ماذا تمخّّض عن ”لِمْطاءَشِه والشََّّرْشُوح“ ؟
أ. د. حسيب شحادة -جامعة هلسنكي
تاريخ النشر: 20/02/22 | 7:30بينما كنتُ منشغلًا جدًّا بإعداد بحث مطوّل عن لهجة فلسطينيّة معيّنة، لغة أمّي، ألا وهي لهجة كفرياسيف، يضمّ فصولًا عديدة، مثل: تمارين في المجال الصوتيّ العامّ والوظيفيّ (phonology, phonetics) للأصوات الصامتة، في علم الصرف (morphology)، لا سيّما الأفعال وتصاريفها؛ إدراج قُرابة الستّين نصًّا نثريًّا، بنقحرة لاتينيّة، كما هي العادة في الأبحاث اللغوية العصريّة، إضافة مقطوعات شعريّة عامّية بتلك اللهجة إلخ.، صادفَتْني كلمات وعبارات كثيرة جدًا، منها الكلمتان الواردتان في العُنوان بين معقوفتين.
في أحد النصوص النثريّة دار الحديث عن عادّة المفاقَسِه، مفاقَسة البيض في عيد الفصح المجيد، التي أصبحت نادرة في أيّامنا هذه. لاحظتُ أنّ اسم هذه العادة في بعض اللهجات، مثل لهجات القدس وبيت صفافا، والبقيعة/المرج، وزرنوقة (قضاء الرملة) هو تَتْطئيش، إمْطاءَشِه أو تَتْكيش، إمْتاكَشِه بالكاف. وهذه اللفظة بالهمزة أو بالكاف، وَفق اللهجة، لها معنًى آخرُ في لهجة كفرياسيف. المقصود لعبة أو اختبار قوّة ساعِدَي شخصين، يضع الواحدُ راحة كفّه براحة كفّ الآخر ومن يُنزل ساعدَ الآخر يكون الفائز (הורָדַת ידיים, arm wrestling).
من المعروف، أنّ اللهجاتِ العربيّةَ تُطلق على ذلك الاختبار المذكور أسماء مختلفة، وفي بعض اللهجات نرى استخدام أكثر من كلمة لأسباب شتّى. هذه عيّنة:
إمْباطَحَه: (+ إدين، بِلْإدين، أو بدونهما): غزّة، عرعرة، جتّ المثلّث، كفر قرع.
إمْجاسَرَه: الخليل، أُمّ الفحم، دير إستيا.
إمْطاعَجِه: بيت لحم، بيت جالا، الناصرة، شفاعمرو، سخنين، عبلّين، طمرة، طُرعان، كفر كنّا، كفر مندا، الجشّ.
إِمْفاقَشِه/إِمْفاكَشِه/إمْفاءَشِه: الجشّ، معليا، ترشيحا، حرفيش، الرامة، جولس، يركا، كفر سميع، إقرث، المغار، حيفا، عسفيا، فسّوطة.
إمْكاسَرَه (ك > تش في لهجات الفلّاحين): القدس، شفاعمرو، دالية الكرمل، غزّة، عكّا، برطعة، طولكرم، باقة الغربيّة، نابلس، مشيرفة، رام الله، سخنين، عبلّين، طمرة، الزبابْدة.
إمْئاسَعه: القدس واللد.
إمْكاسَعه: الطيّبة بالقرب من رام الله.
إمْنازَلِه: القدس، سخنين.
كَسِع/كَسْع إلإدين: بيت صفافا.
إمْطاكَشِه: بيت لحم.
في سوريا نجد الكلماتِ الآتية: إمْكاسَرَه، كِساري، إمْفاكَشِه، قَلْب الإيد، إمقارْفِه (ق > ء)؛ وفي لبنان: كْبيش/ē أي بالإمالة المعهودة؛ وفي العراق: إمْكاسَرَه، إمْلاواه، الفعلان: تْلاوي، يِتْقاوون، تَعال أَكِسْرَك، وفي لهجة سُريان مدينة برطلّة في محافظة نينوى، وتبعد عن الموصل عشرين كيلومترًا، نجد صَروعي بْإدّاتُه أو تْواغا (أصلها تبارا من الجذر السريانيّ ܬܒܰܪ ت ب ر = كسر) بْإدّاتُه؛ في الأردن: إمْكاسَرَه (بِلْإِدين)؛ في الجزائر، في ولاية برج بوعريريج: ألْفورْص من الفرنسيّة la force؛ وأخيرًا في مصر: رِستْ الدخيلة من الإنجليزيّة wrestling، يقول المصريّ: تِنْزِلّي رِسْتْ؟
ومن المعروف أنّ كلماتٍِ معيّنةً تحمل معانيَ مختلفة بحسب اللهجات، فلفظة إمْكاسرة، آنفة الذكر، تحمِل معنى ”بيع بالجملة“ في سوريا، اُنظر: عبد الرحيم، ياسين (2003, 2012). موسوعة العامّيّة السوريّة – كراسة لغويّة نقديّة في التفصيح والتأصيل والمولّد والدخيل. 4 مجلدات. دمشق: منشورات وزارة الثقافة؛ 3 أجزاء، أ-ح؛ د-ف؛ ق- ي (2648 ص)، ص. 2324.
اللفظة الثانية التي نحن بصددها في هذه العُجالة، هي الشَّرْشُوح/ šaršūḥ في لهجة كفرياسيف. هذه الدُّمية بهيئة رجل بملابس بالية وبقبّعة إلخ.، ينصُبها المزارع في أرضه المثمرة، لإخافة الطيور والحيوانات، وإبعادها لحماية الثمار والمحاصيل من الأضرار، معروفة للإنسان منذ القِدم، إذ أنّها قد وردت في النصوص الهيروغليفيّة. وممّا يجدُر ذكره، أنّ اسم هذه الظاهرة/الدمية/التمثال قد وردت مرّة واحدة في الكتاب المقدّس، في سِفر إرميا 10: 5 תֹמֶר، في حين أنّ اللفظة المستخدمة في العبريّة الحديثة هي דַחְלִיל وهي مشتقّة من الجذر الآراميّ דְ חַ ל أي خاف الوارد في سِفر دانيال ٥: ١٩، والاسم في الآراميّة التلموديّة דַחְלול وفي السريانيّة المكتوبة ܕܰܚܠܘܽܠܳܐ/دَحْلُولو أي شبح هائل مفزع، كما ورد في معجم مَنّا (قاموس سرياني – عربي، المطران يعقوب أوجين منّا، مع ملحق للمطران روفائيل بيداويد، أعاد كتابته وتدقيقه الراهب السريانيّ زيتون صومي، 2015).
نذكر أنّ هذه اللفظة ”الشرشوح“، مذكورة في نصوص الاستسقاء أو التغييث، التي كانت تُردّد في كفرياسيف قبل أكثر من ستّة عُقود. أذكر جيدّا، أنّنا في أيّام الصبا كنا نردّد مثلًا: يا ربّ تْبِلِّ الشرشوح وخَلّي هالنّحْسِه تْروح. نُشير إلى أنّ الكلمة العامّة المستعملة في العربيّة المعياريّة (MSA) لهذه الدمية هي: الفزّاعة أي المُخيفة، وبجانبها يمكن العثور على عبارة ”الرجل اللعين“. وهذه التسمية بمعنى: مخيف الطيور، مستخدمة في لغات كثيرة.
إليك أيّها القارىء عيّنة لأسماء الشَّرْشُوح/ šaršūḥ في اللهجات الفلسطينيّة وغيرها:
شَرْشُوح šaršūḥ: (+ المَقاتي/المقاثي، أحيانًا للتخصيص): في كفرياسيف، يَركا، عكا، المغار، دالية الكرمل، عارة، عرعرة، سخنين، حرفيش، معليا، عبلّين.
šaršōḥ : في شفاعمرو.
شَرْشُوحِة مِقْثاي: في سخنين.
فزّاعه: في نابلس، دير إستيا، القدس، بيت لحم، بيت جالا، عرعرة، المشيرفة، طولكرم، باقة الغربيّة، جتّ المثلّث، أم الفحم، اللد، الطيبة في المثلّث، دالية الكرمل، الرينة، فسّوطة، حيفا، سخنين، البقيعة/المرج، الرامة، طمرة، ترشيحا، الجشّ.
عَروس صَحْرَه: في دالية الكرمل لدى النساء المسنّات.
خْيال مُقْثاي: في إقرث.
حارس القشّ وأبو الشرايِط: في نابلس.
رَمَضان وبُعْبُع: في الطيبة في المثلّث.
نَطور/ū وخَيال: في فسّوطة.
شَلْفِه وصَدِّه: في مناطقَ أخرى في البلاد، على ما يبدو، في منطقة الخليل ورام الله.
فَزّاعه وخَيال إلْمَئاتَه: في الأردن.
فِزَّيْعَه: في بيروت.
فَزّاعه (أو: فَزّاعَة إلْحَقْلِه)، فِزَّيْعه، فِزِّيعه/ē، وفَزّيعه وفِزّاعه وبزّاعه وعْرَيْبِيّه وشرشوح وخيال صَحْره/سَحْرَه، ناطور إسّحْرَه: انظر: عبد الرحيم ياسين المذكور آنفًا: ص. 884, 1318, 1432: في سوريا.
دَحْليل: في الجشّ، لدى المسنّين.
شَبَح: شفاعمرو
في مصر: خَيال (إلـْ) مَئاتَه ּ أو خِيال إلْمَقاتا، انظر قاموس سبيرو (سقراط سبيرو، قاموس اللهجة العامّيّة المصريّة، عربي -إنجليزي، بيروت: مكتبة لبنان، 1973)، خَيالْ إلْغيط/ē، أبو رِچْل مَسْلوخه، أبو شَمِيَّه، سَديء إلْفّلّاح ؛ في عُمان الروْع؛ في العراق خَرّاعة الخُضْرَه وخيال المئاته، وفي السودان الهوليقه، الحاحايه، الهمبول. وثمة ألفاظ أخرى تفيد المعنى ذاته نحو: فَزّيعه، مَخْيول، بو غَنْجَه، بو خَيّال كما في ولاية برج بوعريريج في الجزائر. وممّا يجدر ذكره أنّنا رصدنا لفظة دَحْليل الدخيلة في لهجة الجشّ لدى المسنّين (وبجانبها الفزّآعة) في الجليل الأعلى، وويظهر أنّها مقترضة من العبريّة الحديثة، التي بدورها أُخذت من الآرامية السريانيّة ܕܰܚܠܽܘܠܳܐ وتعني الخوف، الهول، الشبح الهائل المفزع وهي مشتقّة من الجذر ܕܚܶܠ/دحل أي خاف، كما نوّهنا سابقًا.
الآن، بدافع العرفان بالجميل، يطيب لي أن أُزجي شكري وٱمتناني البالغيْن، لكلّ منِ ٱستجاب لرسائلي الإلكترونية وهم كثرٌ، وأجاب على سؤاليّ البسيطيْن المذكوريْن أعلاه. كنتُ قد عبّرت عن شكري لكل شخصٍ فورَ تسلّمي إجابَته. رسائلُ كثيرة جدًّا أُخرى ذهبت أدراج الرياح، كما يُقال. قد تكون هنالك أسباب كثيرة، وحبّذا لو أفصح البعض عنها في تعقيباتهم، وذلك للإفادة العامّة. مثلًا: أما زالت ثقافة العربيّ بعامّة الكلمة المنطوقة، لا المكتوبة؟ هل الاتّصال الهاتفيّ الواتس أپيّ هو الوسيلة المثلى الوحيدة في جميع النواحي والأغراض؟ هل عدم الإجابة لعدم معرفة السائل شخصيًّا مقبولة؟ عدم وجود أيّة فائدة للمُجيب، رغم أنّ الإجابة لا تأخذ أكثر من دقيقتين أو ثلاث دقائق؛ يظهر أنّ احترام وتشجيع وإشاعة المعرفة، ليست من أولويّات الأغلبيّة الساحقة من أبناء شعبنا ومن ضمنهم المتعلمون، المثقفون، الأكاديميون، الكتّاب إلخ.
الحقّ يقال، إنّي أرسلت مثلًا، أكثر من ثلاثين رسالة إلكترونيّة في الآونة الأخيرة، فوصلتني أربع أو خمس إجابات فقط. لا أريد، ولا فائدة من ذكر أيّة فئة من المجتمع، سلكت ذلك الطريق. بفضل الهديّة القيّمة، التي تكرّم بها سيادة المطران بطرس المعلّم، وأرسلها إليّ قبل بضعة أسابيعَ، كان بوسعي طرح نفس السؤالين على عشرات من الأشخاص، ولا أعرفهم شخصيًّا. الهديّة هي رزنامة المعلم 2022، الأنيقة شكلًا ومضمونًا، وقيمتها الحقيقيّة يعرفها كلّ من يعيش في الغُربة، في المهجر، بعيدًا عن مسقط الرأس، الوطن.
أُرحبُّ بكل تعقيب بنّاء على هذا الموضوع، إضافة معلومة، تعديل معيّن.