صفحة وطن
بقلم: مصطفى عبد الفتاح
تاريخ النشر: 21/04/22 | 12:22في لحظة الصفاء المنسية من عمري، تركت روحي تسبح في فضاء العالم على هواها، جلست متأمِّلًا الوجود على صخرة ملساء، ونسائم الرَّبيع، تُداعب خصلات شعري كيفما شاءت بعشق إلهي، حينها أغلقت فمي كي لا أردّ على كُل أحاديث العُهر التي تملأ العالم، فاسحًا المجال لأنفي أن يعبَّ أكبر كميَّة من العطر الرباني، يلامس مسامات جسمي بنعومة، وذراعي مشرعة، وأنا أركض في البريَّة من هنا الى هناك، أسابق نسائم نيسان للفوز بعطر قندول الجبل الأصفر اللون التي ملأت صدري هواءً نقيًا كماء العين رقراقًا فأنعشت روحي التائهة.
تاه فكري وانا مبهور بلونها الأصفر الذي يُخبِّئ تحت جناحيه اشواكًا كالإبر، كيف لأسير يقبعُ خلف جدران إسمَنتية جامدة فارغة، في مكان يحتويه السكون القاتل، لا يكسره غير قعقعة مفاتيح سجان، يحاول بها أن يكسر قلب أسيرٍ تاق إلى الحريّة، يحاول السجان أن يصُدَّه عن فتح بوابة حريته، فينشر في الجو هواء دنس مجبول بالحقد، يدخل إلى أعماق روحه المقهورة مع رائحة القهر والظلم، كيف للسجين أن يفكر ولو ثانية بوردة صفراء، تسكن الجبال والوديان، تضيء عتمة الليل، تلذع بأشواكها الحادَّة كلَّ مُعتَد على حُرمتها. رحت ابحث عن السر الدفين في قلب المشهد الممتد على خد الجبل من أسفل الوادي بحجارته الباقية، الى عيون الماء الرقراق التي تجلس على سفح الجبل تذرف دمعها، وتتموج على خدها النسمات العليلة، فترسم كلمات العشق، وتغفو في الليل في حضن القمر ونجوم السماء، ورقصة القندول الليلية، ورائحة العطر تدعو القلب الى عناق الحرية.
رأيت وجه كميل بكل اصالته وعنفوانه، يضحك من الأعماق كمن وجد أخيرا ضالته، رايته بأم عيني يعب الهواء قدر ما تستطيع رئتيه ان تتسعا، ثم يركض بخيلاء خلف فراشات الحقل، كطفل شدته الون الطبيعة الزاهية وراح يركض خلفها ليكتشف سر جمالها، رايته يُمرِّغ جسده الذي غرست فيه ايدي الحقد والظلم علامات القهر، فتختفي بين خميلة مِن أزهار النرجس والاقحوان، وقرن الغزال، وعصا الراعي، وفي لحظة يختفي كميل بين شجيرات القندول ، بل رايتها تحتضنه بكل حب دون ان تمس اطرافه بأشواكها الحادة، فتلاطفه بدلال، كانت صفحة وطن تحتضن اسيرًا في ليلة مقمرة، يُضيء فيها القندول قصر الوطن، كما أضاءت قناديل غسان كنفاني الصغيرة قَصْر الاميرة لميس لتحطّم كل الاسوار المحيطة، وتضيئ شمس الحرية قلب لميس، كما تحاول أن تُضيئ اليوم قندولات الجبل قلب كميل.
كان حسن هو فراشة الحقل الَّتي لا تهدأ تنتقل مِن حقل إلى آخر تُداعب في طريقها خيوط الأمل، تُلوِّن المُستقبل بألوان قوس قزح، يربط ويرتب الخطوات ويهمس في أذني اخبارهم، ويُطلعني على بعض أسرارهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة كلَّما التقيته. نعم كانت اخبار السجناء تصلني، كان صوت كميل ينادي باحثا عن الحرية.
صرخ صوت من الأعماق يقول:
– لا … ليسوا السجناء، اخبار الاحرار، انهم الاحرار.
– لماذا الاحرار؟ …
– لان الحرية نشيد حياتهم، لأنَّهم يستطيعون التجوال في ربوع الوطن، بنقاء ذهن، ووضوح فكر، ويستطيعون أن يشموا رائحة قندول الجبل، حين ينشر شذاه عطرًا فواحًا يملأ الصدور عشقًا للحياة، وينادي فراشات الحقل، ونحيلات الوادي لتملأ الوطن فرحًا لا يعرفه غير قلب عاشق له، ولأنَّهم يستطيعون أن يُضيئوا عتمة السّجن حتى يتحوَّل إلى قصر يقهرون فيه ظلم السجَّان وغدر الزَّمان.
في اللحظة التي كنت أبحث فيها عن معنى الحرية، على صفحة وطن، رنَّ هاتفي يعلن أنَّ كميل ابن السَّبع أو التّسع مؤبدات “لا فرق” موجود على الخط، ليوقظني من حلم ملائكي على واقع شيطاني.
يا لهذا الجرح الدامي، يرفض أن يلتئم، ما دام جرح الوطن غائر، يرفض ان يغادرني بسلام، ويترك أحلامي تنام على خد الجبل.
يا إلهي، كيف عرف كميل انني موجود، في حضن الطبيعة وامام ملكوت السماء حيث تتوحد فيه كل قوى الطبيعة لتُعلن انتصار الحرية ولو في الخيال.
قال يستعجل الكلام بصوته العميق القادم من البعيد:
– حدثني يا صديقي بالتَّفصيل المُمل عمَّا ترى أمامك.
قلت وفي قلبي أسى:
– وهل يمكنني ان أرى أكثر مما ترى؟ ما اراه بعيني انت تراه بقلبك، وما اراه على السطح انت تراه في الأعماق، فلماذا تريدني ان انقلها اليك؟
قال بسلاسة العارف:
– أخاف يا صديقي ان تبتعد عني صورة الوطن، اريد ان اراه يكبر أكثر، أريد أن يزداد حبي له أكثر، أريد أن أتأكد أنَّه ما زال في القلب.
قلت:
إذن حدّثني انت عن سر حبك لقندول الجبل؟
تنفس من الأعماق ثم سمعت نفح انفاسه في سماعة الهاتف وهو يقول:
– يكمن في جمالها، يا صديقي، سر الوطن، فهي تنشر عطرها فواحًا في جميع الأرجاء، تستقطِب كلّ مَن يحميها فتضمه إلى حضنها، انظر الى فرح الفراشات، وشدو العصافير، تُمتّع الناظر بجمال الطبيعة، وهي بأبهى وأجمل حلّة يعرفها الانسان، وعلى أطرافها اشواك حادة سلاح تدافع فيه عن وجودها وتمنع عنها الغدر والعدوان. وفي عتمة الليل تُضيء بدل الشمس ظلام الليل فيبدو ساحرًا، يفتن الالباب، انها الوطن يا صاحبي.
تنهد من الأعماق، ثم غاب خلف الضباب وهو يردد:
– انها يا صديقي صفحة وطن، انها الوطن يعيش فينا ونعيش فيه.
*** نُشرت القصّة في العدد الأوّل، السنة الثامنة، آذار 2022، مجلّة شذى
الكرمل، الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48)