نصائح متمردة .!
قصة بقلم : يوسف جمّال - عرعرة
تاريخ النشر: 06/02/22 | 14:05ولم تسمعي نصيحتي الأخيرة ..الذي طلبت منك ان لا تقومي بزيارتي ..
ولكن وكعادتك..
أطعتِ نبضات قلبك .. شظايا روحك .!
وجئتِ لتزوريني في سجني .. في سجنك !
” روحي مسجونة معك .. وما قيمة حرية جسدي , إذا كانت روحي مسجونة معك !؟ ” .
هكذا كانت تبكي رسائلك, التي كانت تتسلل الى غياهب الزنازين ..
ليست هذه النصيحة الأولى ,التي لم تفكري, ولو للحظة, أن تسمعيها ..
نصحتكِ مرات ومرات ان تبتعدي عني .. استجديتكِ أن
تهربي من حبٍ كلانا نعرف – أنا وأنتِ – أنه سيعيش في حوّام ,
لا ندري الى أي مصير ستؤدي مساربه .
ولكنك – كعادتكِ – فكلما زدتكِ لوماً وابتعاداً , زدتِ تعلقاً
وهياماَ .
ما الذي أعجبك في شاب ترك متاعات الدنيا , وخرج يبحث عن وطنٍ مصلوب ينزف دماً .. ترك دفاتره وأحلامه الصغيرة , وخرج يبحث عن الحلم الكبير , يبحث عنه تحت التراب, وفي عيون الأطفال , بين عتمات السجون .
أجبتيني مرة على هذا السؤال,وابتسامة تشفّي ترتسم على شفتيك :” أنا فصَّلتك مثل ما بدي .!”.
فسكت . مرة واحدة “لعنتِ”فيها اليوم الذي ” شُفتني فيه ” .!
عندما قلتُ لكِ , في محاولة مني لإبعادك عني :
ألا يكفيني أحمال الوطن .. تطلبين مني حَملك.!؟
فشهقتِ باكية .. وأطلقتِ لرجليكِ العنان لتنتشلكِ من بئر طغياني ..
وغبتِ عني .. ” تتقلّين في مقلاة , مُتِّ في إتونها آلاف المرات ” ! هكذا اعترفتِ مكرهة ,عندما عدتِ إليَّ بعد غيابك عنّي خلته دهراً .
وطفتُ أبحث عن طريق أصل بها إليك ..عن سلم يرفعني إليكِ ..
حتى بلغكِ نبأ إصابتي في الدفاع عن كروم الزيتون المهددة من قبل قطعان المستوطنين .. فهرعتِ تسبقك نثرات دموعك المتمردة .
فلم ترحميني .. فعرفتُ – لأول مرة – مقدار قسوتك .
“لتجرِّب عذابات الآلام !” قلتِ مخترقة عذابات أوجاعي .
فقلتُ : “إن الوصول إليك ,لا يتم إلا عن طريق الجراح !”.
النصيحة الأولى ..كانت في الصف التاسع الإعدادي ..
عندما طلبتُ منكِ , ان تبتعدي من أمامي , وأنا أخطو بخطوات ثابته مهدده , لأصل لابن صفنا محمود , لأقوم بضربه .
نصحتكِ مهدداً كالغول : إبتعدي عن طريقي ..”أحسن لك” !
فصرخت : لن أبعد .! أأنتَ شرٌ, لا يستطيع أحد أن يقف أمامك ويردعك!؟
ولم تسمعي نصيحتي .. وبقيت واقفة في مكانكِ , في تحدٍ مجنون .
فدفعتك من أمامي, فوقعتِ على الأرض .. فضربتُ محمود , ولم تشفع له صرخاتك ..
هكذا كنتُ ” فُتُوَّة ” المدرسة ,أضرب من أشاء..وأعفو عن ما أشاء , كلهم يخافون قوتي وجبروتي ..
إلا أنتِ ..
قمتِ عن الأرض , وتقدمتِ مني , ونلتُ منكِ سيلاً من ضربات يديك , كنتُ أتلقاها , وأنا متجمِّد كأني خشبة مسنَّدة .
سأعترف لكِ الآن ,أنها كانت على “قلبي” مثل العسل , وتمنيت أن تستمري في ضربي , حتى أشبع منها !
ولما انتهيتِ من ضربي , زعقتِ بي: “بتتشاطر” علينا !؟ على أولاد صفك !؟ روح أتشاطر, عَلِّي قاعدين على قلوبنا.!
كنت تناوليني اللكمات والكلمات الجارحة ,على مسمع ومشهد من طلاب المدرسة.
وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ المدرسة ,التي بها تضرب طالبة طالب ذكر .
انتصارك علي “غول” المدرسة , توَّجَكِ ملكة لها دون منازع .. “اختطفتِ” مني التاج ..ولم أشعر بأي نوع من الحسد أو الغيظ .
ارتحت من حمل ثقيل أنهك كاهلي وارتحت أكثر , ولا أدري لماذا , لأنه وضع على رأسك أنتِ .
وكانت كلماتك هي الفتيل الذي أشعل وجداني , وأيقظني من سباتي .
ومن يومها تغيَّرت معاملاتي للطلاب , تحوَّلت من وحش كاسر وإل حمل وديع . أبعدت شروري عنهم .
وكلُّ من كان حولي أأصيب بالدهشة والاستغراب , من التحوِّل الذي حدث في شخصيتي وتصرُّفاتي .
وتخرجنا من الاعدادية , والتحقت أنتِ بثانوية حيفا , أما أنا فبثانوية الناصرة .
ولم أرك إلا في مرّات قليلة ومن بعيد ..وكنت كلما اصطدمت عيناي بك,تضرب رأسي كلماتك التي غيَّرت كياني :
روح تشاطر علِّ قاعدين على قلبك ! .
وكنت حاضراً في حفلة تخريجِك ..رافقت ابن أخي الذي تخرَّج في دفعتك ..
وكنتِ أنتِ الخطيبة التي ألقت خطبة الطلاب ..
ذكرت فيها الخطر الذي يتربَّص بأرضنا المهددة بالمصادرة , والتي نمنع من دخولها .
وفي طريقنا من قاعة المدرسة الى موقف سياراتنا , تعمَّدت أن تمشي الى جانبي, ودار الحديث بيننا حول الحفلة وكلمتك فيها , وتطرقنا في حديثنا الى الأرض والبلد والخطر الذي يهدِّدها .
وكانت نصيحتي الثانية : لا تقتربي من جرّارات مصادرة الأرض .. اتركيها للشباب !.
وما أن طرقت كلماتي أسماعك , حتى ركضت كالملسوعة الى سيارتك , وتركتني خلفك متجمِّداً في دهشتي .
وعندما نادى المنادي في البلد , معلناً مهاجمتهم ككروم الزيتون , أسرعت الى هناك كالبرق , وعندما وصلت , هالني المنظر الذي ظهر أمام عيني .
رأيتك بين جموع الشباب والشابات الذين يتصدون له , و كانت معركة مستعرة ..
هم يحاولون قلع الأشجار , وأنتم تدافعون عنها بأيديكم .. , انضممت للمعركة , فانتصرنا عليهم وأنقذنا زيتون البلد .
ولما انتهت ” معركة الزيتون ” , كما يسمونها أهل البلد, عاد الجميع الى بيوتهم , بقينا أنا وأنت جالسين تحت زيتونة روميّه
نصحتك ولم تسمعي ! قلت مداعباً السكون الذي سيطرعلى المكان .. سكون بعد المعركة سكون مقهور .
ولكن أنت من تكون بالنسبة لي , حتى تنصحني وتنهاني !؟ صرخت بيَّ بغضب متفجِّر .
أكملت بتحدٍ مكبوت , بعد أن أخذت قسطاً من الصمت , لتتهيَّئي لهجوم جديد .
فعدت الى صمتي أحتمي به منك .
ووقفت على قدميك لتبدئي رحلة الهروب .. الهروب منّي ..
لا .! لا تتركيني ! تحرَّرت منّي كلمات , عذَّبتها مرارات السجن في زنازين شرياني .
فرجعت وجلست بجانبي , وأخذت راحتيَّ براحتيك .
وبكيت وبكيت معي..
وكانت المرة الأولى التي تتمرَّد دموعي عليَّ , وتتحرر من سجنها السحيق .
وسرنا نتنقَّل بين جبال المقاومة ورياحين الحبِّ وتغاريده ..
واختلطت دموع الشوق مع الدموع التي يسيِّلها الغاز المسيِّل للدموع , والدماء التي تنزفها الجروح .
الى أن دخلت في ” رحاب” السجون , لأجلٍ ربما يطول , ولا يظهر في الأفق نهايته .
وجئت لتزوريني هنا في سجني ..ولم تسمعي كعادتك نصيحتي .. اشفقت عليك من عذاب السجون .
وانتصرت عليَّ ومرَّة أخرى .. عجزت أن أرّد على أقوالك .
ما قيمة جسدي , إذا كانت روحي مسجونة معك !؟
عجزت !