رمضانيّات
د. تغريد يحيى- يونس
تاريخ النشر: 01/05/22 | 15:00أحد طقوس رمضان الذي تباركت به أسرتنا منذ طفولتنا البعيدة زمنيًّا القريبة شعوريًّا، مرورًا بصِبانا وحتّى يومنا هذا، بفضل الله وكرمه، هو ترتيل أبي للقرآن. رافقنا ترتيل أبي للقرآن على نحوٍ يوميٍّ في الساعة الأخيرة من كلّ نهار وعلى مدار الشهر الفضيل. ساعة الأصيل بمحض تعريفها هي إحدى أكثر ساعتين في اليوم والتي تتكثّف فيها عظمة الخالق وإبداعه، وتحمل من خلق الكون وأسراره، وتغشى ذوات وذوي النّهى برهبة وتفكّر، وتثير فيهنّ وفيهم شجونًا ومشاعر. غذّى ساعةَ الأصيل وهيّأ لأخذك إلى هذا المشهد الكثيف كلُّ ما هو جميل في حارة وادعة في أطراف قرية فلسطينيّة منذ أوائل سبعينيات وحتّى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وثمّة الكثير منه، أقصد من الجميل: الهدوء، والمغيب، ومرافقة الشمس في الأفق دونما عائق، ومشاهدتها وهي تغدو قرصًا أرجوانيًّا يختفي رويدًا رويدًا إلى أن يغطس في البحر غربيَّ القرية،كلّيًا. لكنّ أجواء رمضان عامّة وفي بيتنا خاصّة وترتيل أبي للقرآن شحنت هذا الوقت بشحنات روحانيّة أخرى، وصبّت مركّبًا مُميزًّا إضافيًا امتزج في وجداننا وأرواحنا، يرافقنا إلى يومنا، نسمع رجع صداه ما حيينا.
في السنة الهجريّة وتقويمها القمريّ تدور الشهور على الفصول وبشكل دوريّ، فيحلّ رمضان متقدّمًّا قرابة الأسبوعين عن موعده بحسب التقويم الميلاديّ من السنة السابقة، ونتيجة لذلك يتنقل الشهر عبر كل مراحل السنة من قائظ صيفها وحتى صاقع شتائها. يَخبِر الصائمون والصائمات الصيام في الفصول الأربعة، وفي أطوال النهار كافة، وفي أحوال الطقس المختلفة. بحسب فصول السّنة تبدَّل المكان الذي اتّخذه أبي ليرتّل القرآن. في الشتاء وفصول الانتقال الباردة كانت غرفة المعيشة هي المكان الذي يجلس فيه على كرسيّ ويرتل، في الصيف وفي الفترات الحارّة والدافئة من فصول الانتقال كانت الشرفة الكبيرة الغربية-الجنوبيّة هي مكانه المفضل. تبدّل المكان وجرت الأعوام وما تبدّلت نسخة المصحف التي بين يديه، إلّا مؤخّرًا وسجالًا بحكم تقدّم العمر. مصحف بحجم كفّ يده، ذو غلاف جلديّ بنيّ، أهداه إيّاه في صباه أحد الرجالات الأعزاء على قلبه، مريح للحمل والقراءة باليد، هو الأريح لنظره. وما تبدّل صوت الترتيل: صوت جهوريّ، معتدل القوّة، مستساغ، يرتّل بجدّ، أستشعرته يكابد عناء الصيام ويكابر إعياء نهار عمل طويل، دون أن يُعييك أو يضايقك. ولعلّ صوته وهو في الشرفة وصل إلى الطريق العامّ في نهاية الحديقة/الحاكورة الممتدّة طولًا أمام بيتنا! خلال الترتيل حرص أبي على حركات الحروف، ليس في أواخر الكلمات فحسب بل وداخلها، وإذا ما سقط خطأ في تلاوته سهوًا، صحّحه بنفسه بإعادة قراءة الجزء من الآية أو الجملة التي تخلّلها الخطأ. قراءته صحيحة لفظًا وشكلًا، تنمّ عن معرفة كبيرة باللّغة وقواعدها، وعن حسّ متطوّر بهما.
لم يكن ترتيل أبي القرآن صوتًا في الخلفيّة، إنّما كان الجزء الفارق في المشهد وما يدخلنا فيه من حالة. لست هنا بصدد الدّين بمفهومه الجامد الاختزاليّ، وإنّما بصدد ما هو أشمل وأبعد، بصدد الأجواء الروحانية والتجربة والمعرفة والمكنونات النفسيّة التي سرت إلينا جرّاء ذلك. من ذلك إحدى صور أبي العينيّة الراسخة في أذهاننا، وتشكيل تلاوته للقرآن رافدًا من روافد تشكّل معرفتي باللّغة العربيّةفي مراحل حياتيّة تكوينيّة وتذوّقي لها فيما بعد.
منذ حوالي العشرين عامًا منحه التقاعد متّسعًا من الوقت يصرف جلّه في العبادات. كم كان شديد الرّجاء لله أن يدرك جيل التقاعد وبصره معافًى ليتمكّن من قراءة القرآن أكثر، وقد أكرمه الله بذلك. في السنوات الأخيرة يقضي أبي أوقاتًا أطول في قراءة القرآن، والقليل القليل في الترتيل المسموع، وبحكم طبيعة المرحلة الحياتيّة أكاد لا أملك فرصًا لمتعة الاستماع إليه، لكنّ صدى ترتيله للقرآن كما تختزنه ذاكرة الطفولة المتأخرة والصبا يسكن روحي.