زياد جيوسي: رسائل من القدس وإليها ما بين الواقع والذات
تاريخ النشر: 25/07/22 | 8:03كتاب جميل حمل اسم “رسائل من القدس وإليها” يعيدنا الى أدب الرسائل التراثي؛ فكان الكتاب ويضم بين دفتيه مئة واثنتين وثمانين صفحة من القطع المتوسط من اصدار مكتبة كل شيء في حيفا، يقع في تصنيف أدب الرسائل وهو تصنيف قديم ومعروف من تصنيفات الأدب يعود للقرنين الثالث والرابع للهجرة، وفي المرحلة الحالية من النادر أن نراه وإن بدأ العودة في إطلالات خجولة، وخاصة مع تغير وسائل التواصل والمراسلات، فجاء هذا الكتاب؛ ليعيد للحياة هذا التصنيف الأدبي المتميز، ولعل ما يستحق الاهتمام في هذه الرسائل المتبادلة إضافة لمحتواها بين الكاتب الشيخ جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير هو مسألتان: الأولى هو الفارق الزمني بالعمر بينهما، وهذا يجعل لكل مرحلة عمرية أفكارها المختلفة عن أفكار المراحل العمرية الأخرى، فالشيخ السلحوت مواليد 1949م ولا أعرف متى ولدت الكاتبة صباح بشير، وإن قدرت عمرها فهي في الأربعينات حيث بدأت الرسائل عام 2010م بين تواصل وتقطع، وكان لها عدة أعوام تعمل بمؤسسة بالقدس بعد تخرجها، وفي دبي كانت ابنتها بالجامعة معها، والمسألة الثانية هي المكان حيث أن الكاتبين من نفس المكان وهو القدس ومن جبل المكبر، وهذا يجعل المشاهدات والأحداث المعاشة في المكان متشابهة، علما أن الكاتبة خرجت من القدس الى دبي وعملت فيها فترة، وعادت ثم انتقلت الى لندن وجورجيا ومن ثم تونس فحيفا فتأثرت بتنقلها وتجوالها، ورغم الفارق الزمني بالعمر إلا أنه يلاحظ التقارب الكبير بوجهات النظر.
هذه الرسائل السلسة والتي ابتدأت منذ عام 2010م جالت بنا بأسلوب سلس ولغة مبسطة بين الواقع في مجتمعاتنا في الماضي والحاضر، وركزت بشكل أو آخر على معاناة شعبنا تحت الاحتلال بشكل عام والقدس بشكل خاص، وعما يقوم به الاحتلال من تهويد للقدس واستباحة الأقصى الشريف والاستيلاء على مساحات في حي الشيخ جراح، إضافة للأحياء الأخرى كما في سلوان من أجل تهويد هذه الأحياء، وعزل القدس عن محيطها العربي الفلسطيني من أجل العمل على تفريغها وإبعاد أبناء الوطن عنها، وكيف يطوقون البلدة القديمة بالقدس، وكل ذلك كان من نتائج اتفاق أوسلو سيء الصيت والسمعة، وبدعم من الحكومات الأمريكية والحكومات المطبعة من عبيد الأمريكان ومقاعد الحكم في عالمنا العربي، وتشير لعشق القدس وإن كل من يغادرها بسبب ظروف اقتصادية أو أسباب أخرى لا يستطيع البقاء في الغربة، فيعود إليها تاركا الغربة والشتات ليجدد عشقه المقدسي.
وأشارت الرسائل لدور الأب المثقف على تنشئة أبناء مثقفين كما تحدثت صباح بشير عن والدها المدرس، ودوره في حياتها وإنشاء مكتبة منزلية، بينما قارن الكاتب الشيخ جميل السلحوت وضعه مقارنة بوضعها حيث كان أبواه أميين، ولكنه تعب على نفسه حتى أسس ندوة البيت السابع المقدسية الثقافية، وكان صاحب الفكرة ونشأت وأصبح لها دورها بالتعاون مع مجموعة من المثقفين، إضافة للزخم الكبير من الكتب الورقية، كما أشار الكاتب ألى بعض العادات في مجتمعنا ومنها: عدم ترك القادم من السفر؛ ليرتاح فيأتيه الزوار وهو في غاية الإرهاق والتعب ويحتاج للراحة، وعن السلوكيات التي تصاحب جنازات الشهداء ونعيهم، وفي بيوت العزاء وعن انتشار ثقافة الجهل بين الناس.
وعن معاناة الكاتب مع الجهلة والذين يهاجمون كتابا على عنوانه دون أن يفهموا العنوان ولا يقرأون المحتوى، وعن الواقع الثقافي بالوطن وانحسار القراءة مقارنة بالماضي، وبيع بعض المثقفين والكُتاب ذممهم وانحرافهم عن الانتماء الوطني، حجم الاصدارات تحت بند الأدب مما يؤدي إلى انهيار ثقافي، وهذا فعليا ما بدأنا نلمسه في هذه المرحلة، وكذلك المسابقات التي تجريها وزارة الثقافة ودروع التكريم من مؤسسات غير موجودة في الواقع لأعمال لا تستحق وتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وأنا شخصيا أعرف كاتبة وكاتب يحترفان اختراع هذه التكريمات ويدفعون تكاليفها وزيادة؛ كي ينشروا عن أنفسهم أنهمت كُرّما، فهل معقول أن تكرم كاتبة في أنحاء العالم بما يزيد عن سبعين مرة خلال عدة أعوام؟ إضافة لشخصين يمنحان شهادات دكتوراة فخرية، وهما لم يحصلّا الشهادات الجامعية أصلا، علما أن الدكتوراة الفخرية لا تمنح إلا من جامعات رسمية وضمن شروط ليست سهلة، والأدهى ما لمسته أن بعضا من أولئك الممنوحين هذه الشهادت أصبحوا يضعون حرف د. قبل أسمائهم استنادا لهذا الوهم، إضافة للفضائيات ودورها التخريبي للثقافة ونشر ثقافة “الهبل” كما أشار الكاتب.
المرأة نالت نصيبها من الحديث بين معاناة إرث قديم ما زال يلقي بظلاله على الحاضر بحكم العادات، التي كما أشار الكاتب أنها أقوى من القوانين، وبين معاناة ما زالت تعانيها المرأة حاليا، وإن كان لا يمكن محاكمة مجتمع كان الجهل يلعب دورا كبيرا فيه، إضافة للأمية وقلة التعليم بمنظور جيل جديد من النساء يندر أن لا تكون فيه امرأة غير متعلمة.
كان من الممتع الحديث المتبادل عن كتابات كل منهما فأبدت الكاتبة ملاحظات على رواية للكاتب، وتحدث الكاتب عن مقالات الكاتبة، ورأى أنها تبشر بولادة روائية جيدة، كما تحدث عن إصداراته الأدبية والتي أتيح لي الإطلالة على بعض منها وجيد أنه تقبل النقد من الكاتبة. أمّا الكاتبة صباح بشير فمعظم ما قرأته لها كان قراءات عن روايات بشكل خاص، والكاتبة أشارت أكثر من مرة عن مشروع رواية لها تأمل أن تصدر قريبا، ولا أعلم إن صدرت أم لم تصدر بعد، لكني بالتأكيد أنتظرها.
كانت الرسائل تحمل بعضا من السيرة الذاتية لكل منهما مما أتاح للقارئ أن يعرف بعض المسائل عن مسيرة كل منهما وعن التجربة النضالية للكاتب جميل السلحوت.. وكذلك نجد الحديث امتد الى ما يسمى الربيع العربي، وأيضا جائحة الكورونا ووجهات النظر فيها، ونظرة الناس لهذا الوباء بين مرض وبين مؤامرة وبين مفهوم خاطئ للقضاء والقدر، والأخذ بالأسباب من اجراءات وقائية، إضافة لما أبداه الكاتب من قلق على مستقبل ومستوى الطلاب بسبب انقطاعهم عن التعليم الوجاهي، والاتجاه للتعلم عن بعد بسبب الجائحة، إضافة للقوانين التي تصدر وتهدف إلى تخريب عقلية الطلبة وممارساتهم في المدارس، وهذا أدى إلى نوع من الانفلات الاجتماعي فازدادت عمليات القتل إضافة للقتل الذي يطلق عليه زورا القتل من أجل الشرف، والمشاكل المجتمعية المنتشرة بما فيها تناول المخدرات، والتي يسهل الاحتلال وصولها للأطفال والشباب، إضافة للعديد من السلوكيات المجتمعية المنفلتة عن الذوق والأخلاق وانتشار الفساد.
من الجميل الجولات مع بوح الأمكنة التي أضافت للكتاب أدب الرحلات، فكانت جولات الكاتبة بين أنطاليا التي زارتها لحضور مؤتمر اعلامي، وأبدت ملاحظات على سلوك بعض الصحفيين الشباب في حفل عرض ، ووصفت العديد من الأمكنة في جولاتها هناك التي تمتعت برؤيتها، مثل البلدة القديمة والبرج الروماني والمتحف الأثري والمسرح الروماني والشلالات والشواطئ، ومارست متعة التسوق التي تعشقها النساء، وكذلك الأمكنة في جورجيا وتجوالها في حيفا والحديث الممتع عن علاقتها بالبحر والغروب، وكذلك عن دبي وأبو ظبي والإمارات الأخرى التي زارتها والتي أتيح لي زيارتها مرتين من خلال دعوات لي مرة لحفل توقيع، ومرة لمحاضرة عن التراث في معرض الشارقة للكتاب.
وكان حديث الكاتب عن المجتمع الأمريكي وما اسماه بالحضارة الامريكية التي نهضت على أكتاف المهاجرين من أوروبا ومن دول عديدة، وأيضا السّود والأسيويين، باستثناء أهل أمريكا الأصليين من الهنود الحمر الذي جرت عملية إبادة لهم من ذوي البشرة البيضاء، والذين ما زالوا يمارسون عنصريتهم رغم أن الدستور الأمريكي يمنع ذلك.
وكانت الإشارة لطبيعة الشعب الامريكي مهمة، وخاصة عدم اهتمامه بالشؤون السياسية تاركا ذلك للحكومات، وكذلك التفاوت الطبقي داخل المجتمع، والإشارة للجالية العربية كانت مفصّلة ودقيقة وهامّة، وخاصة فئة الطلاب منهم، ولعل تكرار الزيارات التي بلغت 26 مرة منذ عام 1984 أتاحت للكاتب النظرة الدقيقة للمجتمع الأمريكي وللجالية العربية فيه، كذلك التحدث عن الأمكنة وخاصة حدائق الحيوان ومناطق الطبيعة كما شلالات نياجرا وغيرها، كان يحمل روح أدب الرحلات، والكاتب كان في رسائله يفصل بين الحكومات والشعوب مثل بريطانيا وفرنسا اضافة لأمريكا أيضا، وفي نفس الوقت لم يغفل الحديث عن الأمكنة في وطننا المحتل، وعن ما آل إليه وضع رعاة الأغنام من دمار اقتصادي بعد أن كانوا يملكون ثروة حيوانية ضخمة قبل الاحتلال، لتصبح أوضاعهم في غاية السوء بعد الاحتلال وطردهم من المراعي ومصادرتها، ممّا أدى لتدمير الثروة الحيوانية، وأيضا تحدث عن الكثير من مناطق الوطن ومعاناة المواطن في التجوال، وأنا شخصيا تعرضت لعدة مشكلات مع جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه في بعض من جولاتي التوثيقية بالقلم والعدسة لمناطق الوطن، ومن خلال المقارنة حول ما ورد في الكتاب حول الرحلات نرى أن الكاتب تمكن من الحديث عن الأمكنة بقدرة أكبر من الكاتبة، ولعل ذلك عائد للتجربة الطويلة في التجوال، للكاتب اضافة أنه سبق أن صدر له كتابان عن أدب الرحلات.
وجيد ما أورده الكاتب الشيخ جميل السلحوت عن دور مؤسسات “الأنجزة” التي تكاثرت كما الفطر في بلادنا بدعم أوربي ودور تخريبي، وممارسة الفساد والثراء على حساب حقوق المرأة، إضافة لمعاداة المرأة للمرأة، وأيضا الفهم المغلوط للدين، وهذا ما أثلج قلبي، بسبب ما أراه وألمسه لدور هذه المؤسسات التخريبي المغطى بقشرة من عسل، وفعليا كان لهذه المؤسسات دور كبير في تخريب البلدان العربية تحت شعار الربيع العربي والذي لم يكن أكثر من وبال على رؤوس العرب.
كتاب ممتع بين التوثيق لمرحلة نعيشها وتشكل مرجعية لأجيال لم تعش ما عشناه بعد، وما بين سيرة ذاتية وإن كانت مختصرة فلم تطغ على الكتاب، وجولات ممتعة في أنحاء العالم وثقت بأدب الرحلات، وهو من الأدب الذي ما زال يجد الاهتمام به، وأراء جميلة قد نختلف مع بعض وإن كنا سنتفق مع غالبيتها، فكانت هذه الرسائل تمثل فعليا العنوان “رسائل من القدس وإليها”، فالقدس كانت في هذه الرسائل المسرح الأساس من بين المسارح الأخرى التي جرى الحديث عنها، ومن الجميل أن فكر الكاتبان بنشر هذه الرسائل الأدبية والاجتماعية والسياسية؛ كي لا تبقى حبيسة القمقم، فكان لهذا النشر إضافة جميلة للأدب العربي ولأدب الرسائل، هذا الأدب النثري الجميل والرائع، فأعادتنا الرسائل بأسلوب عصري إلى بعض من تراثنا الأدبي قبل قرون طوال بلغة متمكنة وقوية، ودون تعقيدات لغوية خرجت من الخاص إلى العام فكانت رسالة مقدسية فلسطينية بإمتياز.