسمى العواطف وأنبل الأحاسيس وصانع المعجزات على حدّ قول بطلة روايتنا “عبير” في ثنايا الظّلام البهيم الّذي ينقم على القمر كما ينقم لصّ يمارس لصوصيّته. إن عنوان “القبلة السّوداء” يضعنا منذ البداية أمام اضطراب يتفاقم ومفارقة كبرى وصراع عنيف، وهذا أوّل نجاح للكاتبة في جذبنا وتشويقنا منذ استهلال طريقها نحو الأحداث الّتي تشكّل الحبكة بل الحبكات المتعدّدة. ولنا وقفة عند تلك الحبكات.
الحكاية والحبكة:
غالبًا ما يربط التّسلسل الزّمانيّ بين الأحداث في الرّواية، والزّمان عنصر حاسم في الأحداث على مستوى حياة الشّخصيّات في الواقع وفي الأدب القصصيّ عامّة وفي الرّوائيّ بشكل خاصّ، وعندما يكون الزّمن كعنصر حياتيّ وروائيّ هو الرّابط الوحيد بين الأحداث فإنّها تأخذ شكلها البسيط على شكل حكاية لا قيمة فنّيّة وجماليّة لها، وكي نستوعب هذه الحكاية وهي الشّكل البسيط للرّواية لا نحتاج كما قال “فورستر” إلى أكثر من ذاكرة قويّة، أمّا الشّكل الأرقى فنّيًّا فهو الحبكة الّتي يجري التّركيز فيها على عنصر السّببيّة أو السّبب والنّتيجة، بمعنى أنّ الأحداث لا تتسلسل وفق مركّب الزّمان المنطقيّ فقط بل وفق ارتباط الأحداث ببعضها، بأنّ يكون الحدث الثّاني نتيجة للحدث الأوّل والتّمهيد الأوّليّ في بداية الأحداث سببًا لما سيجري في النّهاية، وهذا وفق مفهوم مذهب الواقعيّة في الأدب، وخير من وصف ذلك هو الكاتب الرّوسيّ “تشيخوف” الّذي قال: ” إذا ظهرت بندقيّة في بداية القصّة فلا بدّ أن تطلق في نهايتها”.
ولو أردنا تلخيص أحداث رواية “القبلة السّوداء” كحكاية لاستطعنا بخمسة سطور فعل ذلك، ولكن ليس لذلك رمينا من خلال قراءتنا هذه، بل رمينا إلى إضفاء ثوب الفنيّة على مبنى روائيّ جدير باحترام الكتابة عنه، خاصّة لأنّ الكاتبة لم تنجح في تحفيزنا للقراءة من خلال نجاحها في مفارقة العنوان بل من خلال نجاحات كثيرة ملفتة للعيان والبحث الاستقرائيّ والتّذوّق الفنّيّ المبنيّ على قراءتي النّافذة وعلى أدواتي الثّقافيّة المتواضعة، ولا أحبّ أن يحاسبني أحد كناقد موضوعيّ متمرّس، فأنا باختصار وكما قلت دائمًا “لست ناقدًا”.
القبلة الأولى أبيضاء أم سوداء:
تمتاز شخصيّة “عبير” بطلة الرّواية بالصّدق مع النّفس ومع الآخر، ولعلّ هذا الصّدق ما أكسبها حضورًا دائمًا ولافتًا على مدى الأحداث منذ بدايتها حتّى نهايتها، وليس فقط أكسبها حضورًا بل أكسبها تأثيرًا على الأحداث وتحوّلاتها الدّراماتيكيّة، لقد أعادتنا “عبير” بصدقها الحقيقيّ والفنّيّ وبسلوكها نحو من أبغضوها وأرادوا قتلها وحاولوا تدمير حياتها وهدم أحاسيسها من خلال إبعادها عن حبّها الأوّل ذي القبلة السّوداء والثّاني ذي القبل البيضاء المتواصلة، أعادتنا إلى تسامح المسيحيّة الإنسانيّ العظيم، حيث قال المسيح: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ”! وهذا شيء عظيم!
“عبير” امرأة مات زوجها الّذي أحبّته وصفت أحاسيسها له ولابنهما الّذي أحبّته حبّ أمّ لا يوصف، هذه المرأة الإنسان استقرّ رأيها على الحفاظ على الذّكرى والعيش لابنها ومستقبله وسعادته، هذا من جانب أوّليّ، والجانب الواحد لا يولّد أحداثًا تتحرّك ولا صراعًا يحتدم، أمّا الجانب الثّاني فهو الحرمان والحاجة، ولا إنسان بلا حاجات أساسيّة، الطّعام حاجة والشّراب حاجة والملبس حاجة وكلّها مادّيّة، أليس للإنسان حاجات شعوريّة ونفسيّة! نعم له! فالحبّ حاجة عاطفيّة والجنس حاجة جسديّة مشتهاة، قد تنبثق عن حبّ عفيف، وبطلتنا امرأة جميلة ذات أنوثة أخّاذة وبريق ساطع تعاني الوحدة والحرمان وكبت المشاعر، فهل تبقى على وفائها لذكرى زوجها الحبيب ومستقبل ابنه الرّائع، وهل في إعطاء مشاعرها كامرأة ذات روح هائمة بالفنّ والجمال والحرّيّة وعالم الأحاسيس الرّقيقة والرّهيفة وذات جسد بضّ متناسق ومشتهى أيّ خطيئة تدنّس هيكل المجتمع الكذّاب! لا أعرف لماذا يكذب المجتمع وعلينا أن ننصاع كأفراد لكذبه وقيمه المزيّفة والخادعة، فهل نحن عاجزون عن المواجهة. هل كانت البطلة عاجزة عن مواجهة التّحدّيات الّتي وقفت في وجهها! والسّؤال الأهمّ هل ثمّة خطيئة في أن تعشق الأرملة وتتزوّج، وكأنّ في ذلك خيانة لزوجها النّائم إلى الأبد تحت غطاء سميك من التّراب والحجارة، هل يحكم الميتُ الحيَّ أم أنّ الحيّ أبقى من الميّت! وهو حرّ في اختيار نوعيّة بقائه في الحياة وملء هذه الحياة بإرادة وحرّيّة وقناعة في الفكر والنّاحية العمليّة وفي العاطفة والجانب النفسيّ والشّعوريّ، الّذي يجعل القلب ينماث مع أوّل رغبة شعوريّة صادقة مع النّفس أو شهوة طبيعيّة صادقة مع الحاجة الجسديّة جاءت على شكل قبلة بيضاء ناصعة دافئة كحليب أمّ حتّى لو تحوّلت إلى قبلة سوداء كقبلة ذئب جثم على شاة، كما قال “قيس ليلى” العاشق لِ “ورد” الزّوج غير المعشوق في مسرحيّة “مجنون ليلى” لِ “أحمد شوقي”، فتحوّلت القبلة الّتي لم تكن أصلًا بعد أحداث ومستجدّات تراكمت في خضمّ الحياة المتقلّبة والّتي لا يقرّ لها قرار، إلى موقف اضطرب فيه الإنسان وأصبح قشّة في مهبّ ريح عاصفة المقادير.
عبير بطل الرّواية:
قلت أنّها شخصيّة مركزيّة ليس لأنّها الرّاوي المشرف على الأحداث بضمير الغائب لتضفي موضوعيّة على النّصّ، ولا تتّهم الكاتبة بأنّ شخصيّة “عبير” الرّوائيّة تمثّل انعكاسًا لشخصيّة الكاتبة بشكل كليّ أو جزئيّ، رغم وجود بعض القرائن، أبرزها الرّسم والميل للفنّ موسيقى وغناء ورسم، بل هي بطل القصّة لأنّها ذات حضور دائم، وهي الأكثر تأثيرًا وتأثّرًا في الأحداث الدّراميّة والّتي تصل إلى حدّ الميلودراميّة بل المأساويّة في بعض الأحايين، والكاتبة “تغريد” تدرك ما تقوله السّطور وما لا تقوله ويختفي كحركة روائيّة داخليّة تضفي على حركة الأحداث الخارجيّة فنّيّة وقيمة جماليّة، “فمنذ أن توفّي زوجها لم تزر صالة العرض، الّتي كثيرًا ما تردّدت عليها وأحبّتها” (ص 7) وحينما زارت معرض الرّسام “أيّوب” أخذ يراقبها وأعجب برقّة أناملها واهتمامها الفنّيّ بلوحاته، عرّفها له أحد الأصدقاء، “إنّها الفنّانة عبير يحيى، قلّما تحضر المعارض بعد وفاة زوجها” (ص 13) وتبدأ رحلة الصّراع بين الوفاء للواجب وعاطفة الحبّ الجيّاشة في النّفس والّتي تنطوي على حاجات جسديّة شرعيّة وطبيعيّة بنظري، فهي امرأة لها روح وجسد أوّلًا وفنّانة تقدر معاني الحرّية ووظيفة الفنّ ثانيًا وأرملة جميلة ذات أنوثة مشتهاة “منسيّة منذ سنين” وجمال أخّاذ وشهوة مبطّنة، “لقد سلبته قلبه من النّظرة الأولى”، وهي كذلك “بدأ خيط من العاطفة يتدفّق في شرايينها”.
رجل عربيّ فلسطينيّ على مصريّ، فنّان تشكيليّ وزوج لامرأة خارقة الجمال نزقة سيئة الطّباع ذات غيرة تصل حدّ الحقد رغم ما وهبها الله من آلاء، و”أيّوب الرّوميّ” أب لولد رائع، فإلى أين تتّجه الأمور! ينمو الحبّ بين العاشقيْن حتّى تلك القبلة الّتي اختزلت حاجة روحانيّة وجسديّة لسنوات. يرى في أحد اللّقاءات العقد الثّمين المرصّع بالزّمرد الأخضر، كان هديّة من زوجها الرّاحل، ولكنّه يتماثل مع اللّون النّاريّ في لوحات “أيّوب”. ما أشبه إبراز هذا العقد في بداية الأحداث وسرقته في آخرها ببندقيّة “تشيخوف” وبمقتل الرّجل تحت عجلات القطار في المحطّة الّتي نزلت فيها البطلة في بداية أحداث رواية “آنا كرنينا” للكاتب الرّوسيّ “تولستوي”.
الحبّ أبو الفنّ:
تمتاز الرّواية بتعدّد حبكاتها المتنوّعة، فقصّة حبّ أولى بين “عبير وأيّوب” وقصّة حبّ تتولّد من فراغ السّاحة، وتبرز شخصّيّة الفنّان الأعمى البصير “زياد” كشخصيّة طاغية على مسرح الأحداث حبًّا وفنًّا وغير ذلك، وبعد حبكة أخرى ترتبط بغياب الحبيب الأوّل في سجون الأمن المصريّ، لمدّة طويلة من الاعتقال، ومعاناة الجدّ ولقاء الأهل في مصر، ولا ننسى معاناة النّساء المضروبات وحرمان المرأة والعنف ضدّها من خلال قصّة “منال” مع زوجها الغيور والظّنّان والمتوحّش، وثمّة حبكة بوليسيّة، اعتقال وسجن ومطاردة وتحقيق بما يخصّ “أيّوب” في فترة اعتقاله في مصر، والّذي دلّل على وحشيّة الأنظمة العربيّة المعتمدة على قمع الحرّيّات وكبت النّاس عن حقّهم بانتقاد النّظام وتلفيق التّهم وحرمان المعتقلين من حقّ الدّفاع. ولعلّ في ذلك نقدًا لاذعًا تقدّمه الكاتبة كرسالة احتجاج على دمويّة النّظام العربيّ القمعيّ المستبدّ.
ومع ذلك تبقى حبكة الحبّ على مدى الأحداث مع خلفيّة الفنّ هي الأساسيّة الّتي تشكّل بؤرة الأحداث، وبهذا التّبئير تشدّ إليها كلّ الحبكات الثّانويّة لتشكّل بالتّالي إثراء فنيًّا وأسلوبًّا يضفي على المعمار الرّوائيّ تنوّعًا وجدّة. ولعلّ قصّة الحبّ مع “زياد” بعد غياب “أيّوب” وهي حيلة فنّيّة مشروعة هي القصّة الأساسيّة وما كانت تلك الحيلة إلّا سببًا للوصول إلى هذه، لأنّ “زياد” باعتقادي ولتعذرني الكاتبة! فرض شخصيّته وبطولته على مسرح الأحداث ليس وفقًا لما خطّطته الكاتبة مسبقًا، وبذلك يحدث معها ما حدث في رواية “خان الخليلي” لِ “نجيب محفوظ” عندما أراد الكاتب “رشدي عاكف” سجين الخمر والمرض العاشق لجارته “نوال” بطلًا للرّواية، ولكنّ شخصيّة أخيه الكبير “أحمد عاكف” تمرّدت على الكاتب وشبّت عن الطّوق وحظيت بالبطولة لثرائها الفكريّ وهمومها وتقلّباتها وظروفها المضطربة. ولعلّنا في المقارنة بين “أيّوب” وَ “زياد” نلاحظ هذا التّنوّع والتّميّز في شخصيّة “زياد” فهما توأمان متشابهان، فنّانان في الرّسم والموسيقى وهما وسيمان، ولكن في “زياد” رقّة وعذوبة نادرة “وصوته يختلف إنّه رخيم عميق واثق بنفسه ولا يبدو عليه أيّة إصابة رغم كونه أعمى” (52) ورغم العمى عند زياد إلّا أنّ هذا العمى زاده وسامة ونضوجًا وفكرًا وذكاء، فهو يعلّم الموسيقى ويعزف البيانو ويصلّح عجلة السّيارة والأهمّ يكشف بذكائه الخارق لغز جريمة الاعتداءات المتكرّرة على حبيبته “عبير” ومحاولات قتلها وتصويرها عارية لابتزازها، كلّ ذلك ويبقى ينبثق حبّها لزياد فيشعّ حبًّا وتسامحًا حتّى على المجرمين، وينتهي الحبّ بالزّواج وتبقى الأسرة متماسكة بعد صحوة الضّمير والنّدم كرسالة أخلاقيّة، لتصل بالتّالي إلى إيجاد العقد الثّمين، الّذي سرق في البداية. فتكون الكاتبة بهذه الرّسالة قد انتصرت على الظّلام والإجرام والكبت بالحب والموسيقى والفنّ، بتسامح هو تسامح “المسيح” وبإيمان كإيمان “عمر بن الخطّاب” الّذي آمن بأنّ توبة مرتكب الخطيئة إذا كانت صادقة أفضل من عقابه، فعنده “قبول التّوبة خير من إقامة العقاب”. واعتقد أنّ هذ الإيمان هو إيمان “عبير” وكذلك إيمان الكاتبة، رغم أنّها لم تلمح ولو بحرف لانتماء دينيّ ما ولا لديانة الشّخصيّات ولا لمكان عبادة كجامع أو كنيسة، وكذلك في اختيارها لأسماء الشّخصيّات اهتمّت أن لا يكون في تلك الأسماء أيّ دلالة دينيّة أو أيّ إشارة إلى انتماء دينيّ، وقد أحسست أنّه تعمّد مقصود، وفي سؤالي للكاتبة أكّدت لي ذلك التّعمّد الّذي يرمي إلى نزعة إنسانيّة سامية وشاملة، فالحبّ عندها دين ومنهل عذب لأسمى الأحاسيس وأنبل المشاعر وأرقّ القيم وأجلّها، وقد قال الشّاعر “ابن عربيّ” في هذا المعنى هذه الأبيات الّتي صدّرت ووسمت بها ديواني الثّالث الّذي صدر سنة (2016) بعنوان “اقرأ بسْم حبّك”:
“لقدْ صارَ قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ – فمرعًى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ – وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توجّهَتْ – ركائبُهُ فالحبُّ ديني وإيماني”
قضايا فنّيّة:
لا يمكن مغادرة هذه المقاربة شبه النّقديّة دون التّطرّق لبعض الجوانب الفنّيّة الّتي أضفت على الرّواية أثرًا إيجابيًّا من النّاحية المبنويّة. والكاتبة باعتقادي على وعي من استخدامها وتوظيفها فنّيًّا، ففي أوّل فقرة من الرّواية (ص 7) حيث تصوّر خلفيّة الطّبيعة المضطربة بالرّياح والمطر والعواصف الرّعديّة كلّ ذلك ليس لذاته يستخدم، بل هو يوظّف كلوحة أو خلفيّة لتصوير ما يدور في نفسيّة “عبير” بطل الرّواية، ومن هنا تعكس البيئة المضطربة نفسيّة “عبير” المضطربة هي الأخرى وبذلك تتضافر الحركة الدّاخليّة وتنسجم مع الحركة الخارجيّة لتضيف لها اكتمالًا في الحدث النّامي واستبطانًا للشّخصيّة. وحيث تهدأ النّفس وتميل إلى الهدوء وبعض من طمأنينة وأمان نرى صورة مختلفة “جميلة أجواء بيت أبي سعيد، ياسمينة تظلّل مدخل الدّار ويطال عطرها أنفاس الحارّة” (ص 76) ولذلك كانت “عبير” تعيش هنا في بيت أبيها، وفي هذه الأجواء تعيش بإحساس من الفرح.
في (ص 137) “هطل المطر غزيرًا كانت عبير ترقد في سريرها منهكة الرّوح حائرة الفكر: عواصف رعديّة في الخارج وزمهرير الرّياح وعنفوان البرق”، صورة في الخلفيّة الطّبيعيّة تعكس أعماق الشّخصيّة المضطربة والحائرة وهي تقف على مفترق الطّرق العسير. “فأين تتّجه الغانية” كما قال “تولستوي” عن “آنا كرنينا”.
ولقد شكّل الفنّ موسيقى ورسمًا خلفيّة أضفت هالة من الإيقاع الجميل المنسجم مع ازدهار الحبّ النّامي بين “عبير وزياد”، فموسيقى “مونامور” والعزف عامّة يتحوّل إلى أحاسيس معبّرة ولا تقلّ تعبيرًا عن السّرد اللّغويّ، “كانت أناملها تقفز فوق المفاتيح تحلّق بروح عاشقة بقرب معلّمها الكفيف الّذي يكاد يسمع نبضها ويروق لهما عزفها كأنّها تعزف كلمات تخاطبه بها” (ص 72) وبين عزف وكلمات ولوحات ينمو الحبّ مبرعمًا على أنغام “مونامور” وهنا يأتي الإعلان العظيم من “زياد”: “أحبّكِ” وتهمس بعد لحظات وهما في حالة وجه لوجه “أحبّكَ”، وإن لم تخلُ من صراع بين حبّ مضى وحبّ أتى فقد بدأت مسيرة من القبل البيضاء الّتي لا تشوبها شائبة، فلا صراع مع دمار أسرة ولا مع ولد توسّعت مداركه وعرف طريقه نحو العلم والموسيقى والحبّ، لم يعد إلّا تلك البقايا الّتي تنغّص النّفس من أثر تلك القبلة السّوداء.
“أيّ قلب هذا؟! فكّرت: “هل أحبّ فيه أيّوب أم أنّني أحبّ زياد حقًّا”؟ (ص 73) وهنا مكمن الصّراع الأساسيّ الخارجيّ الّذي يتجلّى واضحًا الآن ليس بين حبّ وواجب كما كان، أو بين عقل يملي احترام الواجب الاجتماعيّ وقلب ينماث نحو عواطف ملتهبة لا تحدّها حدود اجتماعيّة، بل بين حبّ وحبّ في صراع داخليّ، ويأتي دور الحركة الدّاخليّة الّتي تعكس ما يدور في نفسيّة “عبير” وتنعكس بواسطة الحوار الدّاخليّ “المونولوج” الّذي يبيّن مواقف الاحتدام بين التّقوقع والانكفاء والعيش في الظّلام وبين التّحدّي والمواجهة تحت الألق والنّور.
قدرة الرّوائيّ تكمن في محافظته على مسار روايته بوتيرة تتناسب مع المواقف والشّخصيّات والظّروف، فلا يستطيع الكاتب أن يغلق على القارئ بالغموض ولا يستطيع أن يفرّط بأحداثه المقبلة بإعطاء القارئ التّنبّؤ بإفراط في معرفة الأحداث المقبلة، على الكاتب أن يوازن بين العنصرين: التّنبّؤ والغموض، وقد نجحت بذلك الكاتبة منذ تعرّفت على “أيّوب” ونما حبّهما وحتّى سجنه في مصر، ولكنّها أفرطت تحت وابل الحبكات والأحداث منذ أحبّت “زياد” وعاد “أيّوب” وتعرّضت “عبير” لسلسلة من محاولات القتل والاعتداء والجرائم، الأمر الّذي جعل الكاتبة تُفلت زمام التّباطؤ بالغموض لصالح التّسارع بتمكين القارئ من اكتشاف كلّ شيء، فانفقد التّوازن الرّوائي الفنّيّ بينهما، ولذلك على الكاتبة الانتباه لذلك في الرّواية القادمة بالمحافظة على وتيرة لتسلسل الأحداث وفق معايير تمليها المواقف والسّلوكيّات وأبعاد الشّخصيّات والمعمار الرّوائيّ الفنّيّ عامّة منذ انطلاقة الأحداث من بداية واعية مرورًا بتسلسل منطقيّ حتّى انزلاقة الأحداث إلى نهاية مقنعة من داخل الأحداث وليس مقحمة من خارجها.
ولا بدّ من ملاحظة إيجابيّة تسجّل لصالح الكاتبة، في عملها الرّوائيّ بشكل عامّ، حيث قدّمت للقارئ رواية جيّدة تناولت فيها الكثير من المواضيع والخلفيّات، ممّا يدلّ على قدرتها وتمرّسها في الكتابة الرّوائيّة حيث ينجلي ذلك بقدرتها على مسك الخيوط بيديْها إلى حدّ بعيد. أمّا النّهاية فهي الأكثر توفيقًا ونجاحًا، وقد لمّحت برمزيّة خفيفة وجميلة. في آخر صفحة من صفحات الرّواية (ص 177) حيث تغلق الأحداثُ سدولَها، وتحت عنوان “في معهد المحبّة للفنّون” والمعهد ثمرة من ثمرات الحبّ والزّواج بين “عبير وزياد” قال “زياد” و”عبير” تتماثل للشّفاء على فراش المرض: “ستشفين ونتزوّج وكما قلتِ سنفتتح معهدًا للفنون” وتابع وهو يلمس وجنتيْها بدفء وحنان: سنعلّم الأطفال أن يرسموا قوس قزح يخترق الغيوم الملبّدة وورودًا أجمل في كلّ ربيع” (ص 176) دفء وحنان وأطفال وقوس قزح وورود وربيع كلّ ذلك يعكس عالمًا خياليًّا في الواقع ويعبّر عن قدرة الإنسان اللّامحدودة على الفعل والإبداع إذا امتشق الإرادة سلاحًا بانيًا وإذا “ما زال في الكون قلوب بيضاء” (ص 176) وأمل ينبعث من الشّباب الواعد “آدم وجولي”، ومن “طفلة رائعة الجمال لم تتجاوز التّاسعة، عيناها زرقاوان وشعرها أشقر وبشرتها ناعمة تحمل في يديْها ورقة” (ص 177) تقدّمت من “عبير” في مكتبها، جاءت لتريَها رسمتها الّتي تحمل “مسدسًا تنبعث من فوهته أزهار ورموز موسيقيّة تحلّق في الفضاء” (ص 177) هذه الطّفلة هي “سوسن ربيع الزّين” اسم ثلاثيّ كلّه إنسانيّة مونعة ممتزجة بخضرة الطّبيعة وإشراق الحياة بما فيها من ورود وربيع وجمال، هذه الطّفلة المعبّرة عن الغد الواعد والمشرق والحالم بالحياة والحرّيّة والأمان والكرامة، هي ابنة المجرم والقاتل الّذي حمل مسدّس الرّصاص القاتل والحقد والجريمة، وهو المعبّر عن الماضي الأسود القاتم والشّائك والأليم والمدمّر وهو الماضي الذّاهب إلى زوال، ما دام الأطفال ينشدون الأمل أغنية ويعزفون الحبّ على سلّم الحرّيّة ويرسمون الفنّ ألوان قوس قزح ينبلج منها فجر حياة جديد يعيش فيها الإنسان بأمان وسلام وكرامة.
لذلك كلّه قلت منذ البداية، منذ أن عنونت هذه المقالة: “إنّ تغريد حبيب غرّدت بحبّ ناصع في روايتها “القبلة السّوداء” فانتصرت على الظّلام والكبت والسّواد بالفنّ والحرّيّة وإشراق فجر جديد”.