سيناريوهات الحرب الأوكرانية
بقلم: هاني المصري
تاريخ النشر: 15/03/22 | 13:35من السهل أن تبدأ الحرب، ولكن من الصعب جدًا أن تنتهي. ينطبق هذا القول كثيرًا على الحرب الجارية في أوكرانيا، فلقد بدأها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا أحد يستطيع أن يجزم متى وكيف ستنتهي وما ستؤول إليه؛ لأن العوامل والأطراف والأسباب التي أدت إليها عديدة ومتشابكة، وتمتد بجذورها إلى التاريخ البعيد، عندما كانت أوكرانيا أصل الروس ولغتهم السلافية، وجزءًا من الإمبراطورية الروسية، ومن ثم الاتحاد السوفييتي، ووثيقة الارتباط بالجغرافيا السياسية والإستراتيجيات الأمنية والعسكرية والمصالح، وأخيرًا بالصراع العالمي الجاري منذ سنوات بعدما أصبحت الصين تتقدم وتنافس الولايات المتحدة على قيادة العالم، واستعادت روسيا جزءًا من دورها القديم عندما تبوأ بوتين سدة القيادة، فالتنافس على أشده على رسم خريطة العالم الجديد. عالم تنتهي فيه السيطرة الأحادية الأميركية، وتحل محلها تعددية قطبية أو أحادية جديدة أو عالم جديد لم ترسم معالمه بعد.
قدم توماس فريدمان، الصحافي الأميركي المشهور القريب من صانعي القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل، تصوره لمآل الحرب والسيناريوهات المحتملة؛ حيث تناقض مع نفسه بشكل كبير، فمن جهة جزم بأن بوتين سيخسر حتمًا، والسؤال هل ستكون خسارته قليلة ومبكرة إذا توقفت الحرب بسرعة، أم متأخرة وكبيرة خصوصًا إذا طالت الحرب؛ إذ من الممكن أن يخسر فيها كرسيه. ومن جهة أخرى توقع فريدمان ثلاثة سيناريوهات من دون أن يرجح أي منها.
السيناريو الأول، أسماه سيناريو الكارثة، وفيه تسحق روسيا أوكرانيا، وتسيطر عليها بشكل كلي. أما السيناريو الثاني فيقوم على التوصل إلى حل وسط؛ حيث لا تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتكون محايدة، وتحتفظ فيه موسكو بسيطرتها على إقليم الدونباس مقابل سحب قواتها من أوكرانيا. وأما السيناريو الثالث فيتحقق إذا قامت عناصر من الحلقة القريبة من بوتين بإزاحته عن السلطة، وإذا أطيح به تنتهي الحرب، لأنها، كما قال فريدمان، حرب بوتين، وتنتهي بنهايته.
يظهر التناقض واضحًا في حديث فريدمان عن الخسارة المؤكدة لبوتين، والحديث في نفس الوقت عن ثلاثة سيناريوهات ينتصر بوتين في اثنين منها كليًا أو جزئيًا.
نعم، من الصعب الجزم إلى متى ستستمر الحرب، ومن سينتصر بها، وهل ستمتد إلى بلدان أخرى في أوروبا، من دون أن يعني ذلك أنها ستكون حربًا نووية، بل يمكن أن تمتد إلى خارج أوكرانيا، وتصبح حربًا تقليدية، كما جاء في مجلة “فورين أفيرز”، وهناك احتمالات للأخطاء البشرية، وتهديد بانتشارها حتى لا يستمر الدعم الخارجي. إن الحظر الجوي إذا تم سيكون وصفة مؤكدة لامتداد الحرب، وقد يتخللها استخدام السلاح الكيميائي أو البيولوجي أو النووي، وإن بشكل جزئي، ومثل هذا الاحتمال سيتحقق إذا تعرض بوتين لهزيمة قاسية، وفي ظل خطر وجودي يتهدده أو يتهدد روسيا.
لذلك، يضيف فريدمان من الخطر أن تكون روسيا قوية، ومن الخطر أكثر أن تكون ضعيفة وتهان، فهي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة الجغرافية وعدد الأسلحة النووية وتمتلك ثروات طبيعية ضخمة.
قد تكون الحرب سريعة، أي تستمر شهرين ، وقد تتحول إلى حرب استنزاف طويلة تسيطر فيها القوات الروسية على أوكرانيا، أو معظمها، وتشكّل فيها نظامًا مواليًا لها، أو لا تتمكن من ذلك وتتعرض لحرب استنزاف، وتصبح أكثر وأكثر جزءًا من الحرب العالمية الثالثة التي تشمل حربًا عسكرية في أوكرانيا، والتي أخذت كذلك أشكالًا من الحرب كالحصار والعزل والعقوبات الهستيرية، التي لم يشهد التاريخ مثيلًا لها.
وهي حرب يحاول فيها معسكر أن يحتفظ بسيطرته الأحادية، بينما يسعى المعسكر الآخر جاهدا ليسرّع نهاية العالم القديم، وإقامة نظام جديد تعددي. ويحاول، بوتين تحديدًا، أن يصحح أخطاء الماضي، خصوصًا انهيار الاتحاد السوفييتي، وإضعاف وإذلال روسيا، وانضمام معظم الجمهوريات التي كانت تشكله إلى حلف الناتو، ويستعد للعالم الجديد الذي تحتل فيه الصين مكانة الصدارة، وتقف روسيا فيه إلى جانبها كدولة عظمى وليست مجرد دولة كبرى إقليمية كما يراد لها.
وسواء إذا كانت الحرب سريعة أو طويلة، وامتدت إلى بلدان أخرى، من حيث ميدان الصراع العسكري المباشر، أو انحصرت في أوكرانيا، فهناك ثلاثة سيناريوهات أساسية، تتفرع منها سيناريوهات فرعية، ولا يمكن التنبؤ بيقين أيها المرجح، لأن الحرب، كما ظهر في الأسابيع الثلاثة السابقة، حبلى بالمفاجآت؛ حيث كانت في بدايتها تبدو محسومة لصالح روسيا، لدرجة أن حلفاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في لندن وواشنطن توقعوا انتهاء الحرب العسكرية لصالح روسيا خلال أيام قليلة، بدليل أنهم نصحوا زيلينسكي بتشكيل حكومة في المنفى، والانتقال إلى بريطانيا أو أميركا، وأخذ هو في هذه المرحلة يلوم حلفاءه، ومن ورّطه ووعده وتخلى عنه، لدرجة أنه أبدى في وقت لاحق استعدادًا للتخلي عن مخططاته بانضمام بلده إلى حلف الناتو، كما أبدى استعدادًا للتفاوض حول إقليم الدونباس.
وبعد البطء في تقدّم القوات الروسية، والمقاومة غير المتوقعة التي واجهتها، والدعم العسكري الواسع لأوكرانيا، والعقوبات الهستيرية ضد روسيا، والتماسك غير المتوقع في أطراف حلف الناتو؛ تغيرت الوجهة، لدرجة أن زيلينسكي تحدث عن تغيّر مهم في الموقف الروسي التفاوضي، والحديث تزايد عن إمكانية استنزاف روسيا في حرب طويلة.
السيناريو الأول: التوسط إلى حل وسط يميل لصالح روسيا
يعدّ هذا السيناريو الأكثر احتمالًا، ويقوم على التوصل إلى حل وسط، جوهره حياد أوكرانيا مقابل انسحاب القوات الروسية، وهنا يمكن أن يبقى إقليم الدونباس تحت السيطرة الروسية أو لا يبقى، مع تعهد باحترام حقوق الروس المقيمين فيه، أما جزيرة القرم فقد ضمت لروسيا وليست مطروحة للتفاوض، وستبقى تحت السيطرة الروسية.
هذا السيناريو هو الأفضل، ويميل لصالح روسيا، لأن اقتصاد العالم كله، وليس اقتصاد روسيا وحدها، معرض لأزمات كبرى، وربما للانهيار، لا سيما إذا طالت الحرب، فالعقوبات سلاح ذو حدين، وروسيا تستطيع أن تتعايش معها، لأن اقتصادها ريعي، ويعتمد على تصدير مواد لا يستطيع العالم أن يستغني عنها، مثل النفط والغاز والفحم ومعادن عديدة أخرى، غير المواد الغذائية، إضافة إلى أن بوتين استعد للحرب من خلال إجراءات عدة، منها تخزين الذهب، وتوطيد تحالفه مع الصين القادرة على كسر العقوبات، فهي لن تسمح بهزيمة روسيا.
كما أن التناسب في توازن القوى يفتح الطريق لهذا السيناريو؛ حيث يتفوق الجيش الروسي عددًا وعدة في ظل قرار الناتو عدم المشاركة مباشرة في الحرب العسكرية، ولكن الناتو سيسعى لتعديل هذا السيناريو لصالحه أو لجعله على الأقل ضمن معادلة لا غالب ولا مغلوب. ومن المؤشرات التي تعزز هذا السيناريو أن المفاوضات بدأت مبكرًا، وأن ما يجري في ساحة المعارك يرمي إلى تحسين شروط التفاوض.
السيناريو الثاني: هزيمة ساحقة لروسيا
يقوم هذا السيناريو على هزيمة ساحقة للقوات الروسية تؤدي أو لا تؤدي إلى الإطاحة ببوتين، وهذا لن يحدث إلا إذا طالت الحرب كثيرًا، أو تمت الإطاحة ببوتين. وهذا الأمر مستبعد على الأقل حاليًا، لأن بوتين لا يزال يحظى بدعم شعبي كبير، لأن إحياء الإمبراطورية الروسية طموح لا ينحصر به كما يقول فريدمان، وهو يحظى بدعم كبير، خصوصًا في ظل التهميش والإضعاف الذي تعرضت له روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حيث تم ذلك عندما كانت أميركا أقوى من دون منافس وروسيا ضعيفة، بينما الآن باتت قوية، لذا أخذت واشنطن تُصعّد محاولات إحكام الحصار عليها بضم دول أخرى من دول الاتحاد السوفييتي إلى الناتو، وحث أوكرانيا وجورجيا وغيرهما على الانضمام في مؤتمر بوخارست في العام 2008؛ ما ساعد على تدخل روسيا التي منعت انضمام جورجيا إلى الناتو، ودعمت انفصال إقليمين فيها، ثم ضمت جزيرة القرم في العام 2014، والآن الدور جاء على أوكرانيا، خصوصًا بعد أن طالب مواطنو الدونباس عبر استفتاء بالانفصال عن أوكرانيا، وطلبوا الحماية من روسيا.
يذكر أن حلف الناتو نفغذ سبع مناورات في أوكرانيا في العام 2022، وكان يخطط لتنفيذ عشر مناورات في هذا العام، والتزمت واشنطن في اتفاق الشراكة مع أوكرانيا المعلن في أواخر العام الماضي بضم كييف إلى الناتو.
ما يجعل هذا السيناريو مستبعدًا أن تأثير العقوبات على روسيا لا يقل عن تأثيرها على العالم، خصوصًا على أوروبا، وأن أحد أهداف واشنطن من كل ما يجري إبعاد روسيا عن أوروبا، وإبقاء الهيمنة على أوروبا، خصوصًا ألمانيا، وإبعادهما عن المشاركة في المشروع الصيني الكبير “الحزام والطريق” الذي يمر عبر روسيا.
تخفي الوحدة التي ظهرت في الناتو نزعات أوروبية للاستقلال، فأوروبا هي ميدان الحرب وضحيته، والمستفيدين في واشنطن يدفعون نحو الحرب، وهم من وراء البحار البعيدة، وستعبر عن نفسها أكثر على المدى المتوسط والبعيد، خصوصًا إذا وضعت الحرب أوزارها. ولعلّ النزعات الفرنسية لتشكيل جيش أوروبي، وتوجّه ألمانيا للتسلح خلافًا لما كان الأمر عليه منذ الحرب العالمية الثانية مؤشران في هذا الاتجاه.
كما أن الصين لا يمكن أن تسمح بهزيمة روسيا حليفتها الموثوقة، لأنها تدرك أن الدور عليها، وأن استفزاز روسيا ونصب فخ لها من قبل واشنطن ولندن تحديدًا، لدفعها لغزو أوكرانيا، لا يستهدف حماية أوكرانيا، فقط وإنما عزل روسيا، وإضعافها، وتقسيمها فيما بعد، حتى يتم القضاء على إمكانية تحولها إلى دولة عظمى من جديد، إضافة إلى إضعاف أوروبا وإبقاء الهيمنة الأميركية عليها.
السيناريو الثالث: هزيمة ساحقة لأوكرانيا
يقوم هذا السيناريو على هزيمة أوكرانيا، واحتلالها بالكامل، وتشكيل حكومة موالية لروسيا، أو خضوع رئيسها الحالي. ولعل استمرار اعتراف روسيا بشرعيته يشير إلى ذلك، وهذا مستبعد كذلك بعد المقاومة الأوكرانية للقوات الروسية، ولأن الناتو وواشنطن لا يمكن أن يسمحا بتحقق هذا السيناريو. فأميركا تراجعت قوتها ونفوذها واقتصادها بشدة نعم، ولكنها لا تزال قوية بما فيه الكفاية لمنع هزيمة أوكرانيا هزيمة ساحقة، وتقدم نظام عالمي جديد بسرعة.
إن النظام العالمي الجديد يتقدم، ولكن ليس بالضرورة أن يتم ذلك بسرعة وبخط مستقيم، فلا تزال واشنطن تملك أوراق قوية جدًا، ولن تتهاون باستخدامها، والصين لا تزال تعتمد نظرية الصعود السلمي؛ حيث سيتقرر في المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني في هذا العام هل ستستمر الصين في تقدمها الزاحف من دون لعب دور سياسي وعسكري يوازيه، أم لا، ولكن هناك مؤشرات عن استمرار العمل بنظرية الصعود السلمي، وبمقولة لو تشاو شي “لا تظهر قوتك قبل الأوان، وقبل أن تستكمل عناصرها”.
ولعل الموقف الصيني من الحرب الأوكرانية يدل على استمرار تجنب المواجهة، فمن جهة رفضت الصين العقوبات المفروضة على روسيا، ورفضت وصف الهجوم الروسي بالغزو، وامتنعت عن التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة، وتعترف بالمخاوف الأمنية الروسية، كما عقدت اتفاقات شاملة مع روسيا كما جاء في البيان الصادر عن القمة الصينية الروسية في الرابع من شباط الماضي، ورفضت الاعتراف بانفصال إقليمي الدونباس، حتى لا تشجع انفصال تايوان التي لم تسارع إلى ضمها كما توقع البعض، بل يمكن أن يؤدي ما حصل إلى تأجيل هذه الخطوة الآتية عاجلًا أم آجلا. كما تخشى الصين من مواجهة مع أميركا قبل أوانها عبر استمرار الحرب، ومن وصول العقوبات إليها.
هناك عالم قديم أحادي القطبية يواصل انهياره، ولكنه يقاوم لمنع ميلاد عالم جديد تعددي القطبية، أو يأخذ شكلًا جديدًا لا نعرفه حتى الآن. وبالتأكيد، أي عالم جديد تنتهي فيه السيطرة الأميركية الأحادية على العالم التي عاثت في الأرض عدوانًا وحروبًا واستغلالًا، وتسخير النظام العالمي، وأدواتها عن الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، لخدمة مصالحها؛ سيكون أفضل، أو على الأقل، أقل سوءًا، فهو سيحكم بتوازن القوى والمصالح، ويجب أن تعمل قوى الأمن والسلام والتقدم والعدالة في العالم لكي تضاف إليه المبادئ والقيم والقانون.
ليس صحيحًا أن لا فرق بين الدول العظمى، لأنها كلها رأسمالية، وتدافع عن مصالحها، وعند البعض أنها كلها إمبريالية. صحيح أنه لم يعد هناك معسكر اشتراكي. إلا أن هناك فرقًا واضحًا بين أميركا وما قامت به، ويمكن أن تقوم به إذا واصلت هيمنتها على العالم، وبين عالم تعددي سيتيح مجالًا للدول والشعوب الأخرى للعب على الأقل على التناقضات بين أطرافه.
على الرغم من كل ما يقال عن مساوئ عالم الثنائي القطبية أيام الحرب الباردة، وهو صحيح؛ حيث شهد ثغرات ومشاكل وجرائم وأخطاء ومظالم كبرى أخذت فلسطين نصيبًا كبيرًا منها، ولكنه شهد تقدم حركات التحرر العالمي، واستقلال بلدان العالم الثالث، وظاهرة دول عدم الانحياز، وتقدم النضال الديمقراطي في الغرب، ونهوض الحركة الوطنية الفلسطينية التي أحيت القضية الفلسطينية، ووحدت القضية والأرض والشعب الفلسطيني، وشهد استقرارًا وسلامًا وأمنًا أكثر مما شهده منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
في المقابل، وفي ظل مرحلة السيطرة الأميركية على العالم، شهدنا انهيار التضامن العربي، ودخول العرب في حروب داخلية وفيما بينها، وغياب أي مشروع عربي، كما شهدنا تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وصعود اليمين والعنصرية والشعبوية والتطرف، بما يضع العالم على كف عفريت.