الوداع المسروق
قصة بقلم : يوسف جمّال - عرعرة
تاريخ النشر: 31/05/22 | 9:50ما الذي يدفعني كي أكتبَ رسالة, لن يقرأها أحد !؟ حتى أنا لن استطيع قراءتها ,مرة أخرى .!
إنني أشعر وكأني أسبح , في بحر تتقاذفه الأمواج ,ولا يوجد له شاطئ , أو ميناء أصل إليه .!؟
لقد كنتِ للحظات ضعفي الخائفة , حضناً أشعر فيه بالأمان والسكينة..,
وكانت عيناكِ هي قراءتي الأولى ,التي تعلمتُ فيها حروف الحب الوليدة ,وكانت صفحات
خدَّك ,هي اللوح الذي كتبتُ عليه أبجديتي البكر ..
وقبل أن ترحلين.. لماذا لم تأخذي معك.. صورك.. صورنا معاً في أحضان اللجون ..
رسائلك .. هداياك “الشقية” همساتك “المتغابية” .. لما تركتها في دولابي, تسكن هناك كأنها
ألغام, إذا ما فتحته ستنفجر وسأنفجر معها ..
حتى وأنتِ في مشفاكِ .. وأنتِ على سريركِ الأبيض ,تعانين من تأرجحات التسامي إلى الشفاء
.. أو التهاوي إلى الأفول .. كنتِ في غاية القسوة معي, حين منعتني من البكاء ..
قلتِ كلمتك ,التي ستبقى تعذب روحي إلى الأبد : “الزمن المسروق لا يحتمل البكاء .!” .
لقد قلتها لي يوم داهمني البكاء على أطلال اللجون .!
التقيتُ بك, في أغرب ظرف يمكن أن يكون .. في حادثة طرق : سيارة كنت أنتِ فيها ,وكان
يقودها أخوكِ, وسيارتي الصغيرة, التي رأتْ زماناَ أفضل من زمانها هذا, كنتُ قد اقتنيتها منذ
أيام قليلة .. ولم تكن الأضرار كبيرة, وانتهى اللقاء بضحكات, فعلقتِ في خيالي ضحكتك
الأولى, وأبت أن تنفصل عن مخيلتي .. في البداية, اتخذتها وسيلة لإضاءة عتمات كانت تتسلل
إلى نفسي, ولكني بعد ذلك .أدمنتها .. ولم أقدر أن أعيش بدونها .. وشعرت أن خلايا روحي
تطلب المزيد والمزيد .. وخرجتُ أطلبك حاملاً ثقل تلهفي .. لأملأ الفراغات التي كانت
تتعطش لك لضحكتك .. لضحكتك الأولى, التي تحولتْ من كثرة استعمالها ,إلى صورة قديمة
باهتة ,من الصعب تبيان ملامحها ..
ومشيتُ الطريق,. الذي يمر بجانب بيتكِ, عشرات المرات .. ووقفتُ أمام بيتِكم أفحص
سيارتي, مفتعلا خلل مزعوم مرات ومرات ,ولكن وجهك أبى أن يطل علي .!
إلى أن جاء يوم ..
التقيتُ بك بدون تخطيط مسبق .. صدفة أهدتكِ إلي ..
وقفتُ خارج القاعة ,أنتظر بداية عرض فلم سينمائي ,عن حياة شاعرنا العظيم محمود
درويش, وإذا بكِ تتقدمين باتجاهي مع صديقة مرافقه لكِ, فاصطدمتْ عيناي بعينيك, وقلت
بعفوية :
” مرحباً”.. يا شريكنا بالاصطدام .! “.
فعقد لساني للوهلة الأولى, ولكنني تداركتُ الأمر وقلت :” أهلاً .. ما زلتُ تحت تأثيره !” ..
فأجبتِ وضحكتِك, التي طالما تمنيتها, وعشتُ أسابيعاَ عليها, ومن أجلها :
” يبدو أن أضرارها النفسية, كانت أشدُّ من أضرارها المادية .! ” ؟
ودخلنا القاعة, وجلست أمامي في مكان يبعد عني مسافة سربين .. ولم أشاهد الفلم, وإنما
قضيتُ وقتي, في مشاهدة شعرك الأشقر الشيطاني ,الذي كانت تتبدل ألوانه السحرية وتتلون
,حسب الأضواء التي كانت تنتشر في القاعة .. وعلى صفحة من صفحات وجهكِ, والتي تظهر
وكأنها قطعة من قمر في أول أيامه ..
وعند خروجنا من القاعة , تعمدت أن أسير ورائكِ .. نظرتُ إلى الوراء ,فالتقتْ عيناي
بعينيكِ, فقلتِ ضاحكة :
” إياك والاصطدام مرة أخرى .! “.
فأجبتكِ بعفوية متلهفة : أحياناً الإصطدام يكون مجدياً .!
فقلت وقد تلون وجهك بألوان متناثرة :”
وأحياناً يكون سبباً للمتاعب !” .
خرجنا من بوابة البناية, وقبل افتراقنا قلتِ : ” تصبح على خير .!” .. وغبتِ عني وتركتني
أدمن فَرْدَ أوراق صور لقائنا أمام عيني, وأتفحصها صورة صورة, ثم ألمها لأفرادها من جديد
.! لعلي أجد أشياًء جديدة, أقرأها فيها .. حفظت تفاصيلها عن ظهر قلب .. قسمتها إلى صور
قبل النوم, وصور بعد النوم .. وصور خصصتها لأحلام الليل وصور لأحلام النهار.
والتقينا في مسيرة اللجون .. نبكي على اطلال ,وطن مسلوب مهجور .. واختلطت دموعنا,
مع تراب وحجارة إطلاله .. رأيتكِ .. رأيتكِ بينهم .. سمعت صوت نعالكم تغازلون الأرض ..
كأنهم يصرخون ,من خلال صوتِك .. قادمون قادمون .. عائدون .. عائدون .! رأيتُ خارطة
الوطن, مرسومة على وجهكِ بأحرف من لهيب الشمس ,تظهر فيها جلبة مطاحن اللجون
,وسنابل مرج بن عامر, ومأَذن القدس وأسوار عكا ..
وعندما تفرق المشتركون في المسيرة, تقدمتِ مني وقلت :” هل معك سيارة .. جئتُ إلى
هنا مع إحدى الصديقات ,ولكنها اضطرتْ للمغادرة قبل انتهاء المسيرة .!”
وركبتِ معي السيارة .. وتحدثنا عن الوطن .. والنكبة واللجون, وقبل وصولنا إلى القرية
بمسافة قصيرة ,سألتكِ, وحتى الآن لا أدري من أين أتت لي هذه الشجاعة :
” هل من الممكن أن نلتقي مرة أخرى, ولا نتحدث فيها عن الوطن والنكبة .!؟”
وبعد وهلة خلتها الدهر كله, قلتِ وأنت تستعدين للنزول من السيارة:
” أعطنا رقم هاتفك واتركها للزمن .!” .
وفارقتني وأنت تحملين رقم هاتفي, الذي أصبح أهم الأشياء في وجودي .. الوسيلة الوحيدة
التي قد تصلني بك .!
وغبتِ أياما .. وأسابيع .. عشتها تتصارع في نفسي, عذابات الانتظار المتلاطمة, التي
تتأرجح بين أمل الوصال لو انكسارالهجر ,حتى جاء يوم .. كانت ليلة من الليالي التي قضيتها
أعد النجوم, حتى تنتهي ثم أعود لأعدها من جديد .. وأذا برنين الهاتف يخترق غطاءات
الصمت, التي كانت تلف المكان .. وسمعتُ صوتك ,يهمس متسللاً من بين حزم من معاناه
معذبة ..
وتكلمنا طويلاً .. طويلاً .. حتى نبهتنا خصلات من شعاعات الشمس الصفراء ,التي بدأت
تتسلل من خلال أرجاء نافذتي .. ورسمنا بدايات لمشوارنا, الذي لم يحدد مساره بعد .. ونسجنا
من خطوط آمالنا, أحلاماً وتركناها تبدأ خطواتها الأولى, في مسار مشوارنا ..
وكبر حبنا .. ونما .. وقلت لي مرة في أحد لقاءاتنا :” اني أخاف على حبنا .! ” فسألتك
“لماذا .!؟ “.
“ان الأيام الحلوة لا تعيش طويلاً .!” قلتِ ,وقد بدأتْ غيوم سوداء تتسلل إلى عينيكِ..
خذْني الى اللجون ..!
لماذا !؟
أريد ان أعرف السبب, الذي يجعلكَ تحبه أكثر مني !
من أين لي ان أعرف ,ان هذه الزيارة ستكون الأخيرة معاَ إليه !؟
عندما وصلنا قلتِ لي محذرة : بدون حزن أو بكاء .. تعال لنُغنِّي معه فرحاَ ..نسمع حكياته
الجميلة .. لنتَغزَّل به .!
فأخذتكِ معي الى حاراته أو ما تبقى منها ..إلى عين الحجة, ورأينا صورنا تتراقص على
تموجات مياته المنسابة .. الى الطواحين .. الى المقبرة التي ينام فيها أجدادي ..الى حكايات
جدتي عن “عز” البلد ..
وأثناء تجوالنا , لاحظت زيادة نحافتكِ ,وبانت ملفتة للنظر قلتُ لكِ :” انكِ تزدادين نحافة .!”
فرددتِ ببراءة طفولية :” ألم تسمع ان الحب, يبري الأجسام ويذلها !؟”
وغبتِ عني أسابيعاً وشهوراً, دون أن تتركي أثراً أو إشارة لسبب هذا الغياب .. أخذتُ
مشعلتي, المصنوعة من فتافيت حبنا, وبدأت البحثُ في غياهب السرداب ,التي مشيناه معاً
لأجد علة, يجعلك تتركيني صعلوكاً حافي الرأس والقدمين ,على قارعة الطريق أتسول خبراً
منك فلم أجد .. قرأتُ كل سجلات لقاءاتنا كلمة كلمة .. حرفاً حرفاً .. همسة همسة فلم أجد
مقطعاً واحداً يشفيني .. ويبلل ريقي .!
حتى ترامى لي خبر رقودكِ في المشفى .. فطرتُ اليك ..
طرت حاملاً كل جوارحي ولهفاتي وأناتي وليالي السوداء الطويلة ..
وعندما تخطيتُ جميع العقبات, التي كانت تفصلني عنك ودخلتُ غرفتك .. غرفة مرضكِ
,واصطدمتْ عيناي المتفجرتين ,بعينيك المكسورتين .. فتحتُ شفتيك الضعيفتين, عن ابتسامة
عليلة خجلى .. ولكني رأيت خلفها, حوامات من البكاء انفجر الكثير فيها ,وبقي الكثير يغلي
باحثا عن فرصة انفجار .!
” ما الذي جرى !؟” سألتك ..وسيل من الأحاسيس ,كادت أن تنفجر وتخرج بركانا هائجا ..
” ألم أقل لك أن الأيام الحلوة لا تدوم .!؟ قلت.. وأنت تحاولين, حبس دموع خرجت متمردة :
” لقد تم اغتيالي من الداخل – يا سمير- بعد أن كان من الصعب اغتيالي من الخارج !” قلت
بصوت مكسور .
ولكنكِ قوية !” قلت محاولا نفخ الهواء في بالون مثقوب .”
” قوة سفينة تعطل محركها, وتتقاذفها الأمواج , ومصيرها السقوط في الأعماق .!” قلتِ
من خلال حوامات اليأس..
وغادرتْ أختك الغرفة, تاركة لنا التفرد مع حبنا المغدور .. كان حبنا يبكي, في عيوننا بلا
آهات أو دموع .. كان يتكلم بلغة , حروفها أمواج تحوم في فضاء عيوننا ,ولحنها نبضات
قلوبنا الحزينة ..
وقلتِ, بعد صمت اخرس طويل: ” ستتذكرني .!؟ ”
فخانتني كل قواي, التي هربت مني , وتركتني حائراً منهاراً عاجزاً , لا أقوى على النطق ولو
بكلمة واحدة .
واختفى العالم في مساحات عينيكِ .. وأُخرستْ وتوقفتْ الموسيقى, في كل الكون لتنصتْ إلى
ارتفاعات دقات قلبكِ, و همسات شفتيكِ .. وتشكلت دنياي, تشكل تقاطيع وجهكِ .. ومضى
الزمان , وفق نغمات أنفاسكِ , ونام الأنام على نوماتكِ , وصحا مع قدوم صحواتكِ .
ولم أستطع مغادرة المشفى , وبقيت أتنقل بين غرفتكِ, والدوران حول مبناه , تيه مخدّر وسط
سراب مسجون .
ولم تعيشي طويلاَ .. ولكني لم استطع أن أعد الأيام ,لأنني لم أفرق بين الليالي والنهارات
,بين الأصباحات والأمسيات .
كنت قاسية معي يا حبيبتي .. منعتني من البكاء على اللجون قبل مرضك .. و أن لا أبكيكِ
في ساعات وداعكِ .. وان لا أبكيك بعد رحيلكِ عني .
هل توحدتِ – أنت واللجون – في ما قبل الرحيل .. وما بعد الرحيل !؟
فكيف وكيف يا حبيبتي !؟ فكيف وكيف يستطيع حبيب, أن يتوحد مع ذكرى أحبائه الراحلين
دون بكاء !؟ كيف !؟
ألم أروي لكِ مَثَل جدتي اللجونية , عندما فقدتْ زوجها شهيداً في الدفاع عن اللجون :
” هواتين في الراس يا ستي والله بوجعن !” .