تواصل بعد السجن

تاريخ النشر: 16/07/22 | 9:34

د. سامي الكيلاني:
مترجم صليب (2/3)-نص

بعد تحرري من الاعتقال الأول في أواخر العام 1980 حافظت بقدر استطاعتي وما تسمح به ظروف عمل الصليب الأحمر على علاقات مع بعض المندوبين، حيث كتبت رسائل شكر وتقدير لعدد منهم وسلمتها لمكتب الصليب الأحمر المحلي على أمل التواصل معهم، وأرفقت لهم نسخاً من مجموعتي القصصية الأولى “أخضر يا زعتر” والتي كتبت معظم قصصها أثناء فترة الاعتقال المذكورة. كما بدأت بالرد على رسائل كانت ترسل لي من مجموعات تابعة لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) إلى السجن فاحتجزتها إدارة السجن ووضعتها في “أماناتي”، إضافة إلى أية مراسلة على بطاقة بريدية (post card) من أي مصدر كان، لآخذها عند التحرر. إحدى هذه البطاقات كانت من مجموعة أمنستي في هلسنكي، فنلندة والتي كانت أول مجموعة تتبناني كسجين ضمير[1]، وكذلك بطاقة بريدية من الحبيبة نهى كان من الممكن أن تعطيني جرعة من الدعم الهائل لو وصلتني في توقيتها. لقد أُسِرت تلك الرسائل بموازاة أَسْري، ولكن جذوة التضامن والحب فيها لم تستطع برودة صندوق الأمانات إطفاءها، حيث وضعت فيه إلى جانب متعلقاتي الشخصية التي أخذت مني عند دخول المعتقل: الساعة والحزام وبعض النقود. لم تنطفئ جذوتها، تماماً كما فشلت الزنازين في إطفاء جذوة الحنين والتصميم في نفوسنا خلف القضبان. بدأت تصلني ردود من عدد من مندوبي الصليب الأحمر ومن أصدقاء في مجموعات أمنستي من عدد من الدول، من فنلندا وسويسرا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها. كانت كلمات مندوبي الصليب الأحمر الذين ردوا على رسائلي تعكس الروح الإنسانية التي تحلّوا بها في علاقتهم معنا كسجناء سياسيين، تلك الروح التي كانت تقيّدها قوانين المحتلين من حكم عسكري وإدارة السجون وجهاز المخابرات.

عندما أعود إلى الوثائق والصور لأتصفح بعض هذه الرسائل وما تحمل من كلمات صادقة، أشعر كأنني أقرؤها لأول مرة. لقد غاصت تلك الوثائق تحت طبقات من التجارب الحياتية الذاتية والوطنية من اعتقالات ومنع السفر لفترات طويلة. أعود لأقرأها فتمدّني بفرح وطاقة إيجابية بعد كل هذه السنوات، وهذه بعض الرسائل الأولى التي وصلتني في حينه.

من جينيف كتبت كلير رسالة في 26-10-81 وأضافت في نهايتها توقيعها بخط اليد اسمها باللغة العربية.

“عزيزي سامي،

ما أجمل هذا العنوان الفواح الرائحة[2] لكتابك، وما أطيب مفاجأة استلامه! لقد سقط على مكتبي كشعاع شمس خلال هذا الأسبوع الرطب الرمادي، وأعاد لي كل قصص نابلس (وكذلك آخر الأحاديث، ولكننا لن نتحدث عن هذا…..). حاولت أن أقرأ بعض القصص، ولكنها كانت صعبة من النظرة الأولى بالنسبة لي، وقاموسي لم يعط الكلمات باللغة العامية. ألا تستطيع التفكير بالمترجمين المساكين عندما تكتب؟

آمل أن عملك في التعليم يسير بسلاسة، بدون أية إعاقات أخرى مزعجة. يشعر الواحد براحة وهو يقرأ شكسبير ويكتب للكيلاني!

أشتاق لكل شيء هناك، ولكنني بحال جيد هنا. لقد بدأ الثلج بالنزول هنا. أتمنى لك الأفضل ومزيداً من الكتب.

بإخلاص”

ومن عمان كتب جون في 10/10/81

“عزيزي سامي،

لا تتخيل مدى سروري عندما استلمت كتابك مع الكلمات اللطيفة التي كتبتها عليه. الآن لا أعذار عندي بأن لا أحسّن لغتي العربية.

تحدثت مع كلير تلفونياً وكانت مسرورة مثلي تماماً عندما أخبرتها أن الكتاب في الطريق إليها.

أـحب عملي في عمان، ولكن لا شيء مطلقاً يجعلني أنسى الضفة الغربية.

إذا حصل في أي وقت وزرت هنا، أرجو أن تزورني.

مع أفضل الأمنيات.

أراك قريباً.”

ومن سان سلفادور كتب جورج في 17/3/1981

“سررت جداً حين علمت أنك حر مرة أخرى وأنك مع عائلتك. أنا لن أنساك أبداً وسأتذكرك كأحد أفضل الأصدقاء الذين تركتهم في الضفة الغربية. آمل أن أراك ثانية، ولكن لسوء الحظ لا أستطيع أن أقول متى يمكن ذلك. أنت تعرف طبعاً أن مندوبي اللجنة الدولية للصليب الأحمر يسافرون دائماً حول العالم. ربما سأتوقف في يوم ما في الضفة الغربية لعدة أيام وعندها كن على ثقة أنني سأزورك في نابلس.

منذ عامين أعمل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى: الأرجنتين، ونيكاراغوا، والسلفادور (إضافة إلى 6 شهور في تايلند وعلى الحدود مع كمبوديا). منذ حزيران 1980 أعمل رئيساً لبعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في السلفادور. نحن الآن عشرة مندوبين، ومع الوقت تصبح البعثة بعثة كبيرة تواجه مشاكل كبيرة: زيارة المعتقلين السياسيين، وحماية الجرحى والسكان المدنيين، وتقديم المساعدة (الغذاء والدواء) للمدنيين.

إنه فعلاً ليس عملاً سهلاً، ولكننا نحاول كل ما بوسعنا العمل بأفضل ما يمكن، كالعادة…. عندما نتعب أو عندما نثبط فإنني أقول لنفسي بأنه ليس هناك أحد غيرنا ليقوم بما نقوم به، ولذلك سأستمر.

آمل أن تكون 1981 سنة جيدة لك ولعائلتك.

مع أطيب أمنياتي وتحياتي

ملاحظة: تتذكر أن لغتي الإنجليزية كانت سيئة جداً، إنها ليست أحسن الآن، حيث إنني أتكلم الإسبانية منذ عامين.”

كافأني الصليب بحزن عزيز

حتى الآن لم أستطع أن أكتب عن تلك التجربة الصعبة. ولكن هناك ما يجعلني أعتقد أن علاقتي بالصليب الأحمر خلال فترة الاعتقال قد جعلتهم يبذلون جهداً استثنائياً في المطالبة بالسماح لي بحضور جنازة والدي، لروحه الرحمة والسلام، الذي توفي قبل تاريخ الإفراج عني بيومين. كنت أعد الأيام في انتظار لحظة الإفراج، وكنت على يقين بأن الوالد والوالدة والإخوة والأختين يعدون الأيام كذلك. تلك التجربة التي لم أستطع الكتابة عنها لسنوات، فقط بعد أربعة عقود كتبت ما يلي.

في الثامن من كانون الأول 1980 كان قد تبقى على انتهاء فترة حكمي بالسجن ثلاثة أيام. بعد الظهر تم استدعائي إلى إدارة السجن، فاعتقدت أن ذلك سيكون كالعادة لقاء مع ضابط مخابرات ليسمعني الاسطوانة التي يسمعونها أحياناً لمن سيتم الإفراج عنهم “ستخرج، ولكن ستكون عيوننا عليك، وسيكون حكمك في المرة القادمة قاسياً …إلخ”. قابلني ضابط من إدارة السجن، عربي، تحدث بلهجة مختلفة تماماً، وقال إنه آسف لإخباري خبراً سيئاً، أن والدي قد توفي.

مرت لحظات، كانت صورته في آخر مرة حضر فيها لزيارتي تحتل كل كياني، لم يحضر بعدها وكنت كلما سألت عنه أجابتني الوالدة بأنه مشغول أو تنازل عن حقه بالزيارة من أجل أحد الأخوة. طلبت كأس ماء، ولم أتحدث بشيء. واصل الضابط حديثه “تم السماح لك بحضور الجنازة، وستأتي سيارة عسكرية لأخذك هناك”. حضرت دورية من حرس الحدود (أي حدود؟!)، تم تقييدي مع شرطي، وانطلقت السيارة إلى يعبد.

وصلت البيت، استقبلتني الوالدة بكل الصبر وشدت من أزري، كعادتها، قبّلت جبينه، ثم تحركت الجنازة وأنا مقيد مع الشرطي وتباريها السيارة العسكرية. كان المشيعون بأعداد كبيرة، منظر لا ولن أنساه.

بعد الدفن ارتجلت كلمتين عن ألمي وعن عزائي بأنني أنتمي لهذه البلدة ولهؤلاء الناس.

عدت إلى السجن لأقضي اليومين المتبقيين من الثلاث سنوات، ولأخرج بعدها لأجلس في بيت العزاء في اليوم الأخير مستقبلاً المعزين الذين يمزجون في السلام عليّ بين تعزيتي بوفاة الوالد وتهنئتي بالتحرر.

تجربة حاولت كثيراً أن أكتب عنها، ولكنني أفشل في كل مرة في أن أعطيها حقها في كتابة إبداعية تستحقها.

أربعة عقود مرت على ذلك اليوم وصورتك يا أبي حاضرة حية، كم تمنيت أن أخرج من المعتقل وأحضنك وأسدد لك بعضاً قليلاً مما صنعته لي من عرقك وكدّ يدك.

(تحليق عابر لطيور الذاكرة 11)

[1] السجين الذي يعتقل بسبب مواقفه السياسية والفكرية ونشاطه من أجل هذه المواقف ولم يقم بأي نشاط عنفي.

[2] إشارة إلى رائحة الزعتر في عنوان الكتاب “أخضر يا زعتر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة