الوحدة .. الوحدة .. الوحدة .. قبل فوات الأوان
بقلم: هاني المصري
تاريخ النشر: 07/06/22 | 9:09قد يبدو الحديث أو الكتابة عن الوحدة بين مكونات الحركة الوطنية داخل منظمة التحرير وخارجها، وتحديدًا بين حركتي فتح وحماس، بعد استمرار الانقسام وتفاقمه، وإزالة ملف المصالحة من جدول الأعمال؛ نوعًا من السذاجة أو أحلام اليقظة؛ حيث لا توجد اتصالات ولا حوارات ولا مبادرات، فالمبادرة الجزائرية توقفت بعد محطتها الأولى المتمثلة في دعوة ممثلي الفصائل وعدد محدود من الشخصيات المستقلة.
لكنني عزمت أمري على خض ملف الوحدة مجددًا عسى أن ينتج حليبًا، انطلاقًا من قناعة عميقة لم تهتز، بل ازدادت رسوخًا بأن الوحدة ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، وهي طريق الانتصار لأي حركة تحرر وطني، فلا تحرر وطنيًا ديمقراطيًا ولا استقلال وطنيًا ولا عودة أو مساواة في ظل الانقسام .
ما يعطي الأمل بأن الوحدة ممكنة وليست هدفًا مستحيلًا؛ ما جرى طوال العامَيْن الماضيَيْن من أحداثٍ وتطوراتٍ أثبتت مرة أخرى أنّ الشعبَ موحدٌ في مواجهة الاحتلال ومخططاته العدوانية والاستعمارية الاستيطانية واعتداءاته على البشر والشجر والحجر والمقدسات، خصوصًا المسجد الأقصى، كما ظهر جليًّا في هبات الأقصى والقدس، وموجات المقاومة الشعبية والمسلحة في مختلف أرض فلسطين، وفي الوحدة الميدانية التي تجلّت في أبهى صورة في مخيم جنين الملهم.
لا بد من إعادة الكرة وإحياء ملف الوحدة، على أمل أن يكون التنكر الكامل لمختلف الحقوق الفلسطينية ورفض التسوية بكل أشكالها، وفرض حياة على الفلسطينيين أشبه بالجحيم؛ وفر أرضًا صلبة تعطي مبررًا لإعادة العمل لتوحيد الفلسطينيين، وإعادة بناء وإحياء إطارهم التمثيلي وحركتهم السياسية، على الرغم من استمرار انقسام الحركة السياسية وتعمّقه، الذي يمكن وصفه بأسوأ أشكال الانقسام من خلال قيام سلطتَيْن متنازعتَيْن تحت الاحتلال: الأولى لا تزال معلّقة بأذيال اتفاق أوسلو، والاعتراف المذل بإسرائيل من دون حتى أن تعترف بالدولة الفلسطينية، وتواصل التنسيق الأمني الذي تحول إلى تعاون، وما تضمنه من تبعية للاقتصاد الإسرائيلي الذي تجاوزته إسرائيل منذ فترة طويلة. أما الأخرى فلا تطرح رؤيةً وبديلًا متكاملًا، نظريًا وعمليًا، ويغلب عليها إعطاء الأولوية لإبقاء سيطرتها على السلطة في القطاع المحاصر، وانتظار نهوض المارد الإسلامي، أو حصول معجزة تغيّر الواقع جذريًا.
وهذا وذاك جعل السلطتَيْن تدوران تحت السقف الذي حدده الاحتلال، وهو “السلام الاقتصادي”، و”الأمن”، وما يسمى “تقليص الصراع”، ضمن معادلة تحسين شروط الاحتلال وتخفيف الحصار بعيدًا عن الحقوق الوطنية والسياسية الجماعية الفلسطينية؛ ذلك مقابل تهدئة وتسهيلات ومشاريع اقتصادية، والحفاظ على بقاء السلطتَيْن شرط استمرارهما في التنازع فيما بينهما.
باختصار: العداء الإسرائيلي للفلسطينيين بمختلف تشكيلاتهم، سواء كانوا “معتدلين” أو “متطرفين”، مسلمين أو مسيحيين؛ يقدم قاسمًا مشتركًا أعظم لتوحيد الفلسطينيين، وما رأيناه من بلوغ المستعمرين حوالي مليون مستوطن وفرض التقسيم الزماني في الأقصى على طريق التقسيم المكاني، ومصادرة عشرات الآلاف من الدونمات، وفرض القانون الإسرائيلي على مستوطنات الضفة، وتعميق الأبارتهايد ضد شعبنا في داخل إسرائيل، وهدم البيوت؛ حيث هدمت سلطات الاحتلال منذ بداية العام 300 مبنى وفق منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (أوتشا)، واغتيال الأطفال والكبار بالعشرات خلال هذا العام (أكثر من 60 شهيدًا، منهم 13 طفلًا)، ومنهم الأمهات، وشيرين أبو عاقلة التي لاحقوا نعشها وجنازتها، والتي تحولت إلى أطول جنازة في التاريخ الفلسطيني، وقدمت وثيقة إدانة دامغة للاحتلال الذي بات عاجزًا أمام جثمان وعلم، فضلًا عن ترديد شعار “الموت للعرب”، خصوصًا أثناء مسيرة الأعلام.
ويعمق أسباب الوحدة من جهة أن رهانات فريق أوسلو على إحيائه، أو انطلاق مسيرة سلام جديدة، أو حتى الحفاظ على الوضع الحالي ومنعه من المزيد من التدهور باستمرار، من خلال تسهيلات ودعم ومشاريع؛ مجرد أضغاث أحلام، فما قدم ويقدم يكفي لإبقاء الفلسطيني بين الموت والحياة، كما صرح سابقًا الوزير الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، من خلال وصفه السياسة الإسرائيلية إزاء قطاع غزة بقوله “إبقاؤهم مثل الغريق في الماء الذي لا يراد إغراقه كليًا في قاع البحر، ولا إنقاذه وسحبه إلى بر الأمان”.
ومن جهة أخرى، أدرك الفريق الآخر، وسيدرك، أن المقاومة وحدها ليست برنامجًا سياسيًا، وهي غير قادرة على إحداث التغيير المطلوب في ظل الاحتلال والحصار والانقسام، وأن لا مفر من الوحدة من دون اشتراط صريح أو ضمني بقيادة فريق على فريق آخر، واستبدال هيمنة بهيمنة أخرى.
من المناسب إحياء الجهود الفلسطينية والعربية والدولية لإنجاز الوحدة، مع الرهان على الفلسطينيين أولًا وأساسًا. ولعل ما حصل من خيبات من حكومة نفتالي بينيت وإدارة جو بايدن ويوم مسيرة أعلام القدس الذي كان يومًا حزينًا سيساعد أصحاب الرؤوس الحامية من الطرفين، أو يساعد على عزلهم، في استكمال النزول عن رأس الشجرة العالية التي صعدوا إليها بعد معركة سيف القدس، التي وحدت الشعب، وجسّدت تكامل أشكال النضال؛ حينما بالغوا بما حققته المعركة ودلالاتها، وقللوا من قوة العدو ومن أهمية القوى الأخرى وأشكال النضال الشعبية التي تمكن أكبر عدد ممكن من المشاركة في عملية التحرر من الاحتلال، أو قللوا من أهمية ما جرى وسهلوا قطع الطريق على استثماره لصالح الفلسطينيين.
في هذا السياق، أي مبادرة أخرى للحوار من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة يجب أن تستفيد من فشل الحوارات والاتفاقات السابقة بما لا يعيد إنتاجها. وهذا يتطلب وضع بند الاتفاق على رؤية وطنية شاملة والميثاق الوطني والإستراتيجيات على جدول أعمال الحوار الوطني، وعلى أن تكون الأولوية للتوصل إلى اتفاق على برنامج وطني سياسي كفاحي واقعي له أبعاد اقتصادية واجتماعية ثقافية تساعد على تعزيز عوامل الصمود، ويسعى لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، من دون التخلي عن الرواية التاريخية والهدف النهائي والحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية، إضافة إلى الاتفاق على الأسس الكفيلة بتحقيق شراكة سياسية حقيقية بعيدًا عن المحاصصة الفصائلية، خصوصًا الثنائية، والاحتكام إلى الشعب من خلال الوفاق الوطني والانتخابات على كل المستويات.
وهذا يتطلب توسيع دائرة المشاركين في الحوار؛ حيث لا يقتصر على ممثلي الفصائل وبعض الشخصيات المستقلة، بل لا بد أن يضم ممثلين عن الحراكات والمبادرات الجديدة والمجموعات والشخصيات الفاعلة من جميع أماكن تواجد الفلسطينيين.
ومن شروط النجاح في ظل طبيعة المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني والظروف والخصائص التي تميزها، وخصوصًا أن فلسطين كلها تحت الاحتلال، وهو لاعب مهم في إجراء أو عدم إجراء الانتخابات ومصادرة نتائجها وعدم تكرار التجارب السابقة، مثل تشكيل الحكومة أولًا بمعزل عن إنهاء الانقسام والاتفاق على برنامج سياسي وإجراء الانتخابات كما حصل في حكومة الوفاق الوطني العام 2014، أو تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني جديد كما حصل في مستهل العام 2017، أو إجراء الانتخابات أولًا بمعزل عن الشروع في إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة تشرف على توفير أجواء الحرية والنزاهة للانتخابات، وتضمن احترام نتائجها، فالانتخابات من دون تشكيل حكومة وحدة تعمل على إنهاء الانقسام وضمن حل الرزمة الشاملة يعني عدم إجراء الانتخابات كما حصل العام الماضي، وإذا جرت ستكون مهندسة وتدير الانقسام ولا تنهيه، أو تكون محطة لانقسام أعمق كما جرى بعد انتخابات 2006.
الحل الوحيد الذي لم يجرب، وله فرصة بالنجاح أكثر من الحلول الأخرى، هو حل الرزمة الشاملة، الذي يتضمن الاتفاق على تنظيم حوار وطني شامل تمثيلي بشكل يعكس الخريطة الفلسطينية الراهنة، ويهدف إلى الاتفاق على تشكيل قيادة انتقالية مؤقتة لمدة لا تزيد على عام، مهمتها قيادة تطبيق مخرجات الحوار التي تتضمن برنامجًا سياسيًا بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتشكيل حكومة وحدة تنهي الانقسام، وتوحّد السلطة في الضفة وغزة، ويكون من ضمنها كذلك إعادة بناء وتوحيد مؤسسات ودوائر منظمة التحرير، وتفعيلها، وتوزيعها على مختلف أماكن تواجد الشعب الممكن التي تسمح بلدانها وأوضاعها بوجود مقرات لدوائر ومؤسسات المنظمة، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالشراكة، إضافة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، وعلى جميع المستويات المحلية والقطاعية.
إن حل الرزمة الشاملة التي تطبق بالتوازي والتزامن صعبٌ، وبحاجة إلى كفاح وتغيير في موازين القوى أو تقبل من القوى القائمة له، ولكنه الحل الذي يستند إلى توازن المبادئ والمصالح والقوى، ويعكس خريطة القوى السياسية والاجتماعية القائمة من دون إقصاء أو تمييز .
إن ما سبق لا يتحقق بالأمنيات والمناشدات والمطالبات، وانتظار الرئيس والقيادات والفصائل لتلبية هذا المطلب، وإنما بالكفاح والضغط السياسي والجماهيري المتراكم والمتعاظم إلى أن تُفرض إرادة الشعب الفلسطيني ومصلحته على الجميع. وإذا لم يكن هذا ممكنًا مرة واحدة، فيمكن على مراحل ومن خلال تقديم نماذج وحدوية أينما أمكن ذلك، وتعزيز الوحدة الميدانية وتعميمها، والانتقال من أسفل إلى أعلى، وعدم الاقتصار على تحقيق الوحدة من أعلى فقط، وعلى كل الحريصين على القضية ومصلحة الشعب أن يدركوا أن الوقت من دم والتاريخ لا يرحم.
وما يبشر أن هناك تحركاتٍ وحواراتٍ وإرهاصاتٍ ومبادراتٍ ودعواتٍ لاجتماعات ومؤتمرات متزايدة؛ ما يدل على أن هناك حراكًا متعاطفًا يهدف إلى التغيير الذي من دونه لا يمكن إنقاذ القضية الفلسطينية، والتغيير سنة الحياة.