سنديانة وخنساء فلسطين فدوى طوقان في ذكرى وفاتها الثامنة عشرة
تاريخ النشر: 13/12/21 | 8:26بقلم: شاكر فريد حسن
في الثاني عشر من شهر كانون أوّل قبل 18عامًا فقدنا سنديانة وخنساء فلسطين وأم الشعراء، الشاعرة المبدعة والملهمة فدوى طوقان، التي شاركت مع نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وصلاح عبد الصبور وسواهم في تطوير ونمو حركة الشعر العربي الحديث والمعاصر وتجديد أشكاله الفنية ومضامينه الاجتماعية والوطنية.
وقيض لي أن التقيت وتعرفت على شاعرتنا فدوى طوقان في أواخر الثمانينات، في أحد مؤتمرات أتحاد الكتاب والأدباء الذي كان يترأسه الشاعر الكبير الراحل سميح القاسم، في أحد القاعات بالجليل الفلسطيني، وسررت بهذا اللقاء الجميل.
خرجت فدوى طوقان من رحم أمها الى الوجود سنة 1917في نابلس، عاصمة جبل النار، وفي حي الياسمينة كبرت وترعرعت وعاشت وتلقت دراستها الابتدائية وتثقفت على نفسها، حيث اقتنت الكتب وبدأت بمطالعتها.
كتبت فدوى الشعر منذ نعومة اظفارها وساعدها شقيقها ابراهيم على صقل وتنمية موهبتها الشعرية، وشجعها على نشر قصائده، وقد ذكرت ذلك في مذكراتها حيث قالت:” منذ صغري بدأ ميلي الفطري للشعر، كنت أجد متعة كبيرة في ترديد محفوظاتي المدرسية، وأقف مملوءة بالانبهار أمام ما يقع عليه بصري من قصائد أو مقطوعات مطبوعة في الكتب المدرسية أو في الصحف التي كان يحضرها أبي واخوتي الى البيت وذلك رغمًا عن عجزي لإدراك مضامينها”.
وكانت أولى محاولات فدوى طوقان الشعرية قصيدة وجهتها الى رباب الكاظمي، وتقول فيها:
أرباب تاج الشاعرات
أرباب فقت النابهات
واله أنت خليفة
بالمدح بين الآنسات
وأبوك قد أعطاك كنزًا
زاخراً بالطيبات.
نشرت فدوى طوقان قصائدها في المجلات والصحف العربية، وفي العام 1946 أصدرت ديوانها الأول “وحدي مع الأيام” ثم ألحقته بـ “وجدتها” و”أعطنا حبًا” الذي يشير الى نضوج تجربتها الشعرية واتساع الحب الانساني الشمولي. وتواصل بعد ذلك صدور دواوينها الشعرية عن دار “الآداب” البيروتية وغيرها من دور النشر، وهي:” أمام الباب المغلق “و”على قمة الدنيا وحيدًا “و”الليل والفرسان “و”تموز والشيء الآخر” و”قصائد سياسية “وصولًا إلى سيرتها الذاتية التي أصدرتها في كتابين هما: “رحلة جبلية” و”الرحلة الأصعب”.
وتفيض دواوينها، بمجملها، بإشراقات جبال وحارات ومخيمات فلسطين، وتشحننا في سيرتها الذاتية بالأمل والتفاؤل على مواجهة صعاب وتحديات الحياة.
حظيت الراحلة فدوى طوقان باهتمام نقدي واسع، وكتبت دراسات ورسائل وأطروحات متنوعة وعديدة حول حياتها وكتاباتها الشعرية، أبرزها دراسة هاني أبو غضيب “فدوى طوقان ـ الشاعرة والمعاناة”، كما ترجمت أشعارها الى لغات عدة، وقد نالت عن جدارة واستحقاق عشرات الجوائز الأدبية.
تعكس فدوى طوقان في قصائدها الأولى القلق النفسي والقهر اليومي والضياع الذي يعاني منه الأنسان العربي، فتهرب الى الطبيعة بعيدًا عن مشاغل الحياة وأعبائها ومشاكل الناس وثرثراتهم، وبين المروج وسنابل القمح والربيع الجميل والطبيعة الغناء الخلابة تلقي فدوى برأسها المتعب والمثقل بالهموم حيث تستريح وتغرق في الحنين:
هي يا مروج السفح مثلك، انها بنت الجبال
وجرزيم روى قلبها وسقاه من خمر الخيال
درجت على السفح النضير، على المنابع والظلال
روحاً تفتح للطبيعة، للطلاقة للجمال.
***
قد جئت هنا، فافتحي القلب الرحيب وعانقيني
قد جئت أنهل من نقاء الصمت، من نبع السكون
فهنا بحضنك أستريح، أغيب، أغرق في حنيني
وفدوى هي ابنة للطبيعة الخضراء الهادئة التي تمنحها جوًا يوحي بالرؤى والخيالات النقية:
وهنا، هنا في جوك المسحور، جو الشاعرية
كم رحت أستوحي الصفاء رؤى خيالاتي النقية
فتضمني في نشوة الالهام.. اجنحة خفية
تسمو بروحي فوق دنيا الناس، فوق الادمية.
ونجد المعاناة الوجودية عند فدوى طوقان في وقفتها التأملية أمام الطبيعة وأصائلها الساجية:
هناك فوق الربوة العالية
هناك في الأصائل الساجية
فتاة أحلام خيالية
تسبح في أجوائها النائية
الصمت والظل وأفكارها
رفاقها والسرحة الحانية
وقصائد فدوى مفعمة بالحزن والأسى والشجن وذلك لأن الموت قد سطا على شقيقها ابراهيم في ريعان شبابه، ويعود مرة أخرى ليخطف شقيقها “نمر” دون أن تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة ورسم القبلة على جبينه:
أهكذا بلا وداع يا حبيبنا ويا
أميرنا الجميل
لا نظرة أخيرة نحملها زاداً لنا
في وحشة الفراق.
وفدوى طوقان التي أسماها النقاد بـ “خنساء ” فلسطين تبكي لتمسح الحزن من قلوب الأشقياء المعذبين، وقلبها وحياتها شوق وديوان شعر وعود.. فتقول:
حياتي، حياتي أسى كلها
أذا ما تلاشى غدا ظلها
سيبقى على الأرض منه صدى
يردد صوتي هنا منشدًا
حياتي دموع
وقلب ولوع
وهي تتساءل عما أذا كان اللـه يسمعها وقد عادت اليه بعد قلق وضياع، لكنها في النهاية تجد أن رحاب اللـه مغطاة بتراب الموت:
أن كنت هنا فأفتح لي بابك لا
تحجب وجهك عني
وانظر يتمي وضياعي
بين خرائب عالمي المنهار
وعلى كتفي أحزان الأرض
وأهوال القدر الجبار
عبثاً لا رجع صدى لا صوت
عدوي، لا شيء هنا غير الوحشة
والصمت وظل الموت
وتخفي فدوى قلقها من الموت، موت الأخ والذات والانسان، وتخترع لنفسها بالشعر أملًا يضيء حياتها:
اه يا موت، ترى ما أنت؟ قاسي أم حنون؟
أبشوش أنت أم جهم، وفي أم خؤون؟
يا ترى من أي افاق ستنقض عليه؟
يا ترى ما كنه كأس سوف تزجيها اليه؟
قل، أبن ما لونها؟ فأطعمها، كيف تكون؟
ورغم الحزن المسيطر على عالم فدوى طوقان الا أنها كتبت وقرضت أشعار عديدة في الحب والغزل الذي تعاملت معه داخل محراب مقدس مضمخ بعبير الرؤى الحلوة والوفاء الأسطوري الذي نجده في قصص العشاق الأوائل الذين سطروا ملاحم الحب والعشق:
وحين فتحت براعمي وامرع الصبي
وضمخ الجواء بالعبير
عرفتها في شعر “عروة” الحزين
وعشتها في شعر “قيس” في رؤى جميل
كم هز بي تدفق الشعور في قلوبهم
كم عشت حبهم، حنينهم، عذابهم
كم قال لي قلبي الحزين
ما أسعد الأحباب رغم ما يكابدون
والحب عند فدوى تناغم وانسجام وامتزاج روحين في عناق أبدي ورحلة مع الحياة:
نادني من اخر الدنيا ألبي
كل درب لك يفضي فهو دربي
يا حبيبي أنت تحيا لتنادي
يا حبيبي أنا أحيا لألبي
صوت حبي أنت حبي
أنت دنيا ملئ قلبي
كلما ناديتني جئت اليك
بكنوزي كلها ملك يديك
ينابيعي، بأثماري، بخصبي
يا حبيبي
وفدوى طوقان كسائر شعراء الوطن عاشت القضية بكل خلجة شعورية من خلجات قلبها وأعطت اهتمامها الكلي للقضايا الوطنية، وسجلت المعاناة اليومية والمأساة العميقة للشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال ومشاعر الانسان الفلسطيني العادي تجاه الواقع المظلم المهيمن عليه.
فدوى طوقان، بقلمها وحبرها، تحدت القهر والحصار الذي فرض عليها منذ أن كانت صغيرة وأهداها أحد الصبية وردة حمراء، فعبّرت عن معاناتها وأساها وحزنها العميق والمعتق وصراعها لأجل الحرية والفرح الدائم. وهي الوجه الاخر للخنساء ببكائها ونواحها ودموعها، وقد عاشت بمفردها مع جسدها ولم تتزوج، وظلت حاملة رسالة وشاعرة نبوءات، ورحلت قبل أن يتذوق شعبها طعم الاستقلال. فإلى روحها الطاهرة التي عانقت تراب فلسطين سلام، وطاب ثراها.