“مقاش” رواية السجن الكبير…

خالديه أبو جبل

تاريخ النشر: 19/04/22 | 20:30

“مقاش”
سيرة روائية للكاتبة الفلسطينية سهام أبو عوّاد.
الناشرون: وزارة الثقافة ، عمان ،الاردن
2019
“مقاش” “מגאש” بالعبرية، وهو طبق لتقديم الطعام تمت تجزاته ليقدم به اكثر من نوع من الطعام.
وقد سكبت المبدعة سهام ابوعوّاد سيرتها الروائية في هذا المقاش بمهارة وابداع ادبي و فني رائع،
يجذب القارئ لتناول وجبته بسرعة
وبدون توقف…
فالوجبة أدبيّا ولغويا وفنيّا شهية بدون ادنى شك، فقد قدمت لنا الكاتبة رواية متينة من حيث الحبكة والسرد والتشويق، بلغة عذبة رائقة وراقية هي شعرٌ منثور
“أطلت هذه الطفلة من شرفة جبيني بخفةٍ، ثم نهضت متثائبة وهي تتململ كطائر كبّلوا جناحيه اعواما طويلة… نظرتْ الى موطئ قدميها على الارض… أسدلتُ لها أهدابي مثل سُلّم كي تهبط الى الحياة…”
أمّا فنيّا فقد جزّأت الكاتبة روايتها
الى أجزاء تماهيا مع تجزئة “المقاش”
وكأنها تطلب منّا الاستراحة والتقاط الأنفاس ما بين كل جزء وآخر،
لانها تعلم مُسبقًا مرارة طعم الوجبة
ووجع وقع السّرد و الأحداث.
…..
فما كان طعم وجبة سهام ووالدها واخوتها باشهى من وجبة الام الاسيرة داخل السجن، فإن كانت الأخيرة ينعدم فيها الغذاء اصلا، وجبة تزينها جثث الديدان، وفاصوليا مطبوخه بماء البيض المسلوق، وشاي مع بقايا شعيرات ذقون الاسرى الرجال…!، فقد افتقرت الوجبة الاولى للام، لرائحتها ودفئها وطعم طبخها وتلبيتها لرغباتهم المختلفة، وجبة علا وجه اطباقها الحرمان والقلق والشوق، وجبة تُكّرس الاحساس بالجوع ولا تقضي عليه…
فكيف اذا كان الحديث عن فاطمة ابو عواد، أم بحجم وطن ارتسم وجهها في كلّ الاشياء من حولهم
في حكايات اهل الحي عنها، وفي تعاويذ صنعتها نسوة تعلمن فن الصبر على يديها،
” كانت تجمع الابتسامات من فوق شفاه اليتامى كلما تسلّلتْ خفية لتضيء ليل يُتمهم بابتسامتها الدافئة
حين تمسح بكفّها بعض الذل عن وجوههم….”
أم بهذا الحجم من يستطيع ان يرتدي ثوبها ويقوم بدورها دون تلعثم وقلق وخوف من سقوط؟
لكن السؤال يلقى إجابته لدى الطفل الفلسطيني الذي حُكِّم على طفولته بالاعدام ” آهٍ من وطن تمرُ به كل الأجيال الّا جيل الطفولة”.ص105
” فالطفل الفلسطيني ينهض من رحم امه وهو مستعد لخوض الحياة المحتلة، والايام المحتلة، والاحلام المحتلة أيضا، ويغمس الحليب بالتراب ليصير مولود الام والارض معا!”ص51
ومستعدٌ ان يكون أسيرا كاتبتنا الرائعة سهام، أسيرٌ خلف القضبان يحكم عليه بعشرات سنين من القهر والعذاب، وأسير خارج السجن حكّم عليه بالقهر والعذاب ايضا، وتحمل مسؤولية سدّ فراغ الغُيّاب!
هي لحظة فارقة، لحظة القبض على فاطمة متلبسة بحب الوطن تُدّثر أوراقه بصدر ثوبها الفلسطيني،
لحظة تخلع فيها سهام طفولتها لتخبئها في جيب هذا الثوب بعد ان ترتديه، لتصبح سهام الأم والاخت والمربية والمسؤولة الاولى في هذا البيت، بعد خطاب لم يتجاوز النظرات ، لا تتقنه الا الام الفلسطينية مع ابنتها ،
“- أنا أثق بك يا سهام
– ثقي بي يا أمي…” ص32
من هذه اللحظة تبدا معركة سهام مع الحياة، ثوبٌ طويل الاكمام ترفعهابحزمٍ كلما ارتخت ، وتزّم خصره بخيط من صبر وعزم كلّما حاول الكشف عن طفولتها،
تحمل همّ اب صامد وصابر ، وهم أخوة يكبرون على عينها ويدها،
واخت تبحث عن امٍ في حضنها،
فيبتلعهما الحلم بحضن امهما معا،
تغوص سهام بأعماق أمها وهي البعيدة القريبة التي تحيا على ذات الثرى- وبافكارها لتعيش القلق والخوف بكل أشكاله.
“ترى هل تحلم امي كما تحلم كلّ نساء الكون بارتداء الملابس الجميلة؟…،
…وانا واثقة من انها تقيات عمرها وهي تهرب من فكرة اننا قد نكون فريسة لمستذئب قد ينال منّا انتقامًا
منها، او في أي طارئ قد يتورط به احد أخوتي،…”ص53
في لحظات ألم مشروعة تشتاق سهام الام، سهام الطفلة، فتسخط على الحياة وعلى كل من حولها بما فيهم امها، التي ترى بهم سببا لهروب طفولتها من الحياة…
تبوح لفراشاتها بما تخبىء نفسها في لحظات طفولية ، لتعود وتلملم شتات نفسها تحتضن أختها وتربت على جيب في الثوب اودعته طفولتها، وعلى قلبها المرتجف، لتنام…
تركب سهام سيارة سفر تقودها الى الأمل والألم، هي ذات السيارة التي تنقل الأسير من سجن لآخر بمواصفاتها ووقاحة وصلافة حراستها، لكنه سؤال يحاور الدّمع
ويقّر بدء موسمه، أفليس المسافرون
هم أسرى ايضا؟ أسرى لأكثر من سجان، ولملايين القضبان، ولا اعرف اين ابدا ولا اين أنهي !
أابدا بالتشرذم والخيانة وتلون الاقنعة و…و أنهيها بالاحتلال ؟
كلُها مجتمعة من اضطرت طفلة للتوحد مع والدها والمقعد والصمت،
سيارة حملت بداخلها انكسارات شعب وانتصاراته، ضعفه ومقاومته
أمله وقلقه…
ترى هل جرب هذه الرحلة السوداء
غير طفل فلسطيني يبحث عن إسقاط اليُتم عنه للحظات، عبر لقاء
محظور عليه الاحتضان والتقبيل،
لأسباب أمنيّة؟!
هل يكفي الطفلة الأم سهام ما تركت الطفولة الضائعة أو الامومة المبكرة
في نفسها من اوجاع ذكريات؟
أم هي حياة انطلقت بصباحاتها ومساءاتها ضحكات بيوت ومناوشات أخوة ومناكفات حبيبة
وبعض زغاريد أفراح لولا موسم الدمع الذي أقسم ان يكون لها لون الحياة. حتى باتت ال ” لو” اقصى الأمنيات!؟
هل تكتفي بسردها لرواية سجن مغايرة، تعيش في أنقاض الذاكرة؟أم هي رواية حياة مستمرة لم تات على نهاية اي فصل فيها؟
فتلك الأم الأسيرة المقاومة داخل السجن وخارجه ، أم لابنائها وللأسرى والأسيرات تخطط وتنفذ
وتزوج وتزف ليفرح قلبها المشتاق للفرح و ليسعد قلب الوطن ويشتد ساعده، ولتنقذ شبابها من قبضة السّجان، هي القوية المقاومة
تصبح أمّا لجريح وشهيد وجدة لاسير ،
ولايكون نصيب سهام الطفلة الأم ، والزوجة الأم إلا ان تكون أختا لجريح وشهيد وامّا لأسير ، وأمّا لامّها بعد أن قحطت الاحزان والحسرات حشائش قلبها الخضراء،
بعد أن جهزّ الشهيد مأدبة عزّ للجريح!!
ايحدث هذا في غير هذا الزمكان
ومع غير هذا الانسان الفلسطيني ؟
ولعلّ ما نعيشه من يوميات تدونها كتب التاريخ بطولات شاهدة على صدق قولك الكاتبة الرائعة سهام أبوعواد:” في كلّ مرة كنت أغادر بها السجن، اعلم أنه لن يكسّرنا، فقد ارتكب هذا الصهيوني حماقة لم يدركها، فكلّ أسير هنا دخل السجن
جندّيًا ليخرج منه قائدًا”ص103
سيرتك الروائية هي سيرة رواية الكل الفلسطيني كتبتها بقلم من عزّ وابداع.

جزيل شكري واحترامي للاستاذ الرائع فؤاد نقارة الذي نصحني بقراءة الرواية.

خالديه أبو جبل
طرعان، الجليل الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة