تجربتي ومشروع “من كل أسير كتاب”
تاريخ النشر: 18/01/22 | 18:26حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى خلف القضبان ويكتبون؛ لاهتمامي بأدب السجون، وهناك من بين القضبان سمعت من أحدهم نكتة بنكهة السخريّة السوداويّة القاتلة: “دخل أسير لمكتبة السجن سائلًا عن كتاب فأجابه السجّان: الكتاب ممنوع وغير متوفّر، لكنّ مؤلّفه في الزنزانة رقم 110”.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسم الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة.
حين شربت قهوتي الحيفاويّة صباح جمعة، فاجأتني زوجتي سميرة: ما دُمتَ مهتمًّا بما يكتبه السجناء وبأدب السجون، فلماذا لا تزور كميل وغيره ممّن يكتبون؟ راقت لي الفكرة وقرّرت فعلًا زيارتهم، وبعد خوض التجربة شعرت بأنّه صار لحياتي مذاق آخر.
كان اللقاء الأوّل صبيحة الاثنين، 03.06.2019 عشيّة عيد الفطر، في سجن ريمون الصحراويّ؛ وبعد لقائي بالأسير كميل أبو حنيش، كتب لي رسالة عنونَها “كعكُ على بوابة السجن”؛ رسالة قلبت حياتي رأسًا على عقب، ولست بنادم. أحاسيسه ومشاعره التي عبّر عنها إثر لقائه ب”غريب” أدخلتني متاهة ودوّامّة لم أخرج منها حتى اليوم، وبعد قراءتها مرارًا وتكرارًا قرّرت لا شعوريًا، البدء بمشوار تواصليّ مع أسرى يكتبون، ومن خلاله ألتقي كلّ أسبوعين بأسرى عبر القضبان، ولكلٍّ قصّته وحكايته.
في لقاء لي مع باسم خندقجي في سجن هداريم قال لي: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” لسبب كتاباتي، أشعر اليوم أنّني أصبحت كاتبًا حقًا”.
من وحي سماع كلماته (ورسالات الأدباء أحمد أبو سليم وصفاء أبو خضرة من الأردن) بدأت مشروع “من كلّ أسير كتاب”؛ من خلاله أعلن عبر صفحتي عن كتاب لأسير وأؤمّن نسخة لمن يتواصل معي، وهكذا وصلت عشرات الإصدارات لقرّاء ومهتمّين خارج الحدود، وبدأ الاهتمام أكثر بتلك الإصدارات، استضافت كتاباتهم مجموعة “أكثر من قراءة” في عمان ومنها إلى رابطة الكتاب الأردنيّين ومبادرة “أسرى يكتبون”، ومن خلالها تُعقد ندوة نصف شهريّة ويشارك الأسير بمداخلة يقرؤها قريبٌ له. وقد وصل هذا المشروع “من كلّ أسير كتاب” بداية هذا الشهر للحلقة 29.
يواجه الأسير صعوبات جمّة في إخراج مادّته المكتوبة عبر القضبان، وبعد إخراجها يصعب تفريغها وطباعتها، ومن ثمّ تنقيحها وتنضيدها وتحريرها، وبعد هذا كلّه مشكلة إصدارها لترى النور.
من تواصلي مع أسرى يكتبون لمست خيبتهم وحسرتهم من التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر، فكلّ من تصله رسالة أسير ورغبته في نشر إصدار له يُسمِع كلمات الترحاب تحت شعارِ: “أقل الواجب”، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن الوعود الرنّانة شيء والمتابعة والتنفيذ شيء آخر، ومقولة “أقلُّ الواجب” شعار وقول فارغ يطلقونه في سماء الحريّة الغائبة المفقودة، بلا قيمة، تأكلُها الأيامُ والشهورُ ببطءٍ حتّى تضيع ولا يبقى منها ما يؤكلُ، وكم من مؤسّسة أخذتْ على عاتقها تبنّي الإصدارِ، ولكن كلّها وعود ذهبت في مهبّ الريح.
هذا كلّه يضطر الأسير وعائلته تحمّل عبء مادي لطبع ونشر إصداره ومنهم كثُر تعرّضوا للابتزاز والاستغلال المادي.
سُئلتُ كثيرًا كيف تتم عملية إخراج ما يكتبه الأسير خارج أسوار السجن؟
لا علم لي كيف تتم عمليّة إخراج ما يكتبه الأسير خارج السجن ولكن كُتب الكثير عن هذا الموضوع. كتب الصديق الأسير كميل أبو حنيش في كتابه “الكتابة والسجن”(كتاب تحت الطباعة ولم يُنشر بعد): “كانت وسيلتنا في البداية في تسريب كتاباتنا إما عبر ما يعرف بالكبسولة أو من خلال المغامرة وإخراجها مع الأسرى المحررين. وفي هذه الحالة تكون هذه الكتابات خاضعة لأمزجة إدارات السجون، فإما أن يجري السماح بإخراجها وإما أن تجري مصادرتها إلى الأبد. حيث اختلفت هذه السياسة من مرحلة إلى أخرى ومن سجن لآخر أو حتى من ضابط لآخر. في السنوات الثلاثة عشر الأولى من أسري اعتمدتُ وسيلة إخراج كتاباتي مع الأسرى المحررين، فخرج بعضها بينما جرت مصادرة بعضها الآخر .
وفي السنوات الأربعة أو الخمسة الأخيرة صار متاحاً إخراج هذه الكتابات عبر الهواتف المهربة، وهذه الوسيلة شكلت اكتشافاً مذهلاً، ونقلةً نوعية في تطور أعمالي الكتابية. هذه الهواتف بدائيةٌ وليست حديثة، ويجري استخدامها في حالة الأسير الكاتب من خلال تسجيل المواد. حيث يقرؤها الأسير على السماعة وفي الطرف الآخر يجري تسجيلها… وقد تطورت هذه الوسائل في بعض السجون وصار بالإمكان تصوير الأوراق المكتوبة.”
هناك المعوقات الكثيرة، بدايةً بناء جسر من الثقة مع الأسير الكاتب، ومن ثم تأمين طباعة المادة، تحويلها للتنقيح والتنضيد والتحرير (أشكر الكاتب فراس حج محمد وغيره على تطوّعهم للقيام بهذا العمل)، تأمين تصميم الإصدار وتجهيزه للطباعة (أشكر الفنان ظافر شوربجي وغيره على تطوّعهم) ترتيب أمر تصميم غلاف للإصدار، إطلاع الكاتب الأسير عليه ومن ثم نشره.
هناك محاولة للابتعاد قدر المستطاع عن أسرانا وكأنّها جمرة حارقة يخافها الغالبيّة العظمى، عدى أهاليهم، إلّا حين استشهاد أحدهم أو تحرّره وفزعات العرب هنا وهناك.
جاءتني أكثر من مرّة مقولة أرنستو جيفارا “أنا لا ألوم الذين لا يعملون… ولكنني ألوم الذين يحز في أنفسهم أن يعمل الآخرون”.
أمّا بالنسبة للمشاكل والتحديات التي تواجهني والأسير لحين إصدار الكتاب فهناك المشاكل والتحديات الكثيرة جدًا، بداية إخراج المخطوطة عبر القضبان، العمل عليها ليل نهار، إيصالها لصاحبها قبل النشر للمصادقة عليها، إيجاد الناشر، تمويل الإصدار وترتيب حفل إطلاق واشهار للكتاب.
للأسف مؤسساتنا لا تدعم المشروع (من الجدير بالذكر أنّ الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيّين أصدر في السنوات الأخيرة، مشكورًا، كتاب “للسجن مذاق آخر” للأسير أسامة الأشقر وكتاب “زنزانة وأكثر من حبيبة” للأسير قتيبة مسلم) ولا تدعم إصدارات أسرانا القابعين خلف القضبان (وهنا أنوّه بأنني لا أتحدّث عن كتابات الأسرى المحرّرين).
تم إصدار حوالي عشرين كتابًا منذ انطلاق المبادرة وهناك عدّة إصدارات تحت التحرير والطباعة.
تتناول كتابات الأسرى الرواية والشعر والخواطر والقصص القصيرة والحكايات والمذكّرات والسرديات والأبحاث والدراسات الأكاديميّة.
سُئلت أكثر من مرة، هل يكون الاحتلال على دراية بعملية أخذ النصوص من الأسرى ؟ وهل تتم قراءة هذه النصوص وهل تفرص شروط عليها ؟ وكيف يتم أخذ النصوص من الأسرى وكم المدة التي تستهلك لكي يصدر كتاب للأسير؟ وجوابي كان: لا تواصل لي مع الاحتلال بهذا الشأن ولا دراية لي بما يعرفون عن كتابات أسرانا، تلك الكتابات التي اخترقت القضبان وحلّقت في سماء الحريّة والعالمية.
سمعت من أسرى يكتبون أنّ بعض كتاباتهم استهلكت أكثر من عشر سنوات حتى صدرت، إن صدرت!
في السنوات الأخيرة، ومنذ بداية المشروع، أعمل على أن يصدر كتاب الأسير خلال ثلاثة شهور من استلام المخطوطة.
أصعب مرحلة عند إصدار كتاب للأسير هي تحرير المخطوطة من السجن وإيجاد الناشر.
من الجدير بالذكر أن الكاتب أحمد أبو سليم شبّك بيني وبين دار فضاءات الأردنيّة وأطلقنا خلال معرض الكتاب الأخير في عمان مبادرة “أسرى مبدعون” التي تُعنى بأدب أسرانا وكان الإصدار الأوّل “الجهة السابعة” لكميل أبو حنيش.
في لقاءاتي مع الأسرى حدّثّوني عن أهميّة التواصل الثقافي مع القرّاء والكتّاب عبر القضبان؛ عبر شقّي الزنزانة ورُغم السجّان.
حدّثني منذر مفلح في سجن ريمون الصحراوي، أنّ كلّ كلمة تُكتب، لها أن تكون رصاصة إذا كانت ذخيرتها صالحة، عن إعادة تعريف السجن والعلاقة مع السجّان والزنزانة، تعزيز الأحاسيس والمشاعر، بعيدًا عن البطولات والأسطرة، لا بطولات في السجن.
خلقت الكتابة متنفّسًا لأسرانا، فلديهم الكثير ممّا يقولونه عبر أقلامهم الحرّة، وإنسانيّتهم العالية، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وهناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق في سماء الحريّة.
لا توجد ولادة أسمى من الاحتفاء بمولود، لا سيما إن كان الوالد أسيرًا! حين يصدر كتاب لأسير أو يُنشر حول إصداره أو حفل إطلاقه وإشهاره أو خبر مناقشته في ندوة ثقافيّة تكون فرحته عارمة، ويقام له عرس ثقافي داخل الأسوار (ومن الجدير بالذكر أنّ صحيفة القدس الورقيّة متاحة داخل السجون وفرحة الأسير عارمة حين يقرأ ما يُكتب حول كتاباته فيها)، وكذلك الحال مع عائلته التي تشعر، ولو للحظة، أنّه بينهم، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه، وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار، وها هي تحتضنه بفخر واعتزاز ومن هذا المنطلق بادرنا لإطلاق إصدار الأسير بين أهله وفي بلده (قتيبة مسلم في قرية تلفيت وأمجد عواد في قرية عورتا).
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يرسم الوطن قوس قزح يتكوّر في أعالي السّماء ليعانق شمس الحريّة؛
سُئلت مرارًا وتكرارًا: ما هو هدفك من وراء مشروع من كل أسير كتاب؟
أؤمن بما قاله جبران خليل جبران عن العطاء: “هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم ولا يتطلّبون فرحًا ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون ممّا عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي، بمثل أيدي هؤلاء يتكلّم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض. أمّا أنتم الذين يتناولون العطاء والإحسان -وكلّكم منهم- فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلّا تضعوا بأيديكم نيرًا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم، بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه، لأنّكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين فإنّكم بذلك تظهرون الشكّ والريبة في أريحيّة المحسن الذي أمّه الأرض السخيّة وأبوه الربّ الكريم”.
حين تدخل نسخة من الكتاب للأسير بعد إصداره يحتفل به مع كلّ زملاء الأسر بعرس ثقافيّ رغم السجّان وقيوده.
قصّة أسرانا لم تُحكَ بعد؛ بقيت مُهمّشَة، منسيّة ومُغيّبَة.. لكلّ منهم حكاية وقصّة، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، كلّ أسير وحكايته، وروايتها جمعاء تشكّل فسيفساء لأسطورة نضاليّة يشهد لها التّاريخ، تلك اللوحة لم تكتمل بعدُ؛ لأن معظمهم لم يحكوها و/ أو لم يكتبوها، ولكلّ ظروفه وأسبابه، وفي نشر تلك الحكايات بعض حريّة.
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.