“جليل” ما الغريب في الامر إذن؟
بقلم الشاعر أسامة ملحم
تاريخ النشر: 26/01/22 | 8:02تساءل “جليل” وأغمد راحتيه تحت رأسه مُمددًا على سريره تحت النافذة الشرقية، فيما يغشاها قمرٌ لم يتم طور البدر بعد، وقد ملأ التلال والسماء بنورٍ صافٍ، يغمر هذه الليلة مصرًا على حقه في تبديد عتمتها في سماءٍ خَلَت من أدنى طيف سحاب، هي ميزة بعض ليالي أواخر الربيع حيث تنتشر عادةً رائحة بواكير المشمش في بدء نضجها، ورائحة الندى المتكاثف على أوراق “بيوت” الخيار والبطيخ في “المقاثي” القريبة وقد أثملتِ الجداجدَ المُستشعرة بدايات الدفء فاستلّت أجنحتها المغمدة وشرعت تشحذها بمتون بعضها مصدرة تغريدها المعهود الشتّى في تنافسِ الظفر بالصرير الأعلى، تخالطه رائحةُ ملوحةٍ ليّنةٍ تبُثّها سنابل القمح في محطة البلوغ الأخيرة قبل تَطأطُئها صاغرةً لمنجل الحصّاد على السفوح في الجوار.
إذن ما الغرابة في أن يستنفر ابن الفلاح هذا حواسه عابًّا ملء جوارحه جنى إيفاء الربيع ِ وعودَه متمتعًا من شميم “عراره” ومن سميع ذبذباته ومن رئي بشاشة شبابه.
وكان لو انتصب “جليل” إزاء شبّاكه الغربي صباحًا رأى كروم الأهل من تين وزيتون وأعناب واشتمّ عطر البرتقال من بياراتها السخيّة ولشدّته تلال اللازورد ويلتمع فوق صفحاتها طفلُ نور الشمس بخفر بكرٍ يغازلها شقيٌّ، يمرُّ فوق عشبها نسيمٌ عطوفٌ فتميس فيهفو لمذاق شرابٍ طالما حرصت جدّته على إعداده من غلي الزوفا الوعريّ اليابس ترياقًا وترفّهًا، وتسللت إلى راحتيه دغدغة التراب الحريريّة حينما كانت تسعى أصابعه خلف درنات “سكّر العجوز” ليس وراء حلاوتها، فهي خلت منها، بل لإسكات جوعٍ صغيرٍ حتّى حين العودة لحضن البيت.
القمر يتسلق السماء وحاسّة الذاكرة تستشعر تسلُقَ ذلك الصبي “سنسلة” الحجر بين “جلّين” إذ تستدعيه في “الرباع” الأعلى ثمار عنقود داليةٍ وعريّةٍ في بداية ” تلويحه”.
ترفرف وريقات الشاي متهاوية في الماء الساخن إلى “كعب” الكأس وذاكرة “جليل” تستحضر الخريفَ فتتموّج أوراق المشمش في سقوطها الحر إلى زوايا “الحاكورة” بدعَةٍ وسكينة فيما تدفع يدٌ خشنةٌ باب الزنزانة فيصدر صريرًا حادًا يبدد شبّاك القمر الشرقي وشبّاك التلال والكروم الغربي ليصحو ” جليل” على برشِ واقع أن لا شبابيك للزنازين.. لكن لها أجنحة تخفى على السجّان وتحمل نزلاءها إلى الجهات السبع.