فلنرحم صلاح!!!
حسن عبادي/حيفا
تاريخ النشر: 17/04/22 | 15:59عرفت الشاعر صلاح عبد الحميد عبر كتاباته، على الشاشة الزرقاء ومن ديوانيه: “عيون الزهر” و”حقول العمر”؛ ومن خلال تلك الأشعار وجدته محبًّا للوطن وتغزّل به، تشبّث بالأرض وعشقها، لازمه التهجير فتساءل في قصيدته “لو عُدتُ طفلًا” لماذا تهجّرنا؟
حلم بالعودة لأبناء شعبنا فجاءت أشعاره حبلى بالحنين كما لمست في قصيدة “المضيق” وفي قصيدته “تخطّي الحواجز”.
تغنّى بالوطن السليب في الكثير من أشعاره، بعيدًا عن المقولات المنبريّة العصماء، فرأى به معشوقته فناجاها (قصيدة “لكِ الشمس”) قائلًا:
“لكِ السّحُبُ التي
تَزدان بالمطر
لك المطر الذي يَهمي
ويروي الأرض كي تُبقي
لنا الأزهارَ والعِطرا
….
لكِ العمر الذي يكبُر
أيا بَلدي”
وكانت نكبتنا المستمرّة حاضرة في أشعاره وهو القائل: (قصيدة “نَكبَة”):
“هي نَكْبَة حَلَتْ عليْنا
دَمَّرَتْ أحْلامَنا
في أنْ يكونَ لنا وَطَنْ
بَيْتٌ لِيَأوينا
….
سبعونَ عامًا في اختناقٍ وانتظار
وعُروبةٌ ما همّها هذي الدّيار
فَعسى النّهارُ يلوحُ مِن شِقِّ الظلام
وربّما يبقى النهارُ وما حوى في الانتظار”
عشق صلاح سخنين وتغنى بها (قصيدة “سخنين”):
“سَخْنينُ” يَقْتُلُني الْهَوى وَهَواها
قَدْ رَدّني حَيًّا فَهَلْ أنْساها؟!
…
ذهبٌ ثَراها لا يُباعُ ويُشتَرى
وجمالُ ماءٍ في الصّفا قدْ تاها”
لفتت انتباهي لغته الشاعر الانسيابيّة، من مدرسة السهل الممتنع، بعيدة عن شدّ العضلات اللغويّة والمجمّلات البهلوانيّة الاستعراضيّة، ولم يلجأ لتجنيد الأساطير بابتذال.. بسّط فأبدع.
عرفت صلاح بتواضعه، وجد في الحرف والقصيدة متنفّسا، اقترح غيره للمشاركة بعكاظيّات رتّبتها في حينه بأمسيات نادي حيفا الثقافي، وحين توجّهت له للمشاركة في برامج تلفزيونيّة اقترح غيره وكثيرًا ما لفت انتباهي لأقلام واعدة تنقصها البكّاءات واللوك الطمبوري المتغيّر كلّ صباح عبر الشاشة الزرقاء.
“قفرَ” صلاح المستشعرين عن كثب، تذمّر من نرجسيّتهم المفرطة وشغفهم بالمنابر والمنصّات، فقال في قصيدة “قالوا لها”:
“قالوا لها:
لا يعشقُ الشُّعراء غير حروفِهم
كلماتُهُم معسولةٌ
وقصائدٌ مجبولةٌ بالكذبِ..”
إنّ تكريم الأحياء في حياتهم أبلغ منه بعد وفاتهم، لكنّ هذا هو العُرف الذي جرى بيننا حتى عبّر الشاعر الفخر الرازي عن ذلك بقوله:
“المَرءُ ما دام حيّا يُستهانُ به ويَعْظَمُ الرُّزْءُ فيه حين يُفتَقَدُ”،
ويأتي التكريم للأحياء في حدّه الأدنى بالثناء العاطر والتوثيق، فالتوثيق هو أدنى مراتب التكريم, وإن كان عندي أعلاها، لأنّه هو الذي يبقى.
مؤسساتُنا تُكرِّم مُبدعينا بعد أن يُكرّمهم التراب!! فهنا احتفالية بذكرى رحيل فنان، وهناك تكريم لراحل ملأ الأرض والسماء شعرا وجمالا وبياضا، وهي بلا شك لفتات جميلة لمن أفنَوا حياتَهم في سبيل الفن والإبداع شعرا ونثرا، مسرحا وموسيقى، ولكن المُؤلم أن نحتفي بهم أمواتا بعد تهميشهم أحياء.
وكما يقول المثل الجزائري: عندما كان حياّ كان يشتاق إلى ثمرة وعندما مات غرسوا نخلة جنب قبره .
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
شاعت في الآونة الأخيرة ظاهرة التبجّح والمغالاة في نشر إعلانات النعي حين يتوفّى أحد المشاهير، تنضح الصفحات الفيس بوكيّة بصورة صاحب/ة الصفحة برفقة المتوفّى.
والأنكى من ذلك؛ حين يتوفّى فلان تمتلئ الصفحات بالنعي، وكلّ منّا يختلق علاقة مع المرحوم و/أو يفبرك صورة تجمعه به، يمجّد علاقته “الحميمة” به (أحيانًا صورة فوتومونتاجيّة تجمعهما!) وواضح منها التدفّؤ بعباءة الميّت. “شاب تغرّب وختيار ماتت جيالو”، وكأنّي بالميّت يبتسم في وجه كلّ منافق فينا صارخًا: “وين كنت كلّ هذا الوقت؟!”
حدّثني صديق سخنينيّ بنكتة في هذا السياق؛ كان بطرس سكّيرًا وعلمانيًا، بعيدًا كلّ البعد عن الدين، طقوسه وواجباته، ساعة جُنّازِه في الكنيسة أقام مطران الطائفة الصلاة والمراسيم، أطال في مدح بطرس وتديّنه فقام أحد المصلّين وقال: بكفّي سيّدنا، بطرس كلّنا عارفينو، كان في الكنسية مرتّين، يوم ما تكلّل واليوم!
كأنيّ بصلاح بيننا، واقفًا جانبًا مبتسمًا ابتسامته الخجولة، ويلقي على مسامعنا من الصفوف الخلفيّة، كما عوّدنا” قصيدته “زِدْ في الغياب”، مجيبًا على ما كتبه مؤبّنوه على صفحاتهم وما نقوله اليوم:
“لا تطلبي مِنّي إذن
وطنًا إذا ما سالَ من عَينيكَ
شوقُ أو شجَن
لم يبقَ حولٌ ليُبقيني معِك
…
لا تَسألي عَنّي غدًا
إن غِبتُ عَنكم واختفيت
لا تبحثي بين القصائدِ والصُّوَر
عني ولا بينَ الأماكِنِ
حيث كُنّا نلتقي”
لك صديقي صلاح، وصرت راحلًا!!!، كلّ الرحمة والسلام.
***كلمة في أمسية منتدى القلم في الذكرى السنوية لرحيل الشاعر صلاح عبد الحميد الذي توفي يوم 17.04.2020