تقرير أمنستي وإحياء فقه النكبة الفلسطينية
جواد بولس
تاريخ النشر: 04/02/22 | 8:02لم يكن توقيت نشر نتائج التحقيق العسكري الذي أجراه جيش الاحتلال مع نفسه حول حادثة مقتل المسن الفلسطيني حامل الجنسية الأميركية، عمر محمد عبد المجيد أسعد، ابن الثمانين عامًا، محض صدفة؛ فقادة إسرائيل كانوا يعلمون عن عزم منظمة “أمنستي” العالمية، على عقد مؤتمر صحفي خاص يوم الثلاثاء، الأوّل من شباط/فبراير الجاري، حيث ستعلن المنظمة من خلاله بمقتضى المعايير الدولية، عن إسرائيل دولة فصل عنصري.
لقد تورطت إسرائيل بعد انتشار الأنباء عن مقتل ابن قرية جلجيلية الفلسطينية، الواقعة شمالي مدينة رام الله، بسبب كونه مواطنًا أمريكيًا، لا بسبب فضح الظروف الوحشية التي مورست على مسن فلسطيني من قبل عناصر الجيش؛ ولو لم يكن كذلك لما اكترثت ولا تحرّكت الإدارة الأمريكية.
كان رد فعل الإدارة الأمريكية على نتائج التحقيق العسكري متوقعا، فالناطق باسم الخارجية، نيد بيرس، صرّح في أعقاب نشر التقرير قائلًا: “إن أمريكا تنتظر إجراء تحقيق جنائي كامل وتحمّل مسؤوليته كاملة”. وعندما سئل فيما إذا كانت إدارته راضية من التوضيحات التي زوّدتها بها إسرائيل، قال: “نحن ما زلنا قلقين من ظروف موت أسعد، الذي هو مواطن أمريكي. لقد سجّلنا أمامنا رد الجيش وتفاصيل التحقيق والخلاصات التي أظهرت وقوع فشل في الدفاع عن حياة إنسان”.
على الأغلب فإن الإدارة الأمريكية سوف تعبّر في النهاية عن رضاها عن الإجراءات الإسرائيلية، وسوف تغلق هذا الملف، كما أغلقت جميع الملفات التي سبقته، وستعود العلاقات الحميمة بين الدولتين إلى طبيعتها.
لقد جاء في البيان الصادر عن الجيش الإسرائيلي أن الحادث يكشف عن وجود “فشل قيمي في صفوف القوة العسكرية المتورطة، وعن خطأ في تقدير الموقف، وانتهاك جسيم لقيمة كرامة الانسان”؛ وأوصى التقرير بضرورة استخلاص نتائج التحقيق والعبر واستيعابها ونشرها بين جميع الوحدات لمنع تكرار مثل هذه الحالات. كما وقرر قائد الأركان كوخافي توبيخ قائد كتيبة “نيتسح يهودا” وإبعاد قائد السرية وقائد الفصيل، المتورّطَين في الجريمة، ومنعهما من إشغال مناصب قيادية لمدة عامين!
لم تستحوذ تداعيات هذه الحادثة، رغم تفاصيلها المرعبة، على انتباه المجتمع الاسرائيلي؛ وحتى بعد نشر نتائج التحقيق العسكري وثبوت الوقائع التي أدت إلى مقتل المواطن الفلسطيني، لم تتحرك ضمائر من يدّعون الموضوعية القيمية، ولم يُستفز إلا ندرة من المهتمين وأصحاب الأقلام في الصحافة العبرية.
وبالمقابل، وكما كان منتظرًا، فلقد عرضت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، انياس كالمار، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد، كما كان مقررًا يوم الثلاثاء الفائت، خلاصة ما جاء في تقرير المنظمة، الذي امتدت فصوله على أكثر من مائتي صفحة؛ وجاء تحت عنوان “نظام الفصل العنصري (أبرتهايد) الاسرائيلي ضد الفلسطينيين، نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الانسانية”.
لن نخوض اليوم في التفاصيل كما أتى عليها التقرير، ولا بمسوّغات خلاصاته الدامغة بحق إسرائيل ووصفها كدولة فصل عنصري، تدير نظام اضطهاد عرقي وهيمنة على الشعب الفلسطيني في كل المناطق التي تسيطر عليها وتتحكم فيها؛ وهذا يشمل جميع الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة وأولئك المواطنين في اسرائيل نفسها، علاوة على اللاجئين النازحين في البلدان الأخرى.
وعلى الرغم من ردة فعل قادة إسرائيل وتهجّمهم العنيف على مضامين التقرير ، واتهامهم التلقائي لمنظمة العفو الدولية كجهة منحازة وخاضعة “للمنظمات الارهابية” المعادية، أشعر بأن هنالك، داخل منظومات الحكم الاسرائيلية وخارجها، من يستوعب بأن هذا التقرير قد يشكّل انعطافًا هامًا في علاقة المؤسسات الحقوقية الدولية حيال حقوق الفلسطينيين والممارسات الاسرائيلية ضدهم. وهذا ليس بسبب خطابهم الصارم الجديد وكيفية تناولهم لمجموعة المسائل التي تحرّاها بمهنية دقيقة معدّو التقرير وحسب، بل كذلك بسبب منهجيتهم المفاهيمية اللافتة والمغايرة عمّا كان مألوفًا وسائدًا في اجتهاد تلك المؤسسات الدولية وحرصها على إتّباع سياسة التوازن المصنّع الهادف إلى اعتبار اسرائيل ضحية الماضي والحاضر والتي يسمح لها، لأنها الضحية، أن تكون فوق قواعد قوانين الأمم ومواثيقه العقدية والإنسانية.
إنّ مسألة فلسطين وشعبها لم تعد مجرّد قضية انسانية تنتظر رحمة العالم ومِننه؛ وهي، حسب المفاهيم الجديدة، تعتبر قضية سياسية وحقوقية وعرقية، تعود جذورها إلى عقود من القمع الممنهج والهيمنة التي بدأت بعام النكبة.
لقد تنبأ بعض المفكرين والسياسيين اليهود مباشرة بعد انتهاء حرب حزيران 1967 بما سيسبّبه الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية، وكيف ستصبح إسرائيل دولة أبرتهايد لا محالة. ورغم أن نبوءاتهم كانت تتحقق، عامًا بعد عام، استمر قادة الشعب اليهودي بإحكام سيطرتهم على الفلسطينيين والإيغال في وسائل قمعهم واضطهادهم. لم تكن نتائج الاحتلال مقصورة على الفلسطينيين كضحايا مباشرين لقمع المحتل وإضطهاده، بل تسربت عواقبه إلى داخل المجتمع اليهودي الذي بدأ يتعرّى كمجتمع أسياد مستعمرين، كان كل همه، ولم يزل، الاستئثار بكل الأرض وبكل خيراتها وإقصاء أهلها والتخلص منهم ومحو تاريخهم بعد تدمير جغرافية الأمكنة وذاكرتها.
أقول هذا عائدًا إلى جريمة قتل المسن الفلسطيني عمر أسعد التي لم يكتب عنها فقهاء القانون وغيرهم ممن سيهاجمون، باسم النزاهة والعدل والحق، تقرير أمنستي وخلاصاته؛ وحتى بعض من كتبوا لم يفعلوا ذلك إلا من باب وخزة ضمير صهيوني ناعس، أفاق كي يدافع عن طهارة الجيش المستحيلة.
وقد يكون ما كتبه الصحفي عاموس هارئيل في جريدة هآرتس العبرية يوم الثلاثاء المنصرم احدى تلك المقالات البارزة، لا لأنه تتطرق إلى تفاصيل الجريمة وحسب، بل لأنه ألقى بعض الضوء على ممارسات هذه الكتيبة المسماة “نيتسح يهودا”، وألقى الضوء على الأسباب السياسية التي ستردع قادة الجيش الاسرائيلي من استنفاد العقوبات ضد أفرادها وقادتها المتورطين في حادثة القتل. لقد تبيّن أن تلك الثلة من الجنود قامت باحتجاز عمر أسعد وآخرين من أبناء قريته في فجر ذلك اليوم من دون أي سبب أو ذريعة؛ ثم اعتدوا عليهم وألقوه، مع الآخرين، وهو مكبّل اليدين ومعصوب العينين، في ساحة بيت مهجور على أطراف قريتهم، وتركوهم تحت رحمة الليل والبرد القارس لمدة ساعات. وبعد أن أشبع الجنود نهمهم، أمروا الفلسطينيين المحجوزين بمغادرة المكان، بينما كان المسنّ عمر ملقىً على الأرض دون حراك؛ بعدها غادر الجنود الموقع تاركين “صيدهم” وراءهم. لاحقًا، وبعد مغادرة الجنود، أحضر المواطنون طبيبًا من القرية فوجدوا عمرَ جثة وقد فارق الحياة.
“هذا تسلسل مرعب للاحداث” هكذا كتب عاموس هارئيل في مقاله المذكور وأضاف “إن الجنود لم يروا بعمر أسعد إنسانًا.. فتصرفوا معه بفظاظة قصوى ثم تركوه ليموت”. لقد انتقد عاموس هارئيل قرار قائد الأركان وتمنى لو أنه استغل هذه الحادثة ليتخذ اجراءات أقسى بحق المتورطين والكتيبة برمتها، لكنه يعرف، مثل الجميع، أنها أمنية مستحيلة، فهؤلاء الجنود هم عبارة عن أشخاص تركوا أطر تعليمهم الدينية/الحريدية والتحقوا، مع مجموعات يمينية سائبة تسمّى “شباب الهضاب”، بكتيبة “نيتسح يهودا” التي تتصرف بدوافع أيديولوجية متطرفة امتثالًا لتعاليم الحاخامات المرافقين للكتيبة. ورغم علم الجميع بهذه الحقيقة، لم تقم أية جهة مسؤولة بأي إجراء رادع بحقهم، فمضى أفرادها ينفّذون موبقاتهم بحرية تامة ضد الفلسطينيين وهم يعرفون أنهم مدعومون من قبل شرائح مؤثرة في المجتمع وسياسيين ووزراء وصمت العاجزين والخائفين.
لقد تحققت نبوءة اولئك الاشخاص اليهود، الذين توقعوا كيف سيتحوّل الاحتلال إسرائيل إلى دولة مارقة والى نظام فصل عنصري واضطهاد عرقي؛ وهذا عمليًا ما وصفته منظمة “أمنستي” في تقريرها الأخير، ومثلها فعلت منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية وجهات محلية ودولية كثيرة.
ولكن، ومع أن تقرير “أمنستي” قد يشكّل، كما قلنا، منعطفًا في كيفية تعاطي بعض المؤسّسات القانونية والمحافل الدولية مع إسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين، لكنه وضع، في نفس الوقت، تحدّيًا جدّيًا ليس أمام إسرائيل وحسب انما أمام مواطنيها العرب وقياداتهم أيضًا. فإعادة القضية إلى أصولها، أي إلى ما قبل النكبة وخلالها وبعدها، والتطرق إلى ما حصل من تداعيات كوحدة واحدة سواء على مستوى الأرض/الجغرافيا أو على مستوى الشعب، التاريخ والمستقبل، سوف يستدعي التوقف عند مضامين التقرير، وربما إلى إغواء البعض لإعادة النظر في فرضيات العمل السياسي ومآلاته المستقبليه وتأثيرها على واقع المواطنين العرب في إسرائيل.
أعرف أن بعض الفلسطينيين وحلفاءهم سينظرون بعين الرضا إلى لغة أمنستي وإلى خطابها الصارم، فموقفها بتناول القضية الفلسطينية، كرزمة واحدة، فيه الشيء الكثير؛ مع أن البعض قد يعتبره موطن ضعف كبير لأنه يخلط بين الحلبات والجبهات والاستحقاقات الواجبة في كل ظرف وكل موقع