قراءة في رواية “علبة حذاء” لصونيا خضر
د.صافي صافي
تاريخ النشر: 18/03/22 | 7:57خيبات بلغة رقيقة
الرواية الصادرة عن دار أبيدي/ مصر، الواقعة في 223 صفحة من القطع المتوسط للكاتبة صونيا خضر، أثارتني، مما دفعني لأقرأها أكثر من مرة، فليس من السهل اختيار الخط الروائي بسهولة، فهي متشابكة، مغرية للقراءة، ممتعة، فيها من التفاصيل ما هو محبب، بحيث أستطيع القول إنها رواية، وإن تدخلت الكاتبة في أكثر من موقع، خاصة في آخرها، وما علي سوى اعتبار ذلك جزءا من الرواية، لا خارجها. في الجزء الثالث من الرواية، نجد “فصلا” تحت عنوان بيت زجاجي، ربما يكون مدخلا لقراءتي، فيه يلتقي جواد وفادي في بيت في برشلونة، كل لأهداف مختلفة، يطل البيت على حوض سباحة كما في فيلم “sleeping with the enemy” ل “جوليا روبرتس”، إذ تعيش مع زوجها بضع سنوات، حياة مضطربة بين العشق والغيرة والارتباك العاطفي، تخبأ فيه قدرتها على السباحة واللياقة البدنية، فتقرر الهرب، رغم لحظات الحب القلقة، وتنتقل إلى منطقة أمها المريضة، لتقع في علاقة عاطفية مضطربة هي الأخرى، مع مدرس فنون في إحدى الجامعات. ينتهي الفيلم بكلاسيكية الأفلام القديمة بانتصار الخير على الشر، للبدء في مرحلة جديدة. لكن الرواية لم تنته بنهايات سعيدة، وإن بقيت بعض الثقوب التي قد تضيء مستقبلا، فالشخصيات تعيش أيضاً في “بيوت زجاجية”، هشة، وإن كانت تمثل جزءا مهما من الحياة، حتى أن هذه البيوت تصبح الحياة نفسها، فلها حدود كما الدول، فبيت أهل فادي في مخيم اليرموك، له حدود “من الشمال نافذة صغيرة تطل على قن الدجاج الصغير والديك سيء الطباع، ومن الشرق والغرب حائطان رقيقان مصدعان أخفت شقوقهما بالقماش، ومن الجنوب ستارة كثيفة فوق ساتر خشبي يستعمل كباب يزيحونه كلما أرادوا الدخول والخروج من الغرفة” (ص120). علبة الحذاء هي التي حملها فادي، ابن الجليل، ووقف على أبواب المساجد، يستجدي شغلا لا مالا، وهي العلبة التي حمل مثلها الطبيب جواد لاستجداء “فيدا” “أنت مصيري”. فكل أمانيهم تقع على جدار العلبة، تستجدي الحياة، تستجدي الحب والسعادة المتخيلة. كل العلاقات متخيلة، وبعض الأسماء متخيلة هي الأخرى كما “عليا”، بعلاقتها مع المرض من جهة والطبيب من جهة أخرى. جواد في بيت هش في فلسطين، يدرس الطب ويصبح جراحاً بناء على طلب أهله، يتزوج تقليديا من طفلة برغبة أمه، يخلف ابنتان، لكنه يهرب من بيت أهله، ومن زوجته، إلى بيت زجاج، وإلى كتابة الشعر، والكتابة، كتابة الرسائل التي يحب أهله أن يقرأوها، رسائل مباشرة، ورسائل يكتبها لنفسه، يبث فيها مشاعره، وأسراره العاطفية والحياتية. يعيش فترة دراسته في بيت “هش” في ضيافة “تشارلز” و “ألين”، ليتم فيه التعرف على علاقة هشة أخرى. غريب هذا اللقاء بين جواد وعليا في جنازة محمود درويش/ ويظل الموت غلافا للقاء، حتى أنها لم تعد تقرأ أشعاره، وبغضت زوجها “أيمن” المقلد لدرويش. “عليا”، تهرب من مرضها، أو تحاول ذلك، وتهرب من زوجها، وتحاول الانتقام من كل ما يماثله، تنتقم من علاقتها بالرجال من رجل إلى آخر، إلى أن تنتهي بعلاقتها بجواد الطبيب، تستنفذ في ذكريات كل منهما، وهو يهرب في النهاية إلى علاقته ب “فيدا”/ الحياة، التي لا أمل فيها، سوى صورتها، بعد تسريحه من عمله في مستشفيات فلسطين. يعيش في البيت “الزجاجي” في برشلونة الكاتالونية. (هناك تشابه ما بين أربيل العراق، وبرشلونة إسبانيا). فادي الذي ود أن يهرب من حدود المخيمات في لبنان/ مخيم الجليل/ بعلبك، إلى العراق، إلى أربيل، إلى بوخارست، إلى برشلونة، عله يحصل على توريث “أبو أنطوان” له، فهو يبحث عن عمل كي يحافظ على علاقته بسلمى، ويهاجر إلى كندا، ويبقى في ذلك البيت، ويلتقي بخال “سلمى”/ منير الهارب من فضيحته في فلسطين، والباحث عن “ماتيلدا” التي التقط يوما ما صورة لها وجدتها العجوز في ساحات كنيسة القيامة، في ذلك البيت “الزجاجي” الهش، ويعيش على أحلام الوصال معها، ولا وصال. فادي الذي حمل علبة الحذاء، وقع فجأة لرعاية “أبو أنطوان”، وبات يتردد على بيته “الهش”، إلى أن مات، وورث ما أوصى به العجوز. فادي، عانى من “كل تداعيات اللجوء والفقر والتهميش” (ص220)، فتسقط عليه أوهام السفر والمال، وجواد “قضى حياته بتسديد ديون عاطفية”، فخذلته “المرأة الوحيدة التي أحبها” (ص220). لم تكن هناك نهايات سعيدة، رغم بعض بذور الأمل، كل ما جاء في الرواية خيبات وراء خيبات، والهروب من خيبة إلى أخرى، خيبات التواصل عن بعد، دون اتصال حقيقي. رغم كل هذه الخيبات المتوالية والمتشابكة، هناك لغة رقيقة مؤثرة، تجعلك تقرأ الرواية مرة وأخرى. في “المرأة الغريبة وأنا” “لا تدعها تنتظر أكثر، لا تتركها على شفير حافة قد تسقط فيها الفكرة عنك، وأن معاً في هاوية اللامبالاة، الحب كالعمر، عليك الاعتناء به، وتفقده، وتشذيب العشب الطارئ عليه ليبقى بكامل معناه، اغفر لنفسك واذهب إليها متحررا من الغضب الساكت بينكما” (193). “لم أكن طبيبها بقدر ما كانت طبيبتي، ونحن نتشارك التفاصيل العادية لحيواتنا قبل أن نلتقي” (ص164). أما الجزء الأجمل والأكثر رقة فهو “حديث مع أمي” “سألت أمي ذات صباح عن سبب صمتها وهي تعد القهوة لي في واحدة من إجازاتي القصيرة، التفتت إلي وهي تبتسم لتكشف لي سرّ مقايضة سرها فيها، “أصمت يا جواد لذات السبب التي تصمت لأجله” (ص92)، “أنا الأم التي أنهيتم وجودها بمجرد انتهاء الحاجة لها، هل تعرف يا جواد بأنك الوحيد الذي تنبهت لصمتي؟” (ص93)، “نحن الغرباء نبحث دائما عن ملاذ وقنوات للبوح، قراءتي ليومياتك أيقظت الكتابة بي، وجعلتني أتآلف مع شعوري بالوحدة” (ص95). دققوا معي في العبارات المقتبسة، لتغوصوا في رقتها، وتعيشوا ألمها. هذه هي الرواية، خيبات بلغة رقيقة. هل هي حياتنا نحن الفلسطينيين، خيبات متتالية، وكلما أوشكنا أن نخرج من واحدة، ندخل في أخرى؟ هل هو الواقع بفظاظته؟ أين دورنا نحن الكتاب من هذه؟ هل الأمل بلقاء الأحبة في الغرب هو الحل؟ هل اللقاء في رام الله يعتريه المرض؟ ورغم ذلك نكتب بلغتنا الإنسانية الرقيقة، بلغة مشاعرنا، بلغة تخيلاتنا البعيدة عن الواقع. نكتب ذواتنا/ حيواتنا في مخيمات سوريا ولبنان، وكردستان، وبرشلونة، ورام الله التي ودعت محمود درويش، واجتمعنا مرضى عضويين، ونفسيين في أزقتها، ومطاعمها. بحثت عن الأمل، عن ضوء في آخر النفق، فوجدته أكثر في اللغة الناعمة، لأحداث الخيبات. كم هي قاسية أحداث الرواية! كم هي جميلة هذه اللغة الناعمة! فالبوح ليس بوح الكاتبة، وإنما بوح الشخصيات المهتزة داخليا وخارجيا.