سعة الثقافة في رسائل من القدس وإليها
فوز فرنسيس
تاريخ النشر: 19/07/22 | 10:48أرسل أديبنا المقدسي جميل السلحوت لي قبل أيام نسخة الكترونية لإصداره المشترك مع الكاتبة صباح بشير وهو بعنوان “رسائل من القدس وإليها”، فقد صدر الكتاب مؤخرا عن دار النشر كل شيء في حيفا وزيّن الغلاف رسمة للفنان التشكيلي الفلسطيني محمد نصرالله.
كنت قد باركت للكاتبين هذا الإصدار في حينه، متذكرة ما كنت قد قرأت في أدب الرسائل من الرسائل بين الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم، رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان ورسائل جبران خليل جبران ومي زيادة وغيرها..
الحقيقة وجدت تنوّعا غريبا وجاذبا وملفتا في الرسائل التي رحت أقرأها مع صعوبة القراءة التي نعهدها حين يكون النص من خلال شاشة الحاسوب، لكني وجدت نفسي أقرأ دون ملل، بنهم ومتعة، وذكرتني الرسائل بأيام مضت حين كنّا نتبادل الرسائل مع الأصدقاء وننتظر بلهفة وشوق الردّ، وهذا ما بدا لي في الرسائل بين الكاتبين خصوصا في البداية، هذه الرسائل التي امتدت لأكثر من عقد من الزمان ولم تجفّ روحها ولم يعتريها الملل وكأني بهما أي الكاتبين، يحدّث كل واحد ذاته أو صديقا صدوقا ما غيّره الزمان رغم السنوات، بل ظلت صداقة راقية ترفّعت عن القيل والقال واهتمت بشؤون خاصة حينا، وأمور اجتماعية وسياسية وثقافية عامة حينا آخر.
رسائل شفيفة بريئة تنمّ عن سعة ثقافة ومعرفة لدى الكاتبين، رسائل فيها تزداد وعيا وإدراكا حينا وتقف على جانب من سيرة كل منهما الحياتية والأدبية، هذا إلى جانب تأثير هذه الرسائل في نفسي كاتبيها وكأنها مُتنّفَس لروحيهما، تكتب بشير في إحدى رسائلها لأديبنا السلحوت وهي في الغربة ” اكتب لي فربّ كلمة تصنع في نفوسنا أملا، وتمطر على أرواحنا رذاذا لطيفا منعشا”، وفي رسالة أخرى ” رسالة الشعراء والكتّاب النبيلة، فهي ترتق الجروح، تسعد القلوب وتنير العقول وتنشر الجمال..”
نلحظ أن هناك فترة انقطعت الرسائل بين الكاتبين، لكنها عادت وتجدّدت في السنوات الأخيرة ولست هنا لبحث أسباب توقف الرسائل، فلكلّ حياته ومشاغله، لكن الجميل أن كل واحد منهما كان دائما يعتذر للطرف الآخر عن تأخره بالردّ وانشغالهن فيتقبّلان ذلك ويتابعان.
رسائل من القدس حيث بلد الكاتبين ومنشأهما، ونلاحظ أن كاتبنا جميل السلحوت كانت كل رسائله وهو موجود في القدس ما عدا رسالة واحدة كتبها وهو في أمريكا لدى زيارة ابنه. أما رسائل الكاتبة صباح بشير فكانت من أماكن متعددة، بداية من القدس ثم من دبي ولندن وتونس وجورجيا ومؤخرا مكان استقرارها في مدينة حيفا، فجاء العنوان برأيي جميلا موفقا يلائم صورة الغلاف حيث تظهر قبة الصخرة أحد أبرز معالم القدس.
كانت الرسائل حينا أشبه بنقاش جميل وتبادل أطراف حديث يدور بين اثنين رغم بعد المسافات، يظهر ذلك من خلال اهتمام كل كاتب بمناقشة والرد على ما جاء في رسالة الآخر، مهتما بأن يشاركه بأفراحه وهمومه الحياتية الخاصة أحيانا، هذا ما برز أكثر لدى كاتبنا جميل السلحوت فنراه يذكر التواريخ مثل زواج أبنائه وولادة أحفاده وموت والدته، فيما لا تذكر كاتبتنا صباح بشير تفاصيل كثيرة عن حياتها سوى انتقالها من مدينة لأخرى وزيارة لابنتها التي تقيم في دبي. قد تبدو هذه الأمور هامشية بعض الشيء ولكنها لفتت انتباهي ويبدو أن الكاتبة اهتمت بأن توصل أخبارها بالعموم ولم تهتمّ بأن تشغل الآخر بخصوصياتها.
كانت هناك مواضيع مشتركة هامة تمحورت حولها الرسائل بشكل كبير، أذكر منها مشكلة المرأة ومعاداة المرأة للمرأة وغرس التربية الذكورية في نفوس أبنائها وفي بناتها الدونيّة. تعلّم النساء في المجتمع. يتطرق السلحوت في احدى رسائله الى مشكلة الشباب العرب الذين يسافرون الى أمريكا التي يصفها بأنها “امبراطورية خرافية” قاصدين العلم لكن منهم من ينحرف ويتعاطى المخدرات وغيرها. يتطرق أيضا الى الجانب السياسي ومشاكل وطنه فلسطين وعن سياسة الحكومات الغربية البريطانية والفرنسية من سايكس بيكو ووعد بلفور ويتطرق لمشكلة تهويد القدس والشيخ جراح والهمّ الأخير الذي برز في الرسائل الأخيرة هو مشكلة جائحة كورونا ونظرة أبناء مجتمعه ويذكر كم يقلقه مشكلة تعليم الطلاب عن بعد، ويتوسع في مشكلة التربية والتعليم في المدارس والجامعات وكيف أن الفوارق التعليمية بين الأبناء والبنات وعدم تكافؤ الأزواج تؤدي بالنهاية الى الطلاق. ليس هذا كله من فراغ بل لأن كاتبنا ابن لهذا الشعب الفلسطيني الذي عانى مشاكل أبناء شعبه منذ صغره وهو الذي أيضا ذاق عذاب السجن وترك قسوة التعذيب أثره في جسمه. ولكنّه تابع مشوار حياته وعلمه وهو باقٍ يحلم بوطنه الجميل الذي يتغنى به وبجمال تضاريسه من خلال رحلة مع بعض الأصدقاء كان فيها مرشدا على الأماكن المحيطة بالقدس وبراري السواحرة ومشيرا أيضا الى النباتات التي تنبت في نيسان.
اهتم الكاتبان بأن يتبادلا الأخبار الأدبية، وهذا أيضا جانب هام جدا فقد اهتم أديبنا جميل السلحوت بأن تطّلع الكاتبة صباح بشير على إصداراته وتمّت مناقشة وإبداء صباح رأيها بكل صراحة في كتابات السلحوت وقد تقبّل الأخير بعض ملاحظاتها بكل رحابة صدر، ومن هنا فنحن كقرّاء تعرّفنا على أدب أديبنا تقريبا بمجمله، ومن جهة أخرى تعرّفنا أيضا على أسلوب الكاتبة صباح بشير وجمال حرفها ووصفها وأسلوبها القريب من الشاعريّ ، إضافة إلى ما قرأناه عن عشقها للقراءة منذ صغرها وتشجيع الوالد لها على المطالعة، فأضاف أسلوبها ولغتها نكهة وجمالا وتشوّقا لمتابعة القراءة، حتى أن القارئ للحظات يشعر أنه أمام رواية مشتركة يسردانها.
مما أضاف نكهة أخرى على الإصدار هو الوصف وخاصة وصف الأماكن؛ لندن، تونس، جورجيا، حيفا، بعض معالم أمريكا وأيضا القدس وجوارها، وهذا بحدّ ذاته إضافة نوعية للكتاب وكأني بالكاتبين يعرّفان بهذا ويشرحان للقارئ عن معالم الأمكنة المذكورة ويشجّعان على زيارتها، بالإضافة إلى أهمية السفر في التعرف على حضارات أخرى وأنماط سلوك مختلفة، ونرى مدى تأثير الأماكن على الكاتبة بشير، تذكر أن الأماكن ومرافئ المدن كانت مُلهِمة لها وحوّلتها إلى باحثة في الأماكن والأشخاص والحنين وغيره..
وأخيرا لا يسعني سوى أن أبارك للكاتبين الصديقين، الأديب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير إصدارهما الجميل هذا، الذي برأيي يمكن إدراجه ضمن أدب الرسائل وأدب الرحلات راجية أن يكون إضافة وغنى لمكتبتنا العربية.