هكذا كانت تقول أمّي: قبل أن يخطفها الرحيل من الرحيل
تاريخ النشر: 07/01/22 | 8:26يوسف جمّال – عرعرة
وصيتي لك يا ولدي :
لا تبكِ – يا ولدي- على حلم تحوَّل الى سرّاب منفوش .
فالحنين عذاب – يا ولدي – عذاب مغدور .
إسألني – يا ولدي – ماذا فعل بي الحنين ..
“قطّعني” الحنين !
هكذا كانت تقول أمي .. قبل أن يختطفها
الرحيل من الرحيل.
أكتب – يا ولدي – أكتب !.. فالحروف دموع ..دموع الحنين,
وبعثرات أحلام تسبح في سرّاب منتوف .
أكتب .! أكتب – يا ولدي ..
عن عين جفَّ ماؤها, بعد أن رحلت عنها الملاّيات دون وداع .
وعن عين لم يبقَ فيها من دموع تغسلها من ” شحار ” الرحيل .
وعين لا يغمض جفنها وهي تنتظر أخبار المجاهدين .
يا ولدي كان في عين وكنّا ملاّيات .. وكان في قمر يسبقنا
ويغطس سابحاً في ميّاتها.
***********************
أقول مشدوهاً :
بالليل – ياما – بتملّين جراركن !؟ ما خفتن من ظلماته !؟
فتردُّ واللوم الجميل يزيّن صوتها الحنون :
البلد كانت – ياما – أمان.. وكان في نجمات في طريقنا منثورة .
وكانت مواويل الفلاحين , النايمين في بيادرهم
تسمر مع اشجان في القلوب مزروعة
**************
وسلامي يما !؟ أقول سارقاً .. منتظراً “البهدلة ”
المغمَّسة بحنان مشدوه !
سلامي !؟ آه على أيام سلامي !؟ كنتِ تقولين,
ووجهِكِ الأسمر يخطف نقوش حمرا مخفيّة .
ولك مرة وجه أبوك كانه بدر, أطلَّ علينا من بين غيوم وسألني :
ميَّة العين حلوة مثلك !؟
فرقصت دقات قلبي ترفرف حياء .
وسقطت الجرة عن رأسي .. وميّاتها اسقيّن الدرب أفراح.
وفي الليل طرت على بساط كلّه سحر وجنّات.
وفي الصباح كان قوله على كل لسان في البلد .
ولما “دري” جدَّك , حلف بالطلاق ما بتكون بنتي مرَه ,لابن أخيه سلامي !
وقفتْ الدموع على أبواب عينيها ,
تخاف الدخول على سمرة صفحات وجهها المعمور
********************
وتنهدت :
الحنين – يا ولدي- بيدر حصيده ,حباته في سنابله مصلوبه.
الحنين – يا ولدي – سراج , زيتاته في أعماقه مسجونه.
الحنين – يا ولدي- غيمات ميّاتها في فضاها منشورة.
وغنّت بنات البلد :
عين عنا وميّاتها حلوة .
بتملّي منها بنت واسمها حلوّة.
ولما شافت سلامي طلعتلها جلوّة.
وانطلق صوت سلامي يغنّي في فضاءات روحة أم الشوف :
قال سلامي لزهرة ابنة خالتي أمّونه .
أنا وأنت في عذاب الحب رمونا.
وانا على باب الدار لزرعلك لمونة.
منها توكلي ومنها لمونه.
وانت يلي في حبّك لموني.
ما بدشرِّك لو في البير رموني.
****************
ياما .. – يا ولدي – الحنين آهات خضرا مزروعة بالدّار.
ياما .. يا ولدي – الحنين جمرات حمرا بتكوي نار.
ياما .. يا ولدي – الحنين دقات قلب معانا ليل نهار.
**************
وغاب سلامي .. غاب وغاب.. قالوا البلد في خطر ..
واليهود وأعوانهم الإنجليز على الأبواب , وأخبار بطولاته طافت, ووصلت لكل أذن في البلد .
وبعد ان ردّوا المعتدي , عاد سلامي ورفقاته الى البلد .. فوقف أبويا في ساحة المسجد وصاح :
عما تشهدوا يا حاضرين .. والحاضر يعلم الغايب .. إني معطي بنتي لابن أخويّ البطل سلامي ..
فوقفت عبله ام سلامي بباب الدار تقول وتزغرد :
جيت أغنّي وقبلي ما حدا غنّى.
بساح المعركة البطل بستنى.
وريتك يا سلامي بهالعروس تتهنى.
واجيب النصر ويظلُّ الفرح عنّا.
وارتفعت أصوات نساء البلد بالمهاهاه .
***********************
في الصمدّة ياما .. طلعتلك جلوة !؟
أسأل ..
ولك يا ولد ! يا إبليس ! تلومَنني بحياء مسحور :
وغنينلي الصبايا :
عروستنا :
ذهبها من حيفا , وبدلتها من عكا
والمناديل من بيسان , والحنّا من يركا
عمّها جاب البدلة , وعريسها جاب الشبكة
إنشاالله تبكرّي بالصبي , وتزوري مكة
*************
وفجأة قبض الصمت على خناق الصبايا وتوقفن عن ” القول”..
الكل كان يعرف السبب ما عدا أنا – العروس .
فانقذتني من الأنهيار صديقتي سعاد .. لترميني في انهيار أشد .
سلامي مفقود .. راحوا يحمموه ويزفوه ., فلم يجدوه !.
وانتشر الخبر في البلد .. العريس مفقود ..العريس هارب ..
العريس طفش .!
وطبيخ العرس ظل على حاله .. ولا واحد قرّب عليه
وساد البلد جوُّ كئيب جوٌ ملغوم .. مهدِّد بالإنفجار في كل لحظة
وتنادى الشباب للبحث عنه .
لأول مرَّة يختفي العريس , والعروس مصمودة !
وعند المساء ظهر العريس سلامي ومعه الشباب .
وكان معه عبدالله راعي مواشي البلد .. كان هو والمواشي في الأسر في كوبنية اليهود ,
الذين يحاولون منذ سنوات الإستيلاء على مراعي البلد ..
فطار سلامي وهاجمهم ,وأجبرهم على إخلاء سبيله , وأرجع مواشي البلد الى أصحابها .
فعادت الأفراح الى ديّار إم الشوف .
*****************************
يما – يا ولدي – إم الشوف حنين , في شغاف القلب جمرة .
يما – يا ولدي – إم الشوف قلادة ,حباتها زرق تطوِّق الروح حسرة .
يما – يا ولدي – إم الشوف دمعات في العين ما بجف ولا مرة .