يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائهًا
تاريخ النشر: 07/12/21 | 13:16قصة نبيل عودة
هكذا تمضي الأيام
لست أدرى بالدافع الذي يشدني لأجلس امام
النهر متأملاً اندفاع الماء اللانهائي. كانت تمر على عشرات الوجوه، تجذبني للحظات
وانساها، لأعود أتأمل حركة الماء. وكثيرًا ما يعتريني شعور الوحدة القاتل، ولكني
بقيت ملتزمًا لعادتي غير المفهومة. احيانًا اقتنع باني الضائع الوحيد في هذا
العالم؟ او على الاقل في هذا المكان. وتبعًا لذلك استنتج بثقة أنى التائه الوحيد
امام هذا النهر، وانه لا قيمة للزمن في حياة التائهين.
جميل ان يرى الانسان الوجوه عبر انعكاساتها
في اعماق الماء. بعضها يبدو أكثر طولاً وبعضها أكثر عرضًا، ولكنها امور تمر بسرعة
بحيث أنى لا اتذكرها. احيانًا يخيل الي ان الجلوس أمام النهر هو حل شجاع لمشاكل
الضياع. المشكلة أنى لا اشعر داخليًا بشيء.
انا في منتصف عقدي الرابع. اشعر
بالضياع منذ وقت طويل جدًا. احاول ان احدد المنطلق الجوهري لما اعانيه، فتمتلئ
صفحة النهر بعشرات الصور والخيالات والاحداث.
حوار مع رجل لم يته
-لن يستعيد العرب قوتهم.
-هتلر وزع دعوات ليحتفل باحتلال لينينغراد
والنتيجة انه لم يستطع دخولها.
-دائمًا تقود النقاش بعيدًا!
-بل احاول تخليصك من أزمتك.
-أزمتي الوحدة القاتلة!
-تزوج اذن!
-كيف أستطيع ان أجد زوجة إذا لم أجد نفسي
بعد؟!
***
انخفضت نسبة الضوء وبدت لي الدنيا اقل حركة
وأكثر هدوءً، وصار النهر أجمل. اصبحت الانعكاسات على صفحته مشوشة بحيث لم اعد
أستطيع التمييز بين الوجوه. كل ما هنالك اشكال هندسية… تتبادل الظهور. تمر امام
عيني كما تمر الصور السينمائية وتشدني صفحة النهر لأيام زمان.
غزلية من أيام زمان
الى التي اهدتني قبلة قبل المغيب
عبر شرفتها المشرقة
فأصبحت نجمي الليلي
به اهتدي الى الطريق
عائد أنا،
عائد…
وان طال الطريق
(كتبت في السجن)
•ملاحظة: انا عدت. اما هي فلم تنتظر.
***
ايام زمان لم اشعر بالملل، كنت ملحوقًا
بالوقت واتمنى ان يصبح للساعة احدى وستون دقيقة… تململت في جلستي بعض الشيء.
الآن امنيتي ان يركض الزمن. ان تنقص دقائق الساعة.
حيث لا يشعر الإنسان بذاته
خذني معك
ايها النهر المتحرك
بالوجوه المشوشة.
احمليني…
ايتها المياه المندفعة
في مجرى النهر…
الى هناك
حيث قد يكون بلا شك
عالم آخر
لا يشعر فيه الانسان بذاته
وتصبح الكلمات بلا معاني
وينتهي التفكير
**
اجل، حينما لا يكون تفكير لا تكون عقد.
امتلأت صفحة النهر بالنجوم فاهتممت بالبحث عن القمر.
اردت ان ارفع عقيرتي بالغناء، ليس رغبة مني
بعملية الغناء نفسها، وليس لان اغنية ما تدندن في رأسي. لم يكن شيء من هذا او ذاك.
فانا لا احفظ أكثر من مطالع بعض الاغاني، ولا يستهويني الغناء، وصوتي لا يصلح
للغناء. والمكان غير مناسب لغنائي. كل ما هنالك انها حالة طرأت علي. سرعان
ما وأدتها.
حوار آخر مع الرجل غير التائه
-تزوج.
-فاتني القطار. ثم ان مشكلتي ليست هنا.
-الزواج قد يخرجك من عقدتك.
-ربما يخرجني من عقدة ليربكني بعقدة أصعب.
-شعور العجز والتردد اياه.
-لا حيلة لي فيما يحدث.
-انت تقول هذا؟!
-……
-انت الفوضوي المندفع كالعفريت، المغامر
الـ….
-لا تحدثني عن ايام زمان…
-العرب ليسوا اول أمة تهزم. قبلها هزمت عشرات
الامم.
-لم يعد ذلك يهمني. هل تفهم ؟!
-هس… لا تصرخ أنا لا اقاتلك.
انعكس وجهها على صفحة النهر بين النجوم، فبدا
جمالها أكثر عظمة واشد تأثيرًا. انتابتني كآبة شديدة ووددت لو اخرجت الوجه واحتفظت
به بين كفي. بيني وبين نفسي اعترفت، بشيء من الارتباك أنى لا ازال أحبها. وأحن الى
الايام التي ربطتنا، وكنت كلما رأيتها في زياراتي الخاطفة لمدينتي ينتابني الألم.
الآن اصبح عندها طفلان، وزوجها كان زميلي في الدراسة، لا تربطني به صداقة خاصة. كل
ما هنالك معرفة قديمة من ايام الدراسة.
كنا نتبادل الاشارات عبر الهواء الطلق. هي في
شرفتها وانا منزو في قرنة الشارع. نلتقي خطفًا لنتبادل تحية صامتة مرتعشة.. نبحث
عن أكثر الاماكن زحمة بالناس لنستطيع بحجة المرور ان نلتصق ببعض. صور مضحكة ولكنها
أعذب ذكرى أحملها.
في معارك أيار المشهورة سنة 1958 قذفت
الحجارة وكل ما تطوله يداي من سطح الارض. وعندما أمسي اول ايار كنت مطروحًا أنزف
في زنزانة ملأى بالأصوات. واستعدت وعيي بعد ساعات طويلة. وفي خلال السنة التي
قضيتها سجينًا ضاع حبي الاول والاخير. حبيبتي تزوجت.
لم اعرف لماذا خانتني! لماذا لم تنتظرني؟!
لم انس الصدمة. كانت تسكن مع زوجها قرب
بيتنا، بحيث اراها صباحًا ومساء. ولكنها لم تحاول ان تنظر اليّ مطلقًا. كانت تتجاهلني
بشكل يثير حقدي. وبنفس الوقت يزيد اعجابي ورغبتي فيها… فتركت مدينتي تمامًا، ولم
أستطع ان اترك حبها. بقي معي. وكنت، وربما ما زلت كلما رأيت زوجين متحابين تثور
نفسي عليهما. هل هي الغيرة؟ لا ابدًا! اذن؟! لا اعرف ولا انوي التفكير بهذا
الموضوع.
واليوم لم يبق لدي من ذكراها الا قصاصة ورق
صفراء صغيرة عنونتها بـِ: “غزلية من ايام زمان”.
حادث غريب ذات مساء
لي جارة ارملة، زوجها طيار سقط في آخر يوم من
ايام حزيران الستة المشؤومة. كانت علاقتي بها وبزوجها جيدة، وحتى بعد فقدانها
لزوجها بقيت علاقات الاحترام قائمة، وكثيرًا ما حاولا سوية اقناعي بالعدول عن
فكرتي المعارضة للزواج. كنت ارتاح اليهما لدرجة أنى قصصت عليهما صدمتي وسبب هجرتي
لمدينتي. هما الوحيدان اللذان كنت ارتاح اليهما في كل شيء ما عدا في السياسة. كنت
اجري معهما نقاشات عنيفة تمتد احيانًا لليلة كاملة. وكنت اشتري الحلوى وبعض
الالعاب لطفلتهما “شولا” وكانت “شولا” الصغيرة أحسن صديق لي.
إذا لم اذهب للنهر اكون معها.
في مساء أحد الايام استدعتني جارتي الارملة.
كان بعض القلق عالقًا بمحياها، ونظراتها حزينة. قالت قبل ان اخطو للداخل:
-شولا لا تصدق إنك عربي.
لم أجد غرابة في قولها. جلست على الاريكة في
مكاني الذي لا اغيره. كنت اشعر نفسي حرًا في هذا البيت، ولكن بعد ترملها لم اعد
ادخل بيتها الا حينما تتعربشني صغيرتها، فأوصلها للبيت واذهب لغرفتي في الطابق
التالي.
-يسممون عقول اطفالنا. يكفيني ما حدث لي.
كنت ما زلت مرتبكًا من دعوتها، قلت:
-هل أستطيع ان اساعد بشيء.
-تصور انهم يعلمون اطفالنا الكراهية. لا
يهمني ان تكره “شولا” العرب عندما تكبر. هذه مسألتها الخاصة. ولكن عندما
يعلمونها الكراهية العمياء الآن، وهي لا تفهم ولا تميز الخير من الشر، فهم يربون
فيها خصلة الكراهية. خصلة قد تتجه ضدي او ضد أقرب الناس اليها.
كانت تتحدث دون الاعتبار لكوني عربيًا، وقد
سررت بذلك، ولمست به روح الثقة بي، فحديثها غير مقصود به كراهية العرب، وانما تريد
ان تقدم لي الحقيقة كما هي، لعلني اساعدها فيما تريد.
صمتت لتلقط انفاسها ولتركز فكرها:
-أمس طلبت مني لعبة رشاش، فاشتريتها لها،
اليوم عبأته بالماء وقالت انها تريد ان تذهب للناصرة لتقتل كل العرب. وعندما
زجرتها وجهت رشاشها نحوي وصرخت متكلفة الشراسة: “عربية موتي”… كيف
أستطيع الصبر على ذلك؟ قلت لها ان العرب اناس مثلنا، طيبون، فرفضت ان تصدق. قلت
لها افرضي ان اباك الذي تحبينه وتنتظرين عودته عربي، فهل تقتلينه إذا رجع؟ فرفضت
الاجابة، فسألتها إذا كانت تحبك انت، اجابت بالإيجاب، فسألتها الا تعرفين انه
عربي؟ فأصرت أنك يهودي… لذلك استدعيتك، ربما يقيدها ذلك…
-اين هي الآن؟
-تبكي في غرفتها لأني اخذت منها رشاشها و…
منعتها من قتل العرب.
قالت وهي لا تعرف تبكي ام تضحك. نادتها.
فجاءت منفوشة الشعر عابسة، نظرت الي من طرف عينها…
-هل صحيح يا شولا أنك تريدين ان تقتلي العرب؟
-هم قتلوا أبي…
-من قال لك ذلك؟
-المعلمة. وقالت انهم يريدون قتلنا كلنا.
-إذا اعطوك رشاشًا وقالوا لك ان تقتليني، هل
ستقتلينني يا شولا؟
-لا. انت يهودي.
-لو قالوا لك أنى عربي.
-هذا ما قالته امي، ولكني لم اصدقها.
-هل تحبين أمك يا شولا؟
-نعم أحبها.
-من تحبين اكثر، امك ام المعلمة؟
-انا أحب امي. و… المعلمة أيضا.
-اذن لماذا تصدقين المعلمة ولا تصدقين أمك؟
-امي لا تريد ان اقتل العرب.
احترت بعض الشيء. واخذت الام تبكي بمرارة.
-هل تعرفين لماذا تبكي أمك؟
-…..
-تبكي لأنك تكرهين العرب. يجب ان لا تكرهي
احدًا.
-لا أستطيع ان أحبهم.
-هل تحبينني؟
-بالطبع انا احبك.
-لماذا تحبينني؟
-…….
-أمك قالت لك الحقيقة. انا عربي.
-انت…. ؟!؟
نظرت اليّ وكأنها تقول لي: “قل اي شيء
آخر”… قالت الام وهي تجفف دموعها:
-نعم يا شولا انه عربي. يجب ان تقتنعي بما
اقوله لك.
امتلأت عيناها بالدموع وهربت لغرفتها. جلست
انا وامها صامتين لفترة طويلة… كنا نسمع خلالها شهقات بكاء الطفلة. لم نكن نعرف
ان كان بكاؤها حزنًا لأني عربي ام لان عقلها الصغير قد استطاع الكشف عن الواقع
الموحش؟
النهر يجري من جديد
بعد تلك الامسية اصبحت جلساتي امام النهر
أكثر تباعدًا. صرت أمل من الجلوس هنا واشعر ان فكري مليء بأمور اخرى. حتى الوجوه
المنعكسة طولاً وعرضًا على صفحة النهر لم تعد تثير بي أي متعة. اصبحت ارتاح أكثر
لوجودي في غرفتي. فانا قريب لجارتي، اتحدث معها عن شتى المواضيع، وفي السياسية
نحتد، كما كنا ايام زوجها، ولكن الاتفاق أصبح اوسع من السابق.
كانت تبحث عني لقتل وحدتها. وكنت أجد لديها
نفس الشيء. لم تكن الرغبة الجنسية هي الدافع. ابدًا. صحيح انها جميلة وانوثتها
مكتملة. كانت تحب زوجها بشكل غريب، وحافظت على حبها، وكثيرًا ما تناولنا موضوع هذا
الاخلاص بالنقاش. وكنت دائمًا نقيضًا لها. ليس لاقتناعي بموقفي بقدر ما هي رغبة لا
اعرف مصدرها لمعاكستها.
وأصبح النهر يعكس وجهها على الدوام. انظر
للماء في جريانه فأرى وجهها الشاحب الجميل. وتباعدت زياراتي او كادت تنقطع
لمدينتي…
اما “شولا” الصغيرة فأصبحت مفكرة.
وكان الحديث عن العرب يشد اهتمامها بشكل غريب. وقد عوقبت عدة مرات لأنها عارضت
معلمتها فيما تقوله عن العرب، واضطرت امها ان تنقلها لروضة اخرى بعد ان اصطدمت
بالمعلمات.
حوار
-اريد ان اقول لك شيئًا ولكن بشرط ان لا
يضايقك؟!
-ابدًا. قل.
-لا تربطني بك علاقة خاصة. كل ما هنالك صداقة
جيران واحترام متبادل؟!
-تمامًا!
-ولكني اتضايق عندما تتحدثين مع غيري!؟
مبتسمة:
-هذا تطور خطير لم اتوقعه.
-لا اريد ان تفهمي كلماتي الا كما هي فقط،
وبدون زوائد.
صمتت وقامت تحضر شأيا، وصلني صوتها من
الداخل:
-انا اعرف ان الشرقيين ذوو تفكير حار كمزاجهم
الحار، ولذلك اصارحك باني في الفترة الاولى كنت اخاف ان تحاول الوصول اليّ.. ولكنك
لم تفعل.
-لا اريد ان تفهميني خطأ.. انا احترمك جدا.
-ولو… الاحترام لا ينفي تبادل الحب!
-أنى اصارحك أكثر. إذا قلت لك أنى لا ارغب بك
اكون كاذبًا.
-لا ضرورة لقول ذلك! اعرفه….
الحديث الجنسي دائمًا يربكني. يكشفني ويجعلني
اقول كل ما لدي دون تغطية. قدمت لي فنجان شاي، ووضعت بعض الكعكات امامي.
-تفضل.
-شكرًا…!
أمور يجب ان توضح عن فترة ماضية
أنا عازب.
في الخامسة والثلاثين من عمري.
فشلت في حبي الاول.
وصدمت في عربي.
فشلي في الحب جعلني أنسى نفسي لعقد كامل.
جعلني اضيع في متاهات المدن الكبيرة.
حيث دخان المصانع يتساوى مع الناس.
وازداد ضياعي بصدمتي في عربي.
فانتهيت وانا موجود.
وعلى ضفة النهر استقر بي الضياع.
وكانت السنوات تمر.
والماء يجري.
والوجوه تنعكس.
والدنيا تتغير.
وانا كما كنت.
ولا ازال.
اعيش حياتي بلا معني.
واقطع العمر بلا هدف.
النهر يجري لهدف.
هدف واضح محدد.
لا يحيد عنه ابدًا
يجرف في طريقه كل العوائق.
وانا على ضفته جامد.
لا ارى نهاية لحالتي.
ولا ارى بداية لشيء جديد.
اجل.
كان النهر يجري.
والحياة كانت تجري ايضًا.
وبقيت أنا…
**
منذ وقت طويل لم اذهب الى النهر ولا اشعر
بشوق اليه. في ايام السبت ارافق “شولا” وامها الى البحر. بعض الجيران
يثيرون حولنا الشبهات. ولكن لم نلتفت لذلك. فنحن مقتنعان بسلامة علاقتنا. كانت
“شولا” تعاملني كما لو كنت ابًا لها. وقد أطربني شعور الابوة، ولو انه
غير أصيل. وفي تلك الفترة بدأت أنسي حبي الاول، أصبح ذكرى تبعث على الابتسام. عشر
سنوات عشتها في ظل ذلك الحب والآن في اقل من نصف سنة أنسي كل شيء. فترة شبابي
الاولى فقدتها تحت تأثير صدمتي بحبي. عشتها وحيدًا ضائعًا معقدًا لا اعرف ما اريد
من وجودي.
حوار
-حالنا اصبحت مضحكة.
-هكذا نحن مرتاحون، الا إذا كان هناك ما
يضايقك.
-لو كنت اختي، هل كنت اقبل تصرفك هذا؟
-انا في الخامسة والعشرين ولا سلطة لاحد
علي…
-ولو…
-المتحرر يتحول الى رجعي. اين نقاشاتك
السابقة؟
-عقليًا اقبل ذلك، وعاطفيًا ارفضه.
-نجنا يا ربي من العواطف الشرقية.
-بدأنا بمعالجة شولا، فعالجنا أنفسنا.
-كان ذلك من متطلبات العلاج لها، الا إذا
ندمت.
-ابدًا، ولكنا لم نتهور… ليس من
طبيعتنا…
-ولكن عواطفنا تحن اليه.
-انت غريب، لا اعهدك تتحدث بهذا الشكل؟
-الرغبة مجرمة!!
-هل تعني ما تقول؟
-أعنيه قولاً فقط، لا فعلاً.
-تعتريني نفس الحالة، ولكني احافظ على حبي
لزوجي. لذلك ارتاح معك كثيرا. فأنت تقدر ذلك وتحترمه.
-لا تنسى أنى عربي لا يؤمن له جانب كما يقول
كباركم؟!
-هذا لا يعنيني إطلاقا.
-وإذا صارحتك باني اتمنى ان يحرر العرب
اراضيهم المحتلة!
-لا ارى غضاضة ان ننهزم نحن لينال الآخرون
حقهم.
-عشر سنوات حتى سمعت منك هذه الجملة.
-هل تريدني ان أفقد شولا ايضًا بسبب ارض لا
تربطني بها آية صلة؟
***
قمت بزيارة الى مدينتي. شعرت نفسي كالسائح.
لمحت حبيبتي السابقة ولم اكترث كثيرًا لذلك. كعادتها ستتجاهلني. ولكن هذه المرة
تنظر الي ولا تتجاهلني.
ترى هل ملت من زوجها؟
تذكرت قولاً لا اعرف صاحبه وهو
ان المرأة تختار زوجها كما تختار فستانها. ترى الفستان الاول، وتجرب الفستان
الثاني، وتشتري الفستان الثالث، ويبقى عقلها متعلقًا بالفستان الاول.
لم أستطيع البقاء طويلاً. فما هو الا نصف يوم
حتى كنت في الطريق خارج المدينة.
حوار
-متى عدت؟!
-لتوي قد وصلت.
-قلت إنك ستقضي يومي العيد مع اهلك؟
-لم أستطع البقاء أكثر من نصف يوم!
-هل التقيت بها؟
-رأيتها فقط. وشعرت انه قد يحدث شيء لو
بقيت…
-خيال شرقي!!
-اذن اشتقت لك ولشولا، فعدت!
-فعلت حسنا بعودتك.
في تلك الليلة بقيت حتى ساعة متأخرة. جرنا
الحديث أو انجررنا اليه … أفرغنا آخر كأسين من قنينة ” الكابرنيه ”
وكان طعم النبيذ المز المعتق يضفي على ثرثرتنا جوا شاعريا. لا أذكر شيئا من
ثرثرتنا. كان صمت الليل يبعث في جسمي ما يشبه الدغدغة. وكنت مترددا ومندفعا،
راغبا وخائفا. ارى الثمرة ناضجة وشهية ولا أجرؤ على قطفها.
نامت “شولا” ولم اشعر
بالرغبة في الذهاب. وهي ايضًا لم تشعرني بضرورة ذهابي. كنا نريد ان نتحدث حتى
الصبح. وتحت هذه الرغبة الشكلية كانت تستتر رغبة أخرى مشتركة. ولكني توجست من
الاقدام. وقلت لنفسي ان الخمرة اثرت على اعصابي ويجب ان اتماسك. أما هي فكانت قد
استعادت كل حيويتها التي فقدتها بعد مصرع زوجها. هذا الايحاء المجنون يخدرني …
أشعر به؟ أجل. ولكني لا اريد ان أفقد الحلم الذي يراودني …
حوارية مشوشة بالخواطر
-تشرب شايا أم قهوة؟
-قهوة بالهيل.
-حسنا.
صمت مشبع بالتخدير.
-ما الساعة؟
-الواحدة صباحًا.
-ارجو ان لا اكون قد ضايقتك؟
-ما كنت اعرف كيف سأقضي هذا اليوم لولا
عودتك.
-اشكرك.
رشفات صامتة من فنجاني القهوة.
-لماذا تصمت؟
-تحدثنا عن كل شيء … وأشعر اننا لم نتحدث
عن شيء ..
وقلت لنفسي: دعوة جرئية للاقدام.. وقلت:
-شكرًا على القهوة. آن لي ان أذهب؟!
-إذا اردت البقاء باستطاعتك ان تبقى. انت لا
تضايقني. وغدًا هو السبت، نستطيع ان ننام حتى ساعة متأخرة.
تثلجت أطرافي واعتراني اخضرار. شعرت أنى
لا الامس الأرض بقدمي.
قلت لنفسي: قالت نستطيع ان ننام وتستطيع ان
تبقى. ارتبط البقاء بالنوم او النوم بالبقاء. هل هي الخمرة أم الرغبة الصادقة
الطبيعية في كل امرأة .. وكل رجل؟
-لا أملُ في الجلوس معك. ولكن الجيران تتطلع.
-سأطفئ الضوء وأبقى ضوء خافتا. صمت موحش،
وضوء خافت. وجو تسمع فيه الانفاس.
-ستبقي أليس كذلك؟ هل أستطيع ان أقفل باب
البيت؟!
بقيت صامتًا أعالج رغبتي كي لا اندفع كالثور.
اقفلت بالمفتاح دون ان تسمع موافقتي، كأنها
تعلم الجواب مسبقًا.
الان بات واضحًا انه لا مجال للتردد.
كم هي ثقيلة هذه اللحظات. وكم هي جميلة
وباقية في البال.
**
كل بضعة اسابيع كنت أحن لزيارة النهر. فأخرج
برفقتها ونجلس ووجهانا منعكسان على صفحته. كنا قد اتفقنا ان تكون علاقتنا ملك
ارادتنا حتى لا نواجه صعوبات ما. وقد رضيت بذلك لعدم رغبتي في الزواج، وعدم اقتناعي
بالزواج المختلط خاصة. قلت في نفسي انها جميلة وأنثى كاملة. ولكني عربي ومتمسك
بعروبتي. وقد بدأت استعيد بعض الوعي أثر الصدمة الوطنية قبل أكثر من خمس سنوات.
وزواجي منها غريب على نفسي اذ سيشعرني ذلك – رغم انسانيتها – بأني تابع. نحن هزمنا
وهم انتصروا. صحيح ان بعض النصر شر من هزيمة. ولكن اسمه يبقى انتصارًا. والقانون
يضعها فوقي ويضعني بالدرجة الثانية، فكيف اتزوج من امرأة كل مراكز القوة مضمونة
لها إذا ارادتها؟
التحول
منذ اسبوع والمعارك لا تتوقف. كنت أضمها بحب
والحزن والخوف الشديد يعتريانها. احيانًا أصيح بها: “احبك”. احملها
بطاقة وقوة غريبتين، كانت تفهم حقيقة مشاعري ولم أخفها. وكثيرًا ما قلت قبل انفجار
الحرب بأن عناد إسرائيل سيفقدها كل ما كسبته بغفلة من الدهر. لقد اقتنعت في لحظة
أننا أكثرية ولسنا أقلية في هذا المشرق.
حوار
-ان القادة يجب أن يدفعوا ثمن هذه الغلطة.
-ذلك لا يرد الاموات الى الحياة.
-على الاقل ليعترفوا بخطاهم!
-هناك أخطاء ممنوع على من كان في مركز قيادة
ارتكابها، خاصة إذا كان الخطأ مميتًا.
-والحل. ؟؟؟!
ابتعدت عنها ووقفت اتأمل المدينة الغارقة
بالظلام.
الصعود في عرس تشرين
تعالوا من أطراف الأرض الاربعة
من الصحراء والبحار
من الجبال والوديان
تعالوا مع خفقات الحب الاولى
المرتعشة في قلب عذراء
تعالوا مع دمعة فرح تسقط كالبلور
من وجنة امرأة
لتوها قد صارت أمًا
تعالوا مع نسيم ليلة صيفية
ومع رياح البرد القارص
تعالوا حينما تسطع الشمس
وحينما يضيء القمر
تعالوا في الليل وفي النهار
حفاة عراة… تعالوا.
واستحضروا على معدات الهدم
ومعدات البناء
فنحن على موعد
مع الصعود الخالد
الى اعلى…
حيث نخضع لمشيئتنا
حركة هذا العالم!!
حوار
-المعارك انتهت، واشعر أنى كالمهاجر العائد
الى وطنه. غدًا سأسافر
-هل ستتأخر هناك؟
-هذه المرة أنا عائد عودة حقيقة.
-هل تنوي الاستقرار هناك اذن؟
-لم أعد احتمل البقاء بعيدا.
-أنى أفهم مشاعرك. ويؤسفني بعدك عني.
-الواجب يحتم علي ان اقترح عليك الزواج؟
-الواجب. ؟!
-كنت دائما صريحًا معك. ولن اقول غير ما
اعتقاده.
-علاقتك بي كانت مجرد واجب؟!
-لا تفهميني خطأ. علاقتنا هي حب حقيقي، ولا
تخلطي الحب بالزواج.
-أذا لم يؤد الحب الى زواج فلا معنى له.
-ألا ترين معي أن زواجنا معناه مشاكل لنا
ولشولا وربما لأولادنا، أذا رزقنا بأولاد؟
-انت تدعي الثورية…
-الثورية ليست ان أضرب رأسي بالحيطان، عندها
سأفقد رأسي، الحل هو أن أشغل رأسي في البحث عن شكل أهد به الحيطان دون ان أفقد
شيئًا.
-اتركني من الفلسفة الان، ان علاقتي بك هي
الشيء الوحيد الباقي لي في هذه الدنيا.
-العلاقة ليست خطأ. كانت منفعة متبادلة
لكلينا.
-وانتهت؟
-أنا لا أفكر بهذا الشكل.
-ليس من السهل ايجاد صديق مثلك.
-عودتي الى اهلي لا تعني نهاية ما بيننا من
صداقة. أنا اقترحت عليك الزواج، لان واجبي يحتم علي ذلك.
-اقترحت وانت تعرف اجابتي مسبقًا، بل أنك
قلتها.
-لذلك اقول الواجب، وإذا اردت سببًا آخر فهو
الحب. ولكن في مثل حالتنا الواجب هو العامل الاول.
-العاطفة الشرقية تتحول الى عقل؟
ارتمت فوق صدري. فضممتها بقوة. قالت من بين
دموعها.
-كنت انتظر يومًا كهذا. ولكني لن اندم أبدًا
على علاقتي بك. كنت اعرف أنك تستعيد ذاتك وأردت لك ذلك بكل أحاسيسي. ولكن الانسان
يصعب عليه التنازل عن شيء إعتاده وأحبه، خاصة إذا كان هذا الشيء علاقته بإنسان
آخر.
كانت الشمس تغيب، وكان الغبش الاحمر يملأ
الأفق…
الختام
قلت لنفسي: سبحان مغير الأحوال، قبل أكثر من
عقد صدمت بحبيبة لوعني حبها فلم أر الدنيا الا عبر آلامي. وصدمت بعدها بعروبتي
فانغلقت كل الدنيا بوجهي وتهت. واليوم، وعندما استعيد ثقتي واعتزازي بعروبتي، اترك
حبيبة ببساطة لان المنطق يقنعني بعدم جدوى العيش معها، فهل أستطيع اليوم ان أتذكر
حالتي الماضية، تائهً، خائفًا، غير مستقر، دون ان يثير ذلك ضحكي؟
(كتبت بعد حرب “رمضان والغفران” في
اكتوبر 1973 – والذي كثرت بعده ” انتصاراتنا “!!)