لماذا لا أرى الأبيض؟
تاريخ النشر: 20/12/21 | 8:27أسمهان خلايلة/كاتبة جليليّة
“الحكي مش مثل الشوف”.. مقولة نردّدها حين ننقل حدثا هاما أثٌر في وجداننا ونفسنا.. حدثا يحمل الكثير الكثير من التفاصيل التي تتطلب دقة متناهية لإيصالها للسامع .
راتب حريبات أسير اختلط بالسجناء الأمنيين وتكبد حمل مهمة وصفها ب: محاولة التخفيف عن أسرى مرضى تم زجهم ..نعم زجهم في المشفى التابع للسجن، والسجن هو سجن الرملة الذي يعتقل فيه الاحتلال الأسرى الأمنيين، أراد حريبات أن يكون في هذا المشفى “حائطا يتلمسون منه المدد فيبعث فيهم بعض الفرح ويبرٌد قلوبهم في لحظاتهم الأخيرة” .
في هذا المشفى العسكري يعيش الأسرى حالة اغتيال طبي ممنهج .. وقد شرح حريبات قصة الاسير سامي الذي عانى على مدار ثلاثة عشرة عاما من أوجاع شديدة في بطنه وكان العلاج الوحيد هو المسكّنات فهي الوصفة الطبية التي يسجلها كل طبيب لكل الحالات والاوجاع .
تلكؤ الطبيب في الحضور هو أحد بنود المؤامرة على السجين المريض ولا يرون أهمية في الحضور السريع أو بذل الجهود لمعالجة السجين المريض.
الطبيب صاحب الوجه البلاستيكي يمثل دور السجان والشرطي قبل أن يكون طبيبا قد أقسم يمين الاخلاص ومراعاة شرف المهنة والحفاظ على حياة كل مريض بغضّ النظر عن جنسيّته وقوميّته ودينه .
بعد معاناة مريرة مع الآلام المبرحة وأكثر من عقد زمني أخبروه في هذا المشفى أن نتيجة التحاليل تؤكد أنه يعاني من مرض خبيث..
أجروا له عملية قص أمعاء وعاد يحمل كيسين؛ كيس للبراز وكيس للبول، يمشي كشبح قد أُفرغ داخله فغدا الجلد على العظم، حالة مع حالات أخرى تجعل البكاء سيد الموقف، ليس لضعف إنما بسبب حزن يقطع نياط القلب ويعتصره كمدا، يتملك القارئ ذلك النشيج العميق، إنها عملية تفريغ السجين من محتوياته الباطنية ومحتواه النفسي والثائر ليغدو هيكلا ..
وثمة حالة أخرى وهو الأسير بسام وقد وصفه الكاتب الأسير راتب حريبات بالزيتونة الكنعانية فقد مات حسيرا مقهورا بلا ظل ولا جنازة ولا وداع يليق بنضاله، لكن الإصرار كان رفيقا لعناده على حب فلسطين فلقّبه الكاتب بالزيتونة..
لقد كتب بسام وصية تشكل لطمة في وجوه من يتخلون عن الأسرى والقضية فكتب:
أوصيكم بالقدس
أوصيكم بفلسطين
أوصيكم بالأسرى المرضى
وأطلق صرخته المدوية:
لا تتركوهم يموتون في هذه المقابر كما تركتموني أموت بعيدا عن أهلي وعن القدس الغالية.
ينتهي بسام إلى تأكيد الوضع الصحي المزري، المعاملة السيئة اللاٌ أخلاقية ولا إنسانية داخل المشفى والسجن، ويشير إلى الشخصيات المتخاذلة في الخارج حيث ينعمون بالحرية والرفاه ويحرم السجين من أبسط مقومات الحياة .
فالاحتلال الذي يحاول بسط سيطرته وقمع كل من سولت وتسول له نفسه بالمقاومة بل مسحه وتفريغه من مضامين حسيٌة ونفسية وصحية.
إنه الصراع المحتدم بين صمود الأسرى وتطويعهم وتجنيد متعاونين ونفي السجناء حتى تتهمش قضيتهم وتغيب عن الإعلام والمناصرين وبين حانا النفي والقمع ومانا التعاون والتخاذل من قبل بعض الضعفاء ارتقى بسام وعشرات من رفاقه شهداء في ظلمة وبرودة السجن.
إن السجناء يعون هذه الحالة وتلك المحاولات الاحتلالية لوضع قطيعة بينهم وبين العالم الخارجي ويدركون جيدا محاولات الاستفراد بهم. هنالك الكثير من الشهادات عن ترهيب القاصرين والفتية دون سن البلوغ ومحاكمتهم كالبالغين ..تندرج في هذه الشهادات الصادقة التي دوٌنها الأسير راتب فكتبها تحت عنوان: لماذا لا أرى الابيض؟
فالأبيض هو لون النقاء ورمز المشافي وطواقمها الذين يعملون فيها من أطباء أولا .. للطبيب بياض اللباس أي المظهر وبياض القلب ومحبته ورحمته التي يتعامل بها مع مرضاه لكن الأسرى لا يرون هذا. فالمظهر الخارجي وهو المشهد الأول الذي تقع عليه عين المريض ليس بأبيض إنما ملابس عسكرية مثيرة للتوتر والكآبة والحزن ..لم آت لمساعدتك على الشفاء .. هذا قول لسان حال الطواقم الطبية والحراس على الأبواب والزرد حول معصمي المريض وربطه بالسرير فماذا تغيٌر عن السجن؟ لا شيء بل يزداد المريض حسرة.. مريض ولا يحظى بأقل القليل مما يستحقه من عناية ولو إنسانية قبل الطبية ، ولا حتى التغذية والأكل المناسب لمريض عليل الجسم ضعيف المقاومة .
العنوان يمكٌن القارئ من الاستدلال على الفحوى الصادم لمؤسسات تتم عسكرتها لقمع وترهيب وسحق انسانية السجين الفلسطيني ..
رغم هذه القتامة فإن الصغير أسامة زيادات ظل يرتل القرآن الكريم بصوته العذب وينشد للسجناء بشجن ورقٌة لا يوصفا ..ظل هذا البلبل يصدح حتى حان موعد اطلاق سراحه.. ..وهو من الفائزين الذين خرجوا من السجن وقد وجهت إليه تهمة أمنية .
بل محظوظ فالقانون في السجن ينص: على عدم اطلاق سراح الأمني المريض الا إذا ثبت في التقرير الطبي أنه قد تبقى من عمره واحد وستون يوما !! إذا بقي من عمره هذا الوقت !! يطلقون سراحه وقد حصل هذا مع السجين جعفر الذي تم إطلاق سراحه نظرا لوضعه الصحي المتدهور ..وبالفعل توفي بعد شهرين!! لا نقاء سرير ولا ملابس في هذا المشفى- المعتقل .
تكشف لنا مجموعة قصص لماذا لا أرى الأبيض للكاتب الأسير راتب حريبات أهمية التذكُر بأن أسرانا يعيشون حالة اعتقال وقمع وتجويع وقتل بخبث وسريّة وتكتّم.
***مشاركة عبر الزوم في ندوة “أسرى يكتبون”(رابطة الكتّاب الأردنيّين) يوم 27.11.2021