تحليق عابر لطيور الذاكرة 5: ناطور المقاثي
د. سامي الكيلاني
تاريخ النشر: 04/06/22 | 13:51عندما سمعت لأول مرة بيت المتنبي “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صمم”، قلت لنفسي “وأنا أيضاً أسمعت كلماتي من به صمم”، ولم أكن وقتها قد كتبت ما يمكن أن يسمعه لا سليم السمع ولا من به صمم. كنت وقتها أقضي العطلة الصيفية بعد إنهاء الصف الربع الابتدائي ناطوراً للمقثاة. كانت كلماتي التي سمعها ذلك الذي به صمم نداءات على أبي الذي تأخر في الحضور واستغاثات في عتمة الليل في مقثاة بين الجبال في “وديان العسكر”. مقثاة “وديان العسكر” هذه كانت واحدة من المقاثي العديدة التي قمت فيها بدور الناطور. لم يسعفني أحد بإجابة شافية لسؤالي عن سبب تسمية هذه المنطقة بهذا الاسم. إنها وديان لأنها فعلاً مناطق محصورة بين الجبال، وهذا مفهوم، أما علاقتها بالعسكر فلا إجابة شافية تبرر هذه التسمية. وليست وديان العسكر الوحيدة التي حيّرتني في التسمية التي تطلق عليها، أنا الولد كثير الأسئلة، وهي الصفة التي تتناقض مع صفتيْ الهدوء والخجل اللتين عرفتا عني، فحين يثور تساؤل في نفسي يغيب الخجل وتندلع نيران حب الاستطلاع ولا يستطيع الخجل لجمها. فقد تساءلت أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، عن سبب تسمية منطقة “بطن الضبع” بهذا الاسم دون أن أحظى بإجابة شافية أيضاً. وديان العسكر تبدأ بعد النزول من بطن الضبع حتى تصل سفح الجبل المصلّى، سواء أكانت تحمل اسم وديان العسكر أو وديان القردة أو أي اسم بعد كلمة الوديان، كانت بالنسبة لي وديان المقاثي، وكنت بالنسبة لها ناطور المقاثي. قبل المضي في الحديث عن المقاثي، أود أن أقول بأنني حصلت على إجابة حول الجبل المصلّى، فقد قيل لي إن إبراهيم الخليل قد صلّى عليه أثناء مروره بهذه الأرض، ورضيت بهذه الإجابة واجتهدت بقدر قدرتي على التفكير والاستنتاج كتلميذ يحضّر نفسه للصف الخامس الابتدائي فربطت هذه البركة التي تركها إبراهيم الخليل بصلاته في هذا المكان بوجود نبات الشومر بكثافة في هذا الجبل من بداية سفحه حتى قمته، فالشومر برائحته وطعمه لا يمكن إلاّ أن يكون نوعاً من البركة. المقثاة التي شهدت تجربتي حين أسمعت كلماتي من به صمم كانت الثالثة، والأخيرة والحمد لله في سلسلة المقاثي التي نطرتها في هذه الوديان، في هذه العزلة، في هذا المنفى عن ساحات الحارة الشمالية في العطلات المدرسية، مبعداً قسراً عن الأصحاب والألعاب التي تزدهر في هذا الوقت، والتي يشارك فيها أطفال الحارة من أبناء جيلي ومعهم أولئك الذين يأتون في الصيف ضمن زيارات أهلهم من العاملين في مدن الضفة الشرقية أو في الكويت أو السعودية. قبل هذه الثلاثية من المقاثي “العسكرية”، نسبة إلى وديان العسكر، نطرت مقثاة أخرى في طرف البلدة فكانت لحسن الحظ قريبة من الناس، وكان بإمكاني أن أتركها لساعة في النهار وأشارك في اللعب مع الأولاد الذين يتجمعون قريباً منها يطيّرون الطيارات الورقية في الساحة المجاورة للمقبرة الشمالية التي تقع على ربوة تقابل البحر المتوسط مما يوفر رياحاً مواتية لتحليق الطيارات الورقية، أشاركهم ثم أعود إلى المقثاة. كان السبب في التنقل بين مقاثٍ مختلفة أنها كانت جميعاً أراضٍ مستأجرة، فلو كانت لدينا أرض تصلح لزراعة المقاثي لما تنقلنا بين هذه الأماكن.
كانت المقثاة الأولى في هذه المجموعة تحتل شريطاً ضيقاً من الأرض ذات التربة “السكنية” اللون ينحصر بين الجبل من الجهة الجنوبية والطريق الذي يتوسط الوديان يليه من الجهة الشمالية جبل مطل عليها ويعود لصاحب الأرض المستأجرة مما جعلنا ننصب عريشة الناطور فيها. هل كانت عريشة مكتملة الصفات، أم مجرد “خص” صغير يوفر ظلاً يقي الناطور المناوب حر الشمس؟ سواء كانت تلك أو كان هذا، فقد كان الموقع استراتيجياً للمراقبة وعالياً يصطاد نسائم لطيفة منعشة تجفف العرق المتصبب على الوجه من شدة الحر.
المقثاة التي صرخت فيها مسمعاً استغاثتي لمن به صمم كانت تمتد في شريط من أرض صالحة للزراعة بين الجبال، وفي طرفها قريباً من الطريق الترابية التي تخترق الوديان من الغرب إلى الشرق زيتونة معمرة أصبحت مع العريشة التي نصبت إلى جوارها مقر الناطور ليلاً ونهاراً، ومكاناً يتجمع فيه ما يجنى من الفقوس صبحاً على الندى، ويجاورها كرم زيتون رومي غير معتنى به يملؤه الهشيم يعود كما قيل لي لعائلة إقطاعية تسكن المدينة. هذه العريشة يمكنني التأكيد أنها كانت عريشة، فقد كانت مندمجة بشكل إبداعي “معمارياً” مع شجرة الزيتون. يجاور العريشة قن للدجاجة وصيصانها، وبيت للأرانب. وقد ارتبط بتلك الدجاجة حزن شديد عشته وما زال بإمكاني حتى اليوم تذكره وحزن رأيته، حزني وحزن الحيوان، إذ وجدنا تلك الدجاجة ميتة قرب الزيتونة ولم نعرف السبب، خمنا تخمينات عدة، ربما لدغتها أفعى، ربما أكلت شيئاً ساماً، مهما كان السبب فقد عشت حزن صيصانها وأثّر بي منظرهم إلى أبعد الحدود. كانت الصيصان تدور حول الأم وتقترب منها تدفعها، تلكزها بأرجلها أو بمناقيرها الصغيرة وكأنها تستحثها على الاستجابة، ولا تملّ ولا تيأس من ذلك، ثم استسلمت وقعدت حولها، حزنت حزناً شديداً وبكيت بصمت، كنت وحيداً، وعبرت عن ذلك لوالدتي، التي عادت من الطرف البعيد للمقثاة، فاحتضنتني وخففت عنيّ بعضاَ من الحزن. أما الأرانب فهي التي كانت السبب في الأمر الذي جعلني أنادي بعالي الصوت، صوتٍ يصل مسامع من به صمم.
كان والدي حين يتوفر له عمل في القرية، خاصة في عمله الأساسي ك”فرّام دخان”، يتركني في المقثاة خلال النهار ويعود عند المغيب وننام سوياً. بالمناسبة، مهنة “فرم الدخان” مهنة خارجة عن القانون، فتصنيع التبغ وبيعه يعتبر تهريباً أو تهرباً من الضريبة التي تجنيها الحكومة من الضريبة المفروضة على السجائر التي تنتجها المصانع، وبالتالي فالمفروض أن يبيع المزارعون منتوجهم لشركات السجائر فقط. في الثقافة اليعبداوية (نسبة لبلدتي يعبد) كلمة مهرّب دخان ليست إساءة، بل تعبر عن عمل شريف كأي عمل، فالتهرب من الجمارك التي تطارد من يفرمون التبغ ويحضرونه لاستهلاك المدخنين ومن يسوقونه عمل محترم لأنه دفاع عن لقمة العيش لهؤلاء، للمزارع والفرّام والتاجر، وعلاقة يعبد بالتبغ علاقة تاريخية حتى أصبح اسمه مرتبطاً بها. قصص الدخان والنضال من أجل النجاة من قبضة الجمارك لا تختلف عن قصص النضال السياسي السري إبان الحكم الأردني في الضفة الغربية وخلال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
في ذلك اليوم تأخر والدي كثيراً وأنا أنتظره وحيداً في المقثاة، غربت الشمس وبدأت العتمة تخيّم تدريجياً على الوادي، قمت بجمع الأرانب وإدخالها إلى بيتها وأغلقت الباب عليها. جلست أنتظر سماع صوته الذي يأتيني عادة عندما يقترب، كان يغني أو ينادي باسمي لأطمئن أنه قادم. طال انتظاري، وحل الظلام وحل معه الخوف في نفسي. انتبهت لوجود أرنب يتحرك في الخارج، خفت أن يفترسه ثعلب أو واوي وقررت أن أدخله إلى بيته مع بقية الأرانب، فتحت الباب فخرجت الأرانب التي في الداخل بدلاً من أن يدخل إليها ذلك الأرنب المتمرد.
سمعت صوت حركة في قطعة الأرض المجاورة، حيوان ما يمر بين الهشيم، وصلت الخوف ذروته على نفسي وعلى الأرانب. قفزت إلى ذهني قصص الضباع التي سمعتها، الضبع الذي يضبع الإنسان ليلحقه إلى وجاره ويفترسه، وتذكرت أنهم يقولون إن الضباع لا تستطيع تسلق الأشجار وتخاف الضوء. حملت المصباح اليدوي الذي يعمل بالبطارية وتسلقت شجرة الزيتون. بدأت بالمناداة بصوت عالٍ يملؤه الخوف على أبي لأسلي نفسي وعسى أن يسمعني فيرد فأطمئن أنه قريب على الطريق. سمعت صوتاً من الجهة الشرقية، أبي يأتي من الجهة الغربية، يقول “ما تخاف يا عمي”. هدأت ونزلت عن الشجرة، وصلني أبو عمر وأبو غازي، جاران، الأول له أرض مزروعة بأشجار مثمرة والثاني له مقثاة. أبو غازي لا يسمع، ونعرفه بالأطرش، قال إنه سمع صراخي وطلب من أبي عمر أن ينصت.
قررا اصطحابي معهما لأبقى عندهما إلى حين عودة أبي، فرفضت قائلاً إني خائف على الأرانب، فانتهراني وطلبا مني أن أرافقهما ساكتاً “وليضرب القردُ الأرانب”.
لقد أسمعت كلماتي أبا غازي الذي به صمم.