بركان الهروب.!

قصة بقلم: يوسف جمّال - عرعرة

تاريخ النشر: 30/03/22 | 9:49

أمس كنا في جنازة خالد .. صديقي القديم .. كانت له جنازة
متواضعة , توفي أثر مرض عضال ألم به , ولم يمهله كثيرا.
قبل وفاته بأشهر قليلة, بدأت ألتقي به في المسجد , " تُزيِّن"
وجهه لحية سوداء, كانت تطول وتتكثّف, حتى كادت تخفي معظم
معالمه , فلم تبق إلا عينين صغيرتين ,تختفيان وراء ستار,تطلان
من خلفه ,لتسرقان حفنات من صور العالم الخارجي , ومن ثم
تعودان للإختباء خلف هذا الستار .
وكنت " أمسكهما بالجرم المشهود ", تختلسان النظر أِليَّ .. إِلى
الصديق القديم !
وفي طريق عودتي من المقبرة الى البيت , عرجت الى بيته لأقدم
واجب العزاء لزوجته .
ولما لمحتني أدخل من بوابة بيتهم , تركت المعزيات , وتقدمتْ
لتقابلني في ساحة الدار, لتتقبَّل مراسم عزائي لها , سرقت نظرة إلى
وجهها فلاحظت آثار بقايا دموع لم تستطع محوها.
" أني بحاجة لمقابلتك لأمر هام !" سلتْ همسة من بين تدافع مشاعر
فائرة كادت تخنقها .
فخرجت من بيتهم , وأنا أحمل على كاهلي حملاً, كنت قد رميته منذ
زمن طويل , في مناطق بعيدة عن تفكيري.. كان يحاول العودة الى
دائرة خيالاتي القريبة , فأطرده دون شفقة أو رحمة , ليعود الى
مكانه بعيدا عن حياتي .
كان ذلك قبل خمس سنين ..
" سأتقدم لخطبة لبنى ! لقد فاتحتها في الأمر أمس .. وأنت الأول
الذي نزف له الخبر !"

هكذا اقتحمني صديقي خالد .. اقتحمني ,دون ان يترك لي الفرصة,
لِأَبني لي حواجز أحمي بها نفسي , ان أربط شهقات روحي , أن
ابني لي ميناء, ومجدافا لقاربي ,كي أصل اليه هاربا, من الحوّام
الذي رماني فيه .
أحببت لبنى بما لم يحب حبيب لحبيبته .. رأتها في كل نظرة مني
تداعب أحاسيسها المتلهفة .. انتظرتني طويلا كي تسمعها مني ..
كلمات تنقذها من هذا التيه ,الذي تضيع في سرابه .. مجداف يجعلها
تتحسس المسار ,الذي سيوصلها الى ميناء , كانت تحلم ان تصل اليه
.. ولكني بقيت أتخبط في حوّامات عجزي , وبقيت الكلمات محبوسة
وراء لساني, وأبقيت أسماعها عطشى حتى لها حتى أصابها اليأس
مني !
لملمت شظايا روحي وفلقات تحطمي , وهربت الى حرم
الجامعة في حيفا ,أحتمي به, وأحاول أن أرمم احساساتي المكسورة
, وأبني لي قوقعة, تحميني من سياط الموقف , وقناعا يستر افتضاح
مشاعري.
لماذا طلبت لبنى مقابلتي !؟ أتحررها من قيود خالد بعد رحيله
دفعها لهذا !؟
" هل أحبت لبنى خالد قبل ارتباطهما معا !؟ أم ان حباً نما بينهما
بعد الزواج ؟ أم أنهما عاشا معاً حياة بلا حب !؟ هل مازال بقايا من
حب لي دفين في ثنايا قلبها , وآن الأوان كي تبوح لي به .!؟ أم تريد
معاتبتي , على تركها لقمة سائغة لخالد !؟
ورجعت بعد شهرين الى البلد .. لأجد أن ما بنيناه قد اندثر .. النادي
والنشاطات الثقافية والتطوعية التي قمنا بها في نطاقه .. الفرقة
المسرحية .. والعلاقات الرائعة , التي بنيناها بين مجموعة الشباب ,
والتي كنا – أنا وخالد ولبنى- على رأسها .. والتي استغرق بنائها
سنين من الجهد المضنّي , تبخرت في لحظات قليلة ..
وغاب خالد في وظيفته الحكومية التي حصل عليها من مِنَن
السلطات عليه مقابل خدماته .. وغابت لبنى بين طلابها في مدرسة
القرية ..

وأصبحت حيفا هي ملاذي الذي يحتويني , والضياع الذي
يحميني.!
إِن استدعائي من قبل جهاز الأمن, لم يكن غريبا علي , فقد
اعتدت عليه منذ ان بدأت فرقتنا الثقافية , تمارس نشاطها في القرية
, كان هدفهم معرفة وجهتنا , والى ماذا نريد ان نصل , وإِفهامنا أننا
تحت المراقبة , و" دبِّ " الخوف في قلوبنا .
ولكن الذي أثارني ,وجعل الدنيا تغيم في وجهي , وان أكفر بكل
ثوابتي في هذه الدنيا , عندما بدأ رجلهم برميي باتهامات كنت أنفيها,
وأُفشِل كل محاولاته لهز كياني وإخلال توازني ..
ولكن فجأة رماني بصخرة غشيمة أطاحت بي, وأعمت بصيرتي :
" أنت مشترك بجريدة الاتحاد الشيوعية! " صرخ بي كأنه وجد
السلاح الذي يفتك بي ..
وأنت قبل شهرين كنت مديون لموزِّعها ثلاث عشرة ليرة
ونصف!"
أكمل بكلمات تحمل كل معاني الزهو والانتصار, والتي تقول "
مسكتك بالجرم المشهود . , وأننا نعرف عنك كل شيئ .!.
لم يكن يهمّني أن يعرفوا أنني مشترك في جريدة الاتحاد , فلم يكن
هذا سراً , فقد كنت استلمها على رؤرس الأشهاد , ولكن الذي
"طيَّرَ" صوابي هو:
" أن صديقي خالد هو الوحيد الذي كان يعرف مقدار مديونيتي
لموزع الاتحاد !" .
هل تريد لبنى ان تقابلني , من أجل أن تطلب مني مسامحة خالد
على ما سبب لي من أذى !؟ ربما تريد عن طريقي, أن تعتذر لكل
الناس الذين أساء أليهم !؟
" وكَبُر " خالد وأصبح من ذوي "العز والجاه " , وأصبح "يُغمِّس"
من صحن السلطة , و" يُزيِّن "صدره بدماء جراح الناس .
.. حتى داهمه المرض العضال .. فأطلق لحيته والتجأ الى المسجد
يحتمي به , واحتمى بصوم رمضان يطهره , وبالحج لعله يعيده
بريئا كما ولدته أمه .!

ولم يمهله المرض طويلاً .. مات أمس .. ولا أستطيع تفسير
أو أعطاء جواب للسؤال الكبير, الذي يعذِّبني ويعذّب كل من حولي
:"لماذا سرتُ في جنازته !" بالرغم أنني رفضتُ كل الضغوط ,
التي نبعتْ من داخلى , والتي أتتْ من الذين حولي ,فلم أحضر
عرسه ,ولم أهنئه بميلاد أولاده الثلاث , ولم أعوده في مرضه , أو
أهنئه في حجته .!
واختارتْ لبنى "حديقة الأم" الحيفاوية ,لتكون مكاناً نلتقي به ..
جلستْ بجانبي على المقعد , وانفجرت في بكاء محموم , ترافقه
موجات من شهقات متقطعة, وأنا متجمِّد لا أدري ماذا أفعل وماذا
أقول , وبعد محاولات محمومة, استطاعتْ ان توقف سيل بكائها
وتخرج من بين الشهقات كلمات مبتورة :
– رامي إنني أقف على حافة بركان .!
– …!
– لا بد أن أهرب قبل أن أجد نفسي داخل فوهته !
– الهروب لا يغير الواقع يا لبنى .. أنه يلاحقنا .. إنه في
داخلنا..!
– إنني أرى " عمايل " رامي في البيت .. في الشارع .. في
عيون أهل البلد ..أنها تلاحقني .. تنهش من لحمي الحيّ ..
قالت وهي تبذل جهوداً يائسة من أجل أن تمنع نفسها من
العودة إلى حالة البكاء .
– ولكن كيف ستهربين من نفسك !؟ رددت والدهشة تقطِّعني .
– قل أنني كنت شريكة معه في " عمايله " ! إنني ما جئت إليك
إلا لتقول لي هذا !! صرخت كالجريح الدامي .
– ماذا تريدين مني الآن !؟ قلت محاولاً تخليص نفسي من هذا
الجحيم الذي وقعت بين أنيابه .
– أن تساعدني في إيجاد شقة لي ولأولادي في حيفا !

وبعد أشهر طلَّ علي خبر من صفحة داخلية لأحدى
الصحف : "أم لطفلين حيفاوية تضع حداً لحياتها في
شقتها !"
كانت هي .. لبنى !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة