دروب الشوك

حسن عبادي/حيفا

تاريخ النشر: 23/03/22 | 13:25

حين بدأت بقراءة كتاب “فارس والحكاية – دروب الشوك” للكاتب الفلسطينيّ الأسير المحرّر توفيق عبد الفتاح (الصّادر عن “الرعاة للدراسات والنشر/ جسور ثقافيّة للنشر والتوزيع، يحوي في طيّاته 162 صفحة من الحجم المتوسط، تصميم الغلاف: رامي قبج) جاءني ما كتبه الناقد فراس حج محمد: “لقد علمني كتاب “فارس فارس” لغسان كنفاني الكثير… والغريب في الأمر أن قلة قليلة من الكتاب من ينتبه له، ولعل شهرة غسان القصصية والروائية جعلت هذا الكتاب في الظلّ، ولم يلتفت إليه إلا الدارسون أو بعضهم فقط” وحين أنهيت قراءته تساءلت بيني وبيني، هل اختار توفيق اسم “بطله” تيمّنًا بفارس الغسّاني؟ تمامًا كما فعل أسير التقيته في سجن إيشيل ببئر السبع، استشارني في اختيار اسم يوقّع به مقالاته من داخل الأسر، فنصحته الابتعاد عن فارس فارس وهالته، فهذا خط أحمر، وها هو الكاتب يختار لنفسه اسم مستعار “فارس”.

يبدو الكتاب محاولة كتابة سيرة صاحبه الذاتيّة رغم أنّه وُصف في صفحة الحقوق تحت تجنيس “الروايات العربيّة”، تناول بدايةً طفولته الجليليّة، ابن كوكب أبو الهيجا، أحراش وعريّة بين ضميدة وبير المكسور، وزراعة التبغ التي اندثرت كغيرها بسبب محاربتها من قبل الدولة لتكريس التبعيّة للمحتل واقتصاده.

تحدّث عن تمرّده منذ الصغر؛ الانزياح التمرّدي، التمرّد العقلاني والتمرّد الحياتي من هروب عن مقاعد الدراسة والهروب من البيت ومن القرية إلى المدينة البعيدة. عمل سنوات في المطاعم والزراعة في البلدات اليهوديّة حتى حقّق حلمه وعمل كسائق شاحنة ومشغِّل لجرافة ضخمة. يا له من حلم! وجاءت نقطة التحوّل في وعيه بتأثير من أخيه ولم يذكره باسمه، عوض، (ذكره بسياق وحيد حين ذكره قرينًا لعزمي بشارة ص. 88) الذي وبّخه حين عاد للقرية الوادعة بقلادة عنق عبارة عن رصاصة “عوزي” قائلًا: “أنت تتباهى بالرصاص الذي قتلوا ويقتلون به أبناء شعبنا؟” الذي وجّهه للقراءة ليشق دروب الشوك لينتصر على القهر ليصير ناشطًا في حركة أبناء البلد. تحدّث عن تأثّره بالشقيق الأكبر “القدوة والناشط السياسي لاحقًا”

يتناول مظاهرات إحياء ذكرى يوم الأرض والاعتقالات المتكرّرة، له ولإخوته، ومجايليه، وفترة الاعتقال والسجن وأثرها عليه، وبالأخصّ تثقيفيًا وتعبويًا. هناك خلف القضبان كان لقاء الكلّ الفلسطيني وتبلورت شخصيّته وفكره.

تحدّث عن تجربته الاعتقاليّة، ظاهرة “العصافير” سيئة الصيت وغرف العار، والحياة خلف القضبان،
كما ويتناول ظاهرة العمالة ومحاولات الاحتلال للاختراق الأمني وتجنيد عملاء له بالإغراءات الماليّة “بيت في دينيا الحيفاوية وسيارة من الوكالة” ثمنًا للحريّة، ولم ينسَ وليد دقّة وميلاده.

يعرّج على عتبات في مسيرته المهنيّة والنضالية ولا ينسى صحيفة “فصل المقال” وزميله سليمان أبو ارشيد، يتناول دور خالد وداهود تركي في زواجه، وتذليل العقبات والموانع وغيرها ولا ينسى زملاء الأسر.

وجدت الكتاب نصًا سرديًا مفتوحًا، عنون فصوله وجاءت غالبيّتها موفّقة تتلاءم والنص، تحمل رسائل توعويّة ومفاصل في حياة الكاتب ومسيرته والتبئير على محطّات وعتبات تجذب القارئ؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، مرحلة التحوّل، الاجتياح والتحولات، الاستغفال والشرك القذر، هل ينتصر فارس على القهر؟ فارس يتدارك الوجهة، محكمة، وغيرها، ولكن بعض العناوين تبدو نرجسيّة وطبطبة على ظهر صاحبها، وهو بغنى عنها، وكان عليه أن يتركها للمتلقّي ليقلّده تلك النياشين التي يستحقّها وبجدارة؛ على سبيل المثال: هل تنكسر روح فارس؟ هل ينتصر فارس على القهر؟ هل لزواج فارس حكاية أخرى؟ هل وصلت الرسالة؟ فارس لا ينكر الجميل ولكن، فارس بلا مكاسب وبلا مناصب.
ينتقد الأسير الذي يخرج من باب السجن ولا يكترث بمن وراءه، والانتهازي الذي درس ببعثة حزبيّة ويعود ناسيًا ماضيه وهمّه الوحيد، الغنى والمظاهر، ومتنكّرًا لتاريخه وقضايا شعبه، فيصير وصوليًا انتهازيًا، ويذكر بالخير موقف أطباء الأسنان طلال مريسات، وعادل بيادسة اللذين يتعاطفان مع الفقراء والمحتاجين من أبناء شعبهم.

يحاول الكاتب تتبيل السيرة بأحداث تاريخيّة غُيّبت وهُمّشت حين يذكر عمليّة قدوم فدائيّين من مجد الكروم وعكا من لبنان طريق البحر في مهمّة مقاومة والشهيد العكيّ عبد العال.

يحاول أحيانًا فلسفة الأمور والتنظير، فيغلب عليه طابع المناضل السياسي المنظّر والمهيّج، وعلى سبيل المثال، “يدرك لاحقًا بأنها الصهيونيّة، هي التي تفسد في الأرض وليست اليهودية”، ويستطرد أحيانًا في التنظير التوعويّ (ص. 63) وكذلك حين يحاضر على مسامع القارئ (ص. 93)

لقرى الشمال الفلسطيني حضور مكثّف في الكتاب، ضميدة، وبئر المكسور، والبصّة المهجّرة، ومجد الكروم، وسخنين، وعرابة. ولكن غيّب دور بلدته ومسقط رأسه “كوكب أبو الهيجا”، وهذا يُحسب عليه، أين عربون الوفاء يا توفيق؟ كما غيّب اسم مؤسّسة “عدالة”.

أرفق السيرة ببعض “التقارير” الصحافية والمقالات والعناوين، (ص. 113 وصاعدًا) ممّا أضعفت السيرة والمسيرة، بغضّ النظر عن مضامينها، فجاءت دخيلة وهجينة على الكتاب؛ “يامن زيدان.. من سجان سمير القنطار إلى محاميه”، “محاربة العنف لا تأتي من أهل العنف..”، “انتخابات السلطات المحلية كمصدر للعنف”، “الاجرام المنظم”، وغيرها من الربورتاجات الصحافيّة (“في ذكرى الاجتياح: عرب 48 يعود إلى مخيم جنين… آثار في كل مكان”، “زبيدي: ندفن موتانا وننهض.. إرادة وروح المخيم اليوم مشابهة للروح في زمن الاجتياح”، “الزيارة المقدسة للبطريك للراعي: في الصلب وما على الهامش”).

جاءت لغة الكتاب سلسة وأسلوبه عفويّ مشوّق في جزئه الأوّل (حتى ص. 112) تحكي حكاية شعبنا الباقي في أرضه ووطنه رغم دروب الشوك التي مرّ بها ليبعث الأمل في الأجيال القادمة ويوصل رسالته الواثقة: هنا باقون.

تجربة كتابيّة مغايرة ولافتة للنظر، حقًا، كتاب جدير بالقراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة