مع قصيدة محمود درويش “يطير الحمام يحط الحمام”
بقلم: شاكر فريد حسن
تاريخ النشر: 22/03/22 | 22:20حين تقرأ نصوص الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، تندهش وتهتز لفرادته وشموليته وعمقه، ومن قصائده الجميلة الرائعة المبهرة “يطير الحمام.. يحط الحمام” التي يغنيها مارسيل خليفة، وتتسم لغتها بالسلاسة والصفاء، ويأتي المشهد الحسي فيها على سجيته، ما ساعده على اقتناص اللحظة الجمالية والوثوب إلى جوهر الأشياء، فيقول:
يطير الحمامُ
يطيرُ الحمامُ
يَحُطُّ الحمامُ
أعدِّي لِيَ الأرضَ كي أستريحَ
فإني أُحبُّكِ حتى التَعَبْ …
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساءُ ذَهَبْ
ونحن لنا حين يدخل ظِلٌّ إلى ظِلِّه في الرخامِ
وأُشْبِهُ نَفْسِيَ حين أُعلِّقُ نفسي
على عُنُقٍ لا تُعَانِقُ غَيرَ الغَمامِ
وأنتِ الهواءُ الذي يتعرَّى أمامي كدمع العِنَبْ
وأنت بدايةُ عائلة الموج حين تَشَبَّثَ بالبرِّ
حين اغتربْ
وإني أُحبُّكِ، أنتِ بدايةُ روحي، وأنت الختامُ
يطير الحمامُ
يَحُطُّ الحمامُ
أنا وحبيبيَ صوتان في شَفَةٍ واحدهْ
أنا لحبيبي أنا. وحبيبي لنجمته الشاردهْ
وندخل في الحُلْمِ، لكنَّهُ يَتَبَاطَأُ كي لا نراهُ
وحين ينامُ حبيبيَ أصحو لكي أحرس الحُلْمَ مما يراهُ
وأطردُ عنه الليالي التي عبرتْ قبل أن نلتقي
وأختارُ أيَّامنا بيديّ
كما اختار لي وردةَ المائدهْ
فَنَمْ يا حبيبي
ليصعد صوتُ البحار إلى ركبتيّ
وَنَمْ يا حبيبي
لأهبط فيك وأُنقذَ حُلْمَكَ من شوكةٍ حاسدهْ
وَنَمْ يا حبيبي
عليكَ ضفائر شعري، عليك السلامُ
يطيرُ الحمامُ
يَحُطُّ الحمامُ
رأيتُ على البحر إبريلَ
قلتُ: نسيتِ انتباه يديكِ
نسيتِ التراتيلَ فوق جروحي
فَكَمْ مَرَّةً تستطيعينَ أن تُولَدي في منامي
وَكَمْ مَرَّةً تستطيعين أن تقتليني لأصْرُخَ: إني أحبُّكِ
كي تستريحي?
أناديكِ قبل الكلامِ
أطير بخصركِ قبل وصولي إليكِ
فكم مَرَّةً تستطيعين أن تَضَعِي في مناقير هذا الحمامِ
عناوينَ روحي
وأن تختفي كالمدى في السفوحِ
لأدرك أنَّكِ بابلُ، مصرُ، وشامُ
هذه القصيدة لم يكتبها درويش من فراغ، وعندما قال “أعد لي الأرض كي أستريح فإني أحبكِ حد التعب”، فقد كتبها وخاطب فيها امرأة تدعى حياة الجيني، وهي مترجمة مصرية، رآها في إحدى الأمسيات الشعرية التي دعي إليها، فوجدها هناك تضحك وتمازح رفاقها وتتحدث مع أصدقائها، فتعرف عليها وتبادلا بعض الكلمات الجميلة، وفي هذه اللحظة خفق قلبه وارتعش صدره، وكان درويش متزوجًا من رنا قباني بنت اخت الشاعر السوري نزار قباني فانفصل عنها وطلقها بعد ثلاث سنوات. وهكذا بدأت قصة حبه مع هذه المرأة، التي أعجب بها وتزوجها فيما بعد في منتصف الثمانينات، فعاش معها أيضًا ثلاث سنوات، وخلال هذه الفترة كتب قصيدته هذه “يطير الحمام”، وعندما سمع مارسيل خليفة بهذه القصيدة طلب من درويش أن يغنيها، فرفض درويش في البداية لأنها كانت قصيدة شخصية، لكنه وافق بعد ذلك أن يغنيها مارسيل.
وعن سبب انفصال درويش وحياة الجيني، يقول بعض أصدقائه أن درويش كان ضد الزواج لأنه باعتقاده إنه يعطله عن شعره وكتاباته، وثمة أمر آخر أفصح عنه درويش بنفسه، فقال:” لا أريد أن أجلب لاجئًا جديدًا للبلاد”.
والقصيدة كقصائد درويش في الحب والوجد، مثل “مقهى صغير هو الحب” و”ريتا والبندقية”، يبث فيها لواعج الحب تجاه أنثى بعينها، ويدمج فيها جدليًا بين عشقه للمرأة وحبه للأرض الوطن، وفي كل قصائده في العشق يحضر الوطن بصورة مباشرة.
وتكشف هذه القصيدة عن مقدرة درويش على توليد المعاني، وابتكار الصور الشعرية الجديدة، واللجوء للاستعارات وتكثيف الدلالات، بتوظيف لعبة من الألعاب الشعبية للتعبير عن حبه للمرأة والوطن المغتصب السليب.
وما يسم القصيدة البناء الفني المحكم، وعمق الرؤية الفكرية والغنائية المدهشة العذبة، وقدرة درويش على توظيف التراث الشعبي، للتعبير عن الهم العام من خلال التجربة الذاتية الخاصة، هذا فضلًا عن أن القصيدة غنية بالدلالات عن الحب والأرض والأمل والتفاؤل، ويتجلى ذلك بقوله:
يطيرُ الحمامُ
يَحُطُّ الحمامُ
أعدِّي لِيَ الأرضَ كي أستريحَ
فإني أُحبُّكِ حتى التَعَبْ …
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساءُ ذَهَبْ
وفي الإجمال، هذه القصيدة نص مميز بجماله، ورقة ما فيه من حروف معطرة للحبيبة التي سكنته، وسحر الكلمات، وحبر سري للكتابة، وقد استفاد درويش من اللعبة الشعبية البسيطة “طار الحمام حط الحمام” في تدوين قصيدته، التي تُعد من أجمل القصائد في الشعر الفلسطيني والعربي الحديث.