في ذكرى وفاة الوالد الحاضر الغائب
تاريخ النشر: 21/12/21 | 11:38هاني المصري
ترددت كثيرًا حول عنوان المقال الذي سأكتبه هذا الأسبوع، بين إجرام المستوطنين الذي تجاوز كل حد، أو عن مرواحة محاولات التهدئة وإعادة الإعمار وتبادل الأسرى في مكانها، أو عن تداعيات جريمة مقتل نزار بنات ومحاكمة الشخصيات الوطنية، أو عن المصالحة التي جمّدت ولم تعد مطروحة جديًا على الإطلاق، أو عن نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات المحلية … أو أو …. إلخ. وحسمت أمري في النهاية لأكتب عن والدي، بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين لوفاته، فهو يستحق أن أكتب عنه، خاصة أنني أشعر في هذه الأيام بحنين كبير إليه، فهو أب حنون وعاطفي ووطني مع أنه لم يكن نشيطًا سياسيًا.
مع أنني – بالشكل – اخترت طريقًا آخر عن الطريق الذي عاشه والدي، إلا أنه مسؤول عن استمراري بالطريق الذي سرت فيه منذ عمر مبكر جدًا، فهو لم يكن سياسيًا ولا مناضلًا، ولكنه يحب عبد الناصر، وطالما تخانق مع عمي الذي يكرهه خناقة كبيرة، وتحديدًا بعد وفاة عبد الناصر، حيث خرجت نابلس عن بكرة أبيها تبكي حزنًا عليه وعلى مصير العرب بعده.
والدي شخص عادي درس حتى الرابع الابتدائي، عصامي، عاش يتيمًا، وعاش حياة صعبة بين الغلابة، فكان عامل بناء، ومزارعًا، وصاحب كراج شاحنات ومحل تأمين صرافة، وملاكًا للأراضي، ومتضمنًا للبيارات. كانت شخصيته قوية وشجاعًا (قبضاي بكل معنى الكلمة) جريئًا محافظًا، لكنه يحب الحياة ومؤمنًا بالعدل وعدم ظلم أحد.
وعندما سمع أنني شيوعيًا، وأقرأ لماركس ولينين وغيرهما غضب كثيرًا، وقال لي: هل أنت ملحد؟ وهل صحيح أن الشيوعيين بلا أخلاق، وهم ممكن أن يمارسوا الجنس مع أخواتهم، فقلت له إن هذه أكاذيب وإنهم يناضلون من أجل الحرية والعدالة ورفع الظلم والاستغلال عن العمال والفلاحين والكادحين. وسألني مرة: هل صحيح أن المجتمع الاشتراكي يصادر الأملاك الخاصة، فقلت له: صحيح، في حالات خاصة، ولكن يؤمّن تعليمًا مجانيًا للجميع، وتقاعدًا لائقًا وتأمينًا صحيًا ورعاية للأطفال والنساء وكبار السن، فقال لي: والله هذا على الأقل شيء رائع.
الكف الوحيد الذي ضربني إياه الوالد في حياتي كلها كان عندما قيل له إنني أسير في مظاهرة وأحمل العلم وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة، فقال لي بعد أن ضربني: “ماشي في المظاهرة ماشي، ولكن أن تحمل العلم فلا”. وفعلًا، كانت القاعدة التي دعاني للسير عليها، وهي إذا أَضْرَب نصف الصف أو نصف المدرسة أو تظاهروا فيجب أن أكون معهم، أي ليس مع المستنكفين عن المشاركة، ولا مع المبادرين والقادة، وحظه أنني كنت مبادرًا وطليعيًا باستمرار، لدرجة أضربت مرة في الصف وحدي عندما لم يتجاوب زملائي مع دعوتي.
هناك حادثة مهمة أثرت علي طول حياتي، وهي تدل على معدن الوالد ووطنيته، وهي عندما حضر عدد من دوريات جنود الاحتلال إلى البيت لاعتقالي، قبل سفري إلى الجامعة بفترة، وحينها لم أكن في البيت، وصاحت عليهم زوجة عمي “أم كاظم”، (وهي مثل أمي وكنا جيرانًا ولا نزال، الباب في الباب): هل كل هؤلاء الجنود لاعتقال طفل؟
وطلب الجنود إحضاري خلال 24 ساعة وإلا فسيعتقلون والدي بدلًا مني، وحينما سأل والدي عن مكاني، قالوا له: أكيد بالسينما، فجاء هو وابن عمي أبو أمجد – رحمهما الله – وصاح وسط الظلمة في سينما غرناطة: هاني هاني هاني. فذعرت، وقلت في نفسي: ما الذي جاء بأبي إلى السينما؟ وقال لي حينها الكلمات التالية التي حفرت عميقًا في عقلي وجوارحي: “إذا كنت مشتركًا في المقاومة لو قطعوك إربًا إربًا في التعذيب اوعى تعترف على نفسك أو على زملائك واترك الباقي علي”. وأنا ذهلت أن أبي الذي يخاف علي من الهواء الطائر يحملني هذه المسؤولية ويدفعني للإقدام على هذه المخاطرة.
وبالفعل، صمدت ولم أعترف ولا بكلمة واحدة، وأطلق سراحي بسرعة بعد انتهاء التحقيق، مع أنني كنت من الخلية القيادية لمجموعة تقاوم الاحتلال، بينما اعتقل عدد آخر، وحكم على بعضهم أحكامًا قاسية ولم يكن لهم دور كبير لأنهم اعترفوا. وأنا لا أحاكم الذين اعترفوا، فهذه قضية بحاجة إلى بحث آخر، ولكل شخص ظروفه وخصائصه وقدراته ومعرفته وخبرته التي لم تتوفر لغيره.
كنت في طفولتي قارئًا نهمًا جدًا لكل أنواع الكتب والمجلات، لدرجة أن الوالد عندما يصحى من نومه ويراني صاحيًا أقرأ كتابًا حتى الثانية أو الثالثة صباحًا يؤنبني ويصيح علي: ماذا تقرأ وأنت تعاني من أمراض في عينيك؟ (وفعلًا أجريت عمليات نظر عدة، ولبست النظارة مبكرًا وأنا طفل وكان المقاس غير مناسب فكنت أقع كثيرًا) ألا تكفيك كتب المدرسة؟ وفي مرات عدة، طلب مني قراءة ما أقرأه بصوت عالٍ حتى لا أكون أقرأ كتبًا ثورية، فكنت أقرأ له من تأليفي ما لا علاقة له مع ما أقرأه فعلًا فيطمئن.
لقد وضع الوالد آمالًا كبيرة عليّ، فأنا الابن البكر، ومن لحظة ولادتي سميت طبعًا أبو عدنان، والكل يشيد بي عنده فكان فخورًا بي، وكذلك أرادني أن أدرس الطب وأكون دكتورًا، لدرجة أنه كان في مرات عديدة ومنذ صغري يناديني الدكتور، وهذا وضع ثقلًا كبيرًا على أكتافي، فأنا حددت اتجاهي ورغبتي مبكرًا في دراسة السياسة والاقتصاد، أو الإخراج، لأنني كنت ولا أزال مقتنعًا بأن السينما من بين جميع الفنون هي الأهم فهي تجمع كل الفنون معًا، لدرجة أنني كنت في معظم الأيام في فترة طويلة من حياتي، خصوصًا أثناء إقامتي في القاهرة وبيروت، أشاهد فيلمًا كل يوم، وأول مقال كتبته في جريدة السفير في السبعينيات من القرن الماضي كان نقدًا لفيلم يوسف شاهين “عودة الابن الضال”.
وبالفعل، عندما أنهيت التوجيهي ولم يكن معدلي يؤهلني لدراسة الطب، لجأ والدي إلى حكمت المصري (أبو سمير) – رحمه الله -، لكي أسجل في كلية الطب، رغم معارضتي، ولكن خشية أن أسبب له جلطة وافقت، وسجلت في كلية الطب، ولكنني لم أداوم فيها، بل لم أحضر سوى محاضرات قليلة، وكنت أداوم في ممر الصحافة الكائن في كلية الآداب في جامعة عين شمس، حيث كان مكانًا ومنبرًا للسياسيين واليساريين والثوار وأنصار الثورة الفلسطينية والصحافيين. ومات والدي وهو فخور بي، ولم يسمح لأحد بأن يمسني بكلمة واحدة.
وأخيرًا، كتبت منذ زمن بعيد مقالًا عن والدي شبهته بما جاء في مسرحية بريخت (السيد بونتيلا وتابعه ماتي، وتحديدًا بالسيد بونتيلا الإقطاعي الذي كان خشنًا إقطاعيًا لا يتحدث في النهار وأثناء العمل، ويصبح عند المساء شخصًا آخر إنسانيًا اشتراكيًا ولطيفا كريمًا جدًا)، لدرجة أنه كان يلبي لنا أي شيء نطلبه فورًا، حتى إنه يتحدث الإنجليزية، ويردد قصائد بالإنجليزية، والأغاني بالعربية، ويجمع في كل ليلة أصحابه في حفلة، وهو يعشق الفن والرقص والطرب، خصوصًا أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وكارم محمود، فكنا نسمع الست عبر الأسطوانات تقريبًا كل يوم، وعندها كنت متطرفًا أرفض فنها واعتبره جزءًا من التخدير للشعوب العربية، وسافر إلى القاهرة ودمشق وبيروت مرات عدة ليسمع ويفرح ويستمتع ولكن كانت الوالدة برفقته دائمًا، وكنا في كل ليلة نأكل طعامًا لذيذًا تحضره الوالدة كل يوم مساء، وهذه أصول السهرة التي يجب أن تكون جامعة لثلة من أصدقائه.
كم نفتقدك يا والدي يا أبو هاني