العظماء (26) عليّ بن أبي طالب الثّائر والعالم والمظلوم
علي هيبي
تاريخ النشر: 25/07/22 | 8:15بدايةً ومنذ الصّغر:
منذ الصّغر، ولمّا أبلغ سنّ الرّشد والوعي، كان عمري أقلّ من اليافع بدرجتيْن، ربّما كعمْر “عليّ بن أبي طالب” (599 – 661) عندما أسلم، وكان من أوائل المسلمين، بل أوّل المسلمين من الصّبيان، كما تجمع مصادر التّاريخ، منذ ذلك الصّغر كنت أتعرّف على الأشياء والظّواهر وأدركها بإحساسي فقط، وأحلّلها إذا كنت امتلكت قدرة على التّحليل أصلًا بعواطفي، منذ طفولتي تلك كنت أحبّ “عليّ” وأرى فيه أبرز شخصيّات التّاريخ الإسلاميّ ومن أعظمها شأنًا ومكانة، حتّى لو لم تواتِ الظّروف السّياسيّة لإمكانيّاته الهائلة وقدراته العظيمة واستقامة رؤيته ورؤياه، عندما تولّى خلافة المسلمين وإمارة المؤمنين. ولأنّ عظمته ومكانته السّامقة بدأت منذ إسلامه وهو ابن إحدى عشرة سنة، بل من يوم ولادته المتميّزة في جوف “الكعبة”. نُقل عنه أنّه حين أسلم لم يكن راشدًا، فكتم إسلامه عن أبيه بطلب من النّبيّ، وكان ذلك بعد بعثة النّبيّ بيوم واحد، وهناك من المؤرّخين من يقول إنّه أوّل من أسلم من الذّكور، وثمّة من يرجّح أنّ “أبو بكر” كان هو الأوّل. وبعد أن بلغتُ سنّ الرّشد والإدراك ما زلت على موقفي من حبّ “عليّ”، ولكنّ حبّي له غدا عن معرفة وإدراك وتحليل عقليّ لعمق شخصيّته وثرائها الفكريّ وغناها العلميّ وعمق رؤيته كحكيم وعالم عبقريّ، وقد لُقّب لسعة علمه بِ “بوّابة العلم”، وكان يقول: “سلوني! سلوني! في كتاب الله، فوالله إنّي أعرف كلّ آية أفي سهل نزلت أم في جبل”. ولا أنكر في الوقت نفسه أنّي شديد التّقدير والإعجاب عقليًّا ووجدانيًّا وعاطفيًّا بآل البيت لأنّهم ظُلموا على مدى التّاريخ الإسلاميّ، وقد ظُلموا لا لسبب إلّا لأنّهم قالوا” “ربّنا الله” و كانوا أولي مبادئ مستقيمة وفضائل بيضاء ومناقب مشرّفة، وصدقوا في مقولتهم ومواقفهم واستقامتهم، وثاروا ضدّ الكفر والفحش والظّلم واستعباد النّاس، ومقتوا العادات والأعراف الجاهليّة وعصبيّة القبليّة الّتي تجعل من النّاس عبيدًا وأسيادًا، ومالوا إلى نصرة العبيد والمستضعفين وثورتهم على الأغنياء والأسياد من “قريش”، وآمنوا “بأنّ النّاس سواسية كأسنان المشط”. وقد قلت في مقالتي السّابقة عن المنهج الجدليّ في فكر “عمر” حول الكمال والنّقصان: “وفي هذا ملخّص للمنهج الفكريّ الّذي تميّز به “عمر” عن سائر كبار المسلمين وصحابة النّبيّ، قد لا يشابهه في هذا المنهج الفكريّ إلّا “عليّ بن أبي طالب” آخر الخلفاء الرّاشدين بل آخر الخلفاء قاطبة”.
والأهمّ الأهمّ أنّني كنت عندما أسمع اسم “أبو سفيان” أو “معاوية” أو “يزيد” أو اسم أيّ واحد من “الطّلقاء”، أمقته بإحساسي وعاطفتي عند الصّغر، ونشأت وترعرعت وكبرت وأدركت، فكبر مقتي وصرت أشدّ مقتًا لهم جميعًا ولمملكتهم الأمويّة المارقة، لأنّهم النّقيض الرّذيل والجحود لآل البيت الطّاهرين والأتقياء. كنت أكره “معاوية” كراهيتي لِ “أبو سفيان” وهو كافر! هل أسلم “أبو سفيان” أصلًا! وهل أفعم الإيمان قلبه! واللهِ ما أسلم ولا آمن إلّا رئاء وإلّا ليَسلم ويأمن على نفسه وأهله وبرامجه القبليّة والعائليّة ومطامعه المستقبليّة، وما تظاهر بالإيمان إلّا لمآرب مادّيّة رخيصة ودنيئة، ولاسترداد ما خسره “بنو أميّة” من جاه قديم وغنًى فاحش وسيادة جاهليّة ومجد غابر. كنت أصدّق إسلامه وإيمانه لو لم يستشرِ فساد سلوكه وتصنّته وخبث مطامعه ومصلحته الذّاتيّة في الهيمنة واستعادة الحكم والمكانة السّياسيّة “لبني أميّة”، عامّة وبيت “أبو سفيان” خاصّة، مستفيدًا من البلبلة والفوضى السّياسيّة والانحلال الأخلاقيّ وإثارة التّشرذم والانقسام الّذي أحدثه موت “عثمان بن عفّان” المنتمي “لبني أميّة”. وقد بلغ ذلك الاستشراء بعد أن انتصرت مملكتهم وحكموا المسلمين من “دمشق”، بلا شورى ولا رأي ولا معارضة، بالمُلك وولاية العهد وبالحديد والنّار وقطع الرّؤوس والقتل والمجازر والاستئثار والعصبيّة وسياسة “فرّق تسد”.
قليلًا عن عثمان:
منذ خلافة “عمر بن الخطّاب” (586 – 644) حتّى خلافة “عليّ بن أبي طالب” مرّت اثنتا عشرة سنة، وهي الفترة الّتي قضاها في الحكم خليفة ثالثًا “عثمان بن عفان” (576 – 656) والّذي لم يُسجّل له طيلة فترة حكمه أيّ مأثرة أو عظمة، خاصّة وأنّه جاء بعد “عمر” العظيم، وكان ينتمي “لبني أميّة” الّذين جرّدهم الإسلام من أمجادهم وجبروتهم وثرائهم وسيادتهم في الجاهليّة، مع أنّ “عثمان” قدّم للإسلام في زمن النّبيّ، وقبل خلافته الكثير من التّضحيات والتّفاني في خدمة الدّين الجديد المناهض للجاهليّة والعصبيّة القبليّة والوثنيّة، وللكثير من العادات والتّقاليد والسّلوكيّات السّلبيّة الّتي سادت في جزيرة العرب قبل الإسلام.
لقد شكّلت فترة خلافة “عثمان” انكسارًا حادًّا في تاريخ الإسلام، بعد الدّولة الّتي بناها “عمر” وفقًا لرؤية عمريّة خاصّة، بعيدة عن الاستئثار والتّمييز، بل عمل بدأب على أن يجعل كلّ المواطنين في الدّولة الإسلاميّة “سواسية كأسنان المشط”، بلا تفرقة ولا امتيازات ولا غنًى فاحش ولا استغلال. كان “عثمان” بكونه حاكمًا ضعيفًا، ونتيجة لانتمائه “لبني أميّة” قد تحوّل إلى “ألعوبة” في أيدي دهائهم وخبثهم السّياسيّ وحقدهم بعد أن أفقدهم الإسلام سلطانهم وغناهم. ها هو “عثمان” يعيدهم إلى المشهد السّياسيّ بوجود “أبو سفيان” (567 – 652) وولاية ابنه “معاوية” (608 – 680) في الشّام وولاية “عمرو بن العاص” (576 – 664) في مصر، واستشارة “مروان بن الحكم” (623 – 685) ونقمة “المغيرة بن شعبة” ونفاقه (600 – 670) وتشير بعض القرائن إلى اجتماع هؤلاء على التّخلّص من “عمر” بقتله بيد “أبو لؤلؤة فيروز” (توفّي سنة 644) وهو ما تمّ تنفيذه فعلًا، إضافة إلى خلق حالة من الفتنة والفوضى السّياسيّة باستغلال شنيع وحقير لمقتل “عثمان” برفع قميصه ذريعة لاتّهام “عليّ بن أبي طالب” بالتّحريض عليه وقتله، و”عليّ” وأبناؤه أبرياء من دمه براءة الذّئب من دم “يوسف الصّدّيق” (يقال إنّه ولد سنة 1445 ق.م) لقد شكّلت فترة خلافة “عثمان” الضّعيف تمهيدًا كبيرًا لقيام المملكة الأمويّة، فجاءت هذه المملكة بأوّل ملك إسلاميّ “معاوية” تعبيرًا عن مطامع الرّأسمال والأغنياء والأسياد، فاختطفت الحكم من بعد مقتل “عليّ”، فدمّرت دولة النّبيّ والمسلمين ومكارم الأخلاق، وهدمت ميزان القسطاس والعدل وأسس الدّيمقراطيّة والمساواة بين النّاس. وقوّضت أركان الدّولة ووصلت الأمور ذروتها بالتّنكيل والقتل وقطع الرّؤوس، عندما اغتال الملك الأوّل “معاوية بن أبي سفيان” الإمام “الحسن بن عليّ” (625 – 670) وقتل الملك الثّاني “يزيد بن معاوية” (647 – 683) أطهر النّاس وأشرف النّاس وأحبّ النّاس إلى النّبيّ الإمام الشّهيد “الحسين بن عليّ” (626 – 680) في “كربلاء”. وإذا كانت الدّول والممالك تقدّر أعمارها بالقرون، فإنّ المملكة الأمويّة لم تكمل القرن الواحد، فقد حكمت حوالي 90 عامًا، ومن ثمّ اضمحلّت وزالت لحسن حظّ الإسلام والمسلمين، وهذا تحقيق وتصديق لقول “عمر” حيث قال: “لا يحكم المسلمين طليق! إنّها للبدريّين حتّى يفنوا”، مع أنّ البديل الّذي جاء بعدها ليس بأفضل بكثير.
عثمان وعليّ وعمر بينهما:
أقطع “عثمان” أهله القطائع وأغدق عليهم الامتيازات في المناصب والوظائف، على أقربائه من “بني أميّة” ومقرّبيهم، وهو ما كان يتخوّف منه “عمر” ويحسب حسابه، وقد وصل الأمر بزوج النّبيّ “عائشة بنت أبي بكر” (604 – 678) نتيجة لهذه السّياسة التّمييزيّة الّتي اتّبعها “عثمان” أن حرّضت عليه ودعت إلى قتله، فقالت: “اقتلوا نعثلًا فقد كفر”، والنعثل لغة هو الشّيخ الأحمق، وقد كان لِ”عليّ” موقف في ذلك حيث دعا “عثمان” لانتهاج منهج “عمر” واتّباع العدل في التّوظيف وتقليد المناصب والرّتب في الإدارة والجيش، فقال موجّهًا حديثه للخليفة الثّالث: “إنّ عمر كان كلّما ولّى أميرًا فإنّما يطأ على صماخيْه (الصّماخ هو من الأذن حتّى العنق) وأنّه إن بلغه حِرفٌ (انحراف) جاء به وبلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل، ضعفْتَ ورفقْتَ على أقربائك”. كانت أولى هفوات “عثمان” بعد انتحار “فيروز” قاتل “عمر” أن أغلق باب التّحقيق في جريمة الاغتيال، والتّقدير أنّه فعل ذلك كي لا تطال أصابع الاتّهام الأيادي الأمويّة المجرمة الّتي وقفت وراء الاغتيال، من رهطه “بني أميّة”، ولكنّه وتحت الضّغط الجماهيريّ رضخ لمطلب إقالة واليه “المغيرة بن شعبة” (600 – 670) وقد يكون من أبرز المتّهمين لأنّه كان حاقدًا على “عمر” وهو مولى “فيروز” القاتل، ومزوّر التّصريح الّذي مكّنه من الدّخول إلى المدينة قبل مقتل “عمر” بقليل من الوقت. ومن أخطاء “عثمان” أيضًا الّتي لامه عليها “عليّ” أنّ “معاوية” يتصرّف كأنّه الخليفة وتحت اسْمه يقطع بالأمور و”عثمان” يعلم ولا ينكر على “معاوية” فعله، وهو الّذي كان يرتعد خوفًا ويتذلّل منافقًا بمجرّد أن تطأ قدم “عمر” في بلاد الشّام.
لقد كانت مشكلة “عثمان” الضّعيف غضبه من “عليّ” الصّارم وضعفه أمام دهاء “بني أميّة” وعدم سماعه وامتثاله للنّصيحة المخلصة، وكان مع ذلك يتوعّد وينذر ويقارن نفسه وشخصه كحاكم عاديّ، بل أقلّ من العاديّ بالخليفة “عمر” الحاكم العملاق، الّذي لم يولِّ ابنًا ولا قريبًا ولطالما حذّر من تولية الأقرباء. ولعلّ الاستنتاج الأبرز من ذلك أنّ “عثمان” خالف منهج “عمر” في العدل والمساواة مع أنّه التزم بعدما حُصرت البيعة به وبعليّ بعد انسحاب “عبد الرحمن بن عوف” (580 – 656) الّذي طرح على الاثنيْن السّؤال: “هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفِعل أبي بكر وعمر”، أجاب “عثمان”: “نعم”! فكان جواب السّاذج الأحمق والسّياسيّ الّذي لا يملك رؤية ولا برنامجًا ولا نهجًا خاصًّا وواضحًا وسويًّا، ومن المؤسف أنّه كان النّهج المنتصر، الّذي أعاد الحكم للطّلقاء الّذين انغمسوا بحاجات الدّنيا وحطامها وشهوات الحكم والفساد الماليّ. بينما كان جواب “عليّ” على السّؤال نفسه: “اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي”، وكان جواب العاقل والمتّزن صاحب الرّؤية السّياسيّة الّتي ترى الأمور باتّجاهين: إلى الوراء للاستفادة من تجربة الآخرين، وإلى الأمام للعمل بإبداع حاكم مستقلّ ونهج عادل ومتجدّد، كان سيقود الدّولة بمسار يستند على العدالة والمساواة والكرامة الإنسانيّة. ولذلك كان لا بدّ من ظهور نهجيْن طبقيّيْن على أساس اجتماعيّ واقتصاديّ، متوازييْن ومتناقضيْن سياسيًّا، كلّ منهما يمثّل طبقة، نهج “عثمان” كممثّل لبني “أميّة”، طبقة الأغنياء والأسياد القدماء في الجاهليّة، الخاسرين بعد ثورة الإسلام، ونهج “عليّ” ممثّل طبقة الفقراء المستعبَدين الثّوّار على الكفر وعلى ظلام الجاهليّة وظلم الاستعباد والغنى الفاحش والمستغِلّ.
العظمة في التّحدّي وبعد:
إذن! أين تكمن عظمة “عليّ” وما هي مكوّناتها؟ وقد قاد اتّجاهًا سياسيًّا طاهرًا وديمقراطيًّا يقوم على الشّورى والعدالة والمساواة، ولكنّه لم يكن هو الاتّجاه المنتصر، ففي هذه الأثناء وتحت الشّبح القاتم لهذه الأجواء المضطربة الّتي تسلّم فيها “عليّ” الخلافة بعد مقتل “عثمان” ورفض “معاوية” الوالي على الشّام منذ أيّام “عمر” مبايعته بالخلافة، في هذه الأجواء من الاضطراب والفتنة الّتي خلّفتها خلافة “عثمان” ومن ثمّ مقتله بمؤامرة أمويّة أو بعد ثورة اجتماعيّة، جاء “عليّ” الطّاهر ليحكم المسلمين بنهج يتابع فيه نهج “عمر”، لكنّ الظّروف كانت قد تغيّرت وخرجت الأمور عن السّيطرة، فقد كانت فترة الاثنتيْ عشرة سنة من خلافة “عثمان” كفيلة لأن يعيد الطّلقاء بقيادة “معاوية” بناء قوّتهم وقواهم ويرسّخون نهجهم الأعوج والاستيلاء على الحكم. إذ لم يمكّن الأعداء الكُثر “عليّ” من التقاط أنفاسه ليتابع سياسة الحكم العادل النّقيض لمصالح الأغنياء الّذين ناصروا سيطرة المال واكتنازه والأغنياء للاستغلال وشراء الذّمم وسيطرة السّياسة الأمويّة في التّفرقة والظّلم والقتل والتّمييز ضدّ الفقراء وعودة الجاهليّة والقبليّة، ومن ثمّ لتسير الأمور إلى فتنة واقتتال، واختلفت عن تلك الظّروف الّتي جاءت بعد خلافة “أبو بكر الصّدّيق” (573 – 634) وموته. ولذلك يصحّ أن نطلق على “عليّ” صاحب الفكر المادّيّ والمنهج الجدليّ قائد استمرار الثّورة الإسلاميّة الاجتماعيّة والطبقيّة للفقراء والعبيد من أجل الحرّيّة والعدالة والكرامة والّتي عبّد طريقها وأسّسها “عمر” وأرسى قواعد انتصارها برؤيته الخاصّة ذات الاتّجاه التّجديديّ. أمّا نهج الطّلقاء الأمويّين فهو نهج الثّورة المضادّة الّتي بدأت منذ حكم “عثمان” ورسّخ نهجها وعمل على انتصارها “معاوية” و”هذا النّصر شرّ من هزيمة” على المسلمين منذ تولّى المُلك وألغى الشّورى والرّأي والحقّ في المعارضة، باختصار ألغى الملك الأوّل “معاوية” الدّيمقراطيّة والحرّيّات الّتي أرساها ورسّخها “عمر”، وكان من الممكن أن يستمرّ في إرسائها وترسيخها “عليّ” بتحدّي المُلك الأمويّ، وفي هذا التّحدّي يكمن أحد أبرز أسرار عظمة “عليّ” ومركّباتها. ولعلّي لا أبتعد عن الحقيقة لو استخدمت مقولات العصر السّياسيّ الحديث ومفاهيمه، بأنّ انتصار المّلك الأمويّ منذ خلافة “عثمان” ما هو إلّا انتصار قوى اليمين الرّأسماليّ على ثورة الفقراء ودولة الشّورى والدّيمقراطيّة الّتي أسّستها قوى اليسار من الفقراء المسحوقين والعبيد المظلومين بقيادة “عمر” ونجحت أتمّ النّجاح، وحاول “عليّ” ترسيخ نجاحها وانتصارها، ولكنّ الظّروف الّتي واتت في خلافة “عمر” لم تواتِ في خلافة “عليّ”.
كان من المفروض لو حكم “عليّ” بعد “عمر” أن يكون حكمه الامتداد الطّبيعيّ لحكم “عمر” في اتّباع منهج الزّهد في الحياة والتّقشّف في المعيشة، وفي الاقتداء بمنهج النّبيّ في الدّين والاستقامة والطّهارة السّياسيّة، وهو من أوائل الثّائرين وهو في سنّ مبكّرة على النّظام القبليّ والجاهليّة الدّينيّة والعصبيّة القبليّة، فقد كان سنّه 11 سنة، وهو ثالث من أسلم وأوّل من أسلم من الصّبيان، بحكم تربيته منذ صغره في بيت النّبيّ. ومع أنّ التّاريخ لا يقوم في مسيرته على الفرضيّات بل على الحقائق، لكنّي أعتقد أنّه لو حكم “عليّ” بعد “عمر” لدام في الدّولة الإسلاميّة التّأسيس الإداريّ السّليم وسارت الأمور وفق المنهج العمريّ المتطوّر الّذي آمن به “عليّ” حتّى النّخاع، واعتمدت الدّولة الرّكنيْن الأساسيّيْن في قيام أيّ دولة تبغي البقاء والتّطوّر، وهما اتّخاذ العلم سبيلًا واعتماد الدّيمقراطيّة منهجًا. ولعلّ أمورنا في عصرنا وواقعنا اليوم كانت ستغدو بالعلم وازدهاره وبالدّيمقراطيّة وانفتاحها أكثر إنتاجًا وإبداعًا وإنجازات، ولعلّني أرى أنّ مردّ خيباتنا السّياسيّة وفسادنا الاجتماعيّ والأخلاقيّ وتقهقرنا العلميّ والحضاريّ، مردّ كلّ ذلك إلى غياب العلم والدّيمقراطيّة في دولنا العربيّة الإقليميّة، الّتي غاب عن وعيها بوجود أولئك الحكّام الأراذل الإحساس بالأمّة والرّغبة والأمل بالوحدة العربيّة الّتي لا “يغلبها غلّاب” ومالت إلى التّشرذم الإقليميّ، وبهما كنّا سنكون كأمّة عربيّة أو إسلاميّة في غنًى عن انتظار تقدّم الغرب والتّأثّر بنهضته الثّقافيّة والعلميّة، وكنّا نستطيع أن نزوّده بالحضارة والثّقافة في العصور الحاضرة، كما كنّا قد فعلنا في العصور الوسطى والسّالفة. وفي ذلك مأثرة عظيمة لأمير المؤمنين “عليّ”، لأنّه أحد أبرز الأوائل في هذا الاتّجاه والنّهج.
هنالك من المؤرّخين مَن يدّعي أنّ المملكة الأمويّة هي الّتي بنت الدّولة الإسلاميّة، وجعلتها دولة ممتدّة ومترامية الأطراف، وأنا أعتقد العكس! فالدّولة انبنت وتأسّست أثناء خلافة “عمر” على أسس حكم سليمة وعادلة، والمملكة الأمويّة جاءت وقوّضت ما انبنى وتأسّس، وهدمت دولة الشّورى الّتي بناها النّبيّ و”أبو بكر” على أسس الدّين والحياة الاجتماعيّة، ومن ثمّ بعدهما أرسى “عمر” رسوخها على مبدأ الدّيمقراطيّة، ولكنّ مملكة الطّلقاء الأمويّة المارقة، قامت على قتل الأبرياء والدّماء وقطع الرّؤوس، وما زال الملوك يعيثون فسادًا في بلداتنا العربيّة. بنى الملوك الأمويّون مملكة فاسدة، وهدموا دولة ديمقراطيّة وأمّة وثقافة طاهرة. ولمّا يزل الملوك القدماء هم الملوك الجدد، ولمّا يزل الظّلم القديم هو الظّلم الجديد. لو واتت الفرصة وكانت الظّروف مهيّئة لِ “عليّ” سياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، كما واتى فساد السّياسة وانحلال المجتمع ودمار الأخلاق “معاوية” ومملكته، لو واتت الظّروف لبنى “عليّ” دولة تكون هي الامتداد الطّبيعيَّ للدّولة الإسلاميّة الّتي أسّسها “عمر” على التّقشّف والزّهد والشّورى والعدالة والدّيمقراطيّة ومقاومة الظّلم، واعتماد الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والتّسامح والمساواة نهجًا راسخًا، وبرأيي كانت المملكة الأمويّة انكسارًا سلبيًّا وتراجعيًّا ونكوصًا إلى الوراء، الأمر الّذي أعاق انطلاقة الدّولة الإسلاميّة الواحدة، العادلة والإنسانيّة، واعتقد أيضًا أنّه لو لم تنشأ بتاتًا ولم تقم في تاريخنا الإسلاميّ ولو استمرّ نهج “عليّ” المنفتح والإنسانيّ ونهج التّأسيس الدّيمقراطيّ العادل كما بدأه “عمر” لصدّرنا الدّيمقراطيّة والفكر التّنويريّ منذ نشوء الدّولة الإسلاميّة، بل منذ نزلت أولى كلمات القرآن “اقرأ” كما صدّرنا العلوم والثّقافة ووسائل العلم وأسس الإدارة ونظريّات التّربية، ولم ننتظر لا “جون لوك” (1632 – 1704) ولا “مونتسكيو” (1689 – 1755) ولا “جان جاك روسو” (1712 – 1778) ولا غيرهم من مفكّري العصور الحديثة ولا مبادئ الثّورة الفرنسيّة ولا توجّه “نابليون” (1769 – 1821) الاستعماريّ المبطّن كذبًا بنشر العلوم، كي نتعلّم مفاهيم الحرّيّة والدّيمقراطيّة ومبادئ حقوق الإنسان والنّظريّات الفكريّة في كلّ المجالات. ولذلك على كلّ المؤرّخين والباحثين الّذين اعتقدوا وقالوا بأنّ الدّولة الأمويّة كانت عاملًا بانيًا وإيجابيًّا وعربيًّا في تاريخنا أن يراجعوا أنفسهم، ولو تعمّقوا في تحليل القرائن والمعطيات والحقائق لاكتشفوا ما اكتشفه “عمر” قبل حوالي 14 قرنًا من الزّمان، أيّ أنّها كانت عاملًا مساعدًا وسلبيًّا وأدّت إلى انتكاسة حضاريّة عربيّة وإسلاميّة ما زلنا نعيش آثارها ونعاني من ويلاتها، فدولة تقوم على التّنكّر للمنهج الإسلاميّ الطّاهر كما خطّ أسسه النّبيّ نصرة للفقراء والمظلومين وعلى مقتل أعظم النّاس “عليّ” ويغتال حكّامها أعظم الخلفاء “عمر” ولا يستتبّ حكمها إلّا بإخماد ثورة “الحسين” وقطع رأسه وبالتّنكيل بآل البيت أطهر النّاس، دولة كهذه تستبدل الخلافة بالملك والشّورى بالملك والاستئثار بالحكم والعدالة بالظّلم، لا تستحقّ الحياة ولتذهب إلى الجحيم وإلى أسفل سافلين في الدّرك الأسفل من النّار، مصحوبة بلعنة من الله والنّاس منذ مات “عليّ” وحتّى تقوم السّاعة. باختصار! لقد كان موت “علي” العظيم وانتهاء دولته وولادة مملكة “معاوية” لعنة ماحقة وضربة قاضية وساحقة على هاتيْن الأمّتيْن: العربيّة والإسلاميّة حتّى اليوم، طالما بقيت مخلّفات المملكة الأولى تحكم في ممالكنا من أمويّي آل سعود وآل هاشم الجدد وآل نهيّان وآل حمد وآل سعيد وآل ثاني وثالث ورابعهم كلبهم.
نشأته الأولى بداية لثورته الدّائمة:
هو “عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر”، يعود نسبه إلى “عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم”، وهو الوحيد الّذي ولد في جوف “الكعبة” في “مكّة”، يوم الجمعة من رجب بعد “عام الفيل” بثلاثين عامًا، ولم يولد داخل “الكعبة” أحد قبله ولا بعده، وكأنّ الله خصّه بهذه الولادة المباركة، وكانت أمّه “فاطمة بنت أسد الهاشميّة” (548 – 625) وهي أوّل هاشميّة تنجب لهاشميّ امرأة ذات إيمان وورع، وقد حمله النّبيّ إلى بيت أبيه، كان “عليّ” أصغر إخوته، في بيت أبيه “أبو طالب” (540 – 619) الّذي كان سيّد رهطه من بني “هاشم”، وكان “أبو طالب” يسير المال كثير العيال، كان “عليّ” أشهر أشقّائه الخمسة وهم: “طالب” (53ق.ه – 2ه) لم يسلم وقاتل مع “قريش” في “بدر” ضدّ المسلمين، و”عقيل” (578 – 679) كذلك، لكنّه أسلم يوم فتح “مكّة”، أمّا “جعفر” (587 – 629) فقد أسلم في أوّل البعثة وهاجر وقاتل في كثير من الغزوات، وقُطعت يداه وهو يقاتل يوم “مؤتة” ومن ثمّ استشهد ولقّب بِ “جعفر الطّيّار”، وأختاه: “أمّ هانئ” أو “خافتة” أو “هند” (576م – 50ه) و”جمانة” (38ق.ه – 61ه) والسّادس والأصغر والأشهر هو “عليّ: وهو الخليفة الرّابع والأخير.
عاش “عليّ” في بيت أبيه، كثير الأولاد وفي حالة معيشيّة فيها ضنك وصعوبة، ولذلك عانى الفقر والحرمان، وكان بطبيعته يميل إلى الزّهد والتّقشّف، ولكنّ النّبيّ الّذي عاش في بيت عمّه “أبو طالب” وكفالته بعد موت جدّه برعاية أموميّة فائقة من زوجة عمّه “فاطمة بنت أسد”، وكان “محمّد” أحبّ من أبنائهما على عمّه وزوجة عمّه ويخصّانه عنهم بالطّعام والشّراب، وبعد أن تزوّج من “خديجة بنت خويلد” (556 – 619) كان قد عرض على عمّه “حمزة” وعلى عمّه “العبّاس بن عبد المطّلب” (568 – 653) التّخفيف من معاناة عمّه “أبو طالب” المعيشيّة بأخذ بعض أولاده لتربيتهم والتّكفّل بهم، فكان “طالب” من نصيب عمّه “العبّاس”، وكان “جعفر” من نصيب عمّه “حمزة”، وكان “عليّ” من نصيب ابن عمّه “محمّد” (570 – 632) وكانت آنذاك تمرّ “مكّة” بأحوال ضائقة اقتصاديّة سيئة أصابت النّاس جميعًا بالفاقة والعدم، وكان “عليّ” طفلًا عمره ما بين الخامسة والسّادسة. والنّبيّ هو من سمّاه “عليّ” مع أنّ أمّه أرادت تسميته “حيدرة” أو “أسد”، وأبوه أراد “زيد”. نشأ في حجر النّبيّ وتحت رعايته وتربيته، لذلك كان “عليّ” محظوظا بالنّشأة والتّربية في بيت النّبي المعروف في “مكّة” بالصّادق الأمين. فتربّى “عليّ” منذ نعومة أظفاره على القيم الإنسانيّة النّبيلة إلى جانب النبيّ متمسّكًا بالمبادئ السّامية غير مكترث للدّنيا وأباطيلها، يحثّه النّبيّ على مكارم الأخلاق، فقد كان يلازمه كما يلازم الفصيل أمّه، فلم يسمع النّبيّ منه “كذبة في قول ولا خطلة في فعل”، وقد كان يصحبه معه إلى غار “حراء” عندما كان النّبيّ يتعبّد، ومن ثمّ نزل عليه الوحي، وكان “عليّ” ابن عشر سنوات، ولذلك نشأ على مبادئ النّبيّ قبل النّبوّة وظلّ على ذلك بعدها، وقد قال في ذلك: “ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير الرّسول وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرّسالة وأشمّ ريح النّبوّة”، فترعرع “عليّ” في أجواء الإيمان والتّوحيد، ويقال أنّه كان من الحنفاء فلم يسجد لصنم فكرّم الله وجهه، ولم يعش تحت شبح الجاهليّة والوثنيّة والقبليّة، ولكأنّ “عليّ” قد ولد مسلمًا وترعرع في حضن النّبوّة والبعثة ومكارم النّبيّ وعظمة المبادئ الإسلاميّة والإيمانيّة، فكان هذا النّقاء والطّهارة طريقًا جليًّا له حتّى مقتله، فقد كان طفلًا مبكّر النّموّ، متميّزًا عن أنداده في الفهم والقدرة والإدراك، فكبر كأحد أقوى فتيان “قريش” شجاعة وأكثرهم حِلمًا وعلمًا وفقهًا وبلاغة وحكمة، ونما أشدّ النّاس ورعًا وزهدًا واستخفافًا بالدّنيا ومادّيّتها، وكان كريمًا، حليمًا حتّى مع أعدائه، فنشأ لا يهادن في الحقّ ولا يخشى فيه لومة لائم، ولعلّ قصّته مع أخيه “عقيل” تظهر ثبات “عليّ” على الحقّ، فقد جاءه أخوه ليطلب مالًا من بيت مال المسلمين ليس له فيه حقّ، فأبى “عليّ” إعطاءه، فتركه مدركًا استقامة دين أخيه وعوج دنيا “معاوية” وقال: “إنّ أخي خير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي”، ولم يكن يساوم على المواقف السّامية ولا يخشى المواجهة والمجابهة فيما اختاره من سبيل الدّين الحنيف والكفاح ضدّ الظّلم وهو ما زال يافعًا، وكان في نشأته الأولى بعيدًا عن الجاهليّة والوثنيّة، ولم يتدنّس بالشّهوات الدنيويّة والمادّيّة مختلفًا في ذلك عن نشأة “عمر بن الخطّاب” الأولى حيث كان “عمر” منغمسًا قبل إسلامه بكلّ مفاسد الجاهليّة وملذّتها وشهواتها، بل ناهض المسلمين وعذّب عبيدهم، حتّى وصل حقده على المسلمين إلى أنّه مضى لقتل النّبيّ، ولكنّ “عمر” تحوّل إلى الغنى الرّوحانيّ بعد جاهليّة دنيويّة طويلة. كان “عليّ” ينام على التّراب، ولقلّة اكتراثه بنفسه ولتقشّفه في ملبسه ومطعمه ومشربه سمّاه النّبيّ “أبو تراب”. وكانت كلّ هذه السّمات الّتي نشأ عليها مكوّنات أساسيّة في شخصيّته وأسبابًا هامّة في تكون عظمته، وكان أبرز هذه المكوّنات والأسباب تحدّيه المبكّر لظلم “قريش” وجبروتها ووثنيّتها واستعبادها للفقراء والبسطاء والعبيد، ففي إحدى وصاياه وجّه كلامه لولديْه: “الحسن والحسين” قائلًا: “كونا للظّالم خصمًا وللمظلوم عونًا”، يشكّل هذا الاتّجاه أحد مكوّنات شخصيّة “عليّ” وثورته وعظمته، الّتي انتقلت إلى أولاده، وبخاصّة في الإمام الشّهيد “الحسين”. وفي نصرته لثورة النّبيّ الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والحضاريّة منذ صغره، وإسلامه وهو ابن أحدى عشرة سنة، ولذلك يصحّ أن نطلق عليه أصغر ثائر في الإسلام، كيف لا وقد صار أوّل سيف في الإسلام، مقاتلًا، شجاعًا، يقود المعارك وينتصر، وقد تجلّت عظمته وبرز تحدّيه الثّوريّ عندما دعا النّبيّ بعد هبوط الوحي “عشيرته الأقربين” من بني “هاشم”، كان ذلك “يوم الدّار”، دعاهم إلى الإيمان بنبوّته ودعوته فلم يلبِّ دعوته تلك في البداية إلّا “عليّ”، وكان عمره إحدى عشرة سنة، فكان رائدًا متميّزًا في ثورته على القيم الجاهليّة البائدة، من عصبيّة وانتماء قبليّ وكفر وفساد دنيويّ، وكان هذا الموقف أبرز مكوّن من مكوّنات عظمته الثّوريّة قبل أن يشتدّ عوده.
علاقاته مع من سبقه:
تحدّثت كثيرًا فيما سبق عن “عثمان” ولمّحت بل صرّحت عن علاقة “عليّ” به، تلك العلاقة الّتي اتّسمت بالتّنافر لأنّهما مثّلا نهجيْن متناقضيْن، فقد انزلق “عثمان” إلى مستنقع المطامع الأمويّة لضعفه وميله إلى رهطه، ولأحقاد عميقة خبّأها “أبو سفيان” وغيره من الطّامعين على النّبيّ وبني “هاشم” أهل النّبيّ ومناصريه الّذين جرّدوهم من مكانتهم وسيادتهم وظلمهم، ومنهج “عمر” الّذي جرّدهم من ثرواتهم المادّيّة الّتي استغلّوا بها النّاس واستعبدوهم. أمّا “عليّ” فقد ظلّ على منهج “عمر” مؤمنًا بالطّهارة الأخلاقيّة والسّياسيّة ولا يكترث للدّنيا، وأراد إحقاق الحقّ وإعادة النّظام القويم للدّولة على العدالة والمساواة وقدسيّة الإنسان وكرامته، زاهدًا بالمناصب والدّنيا، بعيدًا عن النّفاق والتّزلّف والمواربة، مناصرًا للحقّ ولآل بيت النّبيّ وأسس الدّين السّمح الحنيف، كما أرسى قواعده وأركانه وأسّس لدولته النّبيّ والخليفتان: الأوّل والثّاني، دون إنكار لخلافة الثّالث الّذين كان رابعهم وآخرهم. لقد تلخّص النّهجان بوضوح تامّ، فقد مثّل نهج “عثمان” ورهطه من بني “أميّة” ومستشاريهم نهج الأغنياء ومصالحهم الّتي لا تنتهي عند حدّ، ومثّل نهج “عليّ” وبني “هاشم” وأنصارهم نهج الفقراء والمستضعفين والمستغَلّين وحقوقهم الأساسيّة الّتي كافحوا بمرارة وبسالة من أجلها ولا يمكنهم التّنازل عنها، حتّى لو انتصرت الثّورة المضادّة إلى حين.
أمّا عن علاقته بالخليفة الأوّل “أبو بكر” وقد يكون “الصّدّيق” هو الوحيد الّذي سبق “عليّ” إلى الإسلام وتصديق النّبوّة وتأييدها، ورغم أنّه بايع “أبو بكر” أخيرًا، إلّا أنّ بعض مؤيّديه رأوا بخلافة “الصّدّيق” خروجًا عن تولية النّبيّ لصفيّه ووليّه “عليّ” في خطبة “غدير خمّ”، حيث قال النّبيّ: “من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه”، فقد اعتبر البعض أنّ مبايعة “أبو بكر” يوم “السّقيفة” منعت “عليّ” من الخلافة، نتيجة للأحقاد والحسد والنّزاعات القبليّة، ممّا حدا بعليّ أن لا يبايعه في البداية، وجادل “أبو بكر” في قضيّة إغماض عينيْه عن استخلاف النّبيّ لآل البيت”، وفي خطبته “الشّقشقيّة” أشار “عليّ” إلى ذلك، حيث لم يظهر خلافًا على “أبو بكر” ولا شقّ طاعة، ولكنّه كان عاتبًا، وكان منشغلًا بزوجه “فاطمة الزّهراء” (604 – 632) المريضة، وقد ماتت حزنًا بعد موت النّبيّ بستّة أشهر، ولمّا زال العتب بايع بلا إكراه بل برضى واختيار، ولا أعتقد أنّ أحدًا من المسلمين أو غيرهم يستطيع إكراه “عليّ” على فعل شيء لا يريده.
كان الأمر مختلفًا في علاقة “عليّ” مع “عمر” الخليفة الثّاني فالواحد منهما كان صفيّ الآخر وخليله، رغم أنّ “عليّ” في خلافة الثّلاثة الّذين سبقوه ابتعد عن الاهتمام في شؤون السّياسة والحكم، وكان منشغلًا بالعلم والمعرفة في قضايا كجمع القرآن، وفي شؤون القضاء، فقد قال “عمر”: “عليّ أقضانا”، كان مستشارًا للخلفاء ومرجعًا لهم في الفتاوى وشؤون الدّين والدّنيا، وكذلك لم يغفل أبدًا عن حقوق الفقراء في المال بل كانت حقوقهم من صميم اهتماماته، من خلال الاهتمام بشؤون الأعمال الّتي يزاولونها، كالزّراعة وحفر القنوات وبناء المساجد، فكان أهمّ ما يهمّه العدالة في توزيع المال على كلّ المسلمين بالتّساوي، وكان من مؤيّدي “عمر” في عدم تقسيم “أرض السّواد” في العراق على الفاتحين من قادة الجيش، وإبقائها بأيدي أصحابها الفلّاحين الفقراء، فهم أدرى بفلاحتها وزراعتها وسائر شؤونها، وكان “عمر” يعتدّ ويقوى موقفه بمساندة رأي “عليّ”، فقد كان “عليّ” المستشار الأوّل لأمير المؤمنين، لدرجة أنّ “عمر” كان يصوّر الأمر أنّ أموره كخليفة حاكم لا تستقيم بلا آراء “عليّ” السّديدة شريعة وعقلًا، فلم يقترح على “عمر” شيئًا إلّا نفّذه، وقد قال: “لولا عليّ لهلك عمر”، كان “عمر” يحبّ “عليّ” و”عليّ” يحبّ “عمر”، والمحبّة هنا هي محبّة الإيمان ومواقف الاستقامة والطّهارة السّياسيّة والعدالة والمساواة بين النّاس ومحبّة الإنسان كأغلى قيمة في الدّولة الإسلاميّة، فمصلحة الدّولة هي مصلحة الإنسان فردًا أو جماعة فيها، يتقدّم عن المال والاقتصاد. ومن المهمّ أن نذكر أنّه انتهج نهج “عمر” بالصّرامة والجدّيّة في تطبيق القوانين وبتسامح ولين وعدالة ومساواة في تنفيذ الشّريعة، وهو ما رآه أسلوبًا صحيحًا لإدارة الدّولة. وعلى هذا الأساس القويم وبعد أن تسلّم الخلافة استردّ كلّ الامتيازات والأملاك الّتي أغدقها “عثمان” على مقرّبيه من “بني أميّة” إلى بيت مال المسلمين، وهو الأمر الّذي جعل الكثير من الطّامعين والانتهازيّين من طبقة الأغنياء لا يطيقونه كما لم يطيقوا “عمر” من قبل، لقد كان “عليّ” يؤمن بحقّ النّاس على الحاكم أكثر من حقّ الحاكم على النّاس، فالحاكم لا أكثر من خادم لهم، وبخاصّة الفقراء منهم والبسطاء والمستضعفين وحقّهم لضمان معيشة كريمة. وهذا يعكس مفهومًا اجتماعيًّا آمن به “عليّ” وموقفًا طبقيًّا انحاز إليه وكافح من أجله.
لقد عبّر الشّاعر العراقيّ الشّيوعيّ “مظفّر النّوّاب” (1934 – 2019) عن الاتّجاهيْن النّقيضيْن: نهج “عليّ” ونهج “عثمان” في قصيدة له بعنوان “وتريّات ليليّة”، ووظّف هذا الرّمز بسبب تشابه موقف “عليّ” وموقف الحزب الشّيوعيّ العراقيّ في الدّفاع عن الفقراء والمحرومين فقال:
“ما زالَتْ شورى التّجّارِ ترى عثمانَ خليفتَها
وتراكَ زعيمَ السّوقيّة
أنبيكَ عليًّا
لوْ جئْتَ اليومَ لحاربَكَ الدّاعونَ إليكَ
وسمّوْكَ شيوعيّا”.
عليّ ظلّ النّبيّ:
قلنا أنّ “عليّ” منذ نشأته الأولى وهو ابن ستّ سنوات، عاش في ظلّ رعاية ابن عمّه وتحت العناية النّبويّة السّامية، لم يعشْ جاهليًّا، وكأنّه ولد مسلمًا وعاش مسلمًا وقاتل مسلمًا وقُتل مسلمًا، لقد لازم النّبيّ منذ طفولته المبكّرة، منذ أيّام “حراء” وبدايات النّزول وكان أحد كتبة الوحي، فكان أكثر من فهم واستوعب أوّل كلمة نزلت من القرآن “اقرأ” بمعانيها الكثيرة والعميقة، فصار عالمًا فقيهًا مرشدًا ومعلّمًا وذا ثقافة قلّ نظيرها. وعاش تحت ظلّ النّبيّ الوارف ظلًّا ملازمًا له في كلّ كبيرة وصغيرة، فصار صفيّه ومستشاره وسفيره ووزيره، ومنه تعلّم أن يكون مقاتلًا، شجاعًا، شديدًا وبارعًا في القتال، فكان معه في كلّ الغزوات إلّا “تبوك”، لأنّ النّبيّ أراده أن يحمي “المدينة”، فكان موضع ثقة النّبيّ، بل من أبرز النّاس الّذين كان يثق بهم. وهو زوج “فاطمة الزّهراء” (604 – 632) ابنة النّبيّ، وأمّ الإمام “الحسين”، ولعلّ أعظم ما أغدق “عليّ” وزوجه “فاطمة”، هو ما أسدياه من يد بيضاء وثورة حمراء تجسّدت في الإمام الطّاهر والثّائر “الحسين”، هذا الفضل الّذي سيطوّق رقاب النّاس إلى يوم الدّين.
لقد تجسّدت ثورة “عليّ” على الظّلم والظّالمين في مشاركته الكاملة والدّائمة في الثّورة الإسلاميّة الجديدة على النّهج القبليّ المتعصّب، وعلى العلاقات الاجتماعيّة الّتي تجعل النّاس طبقتيْن: أسيادًا، ظالمين، أغنياء، مستبدّين ومستأثرين بالحياة الاقتصاديّة والأسواق وسائر مقدّرات الحياة، وعبيدًا، مظلومين، فقراء مسحوقين، مستضعفين لا يملكون من حطام الدّنيا شيئًا إلّا قيودهم الّتي تكبّل أياديهم ونفسيّاتهم والّتي يريدون تحطيمها، وقد أسهم “عليّ” ببسالة وافتداء ومقاومة ونضال في تحطيم تلك الأغلال ونصرة هؤلاء العبيد والفقراء في ثورتهم لينالوا لقمتهم الكريمة وحرّيّاتهم الكاملة ومكانتهم الإنسانيّة.
كانت الآيات الأربع الأولى: “يا أيّها المدّثّر، قم فأنذر، وربّك فكبّر، وثيابك فطهّر” (القرآن الكريم، سورة المدّثّر، رقم 74، الآيات 1 -4) هي الآيات الّتي أذنت للنّبيّ أن يبدأ دعوته سرًّا حفاظًا عليها، لأنّه كان يدرك ثقل الحمل الّذي ألقي عليه كما ورد في هذه الآية: “إنّا سنلقي عليك قولًا ثقيلا” (القرآن الكريم، سورة المزمّل، رقم 73، الآية 5) وسورة المزمّل نزلت في الفترة القصيرة ذاتها على النّبيّ، كان النّبيّ يتحسّب ويدرك ويتخوّف على مصيره ومصير الدّعوة أمام جبروت “قريش” وجاهليّتهم ووثنيّتهم وعصبيّتهم وأغنيائها من أسياد البطون ومصالحهم المادّيّة والاقتصاديّة ومفاهيمهم السّياسيّة وعاداتهم وأخلاقهم، وهي الّتي جاء النّبيّ الفقير البسيط من “بني هاشم” ليزعزعها جميعًا ويجتثّها من جذورها، وليبدأ أوّل ثورة اجتماعيّة طبقيّة في بلاد الحجاز والجزيرة العربيّة، تقوم على العبيد والمستضعفين ومن أجل حرّيّاتهم وكرامتهم وسائر حقوقهم الإنسانيّة، وكان “عليّ” جاهزًا لذلك الأمر الجلل، وعاش كلّ المخاطر إلى جانب النّبيّ بجرأة وشجاعة وفداء وبطولة وصلت أوجها “ليلة المبيت” سنة (622) حيث سأل النّبيّ مَن يستطيع النّوم في فراشي ليلة الهجرة، وقد كانت الخطوة هذه للتمويه وللتغطيّة على هجرة النّبيّ إلى “المدينة”، ولم يجب سؤال النّبيّ الّذي كرّره ثلاثًا إلّا “عليّ” وأجابه ثلاثًا، لأنّه هو الملازم الدّائم للنّبيّ، فبنوم “عليّ” مكانه يعتقد سادة “قريش” أنّ النّبيّ ما زال في “مكّة”، وبهذا افتدى “عليّ” النّبيّ بنفسه فأحبط مؤامرة الاغتيال المدبّرة في “دار النّدوة” حيث يجتمع سادة “مكّة” لكلّ أمر جليل. ولهذا استحقّ “عليّ” أن يلقّب بِ “أوّل فدائيّ في الإسلام”، وفي سنة (623) تزوّج من “فاطمة الزّهراء” وترك مكّة مهاجرًا بعد استدعائه من النّبيّ، فظلّ ملازمًا له في “المدينة” كما كان في “مكّة” منذ البعثة حتّى الهجرة.
أوّل سيف يصنع أوّل انتصار:
في الغزوات والحروب أبلى “عليّ” بلاء قتاليًّا مميّزًا، حقّق من خلال بلائه ذاك انتصارات كبيرة، وفي بعضها كان هو السّبب الرّئيس للانتصار، معركة “بدر” في (17 رمضان سنة 2 ه) كانت أولى المواجهات القتاليّة والكفاحيّة بين 300 من الثّوّار المسلمين، على رأسهم النّبيّ و”عليّ” حامل رايته، وكبار الصّحابة والفقراء العبيد الجائعين للنّصر والحرّيّة وبين 1000 من المشركين، على رأسهم أسياد “قريش” وأغنيائها الخائفين على تجاراتهم وثرواتهم وعلى سيادتهم السّياسيّة ومكانتهم الاجتماعيّة، قرب آبار “بدر” على بعد 160 كم من المدينة التقى الجمعان، خاض “عليّ” هذه المعركة وهو ابن عشرين عامًا، وكان على رأس فرقة للتّجسّس على خطوط العدوّ في البداية، ومن ثمّ كان أوّل المبارزين مع عمّه “حمزة” (568 – 625) وابن عمّه “حذيفة بن الحارث”، وكان “عليّ” يمتاز بقوّة وشباب وبصيرة وإيمان وحماس واندفاع عاقل لتحقيق الانتصار، فقتل “الوليد بن عتبة” (توفّي سنة 624) وهو خال “معاوية بن أبي سفيان”، وفي المواجهة والكفاح القتاليّ قتل جدّ “معاوية” وأخاه وعددًا كبيرًا من “بني أميّة”، ممّا جعل “بني أميّة” يضمرون له الحقد حتّى انتقموا لهم بمقتل الأمام الشّهيد “الحسين” في “كربلاء” (سنة 61 ه) وقد عبّر الملك الأمويّ الثّاني “يزيد بن معاوية” (647 – 683) بقول جدّه “أبو سفيان” إذ قال: “يوم بيوم بدر” يوم “أحد” (سنة 3 ه) وردّدها “يزيد” بعد مجزرة “كربلاء”.
كان “عليّ” ببسالته وبطولته يمثّل نموذجًا للشّباب المقاتل الّذين لعبوا دورًا كفاحيًّا وقتاليًّا مميّزًا، ومنهم ممّن يجدر ذكرهم “عمير بن أبي وقّاص” (14 ق. ه – 3 ه) استشهد وهو يقاتل في “أحد” وَ “مصعب بن عمير” (42 ق. ه – 3 ه) استشهد في “أحد”، وهو أوّل سفير في الإسلام، وَ “معاذ بن الجموح” (توفّي في خلافة عثمان) وَ “معاذ بن عفراء” (توفّي في خلاقة عليّ) وهما من قتل “أبو جهل” (572 – 624) في المعركة. وتؤكّد المصادر التّاريخيّة القديمة أنّه قتل في المعركة 70 من “قريش” كان “عليّ” وحده قد قتل نصفهم، وقد أسر 70 من “قريش” أيضًا، ولذلك قيل: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ”. كانت “بدر” أعظم المعارك ليس لأنّها تمثّل الانتصار الأوّل لفئة قليلة على فئة كثيرة، بل لأنّها أسّست لقواعد الدّين الجديد بروحانيّته وبنظمه السّياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، وأبرزها المساواة والعدل والحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، وأرست أسس الثّورة الإسلاميّة بكلّ أنوار قيمها العظيمة وسناء مفاهيمها السّامية على طغيان أسياد “قريش” وظلامها وظلمها وكفرها وجاهليّتها وعصبيّتها واستعبادها واستئثارها وميلها إلى الدّنيا والمادّيّة الطّينيّة المقيتة. لقد كانت “بدر” في الحقيقة نقطة تحوّل ومفصلًا تاريخيًّا في تاريخ الإسلام والجزيرة العربيّة، بل تخطّت ذلك إلى التّاريخ البشريّ كلّه، تمّ كلّ ذلك بعد أن خرج الثّوار المسلمون من الاختفاء والاختباء والحيطة والحذر والعمل السّرّيّ والتّخوّف، من سطوة “قريش” وظلمها، إلى الظّهور والجهر بالدّعوة وإلى العلنيّة والكفاح والمقاومة والاستعداد للمواجهة القتاليّة المباشرة، فكان من أبرز نتائجها أن هزّت المشركين من “قريش” واليهود المتربّصين بقلق ونفاق وتآمر لسحق ثورة المسلمين هزّة عنيفة، فقد قلبت الهزيمة أوضاعهم وجعلتهم يراجعون تفكيرهم لأنّ “بدر” كانت المقدّمة الأولى لثورة المسلمين الطّبقيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والحضاريّة، والّتي أزالت جبروت “قريش” ووثنيّتها وأسس النّظام القبليّ العصبيّ المبنيّ على الفساد الأخلاقي والعادات البالية والظّلم الطّبقيّ واستعباد النّاس واستغلالهم. وكان “عليّ” من أبرز القادة الثّائرين في هذه المواجهة، وله فضل كبير في هذا الانتصار الإسلاميّ الأوّل على الظّلم والظّلام والاستعباد.
يوم بيوم بدر:
تجرّع سادة البطون القرشيّة الهزيمة في “بدر”، ولكنّهم لم يهضموها ولم يتقبّلوها، خاصّة بعد أن فقدوا من رموزهم الكثيرين: أميّة بن خلف، أبو جهل، عتبة بن المغيرة، وابنه الوليد وأخوه “شيبة”، ولم يظلّ من البارزين فيهم إلّا “أبو سفيان” الّذي امتاز بتفكير مادّيّ واقتصاديّ، وفضّل الابتعاد عن منطقة “بدر” بقافلته المحمّلة بالبضائع والثّروات، والأهمّ من ذلك أنّه رأى أنّ كرامة “مكّة” وأسيادها وتجّارها الأغنياء تكمن في هذه القافلة القادمة من اليمن. فأنشأ هؤلاء يستعدّون للانتقام من المسلمين، محمّلين بحقدهم في محاولة لاستعادة كرامتهم المهدورة يوم “بدر”، إذ بدّد الثّوّار من العبيد والمستضعفين أمجاد “قريش” وألحقوا بساداتها الذّلّ والهوان. وبعد سنة واحدة من معركة “بدر” التقى الفريقان اللّدودان قرب جبل “أحد” في (7 شوّال، سنة 3 ه) فكان المشركون تحت قيادة “أبو سفيان” والمسلمون تحت قيادة النّبيّ، وبصبر “عليّ” وبسالته مع ألف من المقاتلين المسلمين أمام 3000 من “قريش”، استطاع أن يقتل “طلحة” حامل راية المشركين، وقد أبلى في القتال خاصّة بعد أن اقترب المشركون من النّبيّ وكادوا يقتلونه، ولكنّ “عليّ” هو الوحيد الّذي ثبت في المواجهة ودافع باستماتة عن النّبيّ ونجّاه من موت محقّق، بعد أن ترك رماة المسلمين الجبل قبل أمر النّبيّ، فخسر المسلمون حماية ظهورهم بعد أن انكشفت للعدوّ، فانقضّ “خالد بن الوليد” (592 – 642) بفرسانه على المسلمين، واستشهد منهم في “أحد” حوالي 70 شهيدًا، كان أبرزهم “حمزة بن عبد المطّلب” أحد أبرز قادة النّصر في “بدر”، ولذلك ينسب للمقاتل الثّوريّ “عليّ” ولصبره وبطولته وثباته خلاص المسلمين من هزيمة ماحقة، وبذلك خرجوا من معركة “أحد” بخسائر مادّيّة ونفسيّة كان لها تأثيرها الجليّ، ولكنّ معنويّاتهم وإن أصيبت ظلّت عالية وقويّة لم تتزعزع، وبرغبة عاقلة وجامحة ذهبوا لدراسة الأوضاع والظّروف واستخلاص العبر والدّروس من تلك المعركة الّتي امتزجت فيها مرارة الهزيمة بحلاوة النّجاة وعدم الانكسار، وأبرز تلك الدّروس ضرورة الالتزام بأوامر النّبيّ القائد الأعلى للجيش.
“يوم بيوم بدر” بهذه المقولة لخّص “أبو سفيان” معركة “أحد” فقد اعتبر أنّ المشركين “انتصروا” في “أحد” فاستعادوا شيئًا من كرامتهم المعنويّة المهدورة واستردّوا بعضًا من مكانتهم بين قبائل العرب، فكان في تلخيصهم لذلك “النّصر” بعضًا من الأمل المترنّح في سحق ثورة العبيد المسلمين بقيادة النّبيّ وسنده البارز “عليّ” والتّخلّص من “شرّها” إلى الأبد.
وبعد هذه المعركة ترسّخت المقولة أنّ “عليّ” هو “أوّل فدائيّ في الإسلام” بعد أن افتدى النّبيّ أوّل مرّة أولى يوم “المبيت”، وها هو يفعل ذلك الافتداء مرّة ثانية يوم “المهراس” كما سمّى البعض يوم “أحد” لكثرة الشّهداء من المسلمين، فثبت يوم فرّ الكثيرون. فأيّ عظمة أسمى من الثّبات في القتال والدّفاع عن النّبيّ وخلاص المسلمين بأقلّ ما يمكن من الخسائر المعنويّة والمادّيّة والبشريّة.
تخندق المسلمون:
أشار الصّحابيّ “سلمان الفارسيّ” (568 – 654) على النّبيّ قائلًا: “يا رسول الله! إنّا كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تتخندق”، فاستجاب النّبيّ للفكرة الدّفاعيّة بحفر الخندق، ولذلك سمّيت هذه الغزوة باسْم “الخندق” أو غزوة “الأحزاب”، إذ اجتمعت مجموعة من القبائل العربيّة لغزو “المدينة”، والقضاء على المسلمين، كان ذلك في آذار، سنة (627 م، شوّال 5 ه) بعد أن نقض يهود “خيبر” عهدهم مع النّبيّ، ومن ثمّ حاولوا قتله، ولمّا أخفقوا واستسلموا صاروا يؤلّبون القبائل العربيّة على النّبيّ والمسلمين، فجاءوا بآلافهم من “قريش” و”كنانة” و”غطفان” و”أسد” و”سليم”، ومن ثمّ انضمّ إليهم يهود من بني “قريضة”. لقد استطاعت عشرة آلاف من جيوش القبائل بقيادة “أبو سفيان” حصار “المدينة” لثلاثة أسابيع ذاق فيها أهلها طعم الشّدة والجوع. ولكنّهم عجزوا عن دخولها بسبب الخندق، ورغم ذلك استطاع “عمرو بن عبد ودّ العامريّ” (547 – 627) وكان من أشدّ الفرسان المقاتلين قوّة وبأسًا من اجتياز الخندق وأخذ يزمجر ويهدّد ويدعو للمبارزة، فقال النّبيّ: “مَن لهذا اللّعين” ثلاث مرّات، فاستجاب لها “عليّ” فقط ثلاثًا، لكنّ النّبيّ منعه في مرّتيْن وفي الثّالثة طلب منه الاستعداد فواجهه “عليّ” بفنّيّة قتال وبسالة وإصرار على تحقيق النّصر، واستطاع أن يقتله بضربة واحدة من سيفه، ومن ثمّ يقتل ابنه في المعركة نفسها، لقد قال النّبيّ بعد هذه المبارزة: “لضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثّقليْن إلى يوم القيامة”، ولعلّ هذا القتل هو مفتاح الانتصار للمسلمين في الخندق، فبمقتل أبرز فرسانهم انكسرت شوكتهم وانهزموا، خاصّة أنّ الرّياح الباردة قد منعتهم كذلك من تحقيق غاياتهم، مع أنّ جيوشهم كانت ثلاثة أضعاف جيش المسلمين الّذي كان من ثلاثة آلاف. في هذه الفترة بعد انتصار المسلمين في غزوة “الخندق” استعادوا فيها هيبتهم المكسورة ومعنويّاتهم الّتي فقدوا بعضًا منها يوم “أحد”، لأنّهم تعلّموا الدّرس واستخلصوا العبر، وصاروا طرفًا يعتبر ندًّا قويًّا، أمّا “قريش” وحلفاؤها من قبائل العرب، فصاروا يحسبون لهذه القوّة النّاشئة الحساب، وقد أدّت هذه النّدّيّة بين الفريقيْن: المسلمين وأنصارهم وقريش وحلفائها، إلى الاتّفاق في صلح “الحديبية” في آذار، سنة (627 م، ذي القعدة، 6 ه) وهو الاتّفاق الّذي نصّ على مجموعة من البنود، كان أبرزها الاتّفاق على هدنة من عشر سنوات، ولم يعجب “عمر” وَ “عليّ” الاتّفاق وعارضاه خاصّة أنّه لم يبدأ بالبسملة الإسلاميّة “بسْم الله الرّحمن الرّحيم”، بل بافتتاحيّة جاهليّة “باسْمك اللهمّ”، وكذلك لم تذكر صفة النّبيّ “محمّد رسول الله” بل كتب “محمّد بن عبد الله”، فقد كان “عليّ” هو الكاتب، فلمّا أملى عليه النّبيّ ذلك كفّ عن الكتابة وقال أن يده لا تطاوعه أن يكتب ذلك. ولكنّ “عمر” وَ “عليّ” رضخا لرأي النّبيّ السّديد ولحكمة نبويّة ثاقبة، وكأنّ النّبيّ كان يعرف أنّ كفّار “قريش” وأسيادها وخوفهم على مصالحهم وثرواتهم لن يستطيعوا الصّمود بالاتّفاق عشر سنوات، وبذلك كان الصّلح “الحديبية” مقدّمة وتمهيدًا لفتح “مكّة”، بعد أن نقضت “قريش” العهد. وهذا يبيّن بشكل جليّ أنّ “عليّ” وَ “عمر” كانا على نهج إيمان منفتح وفكر جدليّ واحد، يعطي ويأخذ، يعارض ويناقش، يرفض ويحاور، وهو المنهج الّذي سينتهجانه في الحكم فيما بعد. ولكنّ الظّروف الدّينيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي واتت زمان “عمر”، فنجح في ترسيخ هذا النّهج الفكريّ الجدليّ، تلك الظّروف مجتمعة لم تكن لتواتِ “عليّ” لانقلاب المفاهيم واضطراب الأحوال كلّها، مع أنّه آمن بالنّهج الجدليّ نفسه.
عليّ أسد الله الغالب:
وتزداد العظمة القتاليّة بروزًا وسطوعًا عند “عليّ” ففي غزوة “خيبر” في محرّم، سنة (7ه) استطاع 1400 من المقاتلين المسلمين محاصرة مدينة “خيبر” وهي مدينة غنيّة الموارد، سكّانها من اليهود وكانت محصّنة بالقلاع والأسوار، لقد شكّل يهود “خيبر” طابورًا خامسًا في خدمة “قريش” ورغبتهم كانت أقوى وأشدّ في التّخلّص من النّبيّ والمسلمين وأخطارهم على مكانتهم وثرواتهم. فبعد الاتّفاق في صلح “الحديبية” والهدنة القتاليّة كان يهود “خيبر” هم الّذين يحرّضون “قريش” على احتلال “المدينة المنوّرة”، وليس فقط بل شاركوا في تحالف الأحزاب يوم “الخندق”. فكان لزامًا على النّبيّ أن يحاصرهم ويكسر شوكتهم ويحدّ من نفاقهم وأثرهم الاقتصاديّ وانحيازهم للمشركين. ورغم كثرة حصونها القويّة استطاع المسلمون، وعلى رأسهم “عليّ” الفدائيّ العظيم الّذي علّم النّاس شرف البطولة ومعنى الفداء والوفاء للمبادئ العظيمة، لقد اختاره النّبيّ لمهمّة فتح الحصون واختراق الأسوار، بعد أنّ تعسّر ذلك على “أبو بكر” في المحاولة الأولى وعلى “عمر” في المحاولة الثّانية، ومرّة أخرى تثبت مقولة “لا فتى إلّا عليّ ولا سيف إلّا ذو الفقار”، وبخطّة قتاليّة سليمة بدأ “عليّ” بقتال “مرحب بن الحارث” (توفّي سنة 7ه، 628م) أبرز فرسان “خيبر وأشدّهم، فقتله عند الحصن الأوّل، ممّا أدّى بالمقاتلين إلى الاختباء في داخل الحصون، فقام باستدراج أبطال “خيبر” وفرسانها الكُثر إلى سهل منبسط ليسهل قتالهم، وبذلك استطاع قتل “الحارث” (توفّي سنة 7ه، 628م) أخي “مرحب”، ومن ثمّ كثير من الفرسان واحدًا تلو الآخر، حتّى استطاع المسلمون من السّيطرة على كلّ الحصون والمدينة كلّها صارت تحت نفوذهم. إذا استحقّ “خالد بن الوليد” لبلائه القتاليّ في غزوة “مؤتة” لقبَ “سيف الله المسلول” وكان النّبيّ من لقّبه بذلك، فإنّ “عليّ بن أبي طالب” استحقّ بجدارة لقب “أسد الله الغالب” لبلائه وتميّزه القتاليّ في كلّ المعارك الّتي قادها النّبيّ فنال من النّبيّ ذلك اللّقب العظيم.
كانت كلّ النّتائج الحربيّة والظّروف السّياسيّة ونتائج الاتّفاقات وخرقها، ورغبة الّذين أُخرجوا من ديارهم بالعودة إلى “مكّة”، وضعف فريق “قريش” وتصدّع التّحالفات مع القبائل، كلّ ذلك كان يمهّد الطّريق لفتح “مكّة”، وبدون حرب أو مقاومة من أحد، خاصّة وأنّ “أبو سفيان” قد ذهب إلى “المدينة” متوسّلًا ومتسوّلًا الحفاظ على بنود صلح “الحديبية”، ولم يقبله أحد ولم يشفع له عند النّبيّ أحد، وعاد يجرّ أذيال الخيبة والذّلّ وليستعدّ لمرحلة تلوح في الأفق القريب، “محمّد” سيفتح “مكّة” وسيحكم سيطرته على معظم جزيرة العرب، والخسائر بنظر “أبو سفيان” جدّ فادحة، الحكم السّياسيّ والمكانة الاجتماعيّة والثّروات الاقتصاديّة والهيبة الجاهليّة، كلّ ذلك المجد والعزّ والسّيادة والثّراء والاستعباد والاستئثار سيذهب أدراج الرّياح، وسيصبح تحت رعاية “العبّاس بن عبد المطّلب” عمّ النّبيّ، ومن ثمّ سيحظى بعفو من النّبيّ كواحد من الطّلقاء وواحد من المؤلّفة قلوبهم، يأخذ أعطيته من المسلمين، ويسلم كاذبًا ويتربّص بخبث للفرصة السّانحة لاستعادة بعضًا من أمجاده الزّائلة.
“عليّ” ينشغل ببعض الجيوب القليلة الّتي تقاوم الفتح، فقد رفض بعض المقاتلين القرشيّين تسليم المدينة وقد أصرّوا على صدّ المسلمين عنها، ومن أبرزهم “أسد بن غويلم” و”الحويرث بن خبابة”، لقد استطاع “عليّ” بشجاعته المعهودة أن يقتلهما ويقتل كثيرًا من الفرسان المتعنّتين. وإلى جانب ذلك استطاع أن يزهق الكثير من الأصنام الجاهليّة الّتي كانت رمز عهد ولّى، وأهمّها وأشهرها “هبل” معبود “قريش” التّاريخيّ، و”عليّ” هو الوحيد الّذي استطاع حمله وصعد به إلى ظهر “الكعبة” وألقاه فتحطّم، وتحطّمت بتحطّمه مرحلة تاريخيّة وثنيّة، قبليّة، جاهليّة وعصبيّة، سادها الظّلم الاجتماعيّ والاستعباد والظّلام الأخلاقيّ والدّينيّ. لقد قتل “عليّ” صناديد “قريش” وأعزّة أهلها وأزهق أصنامها وآلهتها، فأدخل الحزن إلى كلّ بيت، ولذلك غلى عليه حقد “قريش” وزادت كراهيّتها له. هذه هي بطولات “عليّ” القتاليّة وبسالته من أجل الحقّ ونور الدّين الحنيف وضدّ الظّلم والظّلام والجاهليّة والعصبيّة، وهي صورة أخرى تصوّر جزءًا من عظمته ومضمونًا جديدًا من مضامين عظمته الّتي لا تعرف حدودًا من كثرة تعدّد ألوانها ومكوّناتها.
عليّ شجاع إنسان:
لم تكن شجاعة عليّ ترتكز على قدراته الجسديّة وقوّته البدنيّة الّتي اعتمد فيها على بنية جسده المتميّزة بالصّلابة، فقد كان قصيرًا مفتول العضلات في اليديْن والرّجليْن، فلم يصارع أحدًا إلّا صرعه، ولم يقاتل أحدًا إلّا قتله، وكان يزحزح الحجر الضّخم الّذي يحتاج لزحزحته كثيرًا من الرّجال الأقوياء، ويقتلع الباب الكبير ويحمله كما فعل ذلك يوم “خيبر”، بعد أن تراجع عنه كثيرون. لو اقتصرت شجاعة “عليّ” هذه على القدرة الجسمانيّة الهائلة فقط لرأينا فيه مصارعًا خاليًا من القيم الإنسانيّة شبيهًا بِ “عمر” أيّام الجاهليّة، ولكنّ شجاعة “عليّ” امتزجت بأخلاق الإسلام وقيمه وتعاليمه قرآنا وسنّة نبويّة، وقد عاش تحت كنف النّبوّة وهو بعد ابن ستّ سنين، فكان له النّبيّ خير معلّم في الشّجاعة المرتكزة على قيم الدّين الثّوريّ الجديد، ولذلك دفعته هذه الشّجاعة الرّوحانيّة المدعّمة بالقدرة الجسديّة وهو ابن عشر سنين فقط إلى التّصدّي لبعض القرشيّين الّذين حاولوا الاستهزاء بالنّبيّ ودعوته في بدايتها، وقد دفعتهم إلى ذلك مكانتهم الاجتماعيّة وسننهم القبليّة والوجاهة والتّكبّر والعزّة بالإثم. لقد ترافقت شجاعته كإنسان عامر وجدانه بالإيمان مع قدرة على الإقدام باعتزاز ذاتيّ وإيمانيّ كبير وثقة عميقة بالنّفس.
وقد امتزجت شجاعته بسجايا إنسانيّة كان أبرزها “العفو عند المقدرة”، وهو ما تعلّمه من الحديث النّبويّ الشّريف، فقد كان شجاعًا لا يهاب أعظم الفرسان الأعداء، ولكنّه كان يدعوهم إلى الإيمان قبل نزالهم، وعندما يأبوْن يتقدّم لقتالهم بقوّة الفارس المجرّب الّذي لا يخشى العواقب، مثلما فعل يوم “الخندق” بفارس الجزيرة وشجاعها “عمرو بن عبد ود” وبفارس خيبر “مرحب بن الحارث”. وكان عندما يظفر بأعدائه وينصاعون قبل قتلهم يعفو عنهم كما فعل بِ “عبد الله بن الزّبير” (623 – 692) وخصومه الألدّاء: “مروان بن الحكم” (623 – 685) و”سعيد بن العاص” (2ه – 58ه) و”عمرو بن العاص” (575 – 664) وفي وقعة “الجمل” سنة (656) تصرّف بمروءة وشرف وصيانة خدر مع زوجة النّبيّ “عائشة بنت أبي بكر”، كانت لا تكنّ له أيّ ذرّة من الودّ بل وتكرهه، أرسل معها عشرين امرأة من أشراف النّساء ومعها أخوها “محمّد بن أبي بكر” (631 – 658) وولديْه: “الحسن” وَ “الحسين”، والنّساء يرافقنها بلباس رجال ليهابهم المعتدون المحتملون، ويحرسن موكبها بعد مشاركتها في القتال وتأليب “الزّبير بن العوّام” (594 – 656) وَ “طلحة بن عبيد الله” (594 – 656) ضدّ “عليّ” في وقعة “الجمل”، وقد لامته على كشفها على الرّجال، وعند الوصول كشفت النّساء عن أنفسهنّ، فظهرت عفّة “عليّ” ومروءته ومحافظته على خدرها وشرفها، وقالت بعد وصولها: “والله لأنّ عليّ من الأخيار”. وفي الوقعة نفسها جاءته “أمّ طلحة” الّتي قتل أولادها، مقرّعة تدعو عليه بالويل والموت بتكرار عنيف ممّا أغضب أحد أتباعه، فقال “عليّ” للرّجل: “إنّا أُمِرنا أن نكفّ عن النّساء وهنّ مشركات، أفلا نكفّ عنهنّ وهنّ مسلمات”.
لقد كان ذا فروسيّة مصحوبة بنخوة الإنسان ومروءته، لذلك كثيرًا ما كان يوصي أتباعه من المقاتلين معه في الحروب: “ألّا يقتلوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا سترًا ولا يمدّوا يدًا إلى مال”. أمّا الملك “معاوية بن أبي سفيان” فقد رشى زوجة “الحسن بن عليّ” وأمدّها بالمال فدسّت له السّمّ وقتلته، أما الملك الثّاني “يزيد بن معاوية” فقد قتل الإمام “الحسين بن عليّ” ومثّل به وقطع رأسه ونكأه بالعود، فأيّ أخلاق لمسلمين هذه؟ وبأيّ قيم يؤمنون؟ والله كان كفّار “قريش” وسادتها الظّالمون على ظلمهم أكثر رأفة ورحمة من هؤلاء الكذّابين من ملوك “بني أميّة” باستثناء “عمر بن عبد العزيز” (681 – 720) الّذي قال: “أزهد النّاس في الدّنيا عليّ بن أبي طالب”، وكان يمنع الأمويّين من ذكره بسوء في محضره.
وكان رغم شجاعته الكبيرة يتحلّى بالابتعاد عن الظّلم والزّهو، فقد تحلّى “عليّ” بالكرم والإنصاف والرّأفة حتّى بالأعداء والخصوم، فقد منع جنوده جنود “معاوية” عن الماء بعد أن هزموهم فأسقاهم “عليّ” كي لا يموتوا عطشًا، حتّى عندما سبّوه ولعنوه من على المنابر لم يسمح لأتباعه أن يسبّوا ويلعنوا خصومه وأعداءه. لقد كان “عليّ” نموذجًا رائعًا للتّذمّم وحفظ اللّسان من الأذى ونموذجًا أروع للتّواضع والزّهد والتّقشّف، وكانت هذه الخصال فيه معوانًا على صلابة مواقفه وشجاعته وسدادة رأيه وشدّته في الحقّ. لقد كانت “الكوفة” عاصمته وفيها “القصر الأبيض” مقرًّا معدًّا له ولخلافته، فأبى أن ينزل فيه لتواضعه وزهده بالدّنيا ومظاهرها الفانية وتقشّفه الشّديد، وبنى خصاصه بالقرب من خصاص فقراء الكوفة وبسطائها، ولذلك صار نموذجًا للمظلومين وشعارًا ثوريًّا لكلّ مطالب بالحقّ والعدل والحرّيّة والمساواة، فصار اسمه محفّزًا للثّورة في وجهها الاجتماعيّ، فقد ربطت علاقة نفسيّة ووجدانيّة بين “عليّ” وبسطاء النّاس. شجاعة “عليّ” بكلّ وجوهها الجسديّة والرّوحيّة والإيمانيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة وطهارة ضميره ويده، مع ميله إلى التّحرّر الفكريّ والتّجديد والتّمرّد جعلت منه ذلك العظيم إنسانًا وشجاعًا، إنّ العظمة تجسّدت فيه، فقلّ نظيرها عند الآخرين حتّى من كبار الصّحابة الّذين تفانوْا لأجل الدّين الجديد وضحّوا بالغالي والزّهيد في خدمة أهدافه الجليلة وتعاليمه السّمحة وأخلاقه السّامية.
خطبة الجهاد:
لعلّ هذه الخطبة هي أكثر النّصوص وأغناها في تصوير شجاعة “عليّ” على المستوى الفرديّ كجنديّ مقاتل، وعلى مستوى القائد لجماعة ولجيش يقاتل من أجل الحقّ والدّين والدّفاع عن المبادئ. وقد ورد نصّ هذه الخطبة في كتاب “نهج البلاغة” تحت الرّقم 27، ولعلّ العنوان يعكس مضمونها الأساسيّ، وهو الدّعوة للجهاد، وفيها الكثير من الجوانب أبرزها الأحاسيس الإنسانيّة أثناء الصّراعات والحروب، ولكنّها تنطوي على أبعاد سياسيّة واجتماعيّة وعقائديّة وعسكريّة، تبيّن أنّ “عليّ” يدرك كمفكّر عسكريّ وقائد ميدانيّ ظروف المعارك وملابساتها والأسباب الكامنة وراء تحقيق النّصر أو وقوع الهزيمة، ففي هذه المعركة أغار جيش لِ “معاوية” على “الأنبار” وهي خاضعة لحكم “عليّ” بقيادة “سفيان بن عوف الغامديّ الأسديّ، وقد قتل قائد جيش “عليّ” وهو “حسّان البكريّ”، فدعا أهل “الكوفة” للجهاد ضدّ جيش “معاوية”، وقال في استهلالها: “أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرًّا وإِعْلَانًا، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَ اللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ،”. يؤمن “عليّ” بشرعيّة خلافته وبضرورة مبايعة “معاوية” له كوالٍ من الولاة، لكنّ معاوية أبى وناجز واتّهم “عليّ” بقتل “عثمان” وطالبه بدمه واستأثر في بلاد الشّام متّخذًا “دمشق” عاصمة له. وفي الظّرف الّذي يبيّن فيه “عليّ” فضل الجهاد وضرورته يرى بأمّ عينه تخاذل الكوفيّين عن نصرته، وبعاطفة جليّة ووجدان باكٍ، وبلسان يترجم قلب قائد شجاع وعظيم، ولكن تخالجه أحاسيس الخذلان والتّقاعس عن نصرة الحقّ، يخاطبهم محاولًا التّأثير لرفع معنويّاتهم الهابطة وتحريك عواطفهم الباردة، وجّه هذه الصّورة بألم: “ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعَاثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ”. ومع هذا التّعبير والتّصوير الّذي يثير المشاعر ويبعث الحرارة في النّفوس، ظلّ القوم على تخاذلهم، حتّى بيّن “عليّ” بنظرة ثاقبة إلى المستقبل القاتم الّذي ينتظرهم، مبيّنًا شعوره باليأس المؤلم الّذي يدمي القلوب. “فَيَا عَجَبًا، عَجَبًا واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، ويَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحًا لَكُمْ وتَرَحًا، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضًا يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَوْنَ”. لم تجدِ كلّ هذا الفصاحة والبلاغة وحسن التّعبير والقدرة على التّوصيف من إذكاء الحميّة والرّوح الحماسيّة في نفوسهم، وقد أحسن “عليّ” تصوير تخاذلهم المريب وحججهم الواهية والتّخاذل عن القتال رغم أنّهم دعاة حقّ ويقاتلون دفاعًا عن أوطانهم وعن ممتلكاتهم وأعراضهم وذممهم، والأقسى عند “عليّ” قبولهم بالذّلّ والهوان، إذ يُغار عليهم وتُغزى بلادهم وتحتلّ أوطانهم ويعتدى على الدّين بمعصية الله، ويتواكلون ولا يتحرّكون ويقصرّون في الذّود عن حقّهم وهم المستهدفون، وكذلك يصل بهم الأمر حتّى إبداء الذّرائع ليبرّروا تخاذلهم المهين. فيقول “عليّ” بإحساس القائد الخائف على المصير: “فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ”، وهذه مجرّد ذرائع، أمّا الحقيقة فهي هذه كما لخّصها القائد الشّجاع والمخذول: “كُلُّ هَذَا فِرَارًا مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ”. ومن ثمّ ولشدّة تعجّبه من تواكلهم وتقاعسهم ولعظمة رغبته في المضيّ للدّفاع عن الحقّ والدّين وضرورة قهر معصية الله بالقتال والجهاد ينهي “علي” خطبته تلك بالهجوم عليهم بشكل كاسح وبذمّهم بشكل لاذع وكلام جارح يكاد يكون أقرب إلى السّبّ واللّعن فيقول: “يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللهِ جَرَّتْ نَدَمًا، وأَعْقَبَتْ سَدَمًا، قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ”. ولعلّ أصعب ما لاقى “عليّ” وهو الفارس الشّجاع والجنديّ والقائد العسكريّ صاحب الدّراية هو ما شاع عليه نتيجة لهذا التّخاذل والقبول بالمذلّة، هو ما قاله: “حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، لِلَّهِ أَبُوهُمْ؛ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسًا، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَامًا مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ”.
الخليفة المظلوم:
عندما أوصى “عمر” قبل أن يموت باختيار أحد المستخلفين السّتّة كان يدرك أنّ الأمر سائر لأحد اثنيّن: “عثمان” أو “عليّ”، وله في ذلك مقال: “ما أظنّ إلّا أن يليَ أحد هذيْن الرّجليْن: عليّ وعثمان، فإنّ عثمان رجل فيه لين، وإنْ ولي عليّ ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على الطّريق”. وتولّى “عثمان” بعد “عمر” لمدّة اثنتيْ عشرة سنة، امتازت بالضّعف وبالابتعاد عن المنهج العمريّ في الحكم، وخاصّة في أواخر خلافته، وكان ما كان من اضطرابات وثورات اجتماعيّة أدّت إلى مقتله، فتولّى “عليّ” الخلافة لمدّة خمس سنوات (656 – 661) امتازت هي الأخرى بعدم الاستقرار، رغم أنّ المنهج الّذي سار عليه “عمر” في الحكم والسّير على طريق الشّورى والدّيمقراطيّة والعدالة وكرامة الإنسان والتّحرّر من القيود والتزام التّقشّف والزّهد بالدّنيا ومباهجها ومادّيّتها وأباطيلها كان دأب “عليّ”، وهو الوحيد الّذي يؤمن به ويستعدّ أن يسير على هديه عن قناعة تامّة. فقد كان يؤمن بالاجتهاد والانفتاح الفكريّ الخلّاق ويعرض عن التّقليد الجامد والأعمى، وذلك كلّه مشوب بنزوع للتّصوّف والتّفقّه والتّفكّر في أمور الدّين والحياة.
وقد أوصى “عليّ” ابنه “الحسن” أن يأخذ ويستفيد من الآباء الأوّلين والصّالحين السّابقين، لكن بما يتلاءم وينسجم مع النّفس، ما يعني عدم أخذ الأمور بعمًى وتقليد بل بتفهّم وصفاء قلب واقتناع ذهن. لقد كان إسلام “عليّ” من النّاحية الدّينيّة إسلام المسلم المطبوع على العقل، فهو يبتكر دينه باعتماده على ما أنزل الله من وحي البصيرة الثّاقبة، إنّه إسلام الحكيم المجتهد الّذي أدرك بعمق الفكر ودقّة النّظر للمفاهيم الدّينيّة الّتي أنزلت وسبقت، ولكن بعد تمحيص عقلانيّ، علميّ ودقيق. وعلى هذه الأسس العقليّة والدّينيّة أراد “عليّ” أن يحكم، لو تسنّى له ذلك أو لو استجابت له الظّروف والتّقلّبات والمحاور كما كانت استجابت لِ “عمر” من قبل. لم يكن “معاوية” الانتهازيّ الّذي انتهز الفرصة المواتية بعد مقتل “عثمان”، لم يكن بأذكى ولا أشجع من “عليّ”، وكان يدرك ذلك فقال: “والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهيتي للغدر لكنت من أدهى النّاس”. لقد كان الفرق بين “عليّ” و”معاوية” كالفرق بين الطّهارة والرّجس، أو بين جدول عذب رقراق ينساب لينفع النّاس وبين مستنقع آسن لا يعيش عليه إلّا البعوض والملاريا والحشرات الضّارة والأثرياء. فهل يميل النّاس وبخاصّة الانتهازيّين والأغنياء وذوو الثّروات إلى طهارة الجداول الرّوحانيّة أم إلى رجس المستنقعات الدّنيويّة! لقد رغب “عليّ” أن يكون رمزًا للطّهارة ويحكم بها ما استطاع، وحكم “معاوية” وكان رمزًا للرّجس والمال والدّنيا فمالت له الخاصّة المستفيدة من الدّنيا كما أراد ومالوا عن “عليّ”. ولذلك عندما سأل “عمر” كلًّا من “عثمان” وَ “عليّ “هل ستحكم بكتاب الله وسنّة رسوله ونهج الشّيخيْن”؟ أجاب “عثمان” بتسرّع وبلا تروٍّ وبلا نظر أو بصيرة وبلا استقلاليّة تفكير: “نعم”! أمّا “عليّ” ذو الفكر المتفتّح والمستقلّ وصاحب البصيرة والرّؤية الثّاقبة فقد أجاب: “على قدر استطاعتي”. وكانت فترة حكم “عثمان” الطّويلة واقعًا مريرًا وانكسارًا حادًّا في مسار الحكم والخلافة وغرقًا كبيرًا وتراجعًا عن الثّوابت الثّوريّة للإسلام. أمّا فترة حكم “عليّ” فقد كانت احتمالًا وإمكانيّة فقط لانتصار مبادئ الإسلام الثّوريّ المنفتح الّذي بدأه النّبيّ ورسّخه “عمر”، على العدالة والدّيمقراطيّة والإنسانيّة، ولكنّ سوء الظّروف السّياسيّة وانقلاب الموازين الاجتماعيّة واختلال القيم الأخلاقيّة ومعاييرها وطغيان المال ومفاسد الدّنيا أفسدت ذلك الاحتمال، ولم تتحوّل الإمكانيّة إلى الواقع المرغوب فيه، فهُزمت الثّورة والخلافة الرّاشديّة وانتصرت الثّورة المضادّة والملكيّة الضّلاليّة.
سياسة عليّ بين الفقراء والأغنياء:
كان الغنى النّقيض السّافر لفكر “عليّ” الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والمعيشيّ، وقد تزامنت فترة حكمه مع علوّ مكانة المال والاستغلال وعودة الأثرياء ليستبدّوا بعد أن تراكمت ثرواتهم، من الحلال قليلها ومن الحرام كثيرها، وكان معظم هؤلاء الأثرياء من الصّحابة الأوائل الّذين جمعوا الأموال الطّائلة أثناء خلافة “عثمان” الغنيّ هو الآخر. ولذلك كان من الصّعب على “عليّ” كخليفة حاكم يروم العدالة والمساواة معاداة هؤلاء الصّحابة ومعظمهم من المبشّرين بالجنة: “عبد الرّحمن بن عوف” وَ “الزبير بن العوّام” وَ “طلحة بن عبيد الله” وَ “سعد بن أبي وقّاص” (595 – 674) وآخرين مثلهم، وكان من الصّعب عليه أيضًا القبول بشرعيّة ثرواتهم الفاحشة، وهو الّذي قال: “ما اغتنى غنيّ إلّا بفقر فقير”، والقائل: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”، ومن هذا التّقاطب الكبير بين الغنى والفقر أو بين قلّة الأغنياء وكثرة ثرواتهم وكثرة الفقراء وقلّة مواردهم تقوم الثّورات السّياسيّة والاجتماعيّة. لقد نظر “عليّ” إلى الفقر كآفة اجتماعيّة وواقع يودي بالإنسان إلى أحد اتّجاهيْن: إمّا إلى التّسوّل كسلوك اضطراريّ لسدّ الحاجة والعوَز، ممّا يؤدّي به إلى الانحراف الاجتماعيّ فيزيد في غروب القيم الإيجابيّة وازدياد النّفاق والفساد والسّعي لكسب المال بطرق غير شرعيّة، ما يسبّب في هذا الإنسان ويولّد فيه السّكوت عن الظّلم. أمّا الاتّجاه الثّاني فهو الثّورة على السّلطة الحاكمة بكونها المسؤولة عن الفقر والمسبّب له، ففي ظلالها ينمو الأغنياء المستأثرون بالمال والثّروات ويتنامى الفقر واليأس والميل إلى الثّورة لقلب النّظام واستبداله بنظام جديد ينصف الفقراء ويحقّق حقوقهم بالحياة الكريمة والعدالة الاجتماعيّة السّويّة، وهذه الأوضاع الثّوريّة هي الّتي لا يطيقها الأغنياء. لقد عُرف عن “عليّ” لقب “نصير الفقراء” خاصّة وأنّ الحديث النّبويّ قرن الفقر بالكفر “اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر”، أو “كاد الفقر أن يكون كفرًا”. طبعًا بفعل مسبّبه وليس بواقع أصحابه.
لذلك يميل الأغنياء إلى حبّ الاستقرار ليس لذاته بل لأنّ الاستقرار الاجتماعيّ والسّياسي معوانًا لهم في الحفاظ على ثرواتهم وسير أمورهم ومصالحهم بانتظام، ولذلك تراهم يريدون استمرار الأوضاع السّائدة، فيؤيّدون نظام الحكم القائم الّذي يضمن لهم بقاء ثرواتهم وزيادتها ومصالحهم وأطماعهم، ولذلك أخشى ما يخشوْن الثّورة، ثورة الفقراء والمحرومين والعبيد، وكان الفقراء والبسطاء والمستضعفون يرفضون هذا الغبن والظّلم وتعاسة الحياة، خاصّة بعد أن فتحت الثّورة الإسلاميّة عيونهم فرأوا صعوبة الظّروف والغنى والفحش وفتحت قلوبهم فأحسّوا بالظّلم على جلودهم، وفتحت عقولهم فأدركوا الأهداف الّتي باتوا يسعوْن لتحقيقها برفض الواقع الأليم والعمل والكفاح من أجل واقع سعيد ومشرق بالحرّيّة والعدل والكرامة. هؤلاء الفقراء والعبيد هم الّذين سعى الإسلام بقائده الأوّل “محمّد” ومؤسّس دولته “عمر” وبأعظم زهّاده وأشجع قادته “عليّ” لإنصافهم وبتعويضهم عن تضحياتهم العظيمة. هؤلاء هم الّذين يكرههم الأغنياء على مدى التّاريخ لأنّهم يزعزعون الأرض تحت أقدام مصالحهم ويزلزلون أركان نظام الحكم الظّالم، هؤلاء الفقراء كان ممثّلهم “عليّ”، وأنّى له أن يقبل ويقرّ للأغنياء تلك الثّروات الفاحشة، وقد أيقن هؤلاء الأغنياء أنّ “عليّ” سوف يحاسبهم على هذه الثّروات، وهو ذلك القانون العمريّ “من أين لك هذا”؟ ومن هذا الباب كثيرًا ما نصح “عليّ” “عثمان” بإقصاء بطانته الانتهازيّة تلك وتغيير سياسته الّتي مالت إلى المال وأصحابه وحجبت عنه قلوب عامّة النّاس، ومع ذلك ومع كلّ ذلك النّصح الصّادق والسّديد، عندما دعا “عثمان” مقرّبيه من “بني أميّة” للتّشاور في أمر الفتنة لمحاولة إصلاح الوضع، لم يدعُ “عليّ” وهو خير النّاصحين، ودعا رؤوس الفتنة والمؤلّبين عليها، وأبرزهم مستشاره الأوّل “مروان بن الحكم” و”معاوية بن أبي سفيان” و”عمرو بن العاصّ” و”عبد الله بن أبي سرح” (23 ق. ه – 656م) وهم أشدّ النّاس مقتًا عند المهاجرين والأنصار، ويكفي أن نعرف أنّ “مروان بن الحكم” مستشار “عثمان” المقرّب هو نفسه الّذي كان يؤلّب ويحرّض ضدّ خليفته.
لقد كان “عليّ” في مفارقة كبرى قبل مقتل “عثمان”، فكأنّه مسؤول أمام الثّوّار عن الخلافة ونظامها وعن الخليفة الّذي ولّاه المسلمون وبايعوه، وفي الوقت ذاته كأنّه مسؤول عن الثّوّار وحقوقهم ومطالبهم أمام النّظام الحاكم والخليفة الّذي بسبب سياسته الّتي ميّزت الأغنياء ورأس المال، ولذلك ثاروا على ذلك الظّلم والإجحاف. رفض “عليّ” طلب الثّوّار بتنحية “عثمان” ودافع عنه بشجاعة كبيرة وضرب ولديْه لأنّهما لم يحسنا الدّفاع عنه، ومع ذلك اتّهم ظلمًا بقتله. ومع ذلك وبعد مقتل الخليفة وتولّي “عليّ” بعده رفض الأغنياء: “طلحة” وَ “الزبير” مبايعته، وحرّضوا ضدّه مع “عائشة”، وكانت وقعة “الجمل” سنة (656) في أوّل خلافة “عليّ”.
لقد بنى “عليّ” سياسته على استعادة قوّة الخلافة الدّينيّة، والدّين عنده ووفقًا لرؤيته هو جوهر عميق في دلالاته المعنويّة ومثله الأخلاقيّة وقيمه العمليّة الّتي تنفع النّاس وبخاصّة البسطاء والفقراء، وليس الدّين عنده أشكالًا وحركاتٍ ظاهرةً، لذلك كان في صلب تفكيره ومنهجه كحاكم أن يقيم نصوص الشّرائع والسّنن بتطبيقها بالعدل والمساواة وإنصاف النّاس وإغاثة الفقراء على أرض الواقع، لا لتبقى شعارات برّاقة جوفاء، ولذلك رأى أن لا سبيل للنّجاح بذلك إلّا بالفكر الثّوريّ وبواقع عزل الولاة الأغنياء من مناصبهم المؤثّرة لأنّهم اكتنزوا الثّروات الطّائلة وتمرّغوا بالمال الفاحش وانغمسوا بأمور الدّنيا وفواحشها جاعلين الدّين الكاذب لحافًا يلتحفونه والتّقوى الزّائفة غطاء يتسترون به رئاء وكذبًا وبهتانًا، ولذلك غضب أولو النّعمة والثّروات على “عليّ”، إذ لم يولِّ “طلحة” ولا “الزّبير” وأراد إعادة العمل بخطّة “عمر” بعدم السّماح للصّحابة بمغادرة “المدينة” العاصمة، وكان لمعاداة “قريش” له أن نقل عاصمته إلى “الكوفة”، فوقف الفقراء معه ووقف الأغنياء ضدّه، وفي هذا التّوجه الطّبقيّ نحو الفقراء تكمن صورة أخرى من صور عظمة “عليّ”.
انتصر “عليّ” على خصومه من الأغنياء في وقعة “الجمل”، ولكنّ الظّالمين والأغنياء وقوى الثّورة المضادّة لا ينفكّون عن الحرب من أجل مصالحهم وامتيازاتهم في المناصب الحاكمة وفي التّسلّط على مفاصل الدّولة، فكانت بعد سنة واحدة من وقعة “الجمل” معركة “صفّين” سنة (657) ضدّ الخصوم من “بني أميّة” وعلى رأسهم “معاوية” الّذي رفض مبايعة “عليّ” متّهمًا إيّاه بالتّحريض على “عثمان” وقتله، وليس هذا الاتّهام إلّا محض افتراء، كي يتمكّن “معاوية” كزعيم للثّورة المضادّة من استرداد الحكم له ولبني “أميّة” ومؤيّديهم من الأغنياء المنتفعين من التّزلّف للسّلطة الحاكمة الّتي تضمن مصالحهم المادّيّة وزيادة ثرواتهم الفاحشة.
وفي “التّحكيم” بعد انتصار “عليّ” في “صفّين” عسكريًا انتصرت المؤامرة بالخداع، والحقيقة أنّ الخلاف بين اتّجاه “عليّ” واتّجاه “معاوية” ليس مجرّد خلاف بين رجليْ دولة وليس بين توجّهيْن لنظاميْ حكم طمعًا بالاستئثار، بل هو خلاف بين اتّجاهيْن متناقضيْن، يحكمهما الصّراع بين المستغَلّين (بفتح الغين) والمستغِلّين (بكسر الغين) اجتماعيًّا طبقيًّا وسياسيًّا اقتصاديًّا وثقافيًّا حضاريًّا على منهج الحكم والمصالح ووسائل الإنتاج وثروات الأمّة الجماعيّة والثّروات الفرديّة، ومن المفروض أن يخدم هذا الحكم اثنيْن: أحدهما يتمرّد ويثور على مجرّد الإحساس بالظّلم ويرفض تراكم الثّروات والاستعباد واستغلال البشر بالنّفوذ والمال، والثّاني يريد استقرار الأوضاع بكافّة جوانبها للبقاء في السّلطة والتّحكّم بكلّ مفاصل الدّولة السّياسيّة والاجتماعيّة وبخاصّة الاقتصاديّة للحفاظ على ثروات طبقة الأغنياء ومصالحها. كان “عليّ” نموذج الطّهارة السّياسيّة والدّينيّة الّتي تمثّل مصالح السّواد الأعظم من النّاس والعامّة منهم، بعكس مُلك “معاوية” الدّنيويّ المادّيّ الّذي يمثّل مصالح الأقليّة من خاصّة الأغنياء. كان الخلاف بين خلافة “عليّ” بكلّ طهارتها ونقائها ومُلك “معاوية” بكلّ دنسه وموبقاته حدّ المجازر ونشر الرّعب، وقد انتصر لطغيان المصالح المادّيّة وفحش المال المُلك على الخلافة، تأكيدًا لقول النّبيّ: “الخلافة ثلاثون عامًا ثمّ يكون من بعد ذلك المُلك”. وكان “عليّ” آخر الخلفاء قاطبة في التّاريخ الإسلاميّ والعربيّ، وكان “معاوية” أوّل الملوك وابنه “يزيد” أوّل وليّ عهد في التّاريخ الإسلاميّ والعربيّ، وكانت تلك المملكة بداية السّقوط، وما زال الملوك وأولياء العهد يتوالون حتّى يومنا هذا في ممالكنا الإسلاميّة العربيّة المتفتّتة والمتشرذمة والخائنة واحدًا إثر واحد حذوك النّعل بالنّعل.
عليّ رجل إدارة:
وعلى أساس هذا التّقاطب بين الفريقين: فريق أنصار الثّورة وضرورة الحفاظ على إنجازاتها ومكتسباتها، وهو الفريق الّذي يتزعّمه “عليّ”، ومن قبله “عمر” وفريق أنصار الثّورة المضادّة الأغنياء الّذين أرادوا تسلّم سلطة الدّولة وإدارتها بالاعتماد على ثرواتهم المتراكمة واستعباد النّاس من جديد بعد القضاء على ثورة الفقراء، وكان هذا الفريق بقيادة “معاوية”. منذ خلافة “عمر” اتّضحت معالم الإدارة في الدّولة الإسلاميّة ومسؤوليّات كلّ موظّف ومهامّه ومجال إدارته، من الخليفة نفسه وحتّى أصغر الموظّفين، واتّضحت الأسس والقوانين والمعايير الّتي قامت عليها هذه الإدارة، وكان أبرز ما في أُسسها اعتبار الإنسان في الدّولة صاحب المقام الأوّل ومحلّ الرّعاية الأهمّ، ولذلك يجب العمل على خدمته بإنسانيّة ونزاهة وبدافع من المسؤوليّة الدّينيّة والأخلاقيّة والمهنيّة، فالإداريّ خادم والمواطن مخدوم، وكلاهما إنسان بالأساس، وقد ترسّخ هذا الاتّجاه الأساسيّ خلال خلافة “عمر”، وكان من الممكن له أن يستمرّ لو حكم “عليّ” بعده، لأنّه آمن بنهج “عمر” الإنسانيّ والشّامل والعامّ والمنفتح، ولكنّ فترة الانكسار الكبيرة والمؤثّرة سلبيًّا الّتي ألمّت خلال خلافة “عثمان” الطّويلة نسبيًّا، أدّت إلى تراجع هائل بعد تحوّل حادّ في الاتّجاهات والأسس، فتزعزعت الإدارة وعادت لتخدم الخاصّة وتنزع إلى الانغلاق والانحصار في فئة دون أخرى، وبإعطاء امتيازات في الحكم والنّفوذ والتّأثير وتراكم الثّروات والميل إلى الاستغلال والاستعباد عند “بني أميّة” الّذين انتمى لهم الخليفة الثّالث والضّعيف “عثمان”، وقد اسْتخلِف “عليّ” بعده، ولكنّ الظّروف السّياسيّة والخلافات بين معسكر الخليفة الشّرعيّ “عليّ” ومعسكر المارق على الخلافة الشّرعيّة “معاوية” الّذي استغلّ مقتل “عثمان” لمآرب استرداد الحكم لبني أميّة وانقلاب المفاهيم وتردّي القيم والابتعاد عن الدّين والدّولة بالمعنى الإنسانيّ ممّا جعل الأمور تسير نحن هاوية شاملة لكلّ الأسس والمعايير، ومنها الأسس والمعايير الإداريّة، الأمر الّذي لم يمكّن “عليّ” من الإمساك بشؤون الدّولة المضطربة وتطبيق ما يؤمن به من إدارة سليمة ونزيهة تسير وفقًا للمفاهيم الإنسانيّة السّامية والطّهارة بكلّ تجلّياتها وفي جميع مجالات الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة، خدمة للإنسان في الدّولة سواء كان مسلمًا أو معاهدًا.
كان “عليّ” على احترامه للثّوابت الدّينيّة الأصيلة والسّمحة يميل فكريًّا إلى الانفتاح ويؤثر الاجتهاد على التّقليد، ولذلك تراه وافق الخلفاء الّذين سبقوه في أساليب الإدارة وخالفهم في أساليب أخرى معتمدًا على رؤية خاصّة أملاها عليه فكره الطّبقيّ الخلّاق والمنفتح وكراهيّته للمال والدّنيا ومقته لتراكم الثّروات لأنّها تشكّل دافعًا قويًّا لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وانهدام العدالة الّتي جاء بها الإسلام لإنصاف الفقراء والمستضعفين والعبيد وغير المسلمين من أهل الذّمّة. ولذلك كان “عليّ” قريبًا من فكر “عمر” في الإدارة، بعيدًا عن مسار “عثمان”، أمّا في زمن النّبيّ وفي خلافة “أبو بكر” فلمّا تكن معالم أساليب الإدارة وأسسها والأدوار والمؤسّسات والمهمّات والمراكز والوظائف الإداريّة أو الحكوميّة محدّدة وواضحة.
وقد بيّن “عليّ” هذه الأسس الإداريّة في رسائله ووصاياه إلى ولاته في الأمصار، وقد جُمع معظمها في كتاب “نهج البلاغة”، وأبرزها رسالته ووصاياه لابنه “الحسن” والّتي نشرها الكاتب “عبّاس محمود العقّاد” في كتاب له بعنوان “عبقريّة الإمام”، حيث أظهر أنّ “عليّ” مسلم لا يعتمد التّقليد، بل يميل إلى الاجتهاد الفكريّ ويبتكر رؤيته بالاعتماد على بصيرة ثاقبة كحكيم مجتهد عاش الإسلام منذ بعثته الأولى وتربّى في حجر النّبيّ فنما على نقاء الأخلاق والقيم الدّينيّة وسار على نهج من السّلوكيّات السّويّة والرّغبة في تحصيل كلّ مجالات العلوم في عصره، وكان له ذلك فنال صفة “الإمام العالم” باستحقاق، وبتقدير خاصّ ومميّز من النّبيّ فسمّاه “بوّابة العلم” ومن قائد فذّ وخليفة عارف وحاكم عادل مثل “عمر”. ولعلّ أبرز وصاياه إلى ولاته تلك الّتي قال فيها: “ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ”.
وأنا أفكّر في الكتابة عن هذا الجانب من شخصيّة “عليّ” الحاكم وحسن رؤيته الإداريّة أمدّتني الكاتبة الصّديقة “روز اليوسف شعبان” مشكورة بكتاب مفيد، يتناول هذا الموضوع بالذّات بعنوان “خصائص الإدارة عند الإمام عليّ بن أبي طالب” للباحث العراقيّ “محسن باقر محمّد صالح القزوينيّ”، ففتح أمامي هذا الكتاب الكثير من المصادر الّتي تناولت هذا الموضوع.
إنّ أبرز مزايا الإدارة بنظر “عليّ” هي الصّفة الإنسانيّة، فعمّال الإدارة على كافّة مناصبهم ووظائفهم ومراكزهم هم أناس، أولو أحاسيس وميول يخدمون أناسًا في مجتمع إسلاميّ يقوم على العدالة وعلى تقدير الإنسان ومكانته بشكل عامّ وشامل، وليس فئة أو مجموعة بتوفير الامتيازات والتّسهيلات لها على حسب الدّولة والمجتمع وعامّة النّاس البسطاء، والموظّفون ليسوا آلات جامدة بلا مشاعر، ولذلك كان الأوْلى بهم التّميّز بالمزايا الإنسانيّة وهم يؤدّون مهامّهم، لأنّهم ينتمون إلى مؤسّسة إداريّة هي في الحقيقة صورة مصغّرة عن مجتمع إنسانيّ، يحتوي على كلّ المقوّمات الحياتيّة والعلاقات الاجتماعيّة المتشابكة، وهذه المؤسّسة جهاز منظّم يقوم على أخلاق وقيم منبثقة من الإسلام كدين يسعي من أجل تحقيق أهداف سامية وعظيمة، أبرزها العدالة وخدمة الإنسان بعدالة ومساواة. ولكي يستطيع هذا الجهاز أن يؤدّي هذه المهامّ الجسام ويحقّق الأهداف السّامية لا بدّ للعاملين فيه من التّمتّع بالمهنيّة العالية والدّراية الواسعة بشؤون الدّولة والمجتمع، ليتمكّنوا من معرفة مواطن القوّة والضّعف في الدّولة، ولتحريك القدرات لاستنباط الموارد بالاعتماد على العقل، ولذلك سنجد للإمام “عليّ” مئات الأقوال حول أفضليّة العقل، فالعقل أساس التّنظيم ومصدر الأفكار والنّظريّات ومنبع الخطط والبرامج، فلن يتيسّر تطبيق عمليّ بلا هذه الأسس النّظريّة العقليّة الخلّاقة. ولعلّ في رسالته إلى واليه في مصر، “مالك الأشتر” (585 – 658) حول إدارة شؤون الزّراعة ما يبيّن الجانب العقلانيّ بين الأسباب والنّتائج، أو بين أهمّيّة استصلاح الأرض لتزيد المحاصيل والإنتاج، فقد أوصاه: “وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لأَنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً”.
وإلى جانب ذلك لا بدّ وفق نظرته الإداريّة من تحقيق انسجام بين الحقوق والواجبات وفق قوانين اتّفق عليها بالشّورى وحقّ المعارضة بين السّلطة والرّعيّة، إذ لا بدّ أيضًا من توضيح العلاقات بين الوالي والرّعيّة وتبيان حقّ الوالي على الرّعيّة وحقّ الرّعيّة على الوالي، كي تنمو شبكة علاقات إنسانيّة واجتماعيّة متعادلة ومتساوية، لأنّ النّظام الإداريّ عامّة وبالأساس يجب أن يقوم على مصالح جماعيّة لمجتمع متكامل ومنسجم وليس على مصالح فئويّة وفرديّة تستدعي التّنافر الاجتماعيّ وتهدّد بناءه وتضع الانسجام في شبكة العلاقات الاجتماعيّة السّليمة، وعليه من الضّروريّ أن تعمل الإدارة على انسجام مصالح الفرد وأهدافه مع مصالح الأمّة وأهدافها. ولا بدّ للإداريّ المسؤول أيًّا كانت رتبته كي يحافظ على مجتمعه الإسلاميّ من أن يكون أمينًا على مصالح الأمّة، لأنّه سيحاسَب أمام النّاس في الحياة وأمام الله بعد الموت. وقد بيّن “عليّ” شروط هذا المسؤول الّذي ينبغي أن يكون قدوة: “مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ”.
فكلّ ما سبق من نظريّات وأفكار وبرامج وتطبيق لا ينفع برأي الإمام “عليّ” بلا استرخاص للدّنيا ومادّيّتها وثرواتها وأطماعها وشهواتها، لذلك كان يرشد المسؤولين بضرورة ما أوصى وقال: “خذ من قليل الدّنيا ما يكفيك”، وكذلك قال وهو القدوة في التّخويف من معصية الله: “والله لو أُعطيت الأقاليم السّبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لبّ شعير ما فعلت”. وكان بغيته من إدارة الدّولة إنصاف الفقراء ليحسّوا بالانتماء لمجتمعهم الّذي يكفل لهم الحرّيّة والعدالة والحياة الكريمة، ولا تحرمهم الدّولة من ذلك فينمو فيهم الإحساس بالاغتراب والنّفور واضطراب النّفوس، فقال “عليّ” في ذلك: “الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة”. ولذلك صبّ اهتمامه في السّياسة والحكم وإدارة البلاد على المشورة بين الحاكم والمحكوم ومحاربة الفساد الإداريّ والماليّ وتحقيق مصالح النّاس وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة.
هذا هو “علي” العظيم وهذه هي رؤيته العظيمة الشّاملة للمجتمع الإسلاميّ السّليم والمبنيّ على نظرة إنسانيّة وإسلاميّة منفتحة وعلى عقليّة فكريّة خلّاقة ودراسة واقعيّة جدليّة للعلاقات المتشابكة بين النّاس ومصالحهم المتعدّدة، نظرة تقوم على الأخلاق والقيم الإسلاميّة وعلى إشباع حاجات الفرد والمجتمع الاقتصاديّة بانسجام مصالحهما، مع مراعاة كبيرة للجوانب الإنسانيّة والرّوحيّة على أسس من التّعدّديّة والتّسامح والعدالة وجهاد النّفس، فقال: “إنّ المجاهدين باعوا أرواحهم واشتروا الجنّة”.
عليّ مفكّر تربويّ:
ثمّة من يعتقد من الباحثين المعاصرين أنّ أسس علم التّربية قد بدأت منذ العصر الحديث، فكانت التّجارب والمقاييس والنّظريّات، وليس الأمر صحيحًا! فقد بدأ هذ العلم ينمو منذ العصور القديمة، قبل المسيحيّة والإسلام، وبخاصّة في الثّقافة اليونانيّة، ولذلك لا أدّعي أنّ “عليّ” أوّل من وضع أسسًا تربويّة، ولكنّ له نظريّات ومعايير متكاملة، تجعله صاحب رؤية تربويّة ناضجة نافعة لعصرنا كذلك، لأنّها ذات وشائج متبادلة مع جوانب وأحوال حياتيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة أخرى ممتدّة على مدًى زمانيّ مع مراحل عمر الإنسان، آخذة بالحسبان التّغيّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة والأخلاقيّة مع مسار الحياة المتطوّر وغير الثّابت تاريخيًّا وجدليًّا، وما يؤكّد هذه الرّؤى دعوته لمحو الأميّة كمرض اجتماعيّ ولإقامة نظام تعليم يرافق التّنشئة التّربويّة، يحارب الجهل والأميّة وتطوير المعرفة ومجالسة العلماء، حيث يقول في رسالة لأحد عمّاله: “وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ”.
وهنالك مؤلّفات كثيرة تناولت هذا الجانب من جوانب شخصيّة “عليّ” العديدة، والمعتمدة على مقولات “عليّ”، وبخاصّة في الكتاب الشّهير الّذي جمع فيه “الشّريف الرّضيّ” (969 – 1015) خطب “عليّ” وأقواله، والّتي جعلته يتربّع على عرش المعرفة والدّراية النّظريّة والعمليّة في كثير من علوم عصره، لذا استحقّ صفة الإمام العالم، وهذا يشكّل بعدًا إضافيًّا ومكوّنًا هامًّا في عظمة “عليّ”. ومن أبرز هذه المؤلّفات كتاب للباحث “سلام مكّي خضيّر الطّائيّ” بعنوان “المعايير التّربويّة في فكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب”، وفيه يتحدّث عن حسن التّربية كنموذج في فكر الإمام، وفيه يظهر “عليّ” كفيلسوف وصاحب نظريّات تربويّة استقى من ينابيعها علماء التّربية في العصر الحديث، ومنها أسّسوا نظريّاتهم العلميّة. ولكنّي رغم كلّ هذا الفضل الكبير للإمام العالم “عليّ” في هذا المجال التّربويّ لا أدّعي أنّه كان الأوّل بل هناك من الأوّلين قبله من فلاسفة اليونان والرّومان الّذين سبقوه، وقد سبقه في وضع هذه الأسس اثنان على الأقلّ بالتّأكيد هما: السّيّد “المسيح” (1 – 33) والنّبيّ “محمّد” (570 – 632)
لا يهمّني من قال تلك المقولة “ربّوا أبناءكم على غير أخلاقكم، فإنّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم”، أهو أحد فيلسوفيْ اليونان: سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) أو أفلاطون؟ (427 ق.م – 347 ق.م) أم هو الإمام “عليّ” وهل قيلت دالّة على المعنى المقصود نفسه أم باختلافات في بعض الألفاظ وبعض الدّلالات، ومع أنّ كثيرين من الباحثين ينسبونها للإمام “عليّ”، ولا يهمّني إذا كانت أصيلة له وهذا مقام جليل أو إذا نقلها من الفلاسفة القدماء، وهذا يدلّ على سعة اطّلاع ثقافيّ وسعة صدر لرمز من رموز الإسلام الحنيف والسّمح الّذي يتقبّل ويستوعب ويهضم ما هو مفيد ونافع للإنسانيّة والإنسان، أينما كان وفي أيّ زمان ومكان، حتّى لو جاء من فلسفات قديمة، تعرّف أنّها وثنيّة أو بلا دين ولا تنبثق عن دين سماويّ كالمسيحيّة والإسلام. هذا هو الإسلام المنفتح على الحضارات يستمدّ ويستقي منها ما فيها من علوم ومعارف ويمدّها ويغذّيها بما في حضارته وثقافته من كنوز فكريّة وعلميّة ومعارف وأصول وخبرات.
لأنّ هذه المقولة تعتبر قاعدة من قواعد التّربية، ذات العلاقة مع التّعليم في الأسرة والمدارس، ففي الحقيقة “لا تعليم بلا تربية”، لأنّه بالتّعالق بينهما تمضي العمليّة التّربويّة في مسار سليم من أجل إعداد الأبناء كأجيال ناشئة وصاعدة لمواجهة المستقبل واحتمالاته ومتغيّراته، ولكنّ تلك الرّؤية الجدليّة في فكر “عليّ” التّربويّ لا تعني ترك الثّوابت التّربويّة الإسلاميّة القائمة، بل تدعو أيضًا إلى خلق الاستعداد لدى الأبناء وآبائهم ومعلّميهم للتطوّر وقبول الجديد وفقًا لظروف الزّمان والمكان والبيئات المتغيّرة والمناخات المختلفة، ولا شكّ في أنّ صاحب هذه الرّؤية يؤمن بإدراك فكريّ بقوانين ديالكتيك الحياة والمجتمع والطّبيعة، وهي نظرة جدليّة متقدّمة عُرف الإمام “عليّ” بها في هذا المجال التّربويّ بالذّات.
ولعلّ مصدر هذه المضامين التّربويّة سنجدها في أقوال “عليّ” في الكتاب الشّهير الّذي ينسب إليه، وقد سمّاه جامعه “الشّريف الرّضيّ” وهو فقيه من فقهاء الشّيعة، جمعه في القرن الرّابع الهجريّ، وقد اشتمل على 238 خطبة و79 رسالة ديوانيّة وإخوانيّة و489 قولًا، وفي مضامينها المواعظ والإرشادات ذات المواضيع المختلفة، وفيها الكثير من الحِكم والوصايا والآداب.
ولذلك قد نرى أنّ “عليّ” صاحب نظريّة تربويّة شاملة تبدأ التّعامل مع تنشئة الطّفل منذ ولادته وضرورة رعايته الجسديّة وتغذيته الروحيّة، “فحقّ الولد على الوالد أن يحسن اسْمه ويحسن أدبه ويعلّمه القرآن” هذه قاعدة تربويّة أساسيّة بنظر “عليّ”. ومرحلة الطّفولة مقرونة وذات علاقة وطيدة بتطوّر الطّفل الجسديّ والذّهنيّ مع المراحل العمريّة القادمة، فقد قال الإمام: “إنّما الغلام يثغر في سبع سنين ويحتلم في أربع عشرة ويستكمل طوله في أربع وعشرين ويستكمل عقله في ثمانية وعشرين، وما كان بعد ذلك فبالتجارب”. ولذلك حدّد الإمام مرحلة الطّفولة بالخامسة عشرة، مميّزًا إيّاها عن مرحلة البلوغ وبدايات الخبرة والتّجربة الحياتيّة الّتي يكتسبها الولد البالغ من التّعليم والأطر المحيطة به والحياة العامّة بكافّة جوانبها ومؤثّراتها الّتي يعيش فيها، ولذلك وصّى “عليّ” الآباء بقوله: “ولدك ريحانتك سبعًا وخادمك سبعًا ثمّ هو عدوّك أو صديقك”، فالآباء هم بحسن تربيتهم لأبنائهم أو بسوئها هم من يجعلون في النّهاية الأبناء منذ سنّ البلوغ أصدقاء أو أعداء، وذلك بمراعاة الحالة النّفسيّة والمعاملة بالرّفق واللّين، ومن ثمّ بالتّأديب الخلقيّ والتّعليم الدّينيّ لإكسابهم القيم مثل احترام الآخرين في المحيط العائليّ والمحيط الاجتماعيّ وأداء الواجبات الشّرعيّة، حتّى العقاب أشار إليه في مقولاته وآمن بمفهومه الإيجابيّ كوسيلة للتّربية الحسنة والتّعليم السّليم، وقد تطرّق في أحد أقواله إلى ضرب الأبناء كعقاب فقال: “وإذا بلغوا عشر سنين فاضْربْ ولا تجاوز ثلاثًا” لأنّ الإمام آمن بوجوب الابتعاد عن استخدام الضّرب كعقاب جسديّ حتّى سنّ العاشرة، وبعدها أشار بوجوب تحديده لأنّ الضّرب بالمفهوم الإيجابيّ ليس غاية بل هو وسيلة تهدف إلى التّأديب وتصحيح عوج أو ترشيد طريق. وبذلك يكون “عليّ” قد اكتشف العلاقة الوثيقة بين المرحلتيْن: الطّفولة والبلوغ، ومن ثمّ بالوصول إلى مرحلة الاكتمال العقليّ، بمعنى أنّ ما تزرعه من قيم تربويّة وأخلاق رشيدة في الطّفل في الصّغر يبقى معه وينشأ عليه في الكبر، في المراحل المتقدّمة، وهو الأساس النّظريّ التّربويّ الّذي يجمع عليه معظم علماء التّربية الحديثة، وبخاصّة الرّبط والانسجام بين البعديْن: الشّعوريّ والعقليّ في تربية الأبناء الّذي تحدّث عنه عليّ منذ القرن السّابع الميلاديّ، الموافق للقرن الاوّل الهجريّ.
عليّ وحقوق الإنسان:
مثّلت حقوق الإنسان في رؤية “عليّ” السّياسيّة والاجتماعيّة أساس العقيدة الإسلاميّة، وفي صلبها حرّيّة الإنسان الاساسيّة والمساواة بين البشر، وقد تجمّعت في “عليّ” الكثير من المناقب، أبرزها الشّجاعة والكرم والتّسامح والإنسانيّة والعلم، وقد قال فيه النّبيّ: “عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار”، ومع ذلك تعرّض لكثير من الظّلم ومحاولات التّزوير والتّشويه في شخصيّته ومسيرته التّاريخيّة العظيمة، والّتي ينطق كلّ موقف من مواقفها بالعظمة والمجد المنقطع النّظير. ولعلّ أهمّ سمة من سمات إيمانه بحقوق الإنسان هي اقتران هذا الإيمان بالشّفقة والعطف والزّهد والتّقشّف، فحقوق الإنسان بنظره ثابتة طبيعيّة، وليست مكتسبة من أحد، ولم يمنحها أحد لأحد، ولذلك فالمسّ بها هو ليس مسًّا في الفرد أو الآخر بل هو مسّ بالشّريعة ينطوي على اعتداء على حقوق الله، وهذا المسّ يطال الفطرة الإنسانيّة الّتي خلق الله عليها النّاس. ولأنّه تميّز بسعة علومه ومعارفه وثقافته وخبرته ودرايته وتجاربه من جهة، وببساطة عيش واسترخاص دنيا وميل وجدانيّ إلى الفقراء والمستضعفين والأقلّيّات، فقد بنى على ذلك الكثير من رؤاه الحياتيّة، لقد كان وزيرًا للنّبيّ كمصدر للمعرفة فسمّاه بوّابة مدينة العلم، وقال فيه: “عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى”، وكان يأكل الخبز والزّيت ويلبس لباس العبيد ويفترش الخيش ويجالس الفقراء، كان يفعل ذلك “كي يقتدي الفقير بفقري” كما كان يقول، وقال عنه “ضرار بن ضمرة”: (لم أجد تاريخًا لمولده ولا لموته، ولكن تجمع المصادر أنّه لم يعش طويلًا بعد موت الإمام عليّ سنة 661) “كان فينا كأحدنا”، وكان “ضرار” من أشدّ المخلصين لآل البيت وللإمام “عليّ”، عاش في فترة حكم “معاوية” وشهد حقده على “عليّ” وكيف كان يطلب من أئمّة الجوامع أن يطمسوا اسمه ويغيّبوا ذكره وتراثه ومسيرته وإنجازاته وأقواله من أحاديثهم وخطبهم، ومع ذلك بكى “معاوية” بعدما ألحّ على “ضرار” أن يصف الإمام “عليّ” في مجلسه فقال: “أمّا إذ لا بُدّ، فكان والله بعيد المدَى، شديد القوى، يقول فَصلا، ويَحكم عَدلا، يتفَجّرُ العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يَستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستَأنس باللّيل وظلمته. كان والله غزير الدّمعة كثير الفكرة، يُقَلِّب كَفّهُ ويُخاطِبُ نفسه، يُعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطّعام ما جَشُب”.
يعتبر “عليّ” أوّل واضع لوثيقة متكاملة لحقوق الإنسان منذ ما ينيف عن 14 قرنًا، هذه الوثيقة الّتي اجتمع عليها مئات المفكّرين من كلّ دول العالم في العصر الحديث. أمّا حقوق الإنسان الأساسيّة الّتي تحدّث عنها “عليّ” في رسائله ووصاياه وخطبه، وعلى سبيل الإيجاز فهي: حقّ الحياة وحقّ المساواة العادلة والحقوق السّياسيّة وحقّ حرّيّة الرّأي والتّعبير وحقّ المشاركة السّياسيّة وحقّ ضبط الحكّام وحقّ المعارضة السّياسيّة والحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة وحقوق المرأة وحقوق الأسرة وحقوق الطّفولة وحقّ التّعليم وحقّ العمل والتّملّك وحقّ الضّمان الاجتماعيّ وحقوق إنسانيّة، أبرزها حقّ الكرامة الإنسانيّة وحقّ التّقاضي وحقوق الإنسان في زمن الحرب. وهذ تلخيص مستمدّ من كتاب “عليّ بن أبي طاب وحقوق الإنسان” لمؤلّفه د. “حسن الزين” (1928 – 2016) وكتاب آخر يحمل العنوان نفسه تقريبًا لمؤلّفه د. “غسّان السّعد”. وفي كتاب بعنوان “عناصر التّفاوض بين عليّ بن أبي طالب وروجر فيشر” يعقد د. “صائب عريقات” (1955 – 2020) في دراسة مقارنة بين رؤية “عليّ” منذ 14 قرنًا ذات ال 15 بندًا وبين رؤية “روجر فيشر” (1922 -2012) في القرن ال 20 ذات ال 7 بنود، فيرى “عريقات” أنّ “عليّ” وَ “فيشر” يتساويان في سبع محاور تتعلّق بعناصر التّفاوض وحقوق الإنسان ويزيد “عليّ” عنه بخمس محاور. ولم تقتصر اهتمامات “عليّ” في هذا الشّأن بتسجيل هذه الحقوق نظريًّا، بل اهتمّ بأن تطبّق في المجتمع، عن طريق إيجاد الوسائل العمليّة لحماية هذه الحقوق، وبخاصّة حقوق الفرد أمام السّلطة، بضمان حقّه بالمعارضة والمساوة والحرّيّة والعلاقة مع غير المسلمين، باختصار حماية الحقوق من ظلم السّلطة ببناء الإدارة السّليمة وإقامة دولة المؤسّسات، للحدّ من صلاحيّات الحكّام بالرّقابة والمساءلة والمحاسبة والعقاب، وحماية الأقلّيّات الدّينيّة والعرقيّة، لقد أقام “عليّ” لو أردنا التّحدّث بمصطلحات العصر الحديث مرتكزًا لحياة ديمقراطيّة تقوم على التّعدّديّة السّياسيّة والثّقافيّة.
ولقد حاول البعض التّشكيك في صدق “عليّ” واقعيًّا وتشويه معتقده، في أنّه حارب معارضيه في كثير من الحروب، ولكنّ الحقيقة المعروفة عنه، أنّه لم يبدأ أحدًا ولا جماعة بقتال في أيّ من حروبه، لا في الجمل ولا في صفّين ولا في النّهروان، في كلّ الحالات فرضت عليه الحروب فكان هدفه الدّفاع عن النّفس ومنع الفتنة بين المسلمين وعن نقاء الإسلام كدين سمح وحنيف ومنفتح وإنسانيّ وفقًا للمفاهيم الفكريّة والرّؤى الإداريّة، والّتي يقف الإنسان فردًا ومجتمعًا ومصالحه في صميمها كما ذكرت في فصول سابقة. وعلى كلّ ما سبق في فضل “عليّ” شواهد تشهد، فقد تعامل بتسامح مع الّذين كفّروه وساوى بين المسلم والذّمّيّ مساواة تامّة ومنع عبادة الشّخص، فالقانون يساوي بين الحاكم والمحكوم، ولذلك رفض أن ينحني أمامه وفد من نصارى الأنبار تبجيلًا وإجلالًا له، جاءوا للتشاور معه في شؤونهم وأوضاعهم.
عليّ بين العرب وغير العرب:
في سنة (2002) وفي التّقرير السنويّ للهيئة الدّوليّة أطلق “كوفي عنان” (1938 – 2018) الأمين العامّ السّابع لهيئة الأمم المتّحدة لفترتين متتاليتيْن، من حوالي 10 سنوات (1997 – 2006) وهو سياسيّ أفريقيّ من غانا، أطلق لقب “حكيم الشّرق” على الخليفة العظيم “عليّ بن أبي طالب”، ورأى فيه شخصيّة مميّزة ورمزًا للعدالة الإنسانيّة والاجتماعيّة ونموذجًا لاحترام حقوق الإنسان. وضمن حديثه ذكر “عنان” قول “عليّ بن أبي طالب” لعامله مالك الأشتر فقال: “يا مالك إنّ النّاس إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق”، وفي تعليقه على هذه العبارة قال “عنان” عنها: “يجب أن تعلَّق على كلّ المنظّمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية”، وبعد أشهر اقترح “عنان” أن تكون هناك مداولة قانونيّة حول كتاب “عليّ” إلى “مالك الأشتر”، في اللّجنة القانونيّة في الأمم المتّحدة، بعد دراسات طويلة للكتاب، وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتّصويت، وصوّتت عليه الدّول بأنّه أحد مصادر التّشريع الدّوليّ. وقد أعلنت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة قرارها التّاريخي الّذي نصّ على ما يلي: “يعتبر خليفة المسلمين عليّ بن أبي طالب أعدل حاكم ظهر في تاريخ البشر”، وقد استندت هذه الخلاصة الأمميّة إلى وثائق من 160 صفحة، نشرت باللّغة الإنجليزيّة في معظم دول العالم.
إنّهما صنفان: “إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق”، ولعلّ هذه النّظرة الإنسانيّة الشّاملة والكامنة في قول “عليّ” تأتي تأكيدًا لمنهج الإسلام الإنسانيّ السّمح والحنيف، كما أراد له حامل دعوته ورسالته أن يكون، فقد قال: “الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أحبّهم إلى خلقه”، وتأتي كذلك داعمة لمقولة الخليفة “عمر”، مؤسّس الدّولة الحقيقيّ الّتي وجّهها لواليه على مصر “عمرو بن العاصّ” عندما استغل ابنه مكانة أبيه واعتدى على مواطن مصريّ قبطيّ مستضعف، فقال له: “يا ابْن العاص! متى استعبدتم النّاس؟ وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، وعلى نهج “عمر” الإنسانيّ والعادل والقويم كان عليه “عليّ” يرغب ويريد أن يمضي، وما كان لحاكم غير “عليّ” أن يقوم بهذا المقام أو ينهج هذا النّهج. ولنا في “عثمان” نموذج لتحطيم النّموذج الفذّ.
هذا هو الإسلام الحقيقيّ الأصيل، وليس إسلام ملوك الدّولة الأمويّة الظّالمة قديمًا، وهي الدّولة الّتي قامت على التّلفيق والتّزوير وعدم احترام العهود والاغتيالات وقطع الرّؤوس وسياسة “فرّق تسد” والاستئثار وتراكم الثّروات والابتعاد عن جوهر الدّين الأصيل. وليس إسلام “الإخوان المسلمين” والحركات الأصوليّة المتذيّلة والمتساوقة مع برامج الإمبرياليّة وخططها وهيمنها، هذه الحركات الّتي شوّهت أصالة الدّين وإنسانيّته بالتّقوقع والقتل والجري وراء الحكم على بحر من الدّماء والهدم ونهب الثّروات الوطنيّة وتدمير الأقطار القوميّة.
صنفان نعم، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ، بدأها “عليّ” بأخ في الدّين، قالها “عليّ” في زمن كثرت فيه الخلافات والاختلافات، وظهرت فيه الفتن وحملت السّيوف بوجهه، وأدخلته حروبًا مع أبناء جلدته من المسلمين، حاول أن يتفاداها، ولكنّها حصلت رغمًا عن كلّ محاولاته الإنسانيّة في إيقافها، فمقولته العظيمة هذه لم تظهر في زمن الإسلام الموحّد بل جاءت في زمن الإسلام ذي المذاهب والأفكار والطّوائف، ورغم ذلك يؤمن “عليّ بحقّ الاختلاف كحقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، فهو يسمّيهم رغم خلافهم معه واختلافهم الواضح لمنهجه وأفكاره ومعتقداته إخوة في الدّين، لأنّه نظرته الثّاقبة والشّاملة والعميقة هي نظرة الحكيم الّذي يرى العامّ دون الخاصّ، وهو يعطي لكلّ إنسان حقّه في الاختيار، حيث “لا إكراه في الدّين”، فلا خطاب طائفيّ محرّض، ولا عداء مسبق، ولا سمّ يتخلخل بين الكلمات. وفي الصّنف الثّاني اهتمّ بغير المسلمين، كلّهم على حدّ سواء، فهو ينظر لهم بشرًا أحرارًا، لهم كرامتهم، وحقّهم في العيش، ولهم أيضًا كما للمسلمين حقّ الاختيار، واضعًا بذرة الإنسانيّة في الأرض الجرداء، عسى أن تنمو لتظلّل المجتمع الإنسانيّ كلّه والحياة الإنسانية.
وقد تكلّم “عليّ” بكلام واضح، يشير فيه إلى المساواة في الحقوق بين “أهل الذّمّة” وبين المسلمين، يقول: “دماؤهم كدمائنا”، و”دم الذّمّيّ كدم المسلم حرام”. إنّ الواقع الّذي كان قائمًا عبر التّاريخ يظهر أنّهم كانوا يتمتّعون بامتيازات اقتصاديّة وغير اقتصاديّة، ويعترفون بأنّ عبارة “ذمّيّ” ترجمت إلى الفرنسية عبر العبارة كانت تعني صاحب الضّمير والشّرف، ولم يحمل المصطلح “أهل الذّمّة” أية إهانة لهم. حتّى مع من كفّروه تعامل وفقًا لمبدأ حقوق الإنسان في المعارضة الدّيمقراطيّة، فقد تعامل “عليّ” مع التّكفير بطريقة إنسانيّة ومثاليّة وحضاريّة، لأنّه خاضع لأحكام الشّريعة الإسلاميّة، إذ رأى أنّهم “طلّاب حقّ ضلّوا”. وقد نهى في وصيّته: “لا تحاربوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”. ومع أنّه كان الخليفة الحاكم وكان “الخوارج” من رعاياه، لكنّه لم يسجنهم ولم يقطع نصيبهم من العطاء من بيت مال المسلمين، وذلك لاعتبار أنّ إعطاءهم لحقوقهم هو أمر أساسيّ من أسس حقوق الإنسان في الدّولة.
سُئل “الخليل بن أحمد” (718 – 786) عن أمير المؤمنين الإمام “علي بن أبي طالب” فقال: ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسدًا، وأخفاها محبّوه خوفًا، وظهر من بين ذيْن وذيْن ما ملأ الخافقيْن”! هذا هو الرّجل العظيم “عليّ” مجّدته الأمم المتّحدة وحظي باحترام معظم الأمم كم شاهدنا في تقرير “كوفي عنان”، وبعد هذا التّكريم لحياة “عليّ” وشخصيّته وخلاصاته الفكريّة في الإدارة السّليمة وفي تفصيل الحقوق والواجبات للفرد والسّلطة، أليس من العار على جبين الأمّة العربيّة والإسلاميّة أن تتجاهل مثل هذا العملاق العظيم، وتبحث عن وجوه مقنّعة في قيادات العالم الغربيّ والأوروبيّ لتمجّدهم كأبطال لا يملكون إلّا النّزر اليسير من العمل الإنسانيّ المزيّف لتصنع منهم روّادًا وعظماء، أين اعتزازنا بتاريخنا وتمجيدنا بحضارتنا! وإذا كانت الحضارة اليونانيّة تفخر على عالم العصر الحاضر بشرائع “صولون” الحكيم (640 ق.م – 560 ق.م) وكان التّاريخ الإنجليزيّ يباهي حضارة اليوم بوثيقة “الماغنا كارتا” (بالعربيّة الوثيقة العظمى، صدرت سنة 1215) والثّورة الفرنسيّة تزهو بين تاريخ الثّورات بإعلان حقوق الإنسان، فحسب الحضارة العالميّة والعربيّة والإسلاميّة اليوم أن تزهو فخرًا وتختال مجدًا بأنّها قدّمت للأجيال المتعاقبة منذ أربعة عشر قرنًا أرقى المبادئ وأعدلها وبأنّ منها هذا العظيم الخالد أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب”.
عليّ العالم المثقّف:
هناك من يقول أنّ العلم جزء من الثّقافة فقط، ومفهوم المثقّف أرحب وأشمل من مفهوم المتعلّم أو العالم، فالعالم أو المتعلّم قد يدرس علمًا واحدًا أو أكثر وقد يتخصّص العالم بنوع من العلوم، أمّا المثقّف فإنّه يلمّ بكلّ علوم عصره ومعارفه، وهذا المفهوم للمثقّف يجعله قريبًا لمفهوم الجاحظ (775 – 868) حول الأديب، إذ رأى أنّ الأديب هو من يأخذ من كلّ علم بطرف، أي يأخذ من كلّ العلوم بقسط يفي لغرض الثّقافة العامّة والمعرفة الشّاملة لمعارف العصر الّذي يعيش فيه الأديب أو المثقّف بالمصطلح الحديث. ومن هذا المنظور فإنّ “عليّ” ينطبق عليه هذا المدلول للمثقّف أو الأديب وبشكل عميق، حيث كان عارفًا بكلّ علوم عصره، ومتّصفًا بأسمى الصّفات الرّوحيّة الطّاهرة والمزايا الخلقيّة الرّفيعة، ومحبًّا للخير لمجتمعه وناسه في الدّولة الإسلاميّة، ومحافظًا على عقيدته وإيمانه، ومؤمنًا بدينه إيمانًا منفتحًا إنسانيًّا أمميًّا، كلّ النّاس عنده كأسنان المشط. وهو إلى جانب ذلك حمل لقب “الإمام” ليس لحسن عقيدته ودينه ولحسن إدارته كحاكم، بل لرحابة درايته ومعارفه في الكثير من مجالات العلوم. وحمل كذلك لقب “بوّابة العلم”، وهذا اللّقب يكفي للدّلالة على “عليّ” الإمام العالم، الّذي كان يقول: “سلوني سلوني في كتاب الله! فوالله لا تخفى عليّ آية نزلت في وادٍ أم في جبل”، ولِيستحقّ الإمام العالم هذه الصّفة برأي “عليّ” عليه أن يكون قدوة لغيره، وقد قال في ذلك: “من نصّب نفسه للنّاس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه”. ومع سعة اطّلاعه وثقافته وكثرة معارفه، يرى “عليّ” أنّ: “كلمة لا أدري نصف العلم”، بمعنى أنّ رغم ما تحصّله من المعرفة يبقى الكثير المجهول منها، وهي دعوة صريحة من “عليّ” للعلماء أن يجدّوا في البحث لاكتساب المزيد، فالمعرفة الحقيقيّة هي الّتي يشقى الإنسان في البحث عنها ويتعب في تحصيلها. وقد حذّر العلماء من الكِبر والخيلاء بسعة علومهم، ولم يحصر البحث عن المعرفة بالعلماء، بل هي مهمّة إنسانيّة شاملة، فقد أوصى النّاس عامّة والعلماء خاصّة بقوله: “أكثر من مجالسة العلماء ومناقشة الحكماء والصَق بأهل الورع والصّدق ثمّ رضّهم على ألّا يطروك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتُدني العزّة”. ولعلّ الإمام “عليّ” من أشدّ الأسس عنده هو ارتباط العلم والمعرفة والثّقافة بالاستقامة والصّدق والكرامة الذّاتيّة للعالم كإنسان حرّ مستقلّ، ولا يسعى لتحصيل المعارف من أجل مآرب سياسيّة أو دنيويّة أيًّا كانت، فالمهمّة هي العلم وتحصيل المعرفة والغاية هي سعادة الإنسان وليس إرضاء السّلطان. ولذلك قد يكون “عليّ” قد أشار أو لمّح إلى ضرورة التّواصل بين السّلطة والمثقّفين، ولكنّه اشترط هذا التّواصل والعلاقة باحتفاظ كلّ من الطّرفين بكيانه واستقلاله، وضرورة ضمان السّلطة لحرّيّة المثقّف وكرامته وأمنه، ولا تسعى لتجنيده لمآرب سياساتها ولأهداف إرساء أركان حكمها ولاستصغارٍ لغايات المعرفة الإنسانيّة السّامية، ولا بدّ ورغم ضرورة التّواصل بينهما من مساحة للاستقلاليّة بين السّياسيّ والثّقافيّ، لضرورة الحفاظ على طهارة الثّقافة وطهارة الحكم، من أجل علاقة سليمة ومكاشفة سويّة وصريحة بينهما، تؤدّي إلى علاقات شفّافة وإلى إرساء أسس حياة ديمقراطيّة وبناء مجتمع متساوٍ وديمقراطيّ، تسوده الحرّيّة والعدالة.
وكم للإمام “عليّ” من أقوال عن إيمانه بسعة العلم والسّعي لاكتسابه، حيث قال: “لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب”، وكأنّي بالإمام يقرن في كثير من أقواله المعبّرة عن صدق رؤيته بين العلم والأدب بمعنييْه: المعنى الجماليّ الفنّيّ والمعنى الأخلاقيّ السّلوكيّ، وقد أوصى نابذًا العصبيّة والتّعصّب بكلّ أشكاله ومعانيه وداعيًا لعصبيّة من طراز جديد: “إن كان لا بدّ من العصبيّة فتعصّبوا لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال”. وكان من مزايا الحاكم الصّالح عنده أنّ يسعى لتحصيل العلم ولا ينتظر العلم باستجلاب العلماء إلى قصره، وكأنّي به يؤمن بصورة قاطعة “بأنّ العلم يؤتى ولا يأتي”، وشتّان ما بين الشّبعيْن عندما قال “عليّ”: “اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال”، فالأوًل يسعى لاكتساب المعرفة له ولغيره ولأهداف نفيسة ونبيلة وسامية وخالدة، والثّاني يسعى لتحصيل المال له فقط، ولمآرب رخيصة ودنيويّة ومادّيّة وفانية، ولذلك كانت له مقولة عظيمة المعنى وعميقة الأثر للحثّ على السّعي من أجل العلم، وذلك بتفضيله العلماء على الملوك، فقال: “إذا رأيت العلماء على باب الملوك فقل بئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيت الملوك على باب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء”، ولقد آمن لسعة في رؤيته ولعمق في معرفته بأنّ “كلّ وعاء يضيق بما جُعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتّسع”.
اكتسب “عليّ” علوم الإمامة أو العلوم اللّازمة لبناء الدّولة الدّينيّة والعلوم الدّنيويّة اللّازمة لإدارة شؤون الدّولة من النّاحية العمليّة، وقد تحقّق له ذلك من خلال اتّصاله بكلّ المذاهب والفِرق الإسلاميّة الّتي كثرت في هذه الفترة من الاضطرابات الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ونتيجة لتباين الآراء والمواقف من موضوع الحكم والخلافة وازدياد الفجوات بين الأغنياء والفقراء، وخلط المفاهيم، ولقد كان “عليّ” متّصلًا ومعلّمًا لكلّ الفِرق، وله علاقاته مع علماء الكلام، فقد جادل الخوارج ومعاوية والرّوافض وغيرهم من الّذين لا يرون رأيه ولا يقفون موقفه، وتداول مع علماء الفقه والشّريعة في كثير من القضايا وبرع في هذا المجال، حتّى كان وزيرًا للنّبيّ ومستشارًا للخلفاء الثّلاثة الّذين سبقوه، وللخليفة “عمر” كان المستشار الأوّل، لذلك كان “عمر” عندما يواجه عقبة كأداء يقول: “ولا أبو الحسن لها”، وله باع مع علماء اللّغة والبلاغة، ويقال أنّ “عليّ” هو من حفّز “أبو الأسود الدّؤليّ” (16 ق.م – 68 ه) على وضع علم النّحو، بعد أن اعتنق الإسلام أقوام من غير العرب فانتشرت ظاهرة اللّحن، جاءه “الدّؤليّ” مستشيرًا له في الأمر، فيروى أنّ “عليّ” قال له بعد أن اقتنع بحجّته: “أنحُ هذا النّحو”. وله الكثير من الأقوال الّتي تبيّن معرفته بالنّقد وحسّه بفنّ الجمال والتّمييز بين الأساليب التّعبيريّة، ولعلّ ما جُمع من خطب ووصايا ورسائل وأقوال في كتاب “نهج البلاغة” يكفي للتّدليل على قدرة “عليّ” على التّعبير وبلاغة الأداء وجودة الصّياغة وصدق المعاني، والتّمييز بين أساليب الإنشاء الفنّيّ. لقد كان “عليّ” عالمًا بكلّ العلوم في عصره، كعلم الجفر وعلم التّنجيم لاستطلاع المستقبل والغيب، وكذلك اضطرّه علم الفقه إلى اكتساب خبرة بعلوم الحساب لما له من علاقة في المسائل الشّرعيّة الّتي تتعلّق بالميراث.
هل كان عليّ شاعرًا:
سؤال جدير بالإجابة، ولكن لا يحتمل إجابة قاطعة، بنعم، كان شاعرًا! أو بلا، لم يكن شاعرًا! ولن يزيد الشّعر عظمة أخرى لِ “عليّ” إذا لم تصنع منه مسيرته التّاريخيّة في كلّ المسارات والمواقف والإنجازات الّتي تحدّثنا عنها سابقًا، لن يجعله الشّعر عظيمًا. هنالك من ينسب له ديوانًا يحتوي على 424 قصيدة، وثمّة مَن يدّعي أنّ أبياتًا قليلة له تحتويها هذه القصائد المنسوبة إليه، وليس أكثر من ذلك، ولكن يؤكّد البعض أنّ كثيرًا من القصائد المنسوبة إليه لا تصحّ نسبتها إلّا إليه، لأنّها تصف حالات ومواقف عاشها “عليّ” بنفسه كتجربة حياتيّة قبل أن يحوّلها إلى تجربة فنّيّة شعريّة. ولكن هنالك إجماع على أنّ “عليّ” كان ينظم الشّعر ويحسن النّظر فيه وفي نقده ويستطيع أن يميّز جيّده عن رديئه، بالاستناد إلى علم وبصيرة وذائقة تجعله يميّز الأساليب الشّعريّة ووجوه الاستخدامات البلاغيّة، فانظر في جوابه كناقد عندما سئل: “من أشعر النّاس”؟ فقال: “إنّ القوم (يقصد الشّعراء) لم يجروا في حلقة حتّى نعرف الغاية عند قصبتها، وإن كان لا بدّ فالملك الضّلّيل” (500 – 540) ويعتبر “عليّ” لسعة معرفته بالشّعر وسموّ ذائقته أوّل من قسّم الشّعراء إلى مجموعات وأغراض واتّجاهات مختلفة. وفيما لو صحّ ما نسب من شعر إليه، فقد تميّز أسلوبه كشاعر بفصاحة الخطاب وبيان الكلام ومعاني البديع، وكذلك إجادته على كثير من البحور الخليليّة، كما تبيّن قصائد الدّيوان.
وبغضّ النّظر عن كميّة الشّعر أو عدد القصائد الّتي قالها أو كتبها “عليّ” أكانت كثيرة أم قليلة، نستطيع من هذه الكميّة أن نتبيّن بسهولة الموضوعات الّتي أشغلته، وقد نذهب أكثر من ذلك أنّ “عليّ” الشّاعر استطاع أن يعبّر بصدق عن تجاربه الذّاتيّة عندما كان يتعلّق الأمر بمعاناة عاش آلامها وهمومها وأحزانها، ولعلّ الحزن هو الإحساس الجامع والمشترك بينها، وقد تجلّى ذلك في مجموعة من قصائد الرّثاء الشّخصيّ أو ما تصحّ تسميته بالرّثاء الخاصّ، حيث يرثي فيه الشّاعر أحدًا من أقربائه أو ممّن تربطه بهم علاقة شخصيّة خاصّة، كما فعلت “الخنساء” (575 – 645) في رثاء أخيها “صخر”، وكما فعل “جرير” (650 – 728) في رثاء زوجته، وكما فعل “ابن الرّوميّ” (836 – 896) في رثاء ابنه الأوسط، أو كما فعل “ابن نباتة” (1287 – 1366) في رثاء ابنه عبد الرّحيم. ومثله هؤلاء الشّعراء موضوعيًّا وقبلهم زمنيًّا فعل “عليّ” في رثاء أبيه “أبو طالب” والسّيّدة “خديجة بنت خويلد” زوجة النّبيّ، وقد ماتت بعد “أبو طالب” بثلاثة أيّام، فسمّي هذا العام بِ “عام الحزن” (3 ه) ففقد الإسلام وهو طريّ العود مسانديْن كبيريْن، وهو ما أحزن “عليّ” بشكل أليم، وكذلك رثا النّبيّ، وهو أبوه الرّوحيّ الّذي تربّى ونشأ في حضنه منذ طفولته، وبعد ستّة أشهر فقط من موت أبيها فقد “عليّ” زوجته ورفيقة دربه وأحبّ النّساء إليه السّيّدة “فاطمة الزّهراء” أمّ السّبطيْن: “الحسن” وَ “الحسين”. ولعلّ القصيدة الّتي قالها في بكائها خير نموذج لها الغرض من شعره في الرّثاء الخاصّ، لأنّ هذا الرّثاء يمتاز بكونه حزنًا متواصلًا وتتحوّل فيه الحروف والكلمات إلى بكاء ودموع. ولنمثّل لهذا اللّون بقصيدة من 19 بيتًا من شعره في رثاء زوجته “فاطمة”، الّتي يقال أنّه كان يزور قبرها ويجهش بالبكاء، ويقال إنّه رغم لمسة الحزن الزّاهدة في الدّنيا قد غمرت وجدان “عليّ” من سلسلة الوفيات الّتي مُني بها تباعًا كان لا يطيق أن يراه أحد مهمومًا جزوعًا، بل كان يبدي صبره وجلده أما الشّدائد مهما ثقلت، فلا يشمت به الأعداء ولا يحزن له الأحبّاء، ويكفينا هذا المقطع لتصوير أحزانه وإحساسه الكبير بالفقدان العظيم المشوب بتصوير الدّنيا وآلامها والحِكم العميقة الّتي يستمدّها الإنسان منها:
“أرى عــلـــل الـــدّنيـــا عـــليَّ كــثيرةً – وصــــاحـبـــها حــتَّى الـــممات عليلُ
وإنـّــي لمـــشتـــاق إلـــى من أحبّـــه – فـــهل لـــي إلى من قد هويت سبيلُ
وإنّـــي وإنْ شطّـــت بــي الدّار نازحًا – وقد مـــات قـــبلي بـــالفراق جـــمـيلُ
فقد قال في الأمثال في الـــبيْن قـــائلٌ – أضــــرَّ بـــه يـــوم الـــفراق قـــليـــلُ
لـكلِّ اجـــتماعٍ مــن خـــليليْنِ فرقـــةٌ – وكـــلُّ الـّــذي دون الـــفـــراق رحـيلُ
وإنّ افـــتقـــادي فـــاطمًا بـــعد أحـمدٍ – دلــــيـــلٌ عـــلـــى أن لا يـــدوم خـليلُ
وكـــيف هناك العيش من بـعد فقد (م) – هم لـــعـــمـــرك شـــيءٌ مـــا إليه سـبيلُ”
ولكنّ “عليّ” طرق الكثير من الموضوعات الشّعريّة مثل الافتخار بالنّسب والأهل، فهو ابْن سادة قريش، الّذي تغذّى على معاركهم وغزواتهم منذ صباه، فهو من بني “هاشم” الّذين ناصروا النّبيّ في دعوته، فكانوا عشيرته الأقربين، وكان يتفاخر دائمًا على أعدائه في شعره، وله قصيدة في هذا الباب نقتبس منها:
“أنا عليّ وابْن عبد المطّلبْ – مُهذَّب ذو سطوة وذو غضبْ
غُذّيت في الحرب وعصيان النّوبْ – من بيت عِزٍّ ليس فيه مُنشعبْ
ورغم اعتزازه الكبير بنسبه وأعلام بني “هاشم” وآل البيت فهو الفارس العصاميّ، الّذي يرفض أن يكون الحسب والنّسب وحدهما مقياسًا لأفضليّة الإنسان، ويسعى لبناء شخصيّته معتمدًا على عظمته ونفسه، وليس على عظمة عشيرته ورموزها البارزين، فكثيرًا ما تغني بالعصاميّة والاعتماد على النّفس عن الحسب والنّسب وصيت الآباء والأجداد، فيقول:
“كنِ ابْن من شئت واكتسبْ أدبا – يغنيك محموده عنِ النّسبِ
فليس يغني الحسيب نسبته – بلا لسان له ولا أدبِ
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا – ليس الفتى من يقول كان أبي”
لم يكن الشّعر مهنة “عليّ” ولا صنعته، بل كان صاحب مواقف فروسيّة وبطوليّة مشوبة بجوانب إنسانيّة، وقد تكون قصيدته في تصوير بلاء قبائل “همدان” في القتال يوم “صفّين” من أجمل القصائد في تصوير البطولة والفروسيّة والشّجاعة، وفي أبياتها ما يذكّرنا بشعر عنترة بن شدّاد البطوليّ، حيث قال:
“لمّا رأيْتُ القومَ أقبلَ جمعُهُمْ – يتذامرونَ كررْتُ غيرَ مذمّمِ”
أمّا “عليّ” فقد صوّر في قصيدته البطولة الّتي تمتّعت بها أبطال “همدان” وما اتّسموا به من شجاعة نصرة للحقّ كما يراه “عليّ”، بكلمات كلّها ترسم صورة نموذجيّة لشخصيّة البطل الشّعبيّ أو الإسلاميّ، وما يتمتّع به من رجولة وإنسانيّة إلى جانب البطولة والكبرياء. وهذا المقطع نموذج لما قاله “عليّ” فيها:
“ولمّا رأيت الخيل تقرع بالقنا – فوارسها حمر النّحور دوامي
ونادى ابن هند في الكلاع ويحصب – وكندة في لخم وحي جذامِ
تيمّمت همدان الذين همُ همُ – إذا ناب خطب جنّتي وسهامي
فناديت فيهم دعوة فأجابني – فوارس من همدان غير لئامِ
فوارس ليسوا في الحروب بعزّل – غداة الوغى من شاكر وشبامِ
ومن أرحب الشّمّ المطاعين بالقنا – ونِهم وأحياء السبيع ويامِ
ووادعة الأبطال يخشى نصالها – بكلّ صقيل في أكفّ حسامِ”
ولعلّ أبرز المواضيع الّتي طرقها “عليّ” في شعره، هي الأبرز في رؤيته الاجتماعيّة ونظرته الفكريّة، والنّابعة من صميم إيمانه بالقيم والأخلاق الإسلاميّة، وفي مقدّمتها الاستقامة والحكم في الموت والحياة والدّنيا وشدائدها، والزّهد بالدّنيا والطّمع والفقر، وفي شعره الحكميّ رؤى فلسفيّة واضحة. وكنموذج لهذا الباب سنمثّل بمقطعيْن: الأوّل يبيّن رؤية “عليّ للاستقامة، إذ يكون فيه ناصحًا وموجّهًا للإنسان، كما صار سائدًا فيما بعد بموضوع الأدب بالمعنى الخلقيّ في النّثر الفنّيّ العربيّ، وقد برع فيه “ابن المقفّع” (724 – 759) وفي هذا المقطع يقدّم “عليّ” صورة للإنسان المثاليّ بالمفهوم الاجتماعيّ والأخلاقيّ والسّلوكيّ في المجتمع الإسلاميّ. يقول:
“تنزّْه عن مجالسة اللئـام – وألممْ بالكرام بني الكرام ِ
ولا تكُ واثقًا بالدهر يومًا – فإنّ الدهر منحلُّ النظام ِ
ولا تحسد على المعروف قومـًا – وكن منهم تنل دار السلام ِ
وثقْ بالله ربّك ذي المعالــي – وذي الآلاء والنعم الجسام ِ
وكنْ للعلم ذا طلب وبحث – وناقشْ في الحلال وفي الحرام ِ
وبالعوراء لا تنطق ولكـن – بما يرضي الإله من الكلام ِ
وإن خان الصديق فلا تخنـه – ودمْ بالحفظ منه وبالذمام ِ
ولا تحملْ على الإخوان ضغنًـا – وخذْ بالصفح تنجُ منَ الأثامِ”
وفي مقطع من قصيدة أخرى يصوّر “عليّ” مفصّلًا المكارم والأخلاق الّتي يجب أن يؤمن بها الإنسان ويقتنيها كرؤية حياتيّة ويتّخذها أسلوب حياة ومنهج سلوك، وبأسلوب منطقيّ جليّ يعدّد “عليّ” هذه المكارم، ومن ثمّ يخلص إلى وصف الجنّة الّتي يكسبها الإنسان الحامل لتلك المكارم التّسع، فقال:
“إنّ المكارم أخلاق مطهّرة – الدين أوّلها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها – والجود خامسها والفصل ساديها
والبرّ سابعها والشكر ثامنها – والصبر تاسعها واللين باقيها
واعملْ لدار غدًا رضوان خازنها – والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها – والزعفران حشيش ثابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل – والخمر يجري رحيقًا في مجاريها
والطير تجري على الاغصان عاكفة – تسبّح لله جهرًا في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها – بركعة في ظلام الليل يحييها”
اغتيال عليّ كاغتيال عمر جريمتان أمويّتان:
اغتيل العظيم العادل “عمر”، وقلنا إنّ اغتياله كان مؤامرة دبّرت بليل وخُطّط لها بدقّة ومكيدة أمويّة بامتياز، فكانت الجريمة أوسع وأعمق وأبعد أثرًا من أن تنسب لِ “أبو لؤلؤة فيروز” (توفّي سنة 644) الفارسيّ المجوسيّ، الّذي كان مجرّد اليد الّتي نفّذت الجريمة، أمّا “أبو سفيان” وأتباعه وأولاده و”بنو أميّة” وأتباعهم المتذيّلون بهم فهم المجرمون الحقيقيّون، قادة الثّورة المضادّة ضدّ ثورة الإسلام الّتي رسّخ معانيها وأسسها “عمر” في السّياسيّة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق ونظام الحكم باعتماد مصلحة الإنسان فوق كلّ اعتبار، وبخاصّة الفقراء الّذين جعلهم مركزًا لهذا النّظام بضمان أمنهم ومعيشتهم الكريمة وحرّيّاتهم المختلفة. وجاء “عليّ” ليسير على النّهج العمريّ الثّوري بعد انتكاسة الحكم وزوال العدالة والمساواة في خلافة “عثمان”، جاء “عليّ” استمرارًا للثّورة العمريّة فجابهته قوى الثّورة المضادّة نفسها من أسياد “بني أميّة” وكبار الأثرياء، فكانت وقعة “الجمل” في السّنة الأولى لحكمه ووقعة “صفّين” في السّنة الثّانية، كانت الوقعتان محاولتيْن للحدّ من امتداد “عليّ” وثورته الاجتماعيّة وخلافته المشروعة ونهجه الفكريّ التّقدّميّ والتّنويريّ، وهو “نصير الفقراء” والدّين السّمح والعدالة والمساواة والتّقشّف والزّهد، وفي الآن ذاته كان نقيض الظّلاميّة والتّقاطب الاجتماعيّ والأغنياء والبذخ وتراكم الثّروة والاستبداد واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
وإنّي لأعتقد أنّ الظّروف والقرائن الّتي شابت مؤامرة اغتيال “عمر” لتكاد تكون هي الظّروف والقرائن نفسها الّتي لابست مؤامرة اغتيال “عليّ، فنهجهما السّياسيّ واحد وفكرهما الدّينيّ المنفتح واحد ومنهجهما في الحكم والاقتصاد والمجتمع واحد هو الآخر، ونصرتهما للفقراء ومعاداتهما للأغنياء واحدة والمتضرّرون من ذلك النّهج من الأغنياء والولاة وأصحاب الثّروات والممتلكات والخائفون على مصالحهم وثرواتهم ونفوذهم هم أنفسهم في فترتيْ خلافتهما، و”عمر” اغتيل بسبب مواقفه الصّارمة منهم وقد انتدبوا عنهم يدًا صغيرة غريبة، لها أسبابها الّتي تساوقت مع مصالح الرّأسماليّين الكبار، فلماذا لا يلاقي “عليّ” المصير نفسه لميله إلى تطبيق النّهج العمريّ الصّارم، وقد انتدب هؤلاء المجرمون أنفسهم يدًا صغيرة أخرى، لها أسبابها الّتي تساوقت مرّة أخرى مع مصالح الرّأسماليّين الكبار.
الاتّفاق الثّلاثيّ أكذوبة تاريخيّة:
كما هو شائع فقد اجتمع ثلاثة هم: “عبد الرّحمن بن ملجم” توفّي سنة (661) و”الحجّاج بن عبدالله التّميميّ” الملقّب بِ “البُرَك” توفّي سنة (660) و”عمرو بن بكر التّميميّ” توفّي سنة (660) وهم من “الخوارج”، والخوارج جماعة شكّلت حزبًا سياسيًّا فيما بعد معارضًا للنّظام الأمويّ وثاروا ضدّه، فشكّلوا تهديدًا للأمويّين، فلم يجدوا إلّا التّنكيل بهم من جلاوزة النّظام الأمويّ الحاكم بالمجازر وقطع الرّؤوس والإبادة، وهم الّذين انشقّوا عن “عليّ” وخرجوا عليه بعد وقعة “صفّين” وقبوله بخدعة “التّحكيم”، فحاربوا جيش “عليّ” فكانت حربهم له هديّة ثمينة استغلّها “معاوية” وأنصاره، إذ بذلك أضعفوا الطّرف المناوئ للأمويّين وأصحاب رؤوس الأموال الّذين يريدون الاستئثار بالحكم والدّولة وسياستها وفقًا لمصالح الكبار. حاربهم “عليّ” وقضى على قوّاتهم في معركة “النّهروان” سنة (658) اجتمع هؤلاء الثّلاثة بذريعة كاذبة، مفادها أنّ الأمّة وصلت إلى حالة من السّوء أوصلها إليها: “عليّ” و”معاوية” و”عمرو بن العاص”، ولذلك لا بدّ من التّخلّص منهم، ورفعوا شعار “لا حكم إلّا حكم الله”.
والصّائب تاريخيًّا وفقا للمصادر والقرائن أنّ ذلك الاجتماع الثّلاثيّ بينهم كان مجرّد تلفيق على التّاريخ، وأنّ ذلك الاجتماع والاتّفاق لم يكن بتاتًا، فَ “ابن ملجم” لم يكن خارجيًّا وقاتل “الخوارج” في جيش “عليّ” ببسالة وقوّة وفرح لانتصار “عليّ”، وهو أوّل مَن زفّ خبر انتصار “عليّ” إلى النّاس في “الكوفة”، وتؤكّد بعض مصادر التّاريخ القديمة لمؤرّخين موثوقين أنّ للأمويّين ضلعًا قويًا في مؤامرة الاغتيال، ومنهم “المسعوديّ” (283ه – 346ه) وَ “البلاذريّ” (توفّي سنة 279ه) وَ “الأصفهانيّ” (897 – 967) وَ “المبرّد” (826 – 898) في هذه الجريمة النّكراء، أمّا “أبو الأسود الدّؤليّ” (603 – 688) فيذكر صراحة أنّ المؤامرة أمويّة، وقد قادها “معاوية” بنفسه، ويرى أنّه منذ مقتل “عمر” وحتّى مقتل “الحسين” جريمة ممتدّة واحدة. لقد شكّل “عليّ” العقبة الوحيدة والأخيرة أمام الأمويّين للوصول إلى الحكم، بعد أن اطمأنّوا لذلك بوصول “عثمان” للخلافة، ولكنّهم عادوا ورأوا الحكم يبتعد بعد الثّورة عليه ومقتله. فنجح “معاوية” في مخطّطه الشّيطانيّ.
نجح “عبد الرّحمن بن ملجم” يوم 19 رمضان سنة (40 ه) الموافق ليوم 27 كانون الثّاني سنة (661 م) في قتل “عليّ” في المسجد الكبير في “الكوفة” أثناء الصّلاة، إذ ضربه على رأسه فشجّه بسيف مسموم، فمات أعظم المسلمين وإمامهم وعالمهم بعد يوميْن من الجريمة النّكراء، وضبط القاتل وقتل، وقد كان “عليّ” قد أمر أهله إذا لم ينجُ أن يقتل القاتل وحده “ألّا يقتلّنّ إلّا قاتلي”، أمّا “البُرَك” الّذي توكّل بقتل “معاوية” فأصابه بإصابة خفيفة فنجا، وأمّا المستهدف الثّالث “عمرو بن العاص” فقد توكّل بقتله أثناء إمامته بالصّلاة “عمرو بن بكر” فمرض “ابن العاص” وأوكل أمر إمامة الصّلاة ذلك اليوم لِ “خارجة بن حذافة” توفّي سنة (661) فقُتل وذهبت هذه الحالة مثلًا يضرب “أردت عمرًا وأراد الله خارجة”. ومن نجاح اغتيال “عليّ” وفشل اغتيال “معاوية و”عمرو” نستطيع أن نتبيّن المكيدة والمؤامرة، فَ”عليّ” في صدق المنهج وانفتاح التّفكير وطهارة الحكم والتّوجّه الدّيمقراطيّ نقيض “معاوية” و”عمرو” وهو نصير الفقراء، وهما ممثّلان للثّروة والأثرياء وفساد الحكم والاستبداد والاستغلال. وأمر آخر كيف لعبت الصّدفة دورها مرّتيْن يموت “عليّ” بالذّات وينجو الاثنان الآخران، فهي صدفة تنطوي برأيي على مؤامرة، لأنّ الأخطر على الإسلام ودولته ونقائه هما “معاوية” و”عمرو”، وليس “علّيّ”، وقد كان “الخوارج” في صفّه ضدّ “معاوية”، وقد قاتلوا “عليّ” للثّأر من قتلاهم يوم “النّهروان”، و”ابن ملجم” عندما وصل “الكوفة” التقى بامرأة خارقة الجمال أحبّها منذ زمان، اسمها “قطام” من بني “تيم الرّباب”، كان “عليّ” قد قتل أباها وأخاها يوم “النّهروان”، وكان “ابن ملجم” قد نسي مهمّته الأساسيّة في قتل “عليّ” بعد أن التقاها وفتن بجمالها، لكنّها طلبت رأس “عليّ” مهرًا لها لتقبل الزّواج منه. وممّا يزيد من شكّي في أنّ اغتيال “عليّ” كان مؤامرة ومكيدة، للأمويّين يد فيها أنّ “الأشعث بن قيس” (599 – 661) وهو زعيم قبيلة “كندة” كان يميل إلى “معاوية” بعد أن عرض عليه الأموال الكثيرة لقاء وقوفه ضدّ “عليّ”، وكان “الأشعث” على علم بمؤامرة الاغتيال، ويقال أنّه استضاف “ابن ملجم” لعدّة أيّام حرّضه فيها وشجّعه على تنفيذ الجريمة. ولماذا لا يكون القاتل المجرم “ابن ملجم” متآمرًا مع “معاوية” بشكل غير مباشر وبوساطة “الأشعث”، فيحقّق المهر المزدوج الّذي طلبته “قطام” بشقّيْه: المال الكثير فقد طلبت ثلاثة آلاف درهم وعبدًا وقينة ورأس “عليّ”. وقد قال الشّاعر “ابن أبي ميّاس المراديّ” وهو من شعراء “الخوارج” بذلك:
“ولمْ أرَ مهرًا ساقَهُ ذو سماحةٍ كمهرِ قطامٍ بينَ عُربِ وأعجمِ
ثلاثةِ آلافٍ وعبدٍ وقينةٍ وضربِ عليٍّ بالحسامِ المسمّمِ”
فمن أين لِ”ابن ملجم” بذلك المال الكثير وشراء عبد وقينة، إن لم يوفّرها ويزوّده بها “الأشعث” من مال “معاوية”، حتّى يتمكّن من زواج من يحبّ. إنّي لأكاد أكون على يقين من ذلك!
الجريمة الممتدّة:
لعن الله “معاوية” و”الأشعث” و”ابن ملجم” و”قطام”، ورحم الله “عليّ”. وقد نلخّص هذا الموضوع لنتعرّف على مدى الإجرام الأمويّ، فقد حاول أسياد “قريش” وعلى رأسهم “أبو سفيان” بمؤامرة أن يقتلوا النّبيّ فنام “عليّ” مكانه ففشلت المكيدة، وعزلوا “بني هاشم” في “الشِّعب” ومنعوا عنهم الطّعام والشّراب، فمات “أبو طالب” وَ “خديجة” زوجة النّبيّ الأولى، حتّى ثارت على قذاراتهم العرب، وأرسلوا “عمرو بن العاصّ” ليتعقّب المهاجرين إلى الحبشة ويطلب من “النّجاشي” (توفّي سنة 630) تسليمهم، وكان على رأسهم “جعفر بن أبي طالب” وفشل “عمرو” بالمهمّة، ودبّروا اغتيال “عمر بن الخطّاب” ونجحوا بمكيدة دنيئة لكنّها محكمة، ومن ثمّ نجحوا بعد عدّة محاولات باغتيال “عليّ”، واغتال “معاوية” الإمام “الحسن بن عليّ” بيد زوجته لنقض الاتّفاق معه، وقتل الأمويّون رسول الإمام “الحسين بن عليّ” وهو “مسلم بن عقيل بن أبي طالب” (632 – 680) إلى أهل “الكوفة” وأهل “العراق” ليناصروا “الحسين” فخذلوه وقتلوه، وكانت الجريمة العظمى بل المجزرة الكربلائيّة الّتي قتل فيها الملك المجرم “يزيد بن معاوية” (647 – 683) أطهر النّاس الإمام الشّهيد “الحسين” وأحبّهم إلى النّبيّ، وقال عن يوم “انتصاره” في “كربلاء” كما قال جدّه اللّعين “أبو سفيان” عن يوم “أحد”: “يوم بيوم بدر”، رموز الثّورة الملكيّة المضادّة تثأر من الثّوّار المكافحين المسلمين الحقيقيّين والطّاهرين. إنّها جريمة ممتدّة واحدة بيد أمويّة دنسة واحدة. يثأر الكفر من الإيمان والملك من الخلافة والغنى من الفقر، يثأر “الطّلقاء” الكذّابون الجبناء بنكران جميل دنس من الأحرار الصّادقين الأنقياء.
مات “عليّ” الّذي لم يقبل الخلافة إلّا خوفًا على الدّين وطهارة الحكم وكرامة المحكوم، وجرى وراءها “معاوية” جري الكلاب على جيفة الثّراء والاستئثار والاستبداد وجاه الحاكم، لم يقبلها “عليّ” إلّا بعد توجّه وإلحاح من معظم الصّحابة، وقد قال: “لولا الخشية على دين الله لم أجبهم”، و”عليّ” ما كذب ولا ادّعى ولا سعى وراء مال ولا جاه، ولعلّ قبوله بها لأنّه أدرك ببصيرة ثاقبة أنّ “معاوية” لا يخشى الله ولا يقيم أهمّيّة لدين ولا لخلق ولا لكرامة ولا لعدالة. إنّه في مفاهيمنا اليوم ممثّل الرّأسمال والرّأسماليّين. مات “عليّ” أطهر المسلمين وأعظمهم ودفن في العتبات المقدّسة في “النّجف الأشرف”، وبعد موته كثر المعجبون به وبشخصيّته ونزاهته واستقامته، خاصّة بعد أن ذاقوا طعم الاستبداد الأمويّ وسوء الحكم الظّالم والقمع. مات “عليّ” أعظم الطّالبيّين المظلومين وتحوّل في تاريخنا إلى رمز للمظلومين وصار شعارًا للمكافحين الّذين يطالبون ويثورون من أجل حقوقهم الإنسانيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة.
عليّ الإمام الخالد في الفنّ والبحث:
إلى جانب أنّ “عليّ” كان باحثًا وعالمًا، كاتبًا وشاعرًا، كُتب عنه وحول شخصيّته وعلاقاته ومسيرته التّاريخيّة بشكل عامّ، الكثير من الأبحاث والأشعار منذ العصور القديمة، وما زالت شخصيّته تستهوي الكتّاب والشّعراء حتّى هذا العصر الحديث، لتميّزه في مجالات كثيرة في الحياة ولوجوه شخصيّته وأبعادها المتعدّدة، ولا شكّ أنّ هذه الشّخصيّة وهذه المسيرة في التّاريخ والواقع أعظم من كلّ ما قيل عنها في الأدب والفنّ والبحث والدّراسات والمقالات، سواء كانت صادرة عن مريديه ومحبّيه أم من الّذين يعادونه، ومع ذلك ثمّة شبه إجماع على مقامه المحمود ودوره المشهود ومكانته القياديّة الرّصينة واستقامة حياته الّتي تميّزت بالزّهد بالدّنيا وبحبّه للفقراء والبسطاء، وفضله كشخصيّة ذات أثر عظيم وتأثير كبير في المسيرة الإسلاميّة، منذ بعث النّبيّ رسولًا. “عليّ” وحتّى ليلة “المبيت”، وبلائه كان جنديًّا وفارسًا مقاتلًا وقائدًا عسكريًّا في الذّود عن الإسلام، إلى أن كان أحد عشرة من الصّحابة الّذين بُشّروا بالجنّة، ومن ثمّ خالفته الأيّام واضطراب الظّروف الّتي أحاقت بها، حتّى موته مقتولًا شهيدًا كأحد أبرز مقاتل الطّالبيّين. شخصيّة من شخصيّات الصّفّ الأوّل والأسمى في التّاريخ الإسلاميّ، بل في التّاريخ الإنسانيّ على ترامي طول عصوره ورحابة أمدائه من القديم إلى الوسيط إلى الحديث.
في البحث كُتب الكثير من الكتب والدّراسات، فالعميد “طه حسين” (1889 – 1973) خصّص جزءًا كاملًا من كتابه “الفتنة الكبرى” هو الجزء الثّاني بعنوان “عليّ وبنوه”، وهذا الكاتب المصريّ “عبّاس محمود العقّاد” (1889 – 1964) يخصّص عبقريّة من عبقريّاته لِ “عليّ” بعنوان “عبقريّة الإمام”، أمّا الباحث “عبد الرّسول زين الدّين” (لم أجد سنة مولده وموته) فقد جمع الكثير من أقوال “عليّ” وقدّم لها بكتابه “المنتخب من كتاب الإمام عليّ في مصادر التّاريخ والأدب”، وهناك كتاب بعنوان “أعمال عليّ بن أبي طالب” للباحث “عبد الفتّاح عبد المقصود” ولد سنة (1912) وللعلّامة “الأمينيّ” (1902 – 1971) كتاب “الغدير”، وللكاتب الرّوائيّ المصريّ “عبد الرّحمن الشّرقاويّ” (1921 – 1987) كتاب بعنوان “عليّ إمام المتّقين”، ومن المثير فعلًا أنّ ثمّة دراسة ذكرت من قبل، للدكتور “صائب عريقات” (1955 – 2020) كبير المفاوضين الفلسطينيّين، يتناول موضوعها كدراسة مقارنة بكتاب عنوانه “عناصر التّفاوض بين عليّ وروجر فيشر”، ولعلّ أكثر ما يلفت النّظر أنّ الشّاعر اللّبنانيّ “جورج جرداق” (1933 – 2014) ألّف كتابًا أبدى فيه إعجابه وتقديره للإمام الإنسان “عليّ” وسمّاه “عليّ صوت العدالة الإنسانيّة”.
أمّا في عالم الشّعر فقد كتبت عنه مئات القصائد، لكثير من كبار الشّعراء بالفصحى في العالم العربيّ والإسلاميّ، وبالعاميّة لكبار الزّجّالين اللّبنانيّين. لن نستطيع في هذه المقالة/ الدّراسة الذّاتيّة أن ننقلها جميعًا، بل سنكتفي بذكر عناوين بعض القصائد، مع تسجيل بعض النّماذج. فقد جمع “رسول كاظم عبد السّادة” (لم أجد سنة مولده وموته) في كتاب أسماه “أحلى عشرين قصيدة في مدح عليّ”، وهنالك قصيدتان يرِد فيهما مدح “عليّ” كواحد من “آل البيت”، القصيدتان بعنوان “مدح أهل البيت”: للشّيخ “الآزريّ” (1880 – 1954) وللشّيخ “سبط بن الجوزيّ” (1186 – 1256) وثمّة قصيدة بعنوان “القصيدة الكوثريّة” للشّاعر “رضا الهنديّ” (1290ه – 1362ه) وللشّاعر “محمّد كاظم الخاقانيّ” ولد سنة (1954) قصيدة في مدح مولد “عليّ”، وله مجموعة قصائد في مدح “آل البيت”، وللشّاعر العراقيّ الكبير “محمّد مهدي الجواهريّ” (1899 – 1997) قصيدة في مدح “عليّ” يقول في مطلعها:
“فِدَاءً لمثواكَ منْ مَضْــجَعِ – تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ منْ نَفحاتِ الجِنـانِ – رُوْحًا ومنْ مِسْكِها أَضْـوَعِ”
وكذلك ما يلفت الانتباه والاهتمام أنّ الشّاعر اللّبنانيّ “جوزيف الهاشم” ولد سنة (1937) والّذي كان سياسيًّا وشغل منصب وزير، له قصيدة رائعة في مدح “عليّ”، يقول في مطلعها:
“نِعمَ العليُّ ونِعمَ الاسمُ واللّقبُ – يا مَنْ بِهِ يشرئبُّ الفضلُ والنّسبُ”
وفيها يتغنّى ببطولة “عليّ” وشجاعته، ويصل به المدح إلى أن قال أنّ “عليّ” لو عاصر المسيح لاستطاع قتل قاتليه وصالبيه، وقد قال في بيتيْن منها:
“لوْ كانَ عاصرَ عيسى في مسيرته – ومريمُ في خُطى الآلامِ تنتحبُ
لثارَ كالرّعدِ يهوي ذو الفقارِ على – أعناقِ بيلاطسَ البنطيِّ ومَنْ صَلبوا”
قد تكون القصيدة “المحمّديّة العلويّة” للشّاعر اللّبنانيّ “نصرات قشاقش العامليّ” (ولد سنة 1975) هي أمدح قصيدة ذكر ومدح لِ”عليّ” من حيث مبناها ومضمونها ومعانيها في اقتران اسْم “عليّ” باسْم “محمّد”، ولعلّ أبرز ما فيها ذلك التّكرار لاسْميْهما: محمّد أوّلًا ويرد في آخر كلّ صدر من أبيات القصيدة، ويرد اسْم “عليّ” ثانيًا في آخر كلّ عجز من أبياتها، وكأنّ الشّاعر أراد التّعبير عن تعلّق “عليّ” بالنّبيّ، ولكنّ الدّائرة الإيمانيّة لا تكتمل إلّا بِ”عليّ”. وفي القصيدة الّتي تتكوّن من حوالي عشرين بيتًا يتتبّع فيها الشّاعر مسيرة النّبيّ ودعوته ومساندة أخيه وصفيّه ومستشاره وفارسه الهمام في الأيّام والغزوات والمواقف الثّقيلة والصّعبة وأمام القضايا والعقد الكأداء. يقول في مطلعها
“بـعثَ الإلهُ إلى الأنامِ محمّدًا – وأتمّها بخلافة المولى علـــــي
وتنـزّل القرآنُ عندَ محمّدٍ – وكمالُ تأويلِ الكتابِ غــدا علــي
وإلى معاريجِ السّماءِ محمّدٌ – يرقى فيلقى عندَ سدرتِها علـــي
ويهاجـــرُ البلدَ الحرامَ محمّـــدٌ – ويبيتُ مختبــأً بمرقدِهِ علـــي”
ثمّ يتحدّث الشّاعر عن الجهاد وليس من يبدأه إلّا النّبيّ وليس من يتابعه حتّى الانتصار إلّا “عليّ”:
“ويقيم صرحًا للجهادِ محمّدٌ – مَنْ ذا الّذي صرعَ العتاةَ سوى علي
في خندقِ الأحزابِ نادى محمّدٌ – مَنْ ذا لعمرٍ فأنبرى يمضي علي
وكذاكَ في أحدٍ أصيبَ محمّدٌ – فــرَّ الجميعُ وكــانَ كــرّارًا علـــي”
ولعلّ الصّحبة الّتي جمعت النّبيّ مع “عليّ” في القرابة وصلة الرّحم والحياة والقتال وفي تحصيل العلم والدّفاع عن الإسلام ورسالته، زد على ذلك كلّه زواج “عليّ” من “فاطمة الزّهراء” بنت النّبيّ، هذه الصّحبة لا بدّ أن تستمرّ وتدوم حتّى في الآخرة وفي جنّة النّعيم، وينهي الشّاعر قصيدته بهذه الصّحبة الأبديّة بينهما:
والجنّةُ جُعلتْ لدينِ محمّدٍ – لكــنْ بشرطِ دخولِــها تــــهوى علي
والنّارُ ما خُلقتْ وحقِّ محمّدٍ – إلّا لتصــلى الحاقدينَ على علــي
والجنّةُ والنّارُ قلْ لمحمّدٍ – وقسيمُها يومَ الحسابِ غــــدا علــي
وعليُّ يدعو ربَّهُ بمحمّـــدٍ – ومحمّــدٌ يدعو بحقِّ أخــي علـــي”
ظهرت شخصيّة “عليّ” في مسلسل “عمر” لأوّل مرّة في تاريخ التّمثيل التلفزيونيّ والسّينمائيّ، وقد جسّد شخصيّته ودوره في المسلسل الممثّل التّونسيّ “غانم الزّرليّ” (1984) والمسلسل من إنتاج قطريّ ومن 31 حلقة، وقد استغرق حوالي سنة كاملة لتصويره وشارك فيه ممثّلين وفنّيّين وعاملين حوالي 30 ألفًا. قصّته من تأليف الكاتب الفلسطينيّ “وليد سيف” (1948) ومن إخراج المخرج السّوريّ “حاتم علي” (1962 – 2020) وقد شارك في التّمثيل عشرات الممثّلين من معظم الأقطار العربيّة، أبرزهم الفنّان السّوريّ “سامر إسماعيل” (1985) في دور “عمر”، والفنّان السّوريّ “غسّان مسعود” (1958) في دور “أبو بكر” والفنّانة السّوريّة “مي سكاف” (1969 – 2018) في دور “هند بنت عتبة”، والفنّانة الأردنيّة “نادرة عمران” (1965) في دور “سجاح” والفنّان العراقيّ “جواد الشّركجي” (1951) في دور “أبو جهل” والفنّان التّونسيّ “فتحي المهدّاويّ” (1961) في دور “أبو سفيان”، والفنّان السّوري نجاح سفكوني (1946) في دور “سهيل بن عمرو”، والفنّان السّوريّ “مهيار خضور” (1983) في دور “خالد بن الوليد”، والفنّان السّودانيّ “ياسر عبد اللّطيف” (1970 – 2020) في دور “النّجاشيّ” ملك الحبشة، والفنّان السّوريّ “قاسم ملحو” (1968) في دور “عمرو بن العاص، والفنّان المصريّ “عبد العزيز مخيون” (1946) في دور “أبو طالب”، والفنّان المغربيّ “محمّد مفتاح” (1949) في دور “حمزة بن عبد المطّلب”، والفنّان المغربيّ “حسن الجنديّ” (1938 – 2017) في دور “عتبة بن ربيعة”. ولكنّ شخصيّة “عليّ” كانت حاضرة في كثير من المسلسلات والأفلام السّينمائية، ولكنّ حضور شخصيّته في الأحداث كان بالصّوت فقط، وكان أبرز أدواره في فيلم “الرّسالة” الّذي أخرجه بنسختيْن: عربيّة وإنجليزيّة المخرج السّوريّ الشّهيد “مصطفى العقّاد” (1930 – 2005) الّذي اغتالته قوى الإسلام المتطرّف الظّلاميّ، عدوّ التّنوّر والحريّة والفنّ وكلّ ما هو ثقافيّ نبيل وجميل وحضاريّ وإنسانيّ على مدى مسيرة التّاريخ الإسلاميّ والإنسانيّ وعلى رحابة الحياة الكريمة والمتجدّدة.
تعجّ مدن الوطن العربيّ والإسلاميّ وقراهما بمساجد وشوارع وميادين ومؤسّسات ومشاريع تتشرّف بالتّسمية على اسْم “عليّ بن أبي طالب”، وفي قريتي “كابول” الواقعة في منطقة “الجليل”، من شمال فلسطين جامع كبير بمئذنتيْن اثنتيْن، يقع في الحيّ الشّرقيّ من القرية، هو جامع “عليّ بن أبي طالب”.
ويلفت النّظر والاهتمام أنّ للإمام “عليّ بن أبي طالب” رسميْن فنيّيْن: واحدًا في المتحف الإيطاليّ في “روما”، وآخر في متحف “اللّوفر” الفرنسيّ الشّهير في باريس. ناهيك عمّا كرّم به في هيئة الأمم المتّحدة سنة (2002) عندما اعتبره الأمين العامّ “كوفي عنان” أحد أبرز الشّخصيّات في التّاريخ البشريّ.
أقوال في عظمة عليّ:
قال النّبيّ في شجاعته وبطولته: “لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتًى إلّا عليّ”، وقال: حامل لوائي في الدّنيا والآخرة”. وقال في عدالته: “هو الفاروق بين الحقّ والباطل”، وقال: “أقضى أمّتي عليّ”. وفي سعة علومه قال النّبيّ: “أعلم أمّتي من بعدي عليّ”، وقال: “عليّ منّي كرأسي من بدني، وهو لي كهارون )1439 ق.م – 1317 ق.م) لموسى” (1463 ق.م – 1316 ق.م)
وما من أحد كان يقدّر مكانة “عليّ” في البطولة والعلم والحزم والقضاء بعد النّبيّ مثل “عمر” فقال: “لقد أُعطيَ عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لأنْ تكون لي خصلة منها أحبّ إليّ من أن أُعطى حمر النّعم، قيل له: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تزويجه فاطمة بنت رسول الله وسكناه المسجد مع رسول الله يحلّ له فيه ما يحلّ للنّبيّ والرّاية يوم خيبر. وقال في تقدير صدارته وعدله وحبّه للنّاس ورزانة فكره: “إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعليّ: يا عليّ لك سبع خصال لا يحاجّك فيها أحد يومًا: أنت أوّل المؤمنين بالله ايمانًا وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله وأرأفهم بالرّعية وأقسمهم بالسّوية وأعلمهم بالقضيّة وأعظمهم مزّيةً يوم القيامة. وقال “عمر”: “كانت لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثماني عشرة سابقة، فخصّ عنها عليّ بثلاث عشرة وشركنا في الخمس”. جاء رجلان إلى “عمر”، فقالا له: ما ترى في طلاق الأمّة؟ فقام إلى حلقة فيها رجل أصلع، فقال له: ما ترى في طلاق الأمّة؟ فقال: فأشار بإصبعيْه أن اثنتيْن! فالتفت “عمر” إليهما فقال: اثنتان، فقال له أحدهما: جئناك وأنت الخليفة فسألناك عن طلاق الأمّة، فجئت إلى رجل فسألته فوالله ما كلّمك، فقال له “عمر”: ويلك! أتدري من هذا؟ هذا “عليّ بن أبي طالب”، إنّي سمعت رسول الله يقول: لو أنّ السّماوات والأرض وُضعت في كفّة ميزان، ووزن إيمان “عليّ” لرجح إيمان “عليّ” على السّماوات والأرض”. هذا هو “عمر” أعظم المسلمين ويقول عن “عليّ” بعد أن يحلّ معضلة حار فيها: “لا حرمنا الله من رأيك يا أبا الحسن” أو يقول له: “لا أحياني الله بأرض لا تكون فيها يا أبا الحسن”.
قال “عبد الله بن عبّاس” وهو ابن عمّ النّبيّ وابن عمّ عليّ: “كانت لعليّ ثماني عشرة مَنقبة ما كانت لأحد من هذه الأمّة”، وتابع: “والله لقد أُعطي “عليّ” تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر.
وقال: “وقد سأل بعض النّاس ابن عبّاس: أيّ رجل كان عليّ؟ قال: كان ممتلئًا جوفه حكمًا وعلمًا وبأسًا ونجدة مع قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم”. وقال أيضًا في إظهار رغبة عمر في أحقيّة “عليّ” بالخلافة بعد النّبيّ: “مرّ عمر بعليّ وأنا معه بفناء داره فسلّم عليه فقال له عليّ: أين تريد؟ قال: “البقيع”! قال: أفلا تصل صاحبك ويقوم معك؟ قال: بلى! فقال لي عليّ: قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه، فشبك أصابعه في أصابعي ومشينا قليلًا، حتّى إذا خلّفنا “البقيع” قال لي: يا ابن عبّاس، أما والله إنّ صاحبك هذا لأولى النّاس بالأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلّا أنّا خفناه على اثنيْن، قال “ابن عبّاس”: فجاء بكلام لم أجد بدًّا من مساءلته عنه، فقلت: ما هما يا أمير المؤمنين قال: خفناه على حداثة سنّه وحبّه بني عبد المطلّب”. قال “سلمان الفارسيّ” في وصف شدّة ورعه وعميق تقواه: “إنّ عليّ باب فتحه الله، مَن دخله كان مؤمنًا ومَن خرج منه كان كافرًا”.
وعن “أبو بكر” الّذي اتّهم “عليّ” كذبًا أنّه على خلاف معه ولم يبايعه، ومعروف أنّ “عليّ” كان يقدّم “أبو بكر” في صحبته للنّبيّ ويقول هو صاحب رسول الله وثاني اثنيْن. عن “محمّد بن الحنفية (16 ه – 81 ه) وهو ابن عليّ بن أبي طالب قال منوّهًا بتقديم أبيه “لأبي بكر” ومبيّنًا فضله وأسبقيّته وصحبته للنّبيّ ومبيّنًا تواضع أبيه: “قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمّ مَن؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثمّ أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجل من المسلمين”. وكان عليّ لا يطيق أن يفضّله أحد على الشّيخيْن: “أبو بكر وعمر”، فقد قيل له: “ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف، ولكن إن يرد الله بالنّاس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيّهم على خيرهم”، وقال عليّ رضي الله عنه: “لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلّا جلدته حدّ المفتري”.
وكان “أبو بكر” يقول معترفًا بمكانة “عليّ” في نصرة النّبيّ وصدق الإيمان وسعة العلم: “عليّ بن أبي طالب” عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أيّ الّذي حثّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على التّمسّك بهم والأخذ بهديهم، فإنّهم نجوم الهدى، ومن اقتدى بهم اهتدى، وخصّه “أبو بكر” بذلك لأنّه الإمام في هذا الشّأن وباب مدينة العلم والعرفان، فهو إمام الأئمّة وعالم الأمّة”. قال الشّعبيّ: (641 – 723) “رأى “أبو بكر” “عليّ” فقال: “مَن سرّه أن ينظر إلى أعظم النّاس منزلةً من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقربه قرابةً، وأفضله دالةً، وأعظمه عناءً عن نبيّه، فلينظر إلى هذا”. وقال الشّعبيّ أيضًا: “بينما “أبو بكر” جالس إذ طلع “عليّ بن أبي طالب” من بعيد، فلما رآه قال “أبو بكر”: من سرّه أن ينظر إلى أعظم النّاس منزلةً وأقربهم قرابةً وأفضلهم حالًا وأعظمهم عناءً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلينظر إلى هذا الطّالع”. وقال عبد الله بن مسعود: (توفّي سنة 32 ه) “قُسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطيَ “عليّ” تسعة أجزاء والنّاس جزء واحد، وعليّ أعلم بالواحد منهم”.
قال الفخر الرّازي: (544 ه – 605 ه) “من اتّخذ “عليّ” إمامًا لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه”. وقال “الجاحظ”: (775 – 868) سمعت “النّظّام” (777 – 836) (وهو أحد أبرز فقهاء المعتزلة) يقول: عليّ بن أبي طالب محنة للمتكلّم، إن وفى حقّه غلى، وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادّة اللّسان، صعبة التّرقّي إلّا على الحاذق الذّكيّ”. وقال “الخليل بن أحمد الفراهيديّ” (718 – 786) صاحب علم العروض في عظمة “عليّ” وتميّزه: “احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على أنّه إمام الكلّ”. وعن هارون الحضرميّ قال: (225 ه – 321 ه) “سمعت “أحمد بن حنبل” (780 – 855) يقول: “ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب”.
قال “محمّد بن إسحاق الواقديّ: (747 – 823) “إنّ عليّ كان من معجزات النّبيّ كالعصا لموسى، وإحياء الموتى لعيسى” (1 – 33) وعن بعض الفضلاء وقد سئل عن فضائل “عليّ” فقال: ما أقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسدًا، وأخفى أولياؤه فضائله خوفًا وحذرًا، وظهر فيما بين هذين ما طبّقت الخافقيْن: الشّرق والغرب.
سأل “ابن عبّاس” الخليفة “عمر” بعد أن رآه مهمومًا بأمر الخلافة: “أين أنت عن عبد الرّحمن بن عوف”؟ فقال: ذلك رجل ممسك وهذا الأمر لا يصلح إلّا لمُعطٍ في غير سرف ومانع في غير إقتار، قال: قلت سعد بن أبي وقّاص، قال: مؤمن ضعيف، قال فقلت: طلحة بن عبيد الله، قال: ذاك رجل يناول للشّرف والمديح يعطي ماله حتّى يصل إلى مال غيره وفيه بأو وكبر، قال فقلت: فالزّبير بن العوّام فهو فارس الإسلام قال: ذاك يومًا إنسان ويومًا شيطان، كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظّهر حتّى تفوته الصّلاة، قال فقلت: عثمان بن عفان قال: إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أميّة على رقاب النّاس وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلنّ والله لئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتّى تقتله في بيته، ثمّ سكت قال، فقال: امضها يا ابْن عبّاس، أترى صاحبكم لها موضعًا، وهو يقصد “عليّ”؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه، قال: هو والله كما ذكرت، ولو وليهم لحملهم على منهج الطّريق فأخذ المحجّة الواضحة، إلّا أنّ فيه خصالًا: الدّعابة في المجلس واستبداد الرّأي والتّبكيت للنّاس مع حداثة السّنّ، قال: قلت: يا أمير المؤمنين هلاّ استحدثتم سنّه يوم “الخندق”، إذ خرج “عمرو بن عبد ود” وقد نكص عنه الأبطال وتأخّرت عنه الأشياخ، ويوم “بدر” إذ كان يقطّ الأقران قطًّا، وهلّا سبقتموه بالإسلام إذ كان جعلته الشّعب وقريش تستوفيكم فقال: إليك يا ابن عبّاس، أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ بأبي بكر يوم دخلا عليه. قال: فكرهت أن أغضبه فسكتّ”. فقال: والله يا ابن عبّاس، إنّ “عليّ” ابن عمّك لأحقّ النّاس بها، ولكن قريشًا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثنّ بيعته ثمّ ليحاربَنّ”.
سأل “معاوية”: يا أخا كنانة وهو أبو الطّفيْل (625 -721) صاحب “عليّ”: من أحبّ النّاس إليك؟ فبكى أبو الطّفيل ثمّ قال: “أحبّ النّاس إليّ والله إمام الأئمّة والأمّة وقائدها وأشجعها قلبًا وأشرفها أبًا وجدًا وأطولها باعًا وأرحبها ذراعًا وأكرمها طباعًا وأشمخها ارتفاعًا، فقال “معاوية” كمن سمع ما لا يحبّ: “يا أبا الطّفيل ما أردنا هذا كلّه، فقال: “ولا أنا قلت العُشر من أفعاله ثمّ أنشأ “أبو الطّفيل” يقول في مدح شجاعة “عليّ” ومكانته وصلته بالنّبيّ وحسن قيادته:
“صهر النّبيّ بذاك الله أكرمه – إذ اصطفاه وذاك الصّهر مدّخرُ
فقام بالأمر والتّقوى أبو حسن – بخٍ بخٍ هنالك فضل ما له خطرُ
لا يسلم القرن منه إن ألمّ به – ولا يهاب وإن أعداؤه كثروا
من رام صولته وافى منيّته – لا يدفع الثّكل عن أعدائه الحذرُ”
وثمّة أقوال لكثير من كبار الأدباء والمفكّرين في العصر الحديث في العالم العربيّ والإسلاميّ، وهو ما يشكّل اعترافًا ممتدًّا منذ خمسة عشر قرنًا بمكانة “عليّ” ودينه وعلمه وفكره. ومن أجمل ما قيل عن الإمام “عليّ بن أبي طالب”. قول للأديب والمفكّر اللّبنانيّ الشّهير “جبران خليل جبران” (1883 – 1931) إذ قال: إنّ عليّ بن أبي طالب كلام الله النّاطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى من عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدّة الاقتراب ممسوس في ذات الله”. وقول للدّكتور “طه حسين” عميد الأدب العربيّ (1889 – 1973) يقارن فيه بين طهارة الخليفة “عليّ” وزهده وفساد الملك “معاوية” وطمعه: “كان الفرق بين عليّ ومعاوية عظيمًا في السّيرة والسّياسة، فقد كان عليّ مؤمنًا بالخلافة ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين النّاس، أمّا معاوية فإنّه لا يجد في ذلك بأسًا ولا جناحًا، فكان الطّامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزّاهدون يجدون عند عليّ ما يحبّون”. وقال الدّكتور “خليل سعادة”: (1857 – 1934) “قد أجمع المؤرّخون وكتب السّير على أنّ عليّ بن أبي طالب كان ممتازًا بمميّزات كبرى لم تجتمع لغيره، هو أمّة في رجل”. وقال الدّكتور “مهدي محبوبة”: (1923 – 1999) “أحاط عليّ بالمعرفة دون أن تحيط به، وأدركها دون أن تدركه”. ومسك ختام الأقوال في أوّل الأصفياء وآخر الخلفاء للأديب اللّبنانيّ “ميخائيل نعيمة” (1889 – 1988) وقد قال في “عليّ”: “وأمّا فضائله فإنّها قد بلغت من العظم والجلال والانتشار والاشتهار مبلغًا يسمج معه التّعرّض لذكرها، والتّصدّي لتفصيلها، فصارت كما قال “أبو العيناء” (191 ه – 283 ه) لعبيد الله بن يحيى بن خاقان (209 ه – 263 ه) وزير المتوكّل: (822 – 861) “رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النّهار الباهر والقمر الزّاهر، الّذي لا يخفى على النّاظر، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصّر عن الغاية، فانصرفت عن الثّناء عليك إلى الدّعاء لك، ووكلّت الإخبار عنك إلى علم النّاس بك”.
ولعلّ هذه الأقوال لا تستدعي لا تفسيرًا ولا تحليلًا، ففيها إجماع واضح وجليّ على مكانة “عليّ” الرّفيعة وقربه من النّبيّ ومقامه المحمود وسعة معرفته ورحابة علومه واستقامته وحكمته وشجاعته وتفانيه من أجل الدّين الحنيف وصدقه وميله إلى العدالة الإنسانيّة وحبّه للنّاس الفقراء والبسطاء وكراهيته للدّنيا وأباطيلها المادّيّة، ومقته للغنى وتراكم الثّروات والأملاك الّتي تمهّد الطّريق للاستغلال والاستبداد والاستئثار. ومعارفه وعلومه وفكره وإدارته، وكلّ ذلك الموروث العظيم ما زال يشكّل مراجع نظريّة للباحثين المعاصرين.
خلاصة الكلام في عظمة الإمام:
عندما قرأت مسرحيّة “إله رغم أنفه” للكاتب المصريّ “فتحي رضوان” (1911 – 1988) وفيها يطرح الكاتب قضيّة تأليه الإنسان، من خلال شخصيّة ملك هنديّ أراد أهل مملكته أن يألهوه عنوة وبعكس رغبته، فرفض بشدّة تلبية ما أرادوا متمسكًا بطبيعته الإنسانيّة، عندما قرأتها تذكّرت موقف “عليّ” من بعض غلاة الشّيعة وفرقها كالرّافضة والطّائفة النّصيريّة الّذين أرادوا تأليهه، وكيف كان ردّه عندما قالوا: “أنت ربُّنا وخالقُنا ورازقنا! فقال: ويلكم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكم آكلُ الطعامَ كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعتُ اللهَ أثابَنِي إن شاء، وإن عصيتُه خشيتُ أن يُعذِّبَني فاتَّقوا الله وارجعوا! فعند ذلك الملك الهنديّ وفقًا للأسطورة كما عند “عليّ” الإنسان هو الإنسان يقبل ما يقبل ويقتنع به ويرفض ما يرفض ويقتنع به، حتى لو أراد له غيره مرتبة خياليّة سماويّة فوق الملوك والخلفاء في عالم الأرض وحقيقة الواقع.
هذا هو “عليّ” العظيم الّذي رفض والنّبيّ مريض، رغم إلحاح من بعض الصّحابة أن يطلب استخلافه منه وقال: “والله لا أسالها رسول الله أبدًا”، ومن ثمّ بايع ثلاثة خلفاء من قبله، ولمّا سألوه: “أنبايع الحسن من بعدك” قال: “لا آمركم ولا أنهاكم”! لم يشبه “عليّ” في هذا الموقف في التّاريخ الإسلاميّ إلّا اثنان: “أبو بكر” الّذي فضّل “عمر” لتولّي خلافة النّبيّ، فرفض “عمر” وبايعه، وكذلك “عمر” الّذي رفضها مرّتيْن، ولكنّه قبلها في الثّانية لإصرار “أبو بكر” ولمصلحة المسلمين، وأبى بقوّة أن يستخلف ابنه “عبد الله” مع أنّه يستحقّ ذلك، ووفقًا لطلب كثير من الصّحابة، خوفًا من أن تتحوّل الخلافة والشّورى إلى ملك وولاية عهد.
كيف تلخّص وإلى ماذا تخلص أمام تجربة حياة عريضة ومسيرة تاريخ طويلة لهذ البحر الغزير، وأيّ جانب تأخذ او جانب تترك وكلّ الجوانب مشرقة وطافحة بالحياة والحرّيّة والميل إلى العدالة والكرامة والإنسانيّة. فعلًا! صدق من قال إنّه “رجل واحد بأمّة كاملة”. “عليّ” هذا الرّجل العملاق يذكر بإشارة بالبنان بل بإشارات الأصابع العشرة إذا ذكر العلم والحكمة والمعرفة والأدب، يذكر إذا ذكر الحقّ والعدل والمساواة والدّيمقراطيّة وحبّ الإنسان، يذكر إذا ذكر الزّهد بالمراتب والمناصب والتقشّف في العيش والابتعاد عن فساد الدّنيا وأباطيلها، يذكر إذا ذكرت التّربية السّويّة وأسس التّنشئة وحسن الإدارة والمصالح العامّة للأمّة، يذكر إذا ذكر الحقّ العامّ من أجل مصلحة الإسلام والقضاء بالحقّ والعدل الّذي يعلو ولا يُعلى عليه، يذكر “عليّ” إذا ذكرت البطولة والشّجاعة والإقدام والتّفاني والفداء. ولأنّه يؤمن بأخوّة الأجناس والشّعوب تحت راية الدّولة الإسلاميّة الّتي تأسّست على العدل فقد اختار “الكوفة” عاصمة له لأنّها كانت ملتقى الشّعوب ومركز التّجارة القائمة على طرقها إلى بلاد فارس والهند واليمن والشّام والعراق، وهي عاصمة الثّقافة وملتقى الفكر ومدارس الأدب واللّغة والكتابة والشّعر.
والله أردت أن أقول فيه: “أيّ مشعل للفكر قد انطفأ! وأيّ قلب توقّف عن الخفقان! ولكنّي عدلت لأنّه يستحقّ أكثر منها، فهو مشعل للفكر لم ينطفئ، بل ما زال نور فكره مشتعلًا ومتوقّدّا ونتعلّم منه، بل العالم كلّه يتعلّم من مقولته لواليه “الأشتر”: “الناس اثنان: إمّا أخ لك في الإسلام وإمّا أخ لك في الخَلق”. ما زالت هذه المقولة تجلجل بإنسانيّتها وعمق دلالاتها العظيمة، وهو قلب خالد لا يتوقّف خفقانه فينا ما دامت لنا قلوب تنبض بحبّه وترى فيه نموذجًا للمحبّة والعطف والحياة الكريمة.
هذا هو “عليّ” الّذي أراد ذلك اليهوديّ المتفقّه إحراجه بتقديم بعضًا من فاكهة العنب فأكل “عليّ” العنب بسرور، ومن ثمّ قدّم اليهوديّ بعضًا من خمرة النّبيذ، بنت العنب، فنظر “عليّ” باستغراب وقال: “أمّا هذه فلا! فهي حرام”، فاستهجن اليهوديّ أمام “عليّ” حال المسلمين والإسلام من تحليل أكل العنب وتحريم شراب النّبيذ المعمول من العنب، فانبرى “عليّ” سائلًا اليهوديّ أن يدعو زوجته، فدعاها فاستجابت وجلست والزّوج حائر و”عليّ” صامت، فسأله “عليّ” أن يدعو ابنته، فدعاها فاستجابت وجلست والأب يزداد حيرة، أمّا “عليّ” فقال: “هل هذه زوجتك وحلال لك”! مشيرًا إلى الزّوجة الواجمة فقال له: “نعم”! فتابع “عليّ” مشيرًا إلى البنت: “هل هذه ابنتك وحرام عليك”! قال اليهوديّ: “نعم”! فقال “عليّ” برضا: “أليست هذه البنت من هذه الأمّ كما النّبيذ الحرام من العنب الحلال”! “فتبلكم” اليهوديّ ولم يحر جوابًا معجبًا بفكر الإمام الثّاقب.
هذا هو الإمام “عليّ” العظيم الّذي حاول البعض من الغلاة والمتطرّفين في تقديسه أن يجعلوه في مصفّ الإله فرفض ودافع عن إنسانيّته، وعاداه الخصوم السياسيّون ودعوْا إلى لعنه من على منابر الحقد والجهل والجحود فأبى أن يستخدم هذا الرّجل النّبيل هذه الوسيلة الدّنسة، وقاتله الأغنياء أولو الثّروات وأصحاب النّفوذ والأسياد ذوو عقليّة الاستبداد والاستغلال فأبى إلّا أن يجرّدهم من ثرواتهم المتراكمة بالاستغلال وبلا حقّ شرعيّ ولا استقامة أخلاقيّة وتمسّك بالفقراء والبسطاء والمستغلّين الّذين قام الإسلام العادل على دمائهم وتضحياتهم، وخالفه كثير من أهل الفرق الدّينيّة الرّأي والموقف والتّوجّه، وظل يؤمن بالحوار مع هؤلاء وغيرهم مهما اشتدّت مناوئتهم واتّخذوا الموقف النّقيض، لأنّه كان ديمقراطيًّا يميل إلى العدل والحقّ ويتقبّل الرّأي الآخر والآخر البعيد والمختلف كما يتقبّل القريب والمؤتلف.
ما أعظم “عليّ” عندما يقول عنه عظيم آخر في تاريخنا الإسلاميّ، هو “عمر بن الخطّاب”، الّذي أسّس الدّولة الإسلاميّة وأرسى نظامها السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ على الحرّيّة والعدل والمساواة والحقّ والكرامة الإنسانيّة، هذا الرّجل الّذي أسّس دولته على مضمون مقولته الّتي وجّهها سائلًا “عمرو بن العاص”: “يا ابْن العاص! متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، يقول عن “عليّ” الّذي أسّس دولته على المقولة الّتي وجّهها إلى “الأشتر”: “يا أشتر! النّاس صنفان أمّا أخ لك في الإسلام، وإمّا أخ لك في الخلق”. يقول “عمر” عنه: “عجزت النّساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب”.
لو كان “عليّ” يعيش ما نعيش في زماننا ويرى ما نرى على عمق فكره وعظمة رؤيته وقوّة إيمانه بالإنسان والإنسانيّة، لشكا لحالنا ولسوء أوضاعنا في ازدياد سطوة المال والاستغلال والاستبداد، كيف لا وقد قدّم منذ قرون توصيفًا مطابقًا بالكامل لما تعاني الشّعوب المظلومة والطّبقات الفقيرة الّتي تطالب بحقوقها بدفع دمائها من أهل الباطل الرّأسماليّين الّذين يستأثرون بثروات العالم ويتحكّمون بمصائر الشّعوب وبوسائل الإعلام فيجعلون باطلهم حقًّا والحقّ الحقيقيّ للشّعوب والفقراء باطلًا، وقد قال “عليّ” في هذا: “حين سكت أهل الحقّ عن الباطل، توهّم أهل الباطل أنّهم على حقّ”. أليس في هذه المقولة توصيفًا لحالة الرّكود الاجتماعيّ وقبول المظلومين بالواقع المرّ بسكوتهم عن الباطل؟ أليس في هذه المقولة دعوة للثّورة على الباطل والظّلم حتّى ينتصر الحقّ والعدل؟ ألا تنفع هذه المقولة الثّوريّة في مساندة المقاومة الفلسطينيّة ضدّ الباطل الإسرائيليّ؟ وفي مساندة الشّعوب الفقيرة ضدّ الإمبرياليّة الأميركيّة وهيمنتها ومحاولاتها الدّائبة لنهب ثروات الشّعوب القوميّة؟ ألا تنفع هذه المقولة في كفاح الطّبقات الفقيرة ضدّ قوى الرّأسماليّة؟ ألا تنفع القوى الدّيمقراطيّة في كفاحها من أجل الحرّيّات والعدالة والمساواة أمام القوى الظّلاميّة والفاشيّة والدّكتاتوريّة، ألم تعبّر هذه المقولة عن الحالة من خذلان “عليّ وآل البيت” بعد تراكم ثروات الأغنياء واستبدادهم وباطلهم وانجرافهم نحو الباطل وعدم سكوت “عليّ” عنهم، كما قد تعبّر عن نظام الرّجعيّة العربيّة الحاكم لشعوبنا بحديد الاستغلال وبنار القمع والمحكوم والمتذيّل بمشاريع الهيمنة الصّهيو – أميركيّة، وفي صميمها التّنازل عن الحقّ الفلسطينيّ بالاستقلال والدّولة والعاصمة. لقد سكتوا عن باطل الاحتلال الإسرائيليّ، فصار هذا الاحتلال الباطل يعتقد أنّه يمتلك حقّ الاستيلاء على الأرض والثّروات الفلسطينيّة بالاستيطان ويحكم الشّعب الفلسطينيّ بالاحتلال والقتل والهدم والاستيلاء على الأحياء والبيوت والمقدّسات.
قال “عليّ”: “يحبّني أقوام حتّى يدخلوا النّار في حبّي، ويبغضني أقوام حتّى يدخلوا النّار في بغضي”. وقال: “يهلك فيّ رجلان: محبّ مفرط بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني”. أيّ رجل عظيم كان “عليّ” هذا الّذي يحبّه بعض النّاس حتّى يدخلوا بحبّه وتقديسه النّار، ويكرهه بعضهم فتوصلهم الكراهية والأحقاد إلى النّار أيضًا. ويحبّه البعض بإفراط فيهلكون لأنّهم يروْن فيه ما ليس فيه، إنّما هي المغالاة في التّقديس والتّأليه، ويبغضه البعض فتصل بهم الشّحناء والبغضاء حدّ إنكار ما فيه من مناقب جليلة وما أنجزه من إنجازات عظيمة خدمة للدّين والعلم والمجتمع والدّولة والإنسان. والمهمّ في هذا العظيم حقًّا والّذي تأتي عظمته من الأرض ويقيمها على الأرض ويستفيد منها أهل الأرض يرفض هذا الحبّ الزّائد والمُهلِك ويرفض هذا البغض الزّائد والمُهلِك. وهذا هو الإنسان العظيم “عليّ بن أبي طالب” الإمام الثّائر والعالم والمظلوم الّذي ظُلم ولم يظلم أحدًا. هذا هو القائد والمفكّر العربيّ والمسلم الّذي يجب علينا نحن العرب والمسلمين أن نفتّش في حياته، وندرس مسيرته، وندرك مآثره، وننقب في فكره وعلمه في مجالات الإدارة والتّربية والتّنوير، قبل أن نذهب إلى “جون لوك” و”مونتسكيو” و “فولتير” و”جان جاك روسو” وغيرهم من مفكّري النّهضة الأوروبيّة الحديثة، فقد نجد جميع ما توصّلوا إليه من فكر متنوّر ونظريّات حديثة في مجالات الحياة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق في القرنيْن: الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديّيْن قد استمدّوه ممّا توصّل إليه “عليّ” منذ القرن السّابع الميلاديّ.
وأخيرًا:
كنت سأتوقّف قبل كتابة هذا القسم من مقالتي، على اعتبار أنها اسْتوفيت بكلّ مضامينها وأفكارها، وظلّ الأمر على ذلك حتّى شاركت بحضور “مؤتمر أدب الأطفال: الإشكالات والتّحدّيات المستقبليّة” يوم الثّلاثاء الموافق للعاشر من أيّار سنة (2022) بدعوة من عمادة العلوم الإنسانيّة وقسم الطّفولة المبكّرة في “أكاديميّة القاسميّ” في مدينة “باقة الغربيّة”، وامتدّ المؤتمر بزخم محاضراته ومداخلاته حول جوانب متعدّدة من أدب الأطفال منذ التّاسعة صباحًا حتّى الثّالثة بعد الظّهر. سيسأل سائل: “ما علاقة ذلك بالإمام “عليّ بن أبي طالب”؟ ولماذا صار من الضّروريّ أن تزيد المقالة الطّويلة أصلًا بصفحتيْن أخرييْن؟
والحقيقة أنّني أعجبت بجميع المحاضرات ومضامينها وأسلوبها وبخاصّة محاضرة الأستاذ “د. محمود أبو فنّة” (ولد سنة 1945) وكانت بعنوان “أدب الأطفال المحلّيّ: الواقع والتّحدّيات”، وما أثار اهتمامي وانتباهي وإعجابي أن يستهلّ “د. أبو فنّة” محاضرته بمقولة للإمام “عليّ” كنت قد ذكرتها في مقالتي من قبل، وهي “ربّوا أبناءكم على غير أخلاقكم، فإنّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم” حيث تؤكّد هذه المقولة أنّنا نملك في ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة كنوزًا تربويّة أغدقناها على الثّقافة العالميّة وبخاصّة الأوروبيّة في كثير من المجالات العلميّة والتّربويّة. وبالمقابل يأتي بعض المحاضرين ليكرّر لأكثر من مرّة ضرورة حاجتنا إلى التّرجمة في مجال أدب الأطفال عن الأدب الغربيّ وغير الغربيّ، اليابانيّ مثلًا. لست ضدّ التّرجمة بل معها كوسيلة من وسائل التّواصل الثّقافيّ بين الحضارات الّتي أؤمن بأنّها تتكامل ولا تتصارع كما يدّعي “جهابذة” العولمة ومنظّروها المأجورون عند الشّركات الاقتصاديّة الكبرى والمتعدّدة الجنسيّات الّتي تريد أن تنهب ثروات شعوب العالم وتهيمن على مقدّراتها المادّيّة والرّوحيّة وأن تحوّل أسمى القيم الأخلاقية النّفيسة وأعظم المعاني الإنسانيّة الغالية إلى موادّ وسلع وبضائع تباع وتشترى في الأسواق التّجاريّة بأبخس الأثمان.
ولو عدنا إلى تراثنا الثّقافيّ العربيّ القديم والعظيم في كتاب “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” وغيرهما وترجمنا لغته الكلاسيكيّة إلى لغة عربيّة جديدة تلائم عصرنا الحديث لوجدنا فيه كنوزًا هائلة حتّى لأطفالنا الّذين دعانا “عليّ” إلى تربيتهم بغير ما تربّينا عليه لأنّهم سيحيَوْن في زمان مغاير ومختلف. كيف لا! وقد أكّد علماء وباحثون غربيّون غنى تراثنا بهذا المجال، فقد أدركنا بتريتنا لأطفالنا منذ العصور الوسطى أنّ الطّفولة مرحلة عمريّة مميّزة وخاصّة ومختلفة عن الكبار، بينما نظر الغرب في تلك القرون إلى الأطفال على أنّهم “رجال صغار” وأرضعت أمهاتنا أطفالهنّ بحبّ وحنان، وإذا تعذّر الأمر صحّيًّا جلبن لأطفالهنّ لاستواء نموّهم المرضعات، أمّا الأمّ الغربيّة في القرون الوسطى فقد نظرت إلى طفلها كحشرة ماصّة لدمائها، وفي تراثنا العلميّ سبقنا الغرب بالطّبّ وكتاب “القانون في الطّبّ” للعالم “ابن سينا” يشهد، فقد درّس الكتاب في كلّيّات الطّبّ في الجامعات الأوروبيّة منذ بداية النّهضة الأوروبيّة وعلى مدى ثلاثة قرون، والأهمّ من ذلك فقد سبقنا أوروبا والغرب بحوالي 500 سنة في تأليف كتاب متخصّص بطبّ الأطفال للعالم “ابن الجزّار”. وقال حجّة الإسلام “أبو حامد الغزاليّ” ما معناه أنّ ما تنشئ عليه الطّفل منذ مرحلة الطّفولة سيؤثّر عليه وسيشكّل شخصيّته في المراحل المتقدّمة، وللإمام “عليّ” مقولات كثيرة في هذا المجال، ذكرتها في باب سابق، أمّا المفكّر والمؤرّخ “ابن خلدون” (1332 – 1406) ومنذ القرن الرّابع عشر الميلاديّ، أي قبل النّهضة الأوروبيّة الحديثة بثلاثة عقود، وقبل أن تمنع المدارس البريطانيّة العقاب الجسديّ والضّرب بطويل وقت، فقد ذكر في مقدّمته، أنّ الضّرب في التّعليم مضرّ للوِلْدان.
وفوق ذلك كلّه أغدق الشّرق على الغرب الأرقام من العرب والورق من الصّين وأساليب البحث العلميّ، وهل ينمو علم وتنمو ثقافة بدون هذه الوسائل والأدوات! أخذ الغربيّون واستفادوا من ثرائها وغناها وأنكروا فضلنا، وشوّهوا أسماء رموزنا محاولين طمس ثقافتنا العربيّة علمًا وأدبًا وعمرانًا وفنونًا واكتشافات وحضارات، ومع ذلك سطعت أشعّة ثقافتنا العربيّة وأنارت العالم كلّه، ولنا خير النّماذج في “عمر بن الخطّاب” و “عليّ بن أبي طالب” و “ابن خلدون” و “ابن سينا” (980 – 1037) و “ابن رشد” (1126 – 1198) و “الإدريسيّ” (1099 – 1166) و “ابن النّفيس” (1210 – 1288) و “ابن الهيثم” (960 – 1040) و “عبّاس بن فرناس” (810 – 887) و “ابن الجزّار” (898 – 979) و “الخوارزميّ” (781 – 847) و “أبو بكر الرّازيّ” (865 – 925) والنّجوم والكواكب والأقمار في مسيرة حضارتنا العظيمة لا تعدّ. ولو توقّف الغربيّون عند إنكار فضلنا لهان الأمر، ولكنّهم عادوا علينا بنظرة استعلاء وتفوّق واستعمار واحتلال وفرض استعباد واستغلال ونهب ثروات وادّعاءات كاذبة بالتّطوير والإعمار والتّقدّم ونشر الحرّيّة والدّيمقراطيّة، وما كانت تلك إلا محض افتراءات ووسائل من سراب كي يسيطروا على أقطارنا ويهيمنوا بالحديد والنّار على شعوبنا وينهبوا ثرواتنا ويستغلّوا أيادي عمّالنا وفلّاحينا كعبيد في سوق العمل الرّخيص، وآخر تقليعاتهم الّتي عادوا بها تصنيع الحركات الإسلاميّة الإرهابيّة المتطرّفة وتنظيمها وتسليحها: “داعش” و”النّصرة” وغيرها وتصديرها لتدمير دولنا وحضارتنا وبيع ثرواتنا ومعالمنا لأولئك الغربيّين، وقد نجحوا فعلًا في تدمير عدّة دول واستولوا ونهبوا وقتلوا وحرقوا وأعدموا وذبحوا تحت شعار الإسلام و”الله أكبر” وبدعم من العالم الغربيّ. هذا هو الغرب “المتنوّر والمتقدّم والحرّ والدّيمقراطيّ”! فلماذا نأخذ منهم! ولماذا لا نعود إلى “عليّ بن أبي طالب” وغيره من العظماء، عظمائنا.
العظماء (26)
عليّ بن أبي طالب الثّائر والعالم والمظلوم
بدايةً ومنذ الصّغر:
منذ الصّغر، ولمّا أبلغ سنّ الرّشد والوعي، كان عمري أقلّ من اليافع بدرجتيْن، ربّما كعمْر “عليّ بن أبي طالب” (599 – 661) عندما أسلم، وكان من أوائل المسلمين، بل أوّل المسلمين من الصّبيان، كما تجمع مصادر التّاريخ، منذ ذلك الصّغر كنت أتعرّف على الأشياء والظّواهر وأدركها بإحساسي فقط، وأحلّلها إذا كنت امتلكت قدرة على التّحليل أصلًا بعواطفي، منذ طفولتي تلك كنت أحبّ “عليّ” وأرى فيه أبرز شخصيّات التّاريخ الإسلاميّ ومن أعظمها شأنًا ومكانة، حتّى لو لم تواتِ الظّروف السّياسيّة لإمكانيّاته الهائلة وقدراته العظيمة واستقامة رؤيته ورؤياه، عندما تولّى خلافة المسلمين وإمارة المؤمنين. ولأنّ عظمته ومكانته السّامقة بدأت منذ إسلامه وهو ابن إحدى عشرة سنة، بل من يوم ولادته المتميّزة في جوف “الكعبة”. نُقل عنه أنّه حين أسلم لم يكن راشدًا، فكتم إسلامه عن أبيه بطلب من النّبيّ، وكان ذلك بعد بعثة النّبيّ بيوم واحد، وهناك من المؤرّخين من يقول إنّه أوّل من أسلم من الذّكور، وثمّة من يرجّح أنّ “أبو بكر” كان هو الأوّل. وبعد أن بلغتُ سنّ الرّشد والإدراك ما زلت على موقفي من حبّ “عليّ”، ولكنّ حبّي له غدا عن معرفة وإدراك وتحليل عقليّ لعمق شخصيّته وثرائها الفكريّ وغناها العلميّ وعمق رؤيته كحكيم وعالم عبقريّ، وقد لُقّب لسعة علمه بِ “بوّابة العلم”، وكان يقول: “سلوني! سلوني! في كتاب الله، فوالله إنّي أعرف كلّ آية أفي سهل نزلت أم في جبل”. ولا أنكر في الوقت نفسه أنّي شديد التّقدير والإعجاب عقليًّا ووجدانيًّا وعاطفيًّا بآل البيت لأنّهم ظُلموا على مدى التّاريخ الإسلاميّ، وقد ظُلموا لا لسبب إلّا لأنّهم قالوا” “ربّنا الله” و كانوا أولي مبادئ مستقيمة وفضائل بيضاء ومناقب مشرّفة، وصدقوا في مقولتهم ومواقفهم واستقامتهم، وثاروا ضدّ الكفر والفحش والظّلم واستعباد النّاس، ومقتوا العادات والأعراف الجاهليّة وعصبيّة القبليّة الّتي تجعل من النّاس عبيدًا وأسيادًا، ومالوا إلى نصرة العبيد والمستضعفين وثورتهم على الأغنياء والأسياد من “قريش”، وآمنوا “بأنّ النّاس سواسية كأسنان المشط”. وقد قلت في مقالتي السّابقة عن المنهج الجدليّ في فكر “عمر” حول الكمال والنّقصان: “وفي هذا ملخّص للمنهج الفكريّ الّذي تميّز به “عمر” عن سائر كبار المسلمين وصحابة النّبيّ، قد لا يشابهه في هذا المنهج الفكريّ إلّا “عليّ بن أبي طالب” آخر الخلفاء الرّاشدين بل آخر الخلفاء قاطبة”.
والأهمّ الأهمّ أنّني كنت عندما أسمع اسم “أبو سفيان” أو “معاوية” أو “يزيد” أو اسم أيّ واحد من “الطّلقاء”، أمقته بإحساسي وعاطفتي عند الصّغر، ونشأت وترعرعت وكبرت وأدركت، فكبر مقتي وصرت أشدّ مقتًا لهم جميعًا ولمملكتهم الأمويّة المارقة، لأنّهم النّقيض الرّذيل والجحود لآل البيت الطّاهرين والأتقياء. كنت أكره “معاوية” كراهيتي لِ “أبو سفيان” وهو كافر! هل أسلم “أبو سفيان” أصلًا! وهل أفعم الإيمان قلبه! واللهِ ما أسلم ولا آمن إلّا رئاء وإلّا ليَسلم ويأمن على نفسه وأهله وبرامجه القبليّة والعائليّة ومطامعه المستقبليّة، وما تظاهر بالإيمان إلّا لمآرب مادّيّة رخيصة ودنيئة، ولاسترداد ما خسره “بنو أميّة” من جاه قديم وغنًى فاحش وسيادة جاهليّة ومجد غابر. كنت أصدّق إسلامه وإيمانه لو لم يستشرِ فساد سلوكه وتصنّته وخبث مطامعه ومصلحته الذّاتيّة في الهيمنة واستعادة الحكم والمكانة السّياسيّة “لبني أميّة”، عامّة وبيت “أبو سفيان” خاصّة، مستفيدًا من البلبلة والفوضى السّياسيّة والانحلال الأخلاقيّ وإثارة التّشرذم والانقسام الّذي أحدثه موت “عثمان بن عفّان” المنتمي “لبني أميّة”. وقد بلغ ذلك الاستشراء بعد أن انتصرت مملكتهم وحكموا المسلمين من “دمشق”، بلا شورى ولا رأي ولا معارضة، بالمُلك وولاية العهد وبالحديد والنّار وقطع الرّؤوس والقتل والمجازر والاستئثار والعصبيّة وسياسة “فرّق تسد”.
قليلًا عن عثمان:
منذ خلافة “عمر بن الخطّاب” (586 – 644) حتّى خلافة “عليّ بن أبي طالب” مرّت اثنتا عشرة سنة، وهي الفترة الّتي قضاها في الحكم خليفة ثالثًا “عثمان بن عفان” (576 – 656) والّذي لم يُسجّل له طيلة فترة حكمه أيّ مأثرة أو عظمة، خاصّة وأنّه جاء بعد “عمر” العظيم، وكان ينتمي “لبني أميّة” الّذين جرّدهم الإسلام من أمجادهم وجبروتهم وثرائهم وسيادتهم في الجاهليّة، مع أنّ “عثمان” قدّم للإسلام في زمن النّبيّ، وقبل خلافته الكثير من التّضحيات والتّفاني في خدمة الدّين الجديد المناهض للجاهليّة والعصبيّة القبليّة والوثنيّة، وللكثير من العادات والتّقاليد والسّلوكيّات السّلبيّة الّتي سادت في جزيرة العرب قبل الإسلام.
لقد شكّلت فترة خلافة “عثمان” انكسارًا حادًّا في تاريخ الإسلام، بعد الدّولة الّتي بناها “عمر” وفقًا لرؤية عمريّة خاصّة، بعيدة عن الاستئثار والتّمييز، بل عمل بدأب على أن يجعل كلّ المواطنين في الدّولة الإسلاميّة “سواسية كأسنان المشط”، بلا تفرقة ولا امتيازات ولا غنًى فاحش ولا استغلال. كان “عثمان” بكونه حاكمًا ضعيفًا، ونتيجة لانتمائه “لبني أميّة” قد تحوّل إلى “ألعوبة” في أيدي دهائهم وخبثهم السّياسيّ وحقدهم بعد أن أفقدهم الإسلام سلطانهم وغناهم. ها هو “عثمان” يعيدهم إلى المشهد السّياسيّ بوجود “أبو سفيان” (567 – 652) وولاية ابنه “معاوية” (608 – 680) في الشّام وولاية “عمرو بن العاص” (576 – 664) في مصر، واستشارة “مروان بن الحكم” (623 – 685) ونقمة “المغيرة بن شعبة” ونفاقه (600 – 670) وتشير بعض القرائن إلى اجتماع هؤلاء على التّخلّص من “عمر” بقتله بيد “أبو لؤلؤة فيروز” (توفّي سنة 644) وهو ما تمّ تنفيذه فعلًا، إضافة إلى خلق حالة من الفتنة والفوضى السّياسيّة باستغلال شنيع وحقير لمقتل “عثمان” برفع قميصه ذريعة لاتّهام “عليّ بن أبي طالب” بالتّحريض عليه وقتله، و”عليّ” وأبناؤه أبرياء من دمه براءة الذّئب من دم “يوسف الصّدّيق” (يقال إنّه ولد سنة 1445 ق.م) لقد شكّلت فترة خلافة “عثمان” الضّعيف تمهيدًا كبيرًا لقيام المملكة الأمويّة، فجاءت هذه المملكة بأوّل ملك إسلاميّ “معاوية” تعبيرًا عن مطامع الرّأسمال والأغنياء والأسياد، فاختطفت الحكم من بعد مقتل “عليّ”، فدمّرت دولة النّبيّ والمسلمين ومكارم الأخلاق، وهدمت ميزان القسطاس والعدل وأسس الدّيمقراطيّة والمساواة بين النّاس. وقوّضت أركان الدّولة ووصلت الأمور ذروتها بالتّنكيل والقتل وقطع الرّؤوس، عندما اغتال الملك الأوّل “معاوية بن أبي سفيان” الإمام “الحسن بن عليّ” (625 – 670) وقتل الملك الثّاني “يزيد بن معاوية” (647 – 683) أطهر النّاس وأشرف النّاس وأحبّ النّاس إلى النّبيّ الإمام الشّهيد “الحسين بن عليّ” (626 – 680) في “كربلاء”. وإذا كانت الدّول والممالك تقدّر أعمارها بالقرون، فإنّ المملكة الأمويّة لم تكمل القرن الواحد، فقد حكمت حوالي 90 عامًا، ومن ثمّ اضمحلّت وزالت لحسن حظّ الإسلام والمسلمين، وهذا تحقيق وتصديق لقول “عمر” حيث قال: “لا يحكم المسلمين طليق! إنّها للبدريّين حتّى يفنوا”، مع أنّ البديل الّذي جاء بعدها ليس بأفضل بكثير.
عثمان وعليّ وعمر بينهما:
أقطع “عثمان” أهله القطائع وأغدق عليهم الامتيازات في المناصب والوظائف، على أقربائه من “بني أميّة” ومقرّبيهم، وهو ما كان يتخوّف منه “عمر” ويحسب حسابه، وقد وصل الأمر بزوج النّبيّ “عائشة بنت أبي بكر” (604 – 678) نتيجة لهذه السّياسة التّمييزيّة الّتي اتّبعها “عثمان” أن حرّضت عليه ودعت إلى قتله، فقالت: “اقتلوا نعثلًا فقد كفر”، والنعثل لغة هو الشّيخ الأحمق، وقد كان لِ”عليّ” موقف في ذلك حيث دعا “عثمان” لانتهاج منهج “عمر” واتّباع العدل في التّوظيف وتقليد المناصب والرّتب في الإدارة والجيش، فقال موجّهًا حديثه للخليفة الثّالث: “إنّ عمر كان كلّما ولّى أميرًا فإنّما يطأ على صماخيْه (الصّماخ هو من الأذن حتّى العنق) وأنّه إن بلغه حِرفٌ (انحراف) جاء به وبلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل، ضعفْتَ ورفقْتَ على أقربائك”. كانت أولى هفوات “عثمان” بعد انتحار “فيروز” قاتل “عمر” أن أغلق باب التّحقيق في جريمة الاغتيال، والتّقدير أنّه فعل ذلك كي لا تطال أصابع الاتّهام الأيادي الأمويّة المجرمة الّتي وقفت وراء الاغتيال، من رهطه “بني أميّة”، ولكنّه وتحت الضّغط الجماهيريّ رضخ لمطلب إقالة واليه “المغيرة بن شعبة” (600 – 670) وقد يكون من أبرز المتّهمين لأنّه كان حاقدًا على “عمر” وهو مولى “فيروز” القاتل، ومزوّر التّصريح الّذي مكّنه من الدّخول إلى المدينة قبل مقتل “عمر” بقليل من الوقت. ومن أخطاء “عثمان” أيضًا الّتي لامه عليها “عليّ” أنّ “معاوية” يتصرّف كأنّه الخليفة وتحت اسْمه يقطع بالأمور و”عثمان” يعلم ولا ينكر على “معاوية” فعله، وهو الّذي كان يرتعد خوفًا ويتذلّل منافقًا بمجرّد أن تطأ قدم “عمر” في بلاد الشّام.
لقد كانت مشكلة “عثمان” الضّعيف غضبه من “عليّ” الصّارم وضعفه أمام دهاء “بني أميّة” وعدم سماعه وامتثاله للنّصيحة المخلصة، وكان مع ذلك يتوعّد وينذر ويقارن نفسه وشخصه كحاكم عاديّ، بل أقلّ من العاديّ بالخليفة “عمر” الحاكم العملاق، الّذي لم يولِّ ابنًا ولا قريبًا ولطالما حذّر من تولية الأقرباء. ولعلّ الاستنتاج الأبرز من ذلك أنّ “عثمان” خالف منهج “عمر” في العدل والمساواة مع أنّه التزم بعدما حُصرت البيعة به وبعليّ بعد انسحاب “عبد الرحمن بن عوف” (580 – 656) الّذي طرح على الاثنيْن السّؤال: “هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفِعل أبي بكر وعمر”، أجاب “عثمان”: “نعم”! فكان جواب السّاذج الأحمق والسّياسيّ الّذي لا يملك رؤية ولا برنامجًا ولا نهجًا خاصًّا وواضحًا وسويًّا، ومن المؤسف أنّه كان النّهج المنتصر، الّذي أعاد الحكم للطّلقاء الّذين انغمسوا بحاجات الدّنيا وحطامها وشهوات الحكم والفساد الماليّ. بينما كان جواب “عليّ” على السّؤال نفسه: “اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي”، وكان جواب العاقل والمتّزن صاحب الرّؤية السّياسيّة الّتي ترى الأمور باتّجاهين: إلى الوراء للاستفادة من تجربة الآخرين، وإلى الأمام للعمل بإبداع حاكم مستقلّ ونهج عادل ومتجدّد، كان سيقود الدّولة بمسار يستند على العدالة والمساواة والكرامة الإنسانيّة. ولذلك كان لا بدّ من ظهور نهجيْن طبقيّيْن على أساس اجتماعيّ واقتصاديّ، متوازييْن ومتناقضيْن سياسيًّا، كلّ منهما يمثّل طبقة، نهج “عثمان” كممثّل لبني “أميّة”، طبقة الأغنياء والأسياد القدماء في الجاهليّة، الخاسرين بعد ثورة الإسلام، ونهج “عليّ” ممثّل طبقة الفقراء المستعبَدين الثّوّار على الكفر وعلى ظلام الجاهليّة وظلم الاستعباد والغنى الفاحش والمستغِلّ.
العظمة في التّحدّي وبعد:
إذن! أين تكمن عظمة “عليّ” وما هي مكوّناتها؟ وقد قاد اتّجاهًا سياسيًّا طاهرًا وديمقراطيًّا يقوم على الشّورى والعدالة والمساواة، ولكنّه لم يكن هو الاتّجاه المنتصر، ففي هذه الأثناء وتحت الشّبح القاتم لهذه الأجواء المضطربة الّتي تسلّم فيها “عليّ” الخلافة بعد مقتل “عثمان” ورفض “معاوية” الوالي على الشّام منذ أيّام “عمر” مبايعته بالخلافة، في هذه الأجواء من الاضطراب والفتنة الّتي خلّفتها خلافة “عثمان” ومن ثمّ مقتله بمؤامرة أمويّة أو بعد ثورة اجتماعيّة، جاء “عليّ” الطّاهر ليحكم المسلمين بنهج يتابع فيه نهج “عمر”، لكنّ الظّروف كانت قد تغيّرت وخرجت الأمور عن السّيطرة، فقد كانت فترة الاثنتيْ عشرة سنة من خلافة “عثمان” كفيلة لأن يعيد الطّلقاء بقيادة “معاوية” بناء قوّتهم وقواهم ويرسّخون نهجهم الأعوج والاستيلاء على الحكم. إذ لم يمكّن الأعداء الكُثر “عليّ” من التقاط أنفاسه ليتابع سياسة الحكم العادل النّقيض لمصالح الأغنياء الّذين ناصروا سيطرة المال واكتنازه والأغنياء للاستغلال وشراء الذّمم وسيطرة السّياسة الأمويّة في التّفرقة والظّلم والقتل والتّمييز ضدّ الفقراء وعودة الجاهليّة والقبليّة، ومن ثمّ لتسير الأمور إلى فتنة واقتتال، واختلفت عن تلك الظّروف الّتي جاءت بعد خلافة “أبو بكر الصّدّيق” (573 – 634) وموته. ولذلك يصحّ أن نطلق على “عليّ” صاحب الفكر المادّيّ والمنهج الجدليّ قائد استمرار الثّورة الإسلاميّة الاجتماعيّة والطبقيّة للفقراء والعبيد من أجل الحرّيّة والعدالة والكرامة والّتي عبّد طريقها وأسّسها “عمر” وأرسى قواعد انتصارها برؤيته الخاصّة ذات الاتّجاه التّجديديّ. أمّا نهج الطّلقاء الأمويّين فهو نهج الثّورة المضادّة الّتي بدأت منذ حكم “عثمان” ورسّخ نهجها وعمل على انتصارها “معاوية” و”هذا النّصر شرّ من هزيمة” على المسلمين منذ تولّى المُلك وألغى الشّورى والرّأي والحقّ في المعارضة، باختصار ألغى الملك الأوّل “معاوية” الدّيمقراطيّة والحرّيّات الّتي أرساها ورسّخها “عمر”، وكان من الممكن أن يستمرّ في إرسائها وترسيخها “عليّ” بتحدّي المُلك الأمويّ، وفي هذا التّحدّي يكمن أحد أبرز أسرار عظمة “عليّ” ومركّباتها. ولعلّي لا أبتعد عن الحقيقة لو استخدمت مقولات العصر السّياسيّ الحديث ومفاهيمه، بأنّ انتصار المّلك الأمويّ منذ خلافة “عثمان” ما هو إلّا انتصار قوى اليمين الرّأسماليّ على ثورة الفقراء ودولة الشّورى والدّيمقراطيّة الّتي أسّستها قوى اليسار من الفقراء المسحوقين والعبيد المظلومين بقيادة “عمر” ونجحت أتمّ النّجاح، وحاول “عليّ” ترسيخ نجاحها وانتصارها، ولكنّ الظّروف الّتي واتت في خلافة “عمر” لم تواتِ في خلافة “عليّ”.
كان من المفروض لو حكم “عليّ” بعد “عمر” أن يكون حكمه الامتداد الطّبيعيّ لحكم “عمر” في اتّباع منهج الزّهد في الحياة والتّقشّف في المعيشة، وفي الاقتداء بمنهج النّبيّ في الدّين والاستقامة والطّهارة السّياسيّة، وهو من أوائل الثّائرين وهو في سنّ مبكّرة على النّظام القبليّ والجاهليّة الدّينيّة والعصبيّة القبليّة، فقد كان سنّه 11 سنة، وهو ثالث من أسلم وأوّل من أسلم من الصّبيان، بحكم تربيته منذ صغره في بيت النّبيّ. ومع أنّ التّاريخ لا يقوم في مسيرته على الفرضيّات بل على الحقائق، لكنّي أعتقد أنّه لو حكم “عليّ” بعد “عمر” لدام في الدّولة الإسلاميّة التّأسيس الإداريّ السّليم وسارت الأمور وفق المنهج العمريّ المتطوّر الّذي آمن به “عليّ” حتّى النّخاع، واعتمدت الدّولة الرّكنيْن الأساسيّيْن في قيام أيّ دولة تبغي البقاء والتّطوّر، وهما اتّخاذ العلم سبيلًا واعتماد الدّيمقراطيّة منهجًا. ولعلّ أمورنا في عصرنا وواقعنا اليوم كانت ستغدو بالعلم وازدهاره وبالدّيمقراطيّة وانفتاحها أكثر إنتاجًا وإبداعًا وإنجازات، ولعلّني أرى أنّ مردّ خيباتنا السّياسيّة وفسادنا الاجتماعيّ والأخلاقيّ وتقهقرنا العلميّ والحضاريّ، مردّ كلّ ذلك إلى غياب العلم والدّيمقراطيّة في دولنا العربيّة الإقليميّة، الّتي غاب عن وعيها بوجود أولئك الحكّام الأراذل الإحساس بالأمّة والرّغبة والأمل بالوحدة العربيّة الّتي لا “يغلبها غلّاب” ومالت إلى التّشرذم الإقليميّ، وبهما كنّا سنكون كأمّة عربيّة أو إسلاميّة في غنًى عن انتظار تقدّم الغرب والتّأثّر بنهضته الثّقافيّة والعلميّة، وكنّا نستطيع أن نزوّده بالحضارة والثّقافة في العصور الحاضرة، كما كنّا قد فعلنا في العصور الوسطى والسّالفة. وفي ذلك مأثرة عظيمة لأمير المؤمنين “عليّ”، لأنّه أحد أبرز الأوائل في هذا الاتّجاه والنّهج.
هنالك من المؤرّخين مَن يدّعي أنّ المملكة الأمويّة هي الّتي بنت الدّولة الإسلاميّة، وجعلتها دولة ممتدّة ومترامية الأطراف، وأنا أعتقد العكس! فالدّولة انبنت وتأسّست أثناء خلافة “عمر” على أسس حكم سليمة وعادلة، والمملكة الأمويّة جاءت وقوّضت ما انبنى وتأسّس، وهدمت دولة الشّورى الّتي بناها النّبيّ و”أبو بكر” على أسس الدّين والحياة الاجتماعيّة، ومن ثمّ بعدهما أرسى “عمر” رسوخها على مبدأ الدّيمقراطيّة، ولكنّ مملكة الطّلقاء الأمويّة المارقة، قامت على قتل الأبرياء والدّماء وقطع الرّؤوس، وما زال الملوك يعيثون فسادًا في بلداتنا العربيّة. بنى الملوك الأمويّون مملكة فاسدة، وهدموا دولة ديمقراطيّة وأمّة وثقافة طاهرة. ولمّا يزل الملوك القدماء هم الملوك الجدد، ولمّا يزل الظّلم القديم هو الظّلم الجديد. لو واتت الفرصة وكانت الظّروف مهيّئة لِ “عليّ” سياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، كما واتى فساد السّياسة وانحلال المجتمع ودمار الأخلاق “معاوية” ومملكته، لو واتت الظّروف لبنى “عليّ” دولة تكون هي الامتداد الطّبيعيَّ للدّولة الإسلاميّة الّتي أسّسها “عمر” على التّقشّف والزّهد والشّورى والعدالة والدّيمقراطيّة ومقاومة الظّلم، واعتماد الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والتّسامح والمساواة نهجًا راسخًا، وبرأيي كانت المملكة الأمويّة انكسارًا سلبيًّا وتراجعيًّا ونكوصًا إلى الوراء، الأمر الّذي أعاق انطلاقة الدّولة الإسلاميّة الواحدة، العادلة والإنسانيّة، واعتقد أيضًا أنّه لو لم تنشأ بتاتًا ولم تقم في تاريخنا الإسلاميّ ولو استمرّ نهج “عليّ” المنفتح والإنسانيّ ونهج التّأسيس الدّيمقراطيّ العادل كما بدأه “عمر” لصدّرنا الدّيمقراطيّة والفكر التّنويريّ منذ نشوء الدّولة الإسلاميّة، بل منذ نزلت أولى كلمات القرآن “اقرأ” كما صدّرنا العلوم والثّقافة ووسائل العلم وأسس الإدارة ونظريّات التّربية، ولم ننتظر لا “جون لوك” (1632 – 1704) ولا “مونتسكيو” (1689 – 1755) ولا “جان جاك روسو” (1712 – 1778) ولا غيرهم من مفكّري العصور الحديثة ولا مبادئ الثّورة الفرنسيّة ولا توجّه “نابليون” (1769 – 1821) الاستعماريّ المبطّن كذبًا بنشر العلوم، كي نتعلّم مفاهيم الحرّيّة والدّيمقراطيّة ومبادئ حقوق الإنسان والنّظريّات الفكريّة في كلّ المجالات. ولذلك على كلّ المؤرّخين والباحثين الّذين اعتقدوا وقالوا بأنّ الدّولة الأمويّة كانت عاملًا بانيًا وإيجابيًّا وعربيًّا في تاريخنا أن يراجعوا أنفسهم، ولو تعمّقوا في تحليل القرائن والمعطيات والحقائق لاكتشفوا ما اكتشفه “عمر” قبل حوالي 14 قرنًا من الزّمان، أيّ أنّها كانت عاملًا مساعدًا وسلبيًّا وأدّت إلى انتكاسة حضاريّة عربيّة وإسلاميّة ما زلنا نعيش آثارها ونعاني من ويلاتها، فدولة تقوم على التّنكّر للمنهج الإسلاميّ الطّاهر كما خطّ أسسه النّبيّ نصرة للفقراء والمظلومين وعلى مقتل أعظم النّاس “عليّ” ويغتال حكّامها أعظم الخلفاء “عمر” ولا يستتبّ حكمها إلّا بإخماد ثورة “الحسين” وقطع رأسه وبالتّنكيل بآل البيت أطهر النّاس، دولة كهذه تستبدل الخلافة بالملك والشّورى بالملك والاستئثار بالحكم والعدالة بالظّلم، لا تستحقّ الحياة ولتذهب إلى الجحيم وإلى أسفل سافلين في الدّرك الأسفل من النّار، مصحوبة بلعنة من الله والنّاس منذ مات “عليّ” وحتّى تقوم السّاعة. باختصار! لقد كان موت “علي” العظيم وانتهاء دولته وولادة مملكة “معاوية” لعنة ماحقة وضربة قاضية وساحقة على هاتيْن الأمّتيْن: العربيّة والإسلاميّة حتّى اليوم، طالما بقيت مخلّفات المملكة الأولى تحكم في ممالكنا من أمويّي آل سعود وآل هاشم الجدد وآل نهيّان وآل حمد وآل سعيد وآل ثاني وثالث ورابعهم كلبهم.
نشأته الأولى بداية لثورته الدّائمة:
هو “عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر”، يعود نسبه إلى “عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم”، وهو الوحيد الّذي ولد في جوف “الكعبة” في “مكّة”، يوم الجمعة من رجب بعد “عام الفيل” بثلاثين عامًا، ولم يولد داخل “الكعبة” أحد قبله ولا بعده، وكأنّ الله خصّه بهذه الولادة المباركة، وكانت أمّه “فاطمة بنت أسد الهاشميّة” (548 – 625) وهي أوّل هاشميّة تنجب لهاشميّ امرأة ذات إيمان وورع، وقد حمله النّبيّ إلى بيت أبيه، كان “عليّ” أصغر إخوته، في بيت أبيه “أبو طالب” (540 – 619) الّذي كان سيّد رهطه من بني “هاشم”، وكان “أبو طالب” يسير المال كثير العيال، كان “عليّ” أشهر أشقّائه الخمسة وهم: “طالب” (53ق.ه – 2ه) لم يسلم وقاتل مع “قريش” في “بدر” ضدّ المسلمين، و”عقيل” (578 – 679) كذلك، لكنّه أسلم يوم فتح “مكّة”، أمّا “جعفر” (587 – 629) فقد أسلم في أوّل البعثة وهاجر وقاتل في كثير من الغزوات، وقُطعت يداه وهو يقاتل يوم “مؤتة” ومن ثمّ استشهد ولقّب بِ “جعفر الطّيّار”، وأختاه: “أمّ هانئ” أو “خافتة” أو “هند” (576م – 50ه) و”جمانة” (38ق.ه – 61ه) والسّادس والأصغر والأشهر هو “عليّ: وهو الخليفة الرّابع والأخير.
عاش “عليّ” في بيت أبيه، كثير الأولاد وفي حالة معيشيّة فيها ضنك وصعوبة، ولذلك عانى الفقر والحرمان، وكان بطبيعته يميل إلى الزّهد والتّقشّف، ولكنّ النّبيّ الّذي عاش في بيت عمّه “أبو طالب” وكفالته بعد موت جدّه برعاية أموميّة فائقة من زوجة عمّه “فاطمة بنت أسد”، وكان “محمّد” أحبّ من أبنائهما على عمّه وزوجة عمّه ويخصّانه عنهم بالطّعام والشّراب، وبعد أن تزوّج من “خديجة بنت خويلد” (556 – 619) كان قد عرض على عمّه “حمزة” وعلى عمّه “العبّاس بن عبد المطّلب” (568 – 653) التّخفيف من معاناة عمّه “أبو طالب” المعيشيّة بأخذ بعض أولاده لتربيتهم والتّكفّل بهم، فكان “طالب” من نصيب عمّه “العبّاس”، وكان “جعفر” من نصيب عمّه “حمزة”، وكان “عليّ” من نصيب ابن عمّه “محمّد” (570 – 632) وكانت آنذاك تمرّ “مكّة” بأحوال ضائقة اقتصاديّة سيئة أصابت النّاس جميعًا بالفاقة والعدم، وكان “عليّ” طفلًا عمره ما بين الخامسة والسّادسة. والنّبيّ هو من سمّاه “عليّ” مع أنّ أمّه أرادت تسميته “حيدرة” أو “أسد”، وأبوه أراد “زيد”. نشأ في حجر النّبيّ وتحت رعايته وتربيته، لذلك كان “عليّ” محظوظا بالنّشأة والتّربية في بيت النّبي المعروف في “مكّة” بالصّادق الأمين. فتربّى “عليّ” منذ نعومة أظفاره على القيم الإنسانيّة النّبيلة إلى جانب النبيّ متمسّكًا بالمبادئ السّامية غير مكترث للدّنيا وأباطيلها، يحثّه النّبيّ على مكارم الأخلاق، فقد كان يلازمه كما يلازم الفصيل أمّه، فلم يسمع النّبيّ منه “كذبة في قول ولا خطلة في فعل”، وقد كان يصحبه معه إلى غار “حراء” عندما كان النّبيّ يتعبّد، ومن ثمّ نزل عليه الوحي، وكان “عليّ” ابن عشر سنوات، ولذلك نشأ على مبادئ النّبيّ قبل النّبوّة وظلّ على ذلك بعدها، وقد قال في ذلك: “ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير الرّسول وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرّسالة وأشمّ ريح النّبوّة”، فترعرع “عليّ” في أجواء الإيمان والتّوحيد، ويقال أنّه كان من الحنفاء فلم يسجد لصنم فكرّم الله وجهه، ولم يعش تحت شبح الجاهليّة والوثنيّة والقبليّة، ولكأنّ “عليّ” قد ولد مسلمًا وترعرع في حضن النّبوّة والبعثة ومكارم النّبيّ وعظمة المبادئ الإسلاميّة والإيمانيّة، فكان هذا النّقاء والطّهارة طريقًا جليًّا له حتّى مقتله، فقد كان طفلًا مبكّر النّموّ، متميّزًا عن أنداده في الفهم والقدرة والإدراك، فكبر كأحد أقوى فتيان “قريش” شجاعة وأكثرهم حِلمًا وعلمًا وفقهًا وبلاغة وحكمة، ونما أشدّ النّاس ورعًا وزهدًا واستخفافًا بالدّنيا ومادّيّتها، وكان كريمًا، حليمًا حتّى مع أعدائه، فنشأ لا يهادن في الحقّ ولا يخشى فيه لومة لائم، ولعلّ قصّته مع أخيه “عقيل” تظهر ثبات “عليّ” على الحقّ، فقد جاءه أخوه ليطلب مالًا من بيت مال المسلمين ليس له فيه حقّ، فأبى “عليّ” إعطاءه، فتركه مدركًا استقامة دين أخيه وعوج دنيا “معاوية” وقال: “إنّ أخي خير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي”، ولم يكن يساوم على المواقف السّامية ولا يخشى المواجهة والمجابهة فيما اختاره من سبيل الدّين الحنيف والكفاح ضدّ الظّلم وهو ما زال يافعًا، وكان في نشأته الأولى بعيدًا عن الجاهليّة والوثنيّة، ولم يتدنّس بالشّهوات الدنيويّة والمادّيّة مختلفًا في ذلك عن نشأة “عمر بن الخطّاب” الأولى حيث كان “عمر” منغمسًا قبل إسلامه بكلّ مفاسد الجاهليّة وملذّتها وشهواتها، بل ناهض المسلمين وعذّب عبيدهم، حتّى وصل حقده على المسلمين إلى أنّه مضى لقتل النّبيّ، ولكنّ “عمر” تحوّل إلى الغنى الرّوحانيّ بعد جاهليّة دنيويّة طويلة. كان “عليّ” ينام على التّراب، ولقلّة اكتراثه بنفسه ولتقشّفه في ملبسه ومطعمه ومشربه سمّاه النّبيّ “أبو تراب”. وكانت كلّ هذه السّمات الّتي نشأ عليها مكوّنات أساسيّة في شخصيّته وأسبابًا هامّة في تكون عظمته، وكان أبرز هذه المكوّنات والأسباب تحدّيه المبكّر لظلم “قريش” وجبروتها ووثنيّتها واستعبادها للفقراء والبسطاء والعبيد، ففي إحدى وصاياه وجّه كلامه لولديْه: “الحسن والحسين” قائلًا: “كونا للظّالم خصمًا وللمظلوم عونًا”، يشكّل هذا الاتّجاه أحد مكوّنات شخصيّة “عليّ” وثورته وعظمته، الّتي انتقلت إلى أولاده، وبخاصّة في الإمام الشّهيد “الحسين”. وفي نصرته لثورة النّبيّ الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والحضاريّة منذ صغره، وإسلامه وهو ابن أحدى عشرة سنة، ولذلك يصحّ أن نطلق عليه أصغر ثائر في الإسلام، كيف لا وقد صار أوّل سيف في الإسلام، مقاتلًا، شجاعًا، يقود المعارك وينتصر، وقد تجلّت عظمته وبرز تحدّيه الثّوريّ عندما دعا النّبيّ بعد هبوط الوحي “عشيرته الأقربين” من بني “هاشم”، كان ذلك “يوم الدّار”، دعاهم إلى الإيمان بنبوّته ودعوته فلم يلبِّ دعوته تلك في البداية إلّا “عليّ”، وكان عمره إحدى عشرة سنة، فكان رائدًا متميّزًا في ثورته على القيم الجاهليّة البائدة، من عصبيّة وانتماء قبليّ وكفر وفساد دنيويّ، وكان هذا الموقف أبرز مكوّن من مكوّنات عظمته الثّوريّة قبل أن يشتدّ عوده.
علاقاته مع من سبقه:
تحدّثت كثيرًا فيما سبق عن “عثمان” ولمّحت بل صرّحت عن علاقة “عليّ” به، تلك العلاقة الّتي اتّسمت بالتّنافر لأنّهما مثّلا نهجيْن متناقضيْن، فقد انزلق “عثمان” إلى مستنقع المطامع الأمويّة لضعفه وميله إلى رهطه، ولأحقاد عميقة خبّأها “أبو سفيان” وغيره من الطّامعين على النّبيّ وبني “هاشم” أهل النّبيّ ومناصريه الّذين جرّدوهم من مكانتهم وسيادتهم وظلمهم، ومنهج “عمر” الّذي جرّدهم من ثرواتهم المادّيّة الّتي استغلّوا بها النّاس واستعبدوهم. أمّا “عليّ” فقد ظلّ على منهج “عمر” مؤمنًا بالطّهارة الأخلاقيّة والسّياسيّة ولا يكترث للدّنيا، وأراد إحقاق الحقّ وإعادة النّظام القويم للدّولة على العدالة والمساواة وقدسيّة الإنسان وكرامته، زاهدًا بالمناصب والدّنيا، بعيدًا عن النّفاق والتّزلّف والمواربة، مناصرًا للحقّ ولآل بيت النّبيّ وأسس الدّين السّمح الحنيف، كما أرسى قواعده وأركانه وأسّس لدولته النّبيّ والخليفتان: الأوّل والثّاني، دون إنكار لخلافة الثّالث الّذين كان رابعهم وآخرهم. لقد تلخّص النّهجان بوضوح تامّ، فقد مثّل نهج “عثمان” ورهطه من بني “أميّة” ومستشاريهم نهج الأغنياء ومصالحهم الّتي لا تنتهي عند حدّ، ومثّل نهج “عليّ” وبني “هاشم” وأنصارهم نهج الفقراء والمستضعفين والمستغَلّين وحقوقهم الأساسيّة الّتي كافحوا بمرارة وبسالة من أجلها ولا يمكنهم التّنازل عنها، حتّى لو انتصرت الثّورة المضادّة إلى حين.
أمّا عن علاقته بالخليفة الأوّل “أبو بكر” وقد يكون “الصّدّيق” هو الوحيد الّذي سبق “عليّ” إلى الإسلام وتصديق النّبوّة وتأييدها، ورغم أنّه بايع “أبو بكر” أخيرًا، إلّا أنّ بعض مؤيّديه رأوا بخلافة “الصّدّيق” خروجًا عن تولية النّبيّ لصفيّه ووليّه “عليّ” في خطبة “غدير خمّ”، حيث قال النّبيّ: “من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه”، فقد اعتبر البعض أنّ مبايعة “أبو بكر” يوم “السّقيفة” منعت “عليّ” من الخلافة، نتيجة للأحقاد والحسد والنّزاعات القبليّة، ممّا حدا بعليّ أن لا يبايعه في البداية، وجادل “أبو بكر” في قضيّة إغماض عينيْه عن استخلاف النّبيّ لآل البيت”، وفي خطبته “الشّقشقيّة” أشار “عليّ” إلى ذلك، حيث لم يظهر خلافًا على “أبو بكر” ولا شقّ طاعة، ولكنّه كان عاتبًا، وكان منشغلًا بزوجه “فاطمة الزّهراء” (604 – 632) المريضة، وقد ماتت حزنًا بعد موت النّبيّ بستّة أشهر، ولمّا زال العتب بايع بلا إكراه بل برضى واختيار، ولا أعتقد أنّ أحدًا من المسلمين أو غيرهم يستطيع إكراه “عليّ” على فعل شيء لا يريده.
كان الأمر مختلفًا في علاقة “عليّ” مع “عمر” الخليفة الثّاني فالواحد منهما كان صفيّ الآخر وخليله، رغم أنّ “عليّ” في خلافة الثّلاثة الّذين سبقوه ابتعد عن الاهتمام في شؤون السّياسة والحكم، وكان منشغلًا بالعلم والمعرفة في قضايا كجمع القرآن، وفي شؤون القضاء، فقد قال “عمر”: “عليّ أقضانا”، كان مستشارًا للخلفاء ومرجعًا لهم في الفتاوى وشؤون الدّين والدّنيا، وكذلك لم يغفل أبدًا عن حقوق الفقراء في المال بل كانت حقوقهم من صميم اهتماماته، من خلال الاهتمام بشؤون الأعمال الّتي يزاولونها، كالزّراعة وحفر القنوات وبناء المساجد، فكان أهمّ ما يهمّه العدالة في توزيع المال على كلّ المسلمين بالتّساوي، وكان من مؤيّدي “عمر” في عدم تقسيم “أرض السّواد” في العراق على الفاتحين من قادة الجيش، وإبقائها بأيدي أصحابها الفلّاحين الفقراء، فهم أدرى بفلاحتها وزراعتها وسائر شؤونها، وكان “عمر” يعتدّ ويقوى موقفه بمساندة رأي “عليّ”، فقد كان “عليّ” المستشار الأوّل لأمير المؤمنين، لدرجة أنّ “عمر” كان يصوّر الأمر أنّ أموره كخليفة حاكم لا تستقيم بلا آراء “عليّ” السّديدة شريعة وعقلًا، فلم يقترح على “عمر” شيئًا إلّا نفّذه، وقد قال: “لولا عليّ لهلك عمر”، كان “عمر” يحبّ “عليّ” و”عليّ” يحبّ “عمر”، والمحبّة هنا هي محبّة الإيمان ومواقف الاستقامة والطّهارة السّياسيّة والعدالة والمساواة بين النّاس ومحبّة الإنسان كأغلى قيمة في الدّولة الإسلاميّة، فمصلحة الدّولة هي مصلحة الإنسان فردًا أو جماعة فيها، يتقدّم عن المال والاقتصاد. ومن المهمّ أن نذكر أنّه انتهج نهج “عمر” بالصّرامة والجدّيّة في تطبيق القوانين وبتسامح ولين وعدالة ومساواة في تنفيذ الشّريعة، وهو ما رآه أسلوبًا صحيحًا لإدارة الدّولة. وعلى هذا الأساس القويم وبعد أن تسلّم الخلافة استردّ كلّ الامتيازات والأملاك الّتي أغدقها “عثمان” على مقرّبيه من “بني أميّة” إلى بيت مال المسلمين، وهو الأمر الّذي جعل الكثير من الطّامعين والانتهازيّين من طبقة الأغنياء لا يطيقونه كما لم يطيقوا “عمر” من قبل، لقد كان “عليّ” يؤمن بحقّ النّاس على الحاكم أكثر من حقّ الحاكم على النّاس، فالحاكم لا أكثر من خادم لهم، وبخاصّة الفقراء منهم والبسطاء والمستضعفين وحقّهم لضمان معيشة كريمة. وهذا يعكس مفهومًا اجتماعيًّا آمن به “عليّ” وموقفًا طبقيًّا انحاز إليه وكافح من أجله.
لقد عبّر الشّاعر العراقيّ الشّيوعيّ “مظفّر النّوّاب” (1934 – 2019) عن الاتّجاهيْن النّقيضيْن: نهج “عليّ” ونهج “عثمان” في قصيدة له بعنوان “وتريّات ليليّة”، ووظّف هذا الرّمز بسبب تشابه موقف “عليّ” وموقف الحزب الشّيوعيّ العراقيّ في الدّفاع عن الفقراء والمحرومين فقال:
“ما زالَتْ شورى التّجّارِ ترى عثمانَ خليفتَها
وتراكَ زعيمَ السّوقيّة
أنبيكَ عليًّا
لوْ جئْتَ اليومَ لحاربَكَ الدّاعونَ إليكَ
وسمّوْكَ شيوعيّا”.
عليّ ظلّ النّبيّ:
قلنا أنّ “عليّ” منذ نشأته الأولى وهو ابن ستّ سنوات، عاش في ظلّ رعاية ابن عمّه وتحت العناية النّبويّة السّامية، لم يعشْ جاهليًّا، وكأنّه ولد مسلمًا وعاش مسلمًا وقاتل مسلمًا وقُتل مسلمًا، لقد لازم النّبيّ منذ طفولته المبكّرة، منذ أيّام “حراء” وبدايات النّزول وكان أحد كتبة الوحي، فكان أكثر من فهم واستوعب أوّل كلمة نزلت من القرآن “اقرأ” بمعانيها الكثيرة والعميقة، فصار عالمًا فقيهًا مرشدًا ومعلّمًا وذا ثقافة قلّ نظيرها. وعاش تحت ظلّ النّبيّ الوارف ظلًّا ملازمًا له في كلّ كبيرة وصغيرة، فصار صفيّه ومستشاره وسفيره ووزيره، ومنه تعلّم أن يكون مقاتلًا، شجاعًا، شديدًا وبارعًا في القتال، فكان معه في كلّ الغزوات إلّا “تبوك”، لأنّ النّبيّ أراده أن يحمي “المدينة”، فكان موضع ثقة النّبيّ، بل من أبرز النّاس الّذين كان يثق بهم. وهو زوج “فاطمة الزّهراء” (604 – 632) ابنة النّبيّ، وأمّ الإمام “الحسين”، ولعلّ أعظم ما أغدق “عليّ” وزوجه “فاطمة”، هو ما أسدياه من يد بيضاء وثورة حمراء تجسّدت في الإمام الطّاهر والثّائر “الحسين”، هذا الفضل الّذي سيطوّق رقاب النّاس إلى يوم الدّين.
لقد تجسّدت ثورة “عليّ” على الظّلم والظّالمين في مشاركته الكاملة والدّائمة في الثّورة الإسلاميّة الجديدة على النّهج القبليّ المتعصّب، وعلى العلاقات الاجتماعيّة الّتي تجعل النّاس طبقتيْن: أسيادًا، ظالمين، أغنياء، مستبدّين ومستأثرين بالحياة الاقتصاديّة والأسواق وسائر مقدّرات الحياة، وعبيدًا، مظلومين، فقراء مسحوقين، مستضعفين لا يملكون من حطام الدّنيا شيئًا إلّا قيودهم الّتي تكبّل أياديهم ونفسيّاتهم والّتي يريدون تحطيمها، وقد أسهم “عليّ” ببسالة وافتداء ومقاومة ونضال في تحطيم تلك الأغلال ونصرة هؤلاء العبيد والفقراء في ثورتهم لينالوا لقمتهم الكريمة وحرّيّاتهم الكاملة ومكانتهم الإنسانيّة.
كانت الآيات الأربع الأولى: “يا أيّها المدّثّر، قم فأنذر، وربّك فكبّر، وثيابك فطهّر” (القرآن الكريم، سورة المدّثّر، رقم 74، الآيات 1 -4) هي الآيات الّتي أذنت للنّبيّ أن يبدأ دعوته سرًّا حفاظًا عليها، لأنّه كان يدرك ثقل الحمل الّذي ألقي عليه كما ورد في هذه الآية: “إنّا سنلقي عليك قولًا ثقيلا” (القرآن الكريم، سورة المزمّل، رقم 73، الآية 5) وسورة المزمّل نزلت في الفترة القصيرة ذاتها على النّبيّ، كان النّبيّ يتحسّب ويدرك ويتخوّف على مصيره ومصير الدّعوة أمام جبروت “قريش” وجاهليّتهم ووثنيّتهم وعصبيّتهم وأغنيائها من أسياد البطون ومصالحهم المادّيّة والاقتصاديّة ومفاهيمهم السّياسيّة وعاداتهم وأخلاقهم، وهي الّتي جاء النّبيّ الفقير البسيط من “بني هاشم” ليزعزعها جميعًا ويجتثّها من جذورها، وليبدأ أوّل ثورة اجتماعيّة طبقيّة في بلاد الحجاز والجزيرة العربيّة، تقوم على العبيد والمستضعفين ومن أجل حرّيّاتهم وكرامتهم وسائر حقوقهم الإنسانيّة، وكان “عليّ” جاهزًا لذلك الأمر الجلل، وعاش كلّ المخاطر إلى جانب النّبيّ بجرأة وشجاعة وفداء وبطولة وصلت أوجها “ليلة المبيت” سنة (622) حيث سأل النّبيّ مَن يستطيع النّوم في فراشي ليلة الهجرة، وقد كانت الخطوة هذه للتمويه وللتغطيّة على هجرة النّبيّ إلى “المدينة”، ولم يجب سؤال النّبيّ الّذي كرّره ثلاثًا إلّا “عليّ” وأجابه ثلاثًا، لأنّه هو الملازم الدّائم للنّبيّ، فبنوم “عليّ” مكانه يعتقد سادة “قريش” أنّ النّبيّ ما زال في “مكّة”، وبهذا افتدى “عليّ” النّبيّ بنفسه فأحبط مؤامرة الاغتيال المدبّرة في “دار النّدوة” حيث يجتمع سادة “مكّة” لكلّ أمر جليل. ولهذا استحقّ “عليّ” أن يلقّب بِ “أوّل فدائيّ في الإسلام”، وفي سنة (623) تزوّج من “فاطمة الزّهراء” وترك مكّة مهاجرًا بعد استدعائه من النّبيّ، فظلّ ملازمًا له في “المدينة” كما كان في “مكّة” منذ البعثة حتّى الهجرة.
أوّل سيف يصنع أوّل انتصار:
في الغزوات والحروب أبلى “عليّ” بلاء قتاليًّا مميّزًا، حقّق من خلال بلائه ذاك انتصارات كبيرة، وفي بعضها كان هو السّبب الرّئيس للانتصار، معركة “بدر” في (17 رمضان سنة 2 ه) كانت أولى المواجهات القتاليّة والكفاحيّة بين 300 من الثّوّار المسلمين، على رأسهم النّبيّ و”عليّ” حامل رايته، وكبار الصّحابة والفقراء العبيد الجائعين للنّصر والحرّيّة وبين 1000 من المشركين، على رأسهم أسياد “قريش” وأغنيائها الخائفين على تجاراتهم وثرواتهم وعلى سيادتهم السّياسيّة ومكانتهم الاجتماعيّة، قرب آبار “بدر” على بعد 160 كم من المدينة التقى الجمعان، خاض “عليّ” هذه المعركة وهو ابن عشرين عامًا، وكان على رأس فرقة للتّجسّس على خطوط العدوّ في البداية، ومن ثمّ كان أوّل المبارزين مع عمّه “حمزة” (568 – 625) وابن عمّه “حذيفة بن الحارث”، وكان “عليّ” يمتاز بقوّة وشباب وبصيرة وإيمان وحماس واندفاع عاقل لتحقيق الانتصار، فقتل “الوليد بن عتبة” (توفّي سنة 624) وهو خال “معاوية بن أبي سفيان”، وفي المواجهة والكفاح القتاليّ قتل جدّ “معاوية” وأخاه وعددًا كبيرًا من “بني أميّة”، ممّا جعل “بني أميّة” يضمرون له الحقد حتّى انتقموا لهم بمقتل الأمام الشّهيد “الحسين” في “كربلاء” (سنة 61 ه) وقد عبّر الملك الأمويّ الثّاني “يزيد بن معاوية” (647 – 683) بقول جدّه “أبو سفيان” إذ قال: “يوم بيوم بدر” يوم “أحد” (سنة 3 ه) وردّدها “يزيد” بعد مجزرة “كربلاء”.
كان “عليّ” ببسالته وبطولته يمثّل نموذجًا للشّباب المقاتل الّذين لعبوا دورًا كفاحيًّا وقتاليًّا مميّزًا، ومنهم ممّن يجدر ذكرهم “عمير بن أبي وقّاص” (14 ق. ه – 3 ه) استشهد وهو يقاتل في “أحد” وَ “مصعب بن عمير” (42 ق. ه – 3 ه) استشهد في “أحد”، وهو أوّل سفير في الإسلام، وَ “معاذ بن الجموح” (توفّي في خلافة عثمان) وَ “معاذ بن عفراء” (توفّي في خلاقة عليّ) وهما من قتل “أبو جهل” (572 – 624) في المعركة. وتؤكّد المصادر التّاريخيّة القديمة أنّه قتل في المعركة 70 من “قريش” كان “عليّ” وحده قد قتل نصفهم، وقد أسر 70 من “قريش” أيضًا، ولذلك قيل: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ”. كانت “بدر” أعظم المعارك ليس لأنّها تمثّل الانتصار الأوّل لفئة قليلة على فئة كثيرة، بل لأنّها أسّست لقواعد الدّين الجديد بروحانيّته وبنظمه السّياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، وأبرزها المساواة والعدل والحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، وأرست أسس الثّورة الإسلاميّة بكلّ أنوار قيمها العظيمة وسناء مفاهيمها السّامية على طغيان أسياد “قريش” وظلامها وظلمها وكفرها وجاهليّتها وعصبيّتها واستعبادها واستئثارها وميلها إلى الدّنيا والمادّيّة الطّينيّة المقيتة. لقد كانت “بدر” في الحقيقة نقطة تحوّل ومفصلًا تاريخيًّا في تاريخ الإسلام والجزيرة العربيّة، بل تخطّت ذلك إلى التّاريخ البشريّ كلّه، تمّ كلّ ذلك بعد أن خرج الثّوار المسلمون من الاختفاء والاختباء والحيطة والحذر والعمل السّرّيّ والتّخوّف، من سطوة “قريش” وظلمها، إلى الظّهور والجهر بالدّعوة وإلى العلنيّة والكفاح والمقاومة والاستعداد للمواجهة القتاليّة المباشرة، فكان من أبرز نتائجها أن هزّت المشركين من “قريش” واليهود المتربّصين بقلق ونفاق وتآمر لسحق ثورة المسلمين هزّة عنيفة، فقد قلبت الهزيمة أوضاعهم وجعلتهم يراجعون تفكيرهم لأنّ “بدر” كانت المقدّمة الأولى لثورة المسلمين الطّبقيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والحضاريّة، والّتي أزالت جبروت “قريش” ووثنيّتها وأسس النّظام القبليّ العصبيّ المبنيّ على الفساد الأخلاقي والعادات البالية والظّلم الطّبقيّ واستعباد النّاس واستغلالهم. وكان “عليّ” من أبرز القادة الثّائرين في هذه المواجهة، وله فضل كبير في هذا الانتصار الإسلاميّ الأوّل على الظّلم والظّلام والاستعباد.
يوم بيوم بدر:
تجرّع سادة البطون القرشيّة الهزيمة في “بدر”، ولكنّهم لم يهضموها ولم يتقبّلوها، خاصّة بعد أن فقدوا من رموزهم الكثيرين: أميّة بن خلف، أبو جهل، عتبة بن المغيرة، وابنه الوليد وأخوه “شيبة”، ولم يظلّ من البارزين فيهم إلّا “أبو سفيان” الّذي امتاز بتفكير مادّيّ واقتصاديّ، وفضّل الابتعاد عن منطقة “بدر” بقافلته المحمّلة بالبضائع والثّروات، والأهمّ من ذلك أنّه رأى أنّ كرامة “مكّة” وأسيادها وتجّارها الأغنياء تكمن في هذه القافلة القادمة من اليمن. فأنشأ هؤلاء يستعدّون للانتقام من المسلمين، محمّلين بحقدهم في محاولة لاستعادة كرامتهم المهدورة يوم “بدر”، إذ بدّد الثّوّار من العبيد والمستضعفين أمجاد “قريش” وألحقوا بساداتها الذّلّ والهوان. وبعد سنة واحدة من معركة “بدر” التقى الفريقان اللّدودان قرب جبل “أحد” في (7 شوّال، سنة 3 ه) فكان المشركون تحت قيادة “أبو سفيان” والمسلمون تحت قيادة النّبيّ، وبصبر “عليّ” وبسالته مع ألف من المقاتلين المسلمين أمام 3000 من “قريش”، استطاع أن يقتل “طلحة” حامل راية المشركين، وقد أبلى في القتال خاصّة بعد أن اقترب المشركون من النّبيّ وكادوا يقتلونه، ولكنّ “عليّ” هو الوحيد الّذي ثبت في المواجهة ودافع باستماتة عن النّبيّ ونجّاه من موت محقّق، بعد أن ترك رماة المسلمين الجبل قبل أمر النّبيّ، فخسر المسلمون حماية ظهورهم بعد أن انكشفت للعدوّ، فانقضّ “خالد بن الوليد” (592 – 642) بفرسانه على المسلمين، واستشهد منهم في “أحد” حوالي 70 شهيدًا، كان أبرزهم “حمزة بن عبد المطّلب” أحد أبرز قادة النّصر في “بدر”، ولذلك ينسب للمقاتل الثّوريّ “عليّ” ولصبره وبطولته وثباته خلاص المسلمين من هزيمة ماحقة، وبذلك خرجوا من معركة “أحد” بخسائر مادّيّة ونفسيّة كان لها تأثيرها الجليّ، ولكنّ معنويّاتهم وإن أصيبت ظلّت عالية وقويّة لم تتزعزع، وبرغبة عاقلة وجامحة ذهبوا لدراسة الأوضاع والظّروف واستخلاص العبر والدّروس من تلك المعركة الّتي امتزجت فيها مرارة الهزيمة بحلاوة النّجاة وعدم الانكسار، وأبرز تلك الدّروس ضرورة الالتزام بأوامر النّبيّ القائد الأعلى للجيش.
“يوم بيوم بدر” بهذه المقولة لخّص “أبو سفيان” معركة “أحد” فقد اعتبر أنّ المشركين “انتصروا” في “أحد” فاستعادوا شيئًا من كرامتهم المعنويّة المهدورة واستردّوا بعضًا من مكانتهم بين قبائل العرب، فكان في تلخيصهم لذلك “النّصر” بعضًا من الأمل المترنّح في سحق ثورة العبيد المسلمين بقيادة النّبيّ وسنده البارز “عليّ” والتّخلّص من “شرّها” إلى الأبد.
وبعد هذه المعركة ترسّخت المقولة أنّ “عليّ” هو “أوّل فدائيّ في الإسلام” بعد أن افتدى النّبيّ أوّل مرّة أولى يوم “المبيت”، وها هو يفعل ذلك الافتداء مرّة ثانية يوم “المهراس” كما سمّى البعض يوم “أحد” لكثرة الشّهداء من المسلمين، فثبت يوم فرّ الكثيرون. فأيّ عظمة أسمى من الثّبات في القتال والدّفاع عن النّبيّ وخلاص المسلمين بأقلّ ما يمكن من الخسائر المعنويّة والمادّيّة والبشريّة.
تخندق المسلمون:
أشار الصّحابيّ “سلمان الفارسيّ” (568 – 654) على النّبيّ قائلًا: “يا رسول الله! إنّا كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تتخندق”، فاستجاب النّبيّ للفكرة الدّفاعيّة بحفر الخندق، ولذلك سمّيت هذه الغزوة باسْم “الخندق” أو غزوة “الأحزاب”، إذ اجتمعت مجموعة من القبائل العربيّة لغزو “المدينة”، والقضاء على المسلمين، كان ذلك في آذار، سنة (627 م، شوّال 5 ه) بعد أن نقض يهود “خيبر” عهدهم مع النّبيّ، ومن ثمّ حاولوا قتله، ولمّا أخفقوا واستسلموا صاروا يؤلّبون القبائل العربيّة على النّبيّ والمسلمين، فجاءوا بآلافهم من “قريش” و”كنانة” و”غطفان” و”أسد” و”سليم”، ومن ثمّ انضمّ إليهم يهود من بني “قريضة”. لقد استطاعت عشرة آلاف من جيوش القبائل بقيادة “أبو سفيان” حصار “المدينة” لثلاثة أسابيع ذاق فيها أهلها طعم الشّدة والجوع. ولكنّهم عجزوا عن دخولها بسبب الخندق، ورغم ذلك استطاع “عمرو بن عبد ودّ العامريّ” (547 – 627) وكان من أشدّ الفرسان المقاتلين قوّة وبأسًا من اجتياز الخندق وأخذ يزمجر ويهدّد ويدعو للمبارزة، فقال النّبيّ: “مَن لهذا اللّعين” ثلاث مرّات، فاستجاب لها “عليّ” فقط ثلاثًا، لكنّ النّبيّ منعه في مرّتيْن وفي الثّالثة طلب منه الاستعداد فواجهه “عليّ” بفنّيّة قتال وبسالة وإصرار على تحقيق النّصر، واستطاع أن يقتله بضربة واحدة من سيفه، ومن ثمّ يقتل ابنه في المعركة نفسها، لقد قال النّبيّ بعد هذه المبارزة: “لضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثّقليْن إلى يوم القيامة”، ولعلّ هذا القتل هو مفتاح الانتصار للمسلمين في الخندق، فبمقتل أبرز فرسانهم انكسرت شوكتهم وانهزموا، خاصّة أنّ الرّياح الباردة قد منعتهم كذلك من تحقيق غاياتهم، مع أنّ جيوشهم كانت ثلاثة أضعاف جيش المسلمين الّذي كان من ثلاثة آلاف. في هذه الفترة بعد انتصار المسلمين في غزوة “الخندق” استعادوا فيها هيبتهم المكسورة ومعنويّاتهم الّتي فقدوا بعضًا منها يوم “أحد”، لأنّهم تعلّموا الدّرس واستخلصوا العبر، وصاروا طرفًا يعتبر ندًّا قويًّا، أمّا “قريش” وحلفاؤها من قبائل العرب، فصاروا يحسبون لهذه القوّة النّاشئة الحساب، وقد أدّت هذه النّدّيّة بين الفريقيْن: المسلمين وأنصارهم وقريش وحلفائها، إلى الاتّفاق في صلح “الحديبية” في آذار، سنة (627 م، ذي القعدة، 6 ه) وهو الاتّفاق الّذي نصّ على مجموعة من البنود، كان أبرزها الاتّفاق على هدنة من عشر سنوات، ولم يعجب “عمر” وَ “عليّ” الاتّفاق وعارضاه خاصّة أنّه لم يبدأ بالبسملة الإسلاميّة “بسْم الله الرّحمن الرّحيم”، بل بافتتاحيّة جاهليّة “باسْمك اللهمّ”، وكذلك لم تذكر صفة النّبيّ “محمّد رسول الله” بل كتب “محمّد بن عبد الله”، فقد كان “عليّ” هو الكاتب، فلمّا أملى عليه النّبيّ ذلك كفّ عن الكتابة وقال أن يده لا تطاوعه أن يكتب ذلك. ولكنّ “عمر” وَ “عليّ” رضخا لرأي النّبيّ السّديد ولحكمة نبويّة ثاقبة، وكأنّ النّبيّ كان يعرف أنّ كفّار “قريش” وأسيادها وخوفهم على مصالحهم وثرواتهم لن يستطيعوا الصّمود بالاتّفاق عشر سنوات، وبذلك كان الصّلح “الحديبية” مقدّمة وتمهيدًا لفتح “مكّة”، بعد أن نقضت “قريش” العهد. وهذا يبيّن بشكل جليّ أنّ “عليّ” وَ “عمر” كانا على نهج إيمان منفتح وفكر جدليّ واحد، يعطي ويأخذ، يعارض ويناقش، يرفض ويحاور، وهو المنهج الّذي سينتهجانه في الحكم فيما بعد. ولكنّ الظّروف الدّينيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي واتت زمان “عمر”، فنجح في ترسيخ هذا النّهج الفكريّ الجدليّ، تلك الظّروف مجتمعة لم تكن لتواتِ “عليّ” لانقلاب المفاهيم واضطراب الأحوال كلّها، مع أنّه آمن بالنّهج الجدليّ نفسه.
عليّ أسد الله الغالب:
وتزداد العظمة القتاليّة بروزًا وسطوعًا عند “عليّ” ففي غزوة “خيبر” في محرّم، سنة (7ه) استطاع 1400 من المقاتلين المسلمين محاصرة مدينة “خيبر” وهي مدينة غنيّة الموارد، سكّانها من اليهود وكانت محصّنة بالقلاع والأسوار، لقد شكّل يهود “خيبر” طابورًا خامسًا في خدمة “قريش” ورغبتهم كانت أقوى وأشدّ في التّخلّص من النّبيّ والمسلمين وأخطارهم على مكانتهم وثرواتهم. فبعد الاتّفاق في صلح “الحديبية” والهدنة القتاليّة كان يهود “خيبر” هم الّذين يحرّضون “قريش” على احتلال “المدينة المنوّرة”، وليس فقط بل شاركوا في تحالف الأحزاب يوم “الخندق”. فكان لزامًا على النّبيّ أن يحاصرهم ويكسر شوكتهم ويحدّ من نفاقهم وأثرهم الاقتصاديّ وانحيازهم للمشركين. ورغم كثرة حصونها القويّة استطاع المسلمون، وعلى رأسهم “عليّ” الفدائيّ العظيم الّذي علّم النّاس شرف البطولة ومعنى الفداء والوفاء للمبادئ العظيمة، لقد اختاره النّبيّ لمهمّة فتح الحصون واختراق الأسوار، بعد أنّ تعسّر ذلك على “أبو بكر” في المحاولة الأولى وعلى “عمر” في المحاولة الثّانية، ومرّة أخرى تثبت مقولة “لا فتى إلّا عليّ ولا سيف إلّا ذو الفقار”، وبخطّة قتاليّة سليمة بدأ “عليّ” بقتال “مرحب بن الحارث” (توفّي سنة 7ه، 628م) أبرز فرسان “خيبر وأشدّهم، فقتله عند الحصن الأوّل، ممّا أدّى بالمقاتلين إلى الاختباء في داخل الحصون، فقام باستدراج أبطال “خيبر” وفرسانها الكُثر إلى سهل منبسط ليسهل قتالهم، وبذلك استطاع قتل “الحارث” (توفّي سنة 7ه، 628م) أخي “مرحب”، ومن ثمّ كثير من الفرسان واحدًا تلو الآخر، حتّى استطاع المسلمون من السّيطرة على كلّ الحصون والمدينة كلّها صارت تحت نفوذهم. إذا استحقّ “خالد بن الوليد” لبلائه القتاليّ في غزوة “مؤتة” لقبَ “سيف الله المسلول” وكان النّبيّ من لقّبه بذلك، فإنّ “عليّ بن أبي طالب” استحقّ بجدارة لقب “أسد الله الغالب” لبلائه وتميّزه القتاليّ في كلّ المعارك الّتي قادها النّبيّ فنال من النّبيّ ذلك اللّقب العظيم.
كانت كلّ النّتائج الحربيّة والظّروف السّياسيّة ونتائج الاتّفاقات وخرقها، ورغبة الّذين أُخرجوا من ديارهم بالعودة إلى “مكّة”، وضعف فريق “قريش” وتصدّع التّحالفات مع القبائل، كلّ ذلك كان يمهّد الطّريق لفتح “مكّة”، وبدون حرب أو مقاومة من أحد، خاصّة وأنّ “أبو سفيان” قد ذهب إلى “المدينة” متوسّلًا ومتسوّلًا الحفاظ على بنود صلح “الحديبية”، ولم يقبله أحد ولم يشفع له عند النّبيّ أحد، وعاد يجرّ أذيال الخيبة والذّلّ وليستعدّ لمرحلة تلوح في الأفق القريب، “محمّد” سيفتح “مكّة” وسيحكم سيطرته على معظم جزيرة العرب، والخسائر بنظر “أبو سفيان” جدّ فادحة، الحكم السّياسيّ والمكانة الاجتماعيّة والثّروات الاقتصاديّة والهيبة الجاهليّة، كلّ ذلك المجد والعزّ والسّيادة والثّراء والاستعباد والاستئثار سيذهب أدراج الرّياح، وسيصبح تحت رعاية “العبّاس بن عبد المطّلب” عمّ النّبيّ، ومن ثمّ سيحظى بعفو من النّبيّ كواحد من الطّلقاء وواحد من المؤلّفة قلوبهم، يأخذ أعطيته من المسلمين، ويسلم كاذبًا ويتربّص بخبث للفرصة السّانحة لاستعادة بعضًا من أمجاده الزّائلة.
“عليّ” ينشغل ببعض الجيوب القليلة الّتي تقاوم الفتح، فقد رفض بعض المقاتلين القرشيّين تسليم المدينة وقد أصرّوا على صدّ المسلمين عنها، ومن أبرزهم “أسد بن غويلم” و”الحويرث بن خبابة”، لقد استطاع “عليّ” بشجاعته المعهودة أن يقتلهما ويقتل كثيرًا من الفرسان المتعنّتين. وإلى جانب ذلك استطاع أن يزهق الكثير من الأصنام الجاهليّة الّتي كانت رمز عهد ولّى، وأهمّها وأشهرها “هبل” معبود “قريش” التّاريخيّ، و”عليّ” هو الوحيد الّذي استطاع حمله وصعد به إلى ظهر “الكعبة” وألقاه فتحطّم، وتحطّمت بتحطّمه مرحلة تاريخيّة وثنيّة، قبليّة، جاهليّة وعصبيّة، سادها الظّلم الاجتماعيّ والاستعباد والظّلام الأخلاقيّ والدّينيّ. لقد قتل “عليّ” صناديد “قريش” وأعزّة أهلها وأزهق أصنامها وآلهتها، فأدخل الحزن إلى كلّ بيت، ولذلك غلى عليه حقد “قريش” وزادت كراهيّتها له. هذه هي بطولات “عليّ” القتاليّة وبسالته من أجل الحقّ ونور الدّين الحنيف وضدّ الظّلم والظّلام والجاهليّة والعصبيّة، وهي صورة أخرى تصوّر جزءًا من عظمته ومضمونًا جديدًا من مضامين عظمته الّتي لا تعرف حدودًا من كثرة تعدّد ألوانها ومكوّناتها.
عليّ شجاع إنسان:
لم تكن شجاعة عليّ ترتكز على قدراته الجسديّة وقوّته البدنيّة الّتي اعتمد فيها على بنية جسده المتميّزة بالصّلابة، فقد كان قصيرًا مفتول العضلات في اليديْن والرّجليْن، فلم يصارع أحدًا إلّا صرعه، ولم يقاتل أحدًا إلّا قتله، وكان يزحزح الحجر الضّخم الّذي يحتاج لزحزحته كثيرًا من الرّجال الأقوياء، ويقتلع الباب الكبير ويحمله كما فعل ذلك يوم “خيبر”، بعد أن تراجع عنه كثيرون. لو اقتصرت شجاعة “عليّ” هذه على القدرة الجسمانيّة الهائلة فقط لرأينا فيه مصارعًا خاليًا من القيم الإنسانيّة شبيهًا بِ “عمر” أيّام الجاهليّة، ولكنّ شجاعة “عليّ” امتزجت بأخلاق الإسلام وقيمه وتعاليمه قرآنا وسنّة نبويّة، وقد عاش تحت كنف النّبوّة وهو بعد ابن ستّ سنين، فكان له النّبيّ خير معلّم في الشّجاعة المرتكزة على قيم الدّين الثّوريّ الجديد، ولذلك دفعته هذه الشّجاعة الرّوحانيّة المدعّمة بالقدرة الجسديّة وهو ابن عشر سنين فقط إلى التّصدّي لبعض القرشيّين الّذين حاولوا الاستهزاء بالنّبيّ ودعوته في بدايتها، وقد دفعتهم إلى ذلك مكانتهم الاجتماعيّة وسننهم القبليّة والوجاهة والتّكبّر والعزّة بالإثم. لقد ترافقت شجاعته كإنسان عامر وجدانه بالإيمان مع قدرة على الإقدام باعتزاز ذاتيّ وإيمانيّ كبير وثقة عميقة بالنّفس.
وقد امتزجت شجاعته بسجايا إنسانيّة كان أبرزها “العفو عند المقدرة”، وهو ما تعلّمه من الحديث النّبويّ الشّريف، فقد كان شجاعًا لا يهاب أعظم الفرسان الأعداء، ولكنّه كان يدعوهم إلى الإيمان قبل نزالهم، وعندما يأبوْن يتقدّم لقتالهم بقوّة الفارس المجرّب الّذي لا يخشى العواقب، مثلما فعل يوم “الخندق” بفارس الجزيرة وشجاعها “عمرو بن عبد ود” وبفارس خيبر “مرحب بن الحارث”. وكان عندما يظفر بأعدائه وينصاعون قبل قتلهم يعفو عنهم كما فعل بِ “عبد الله بن الزّبير” (623 – 692) وخصومه الألدّاء: “مروان بن الحكم” (623 – 685) و”سعيد بن العاص” (2ه – 58ه) و”عمرو بن العاص” (575 – 664) وفي وقعة “الجمل” سنة (656) تصرّف بمروءة وشرف وصيانة خدر مع زوجة النّبيّ “عائشة بنت أبي بكر”، كانت لا تكنّ له أيّ ذرّة من الودّ بل وتكرهه، أرسل معها عشرين امرأة من أشراف النّساء ومعها أخوها “محمّد بن أبي بكر” (631 – 658) وولديْه: “الحسن” وَ “الحسين”، والنّساء يرافقنها بلباس رجال ليهابهم المعتدون المحتملون، ويحرسن موكبها بعد مشاركتها في القتال وتأليب “الزّبير بن العوّام” (594 – 656) وَ “طلحة بن عبيد الله” (594 – 656) ضدّ “عليّ” في وقعة “الجمل”، وقد لامته على كشفها على الرّجال، وعند الوصول كشفت النّساء عن أنفسهنّ، فظهرت عفّة “عليّ” ومروءته ومحافظته على خدرها وشرفها، وقالت بعد وصولها: “والله لأنّ عليّ من الأخيار”. وفي الوقعة نفسها جاءته “أمّ طلحة” الّتي قتل أولادها، مقرّعة تدعو عليه بالويل والموت بتكرار عنيف ممّا أغضب أحد أتباعه، فقال “عليّ” للرّجل: “إنّا أُمِرنا أن نكفّ عن النّساء وهنّ مشركات، أفلا نكفّ عنهنّ وهنّ مسلمات”.
لقد كان ذا فروسيّة مصحوبة بنخوة الإنسان ومروءته، لذلك كثيرًا ما كان يوصي أتباعه من المقاتلين معه في الحروب: “ألّا يقتلوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا سترًا ولا يمدّوا يدًا إلى مال”. أمّا الملك “معاوية بن أبي سفيان” فقد رشى زوجة “الحسن بن عليّ” وأمدّها بالمال فدسّت له السّمّ وقتلته، أما الملك الثّاني “يزيد بن معاوية” فقد قتل الإمام “الحسين بن عليّ” ومثّل به وقطع رأسه ونكأه بالعود، فأيّ أخلاق لمسلمين هذه؟ وبأيّ قيم يؤمنون؟ والله كان كفّار “قريش” وسادتها الظّالمون على ظلمهم أكثر رأفة ورحمة من هؤلاء الكذّابين من ملوك “بني أميّة” باستثناء “عمر بن عبد العزيز” (681 – 720) الّذي قال: “أزهد النّاس في الدّنيا عليّ بن أبي طالب”، وكان يمنع الأمويّين من ذكره بسوء في محضره.
وكان رغم شجاعته الكبيرة يتحلّى بالابتعاد عن الظّلم والزّهو، فقد تحلّى “عليّ” بالكرم والإنصاف والرّأفة حتّى بالأعداء والخصوم، فقد منع جنوده جنود “معاوية” عن الماء بعد أن هزموهم فأسقاهم “عليّ” كي لا يموتوا عطشًا، حتّى عندما سبّوه ولعنوه من على المنابر لم يسمح لأتباعه أن يسبّوا ويلعنوا خصومه وأعداءه. لقد كان “عليّ” نموذجًا رائعًا للتّذمّم وحفظ اللّسان من الأذى ونموذجًا أروع للتّواضع والزّهد والتّقشّف، وكانت هذه الخصال فيه معوانًا على صلابة مواقفه وشجاعته وسدادة رأيه وشدّته في الحقّ. لقد كانت “الكوفة” عاصمته وفيها “القصر الأبيض” مقرًّا معدًّا له ولخلافته، فأبى أن ينزل فيه لتواضعه وزهده بالدّنيا ومظاهرها الفانية وتقشّفه الشّديد، وبنى خصاصه بالقرب من خصاص فقراء الكوفة وبسطائها، ولذلك صار نموذجًا للمظلومين وشعارًا ثوريًّا لكلّ مطالب بالحقّ والعدل والحرّيّة والمساواة، فصار اسمه محفّزًا للثّورة في وجهها الاجتماعيّ، فقد ربطت علاقة نفسيّة ووجدانيّة بين “عليّ” وبسطاء النّاس. شجاعة “عليّ” بكلّ وجوهها الجسديّة والرّوحيّة والإيمانيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة وطهارة ضميره ويده، مع ميله إلى التّحرّر الفكريّ والتّجديد والتّمرّد جعلت منه ذلك العظيم إنسانًا وشجاعًا، إنّ العظمة تجسّدت فيه، فقلّ نظيرها عند الآخرين حتّى من كبار الصّحابة الّذين تفانوْا لأجل الدّين الجديد وضحّوا بالغالي والزّهيد في خدمة أهدافه الجليلة وتعاليمه السّمحة وأخلاقه السّامية.
خطبة الجهاد:
لعلّ هذه الخطبة هي أكثر النّصوص وأغناها في تصوير شجاعة “عليّ” على المستوى الفرديّ كجنديّ مقاتل، وعلى مستوى القائد لجماعة ولجيش يقاتل من أجل الحقّ والدّين والدّفاع عن المبادئ. وقد ورد نصّ هذه الخطبة في كتاب “نهج البلاغة” تحت الرّقم 27، ولعلّ العنوان يعكس مضمونها الأساسيّ، وهو الدّعوة للجهاد، وفيها الكثير من الجوانب أبرزها الأحاسيس الإنسانيّة أثناء الصّراعات والحروب، ولكنّها تنطوي على أبعاد سياسيّة واجتماعيّة وعقائديّة وعسكريّة، تبيّن أنّ “عليّ” يدرك كمفكّر عسكريّ وقائد ميدانيّ ظروف المعارك وملابساتها والأسباب الكامنة وراء تحقيق النّصر أو وقوع الهزيمة، ففي هذه المعركة أغار جيش لِ “معاوية” على “الأنبار” وهي خاضعة لحكم “عليّ” بقيادة “سفيان بن عوف الغامديّ الأسديّ، وقد قتل قائد جيش “عليّ” وهو “حسّان البكريّ”، فدعا أهل “الكوفة” للجهاد ضدّ جيش “معاوية”، وقال في استهلالها: “أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرًّا وإِعْلَانًا، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَ اللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ،”. يؤمن “عليّ” بشرعيّة خلافته وبضرورة مبايعة “معاوية” له كوالٍ من الولاة، لكنّ معاوية أبى وناجز واتّهم “عليّ” بقتل “عثمان” وطالبه بدمه واستأثر في بلاد الشّام متّخذًا “دمشق” عاصمة له. وفي الظّرف الّذي يبيّن فيه “عليّ” فضل الجهاد وضرورته يرى بأمّ عينه تخاذل الكوفيّين عن نصرته، وبعاطفة جليّة ووجدان باكٍ، وبلسان يترجم قلب قائد شجاع وعظيم، ولكن تخالجه أحاسيس الخذلان والتّقاعس عن نصرة الحقّ، يخاطبهم محاولًا التّأثير لرفع معنويّاتهم الهابطة وتحريك عواطفهم الباردة، وجّه هذه الصّورة بألم: “ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعَاثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ”. ومع هذا التّعبير والتّصوير الّذي يثير المشاعر ويبعث الحرارة في النّفوس، ظلّ القوم على تخاذلهم، حتّى بيّن “عليّ” بنظرة ثاقبة إلى المستقبل القاتم الّذي ينتظرهم، مبيّنًا شعوره باليأس المؤلم الّذي يدمي القلوب. “فَيَا عَجَبًا، عَجَبًا واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، ويَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحًا لَكُمْ وتَرَحًا، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضًا يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَوْنَ”. لم تجدِ كلّ هذا الفصاحة والبلاغة وحسن التّعبير والقدرة على التّوصيف من إذكاء الحميّة والرّوح الحماسيّة في نفوسهم، وقد أحسن “عليّ” تصوير تخاذلهم المريب وحججهم الواهية والتّخاذل عن القتال رغم أنّهم دعاة حقّ ويقاتلون دفاعًا عن أوطانهم وعن ممتلكاتهم وأعراضهم وذممهم، والأقسى عند “عليّ” قبولهم بالذّلّ والهوان، إذ يُغار عليهم وتُغزى بلادهم وتحتلّ أوطانهم ويعتدى على الدّين بمعصية الله، ويتواكلون ولا يتحرّكون ويقصرّون في الذّود عن حقّهم وهم المستهدفون، وكذلك يصل بهم الأمر حتّى إبداء الذّرائع ليبرّروا تخاذلهم المهين. فيقول “عليّ” بإحساس القائد الخائف على المصير: “فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ”، وهذه مجرّد ذرائع، أمّا الحقيقة فهي هذه كما لخّصها القائد الشّجاع والمخذول: “كُلُّ هَذَا فِرَارًا مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ”. ومن ثمّ ولشدّة تعجّبه من تواكلهم وتقاعسهم ولعظمة رغبته في المضيّ للدّفاع عن الحقّ والدّين وضرورة قهر معصية الله بالقتال والجهاد ينهي “علي” خطبته تلك بالهجوم عليهم بشكل كاسح وبذمّهم بشكل لاذع وكلام جارح يكاد يكون أقرب إلى السّبّ واللّعن فيقول: “يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللهِ جَرَّتْ نَدَمًا، وأَعْقَبَتْ سَدَمًا، قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ”. ولعلّ أصعب ما لاقى “عليّ” وهو الفارس الشّجاع والجنديّ والقائد العسكريّ صاحب الدّراية هو ما شاع عليه نتيجة لهذا التّخاذل والقبول بالمذلّة، هو ما قاله: “حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، لِلَّهِ أَبُوهُمْ؛ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسًا، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَامًا مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ”.
الخليفة المظلوم:
عندما أوصى “عمر” قبل أن يموت باختيار أحد المستخلفين السّتّة كان يدرك أنّ الأمر سائر لأحد اثنيّن: “عثمان” أو “عليّ”، وله في ذلك مقال: “ما أظنّ إلّا أن يليَ أحد هذيْن الرّجليْن: عليّ وعثمان، فإنّ عثمان رجل فيه لين، وإنْ ولي عليّ ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على الطّريق”. وتولّى “عثمان” بعد “عمر” لمدّة اثنتيْ عشرة سنة، امتازت بالضّعف وبالابتعاد عن المنهج العمريّ في الحكم، وخاصّة في أواخر خلافته، وكان ما كان من اضطرابات وثورات اجتماعيّة أدّت إلى مقتله، فتولّى “عليّ” الخلافة لمدّة خمس سنوات (656 – 661) امتازت هي الأخرى بعدم الاستقرار، رغم أنّ المنهج الّذي سار عليه “عمر” في الحكم والسّير على طريق الشّورى والدّيمقراطيّة والعدالة وكرامة الإنسان والتّحرّر من القيود والتزام التّقشّف والزّهد بالدّنيا ومباهجها ومادّيّتها وأباطيلها كان دأب “عليّ”، وهو الوحيد الّذي يؤمن به ويستعدّ أن يسير على هديه عن قناعة تامّة. فقد كان يؤمن بالاجتهاد والانفتاح الفكريّ الخلّاق ويعرض عن التّقليد الجامد والأعمى، وذلك كلّه مشوب بنزوع للتّصوّف والتّفقّه والتّفكّر في أمور الدّين والحياة.
وقد أوصى “عليّ” ابنه “الحسن” أن يأخذ ويستفيد من الآباء الأوّلين والصّالحين السّابقين، لكن بما يتلاءم وينسجم مع النّفس، ما يعني عدم أخذ الأمور بعمًى وتقليد بل بتفهّم وصفاء قلب واقتناع ذهن. لقد كان إسلام “عليّ” من النّاحية الدّينيّة إسلام المسلم المطبوع على العقل، فهو يبتكر دينه باعتماده على ما أنزل الله من وحي البصيرة الثّاقبة، إنّه إسلام الحكيم المجتهد الّذي أدرك بعمق الفكر ودقّة النّظر للمفاهيم الدّينيّة الّتي أنزلت وسبقت، ولكن بعد تمحيص عقلانيّ، علميّ ودقيق. وعلى هذه الأسس العقليّة والدّينيّة أراد “عليّ” أن يحكم، لو تسنّى له ذلك أو لو استجابت له الظّروف والتّقلّبات والمحاور كما كانت استجابت لِ “عمر” من قبل. لم يكن “معاوية” الانتهازيّ الّذي انتهز الفرصة المواتية بعد مقتل “عثمان”، لم يكن بأذكى ولا أشجع من “عليّ”، وكان يدرك ذلك فقال: “والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهيتي للغدر لكنت من أدهى النّاس”. لقد كان الفرق بين “عليّ” و”معاوية” كالفرق بين الطّهارة والرّجس، أو بين جدول عذب رقراق ينساب لينفع النّاس وبين مستنقع آسن لا يعيش عليه إلّا البعوض والملاريا والحشرات الضّارة والأثرياء. فهل يميل النّاس وبخاصّة الانتهازيّين والأغنياء وذوو الثّروات إلى طهارة الجداول الرّوحانيّة أم إلى رجس المستنقعات الدّنيويّة! لقد رغب “عليّ” أن يكون رمزًا للطّهارة ويحكم بها ما استطاع، وحكم “معاوية” وكان رمزًا للرّجس والمال والدّنيا فمالت له الخاصّة المستفيدة من الدّنيا كما أراد ومالوا عن “عليّ”. ولذلك عندما سأل “عمر” كلًّا من “عثمان” وَ “عليّ “هل ستحكم بكتاب الله وسنّة رسوله ونهج الشّيخيْن”؟ أجاب “عثمان” بتسرّع وبلا تروٍّ وبلا نظر أو بصيرة وبلا استقلاليّة تفكير: “نعم”! أمّا “عليّ” ذو الفكر المتفتّح والمستقلّ وصاحب البصيرة والرّؤية الثّاقبة فقد أجاب: “على قدر استطاعتي”. وكانت فترة حكم “عثمان” الطّويلة واقعًا مريرًا وانكسارًا حادًّا في مسار الحكم والخلافة وغرقًا كبيرًا وتراجعًا عن الثّوابت الثّوريّة للإسلام. أمّا فترة حكم “عليّ” فقد كانت احتمالًا وإمكانيّة فقط لانتصار مبادئ الإسلام الثّوريّ المنفتح الّذي بدأه النّبيّ ورسّخه “عمر”، على العدالة والدّيمقراطيّة والإنسانيّة، ولكنّ سوء الظّروف السّياسيّة وانقلاب الموازين الاجتماعيّة واختلال القيم الأخلاقيّة ومعاييرها وطغيان المال ومفاسد الدّنيا أفسدت ذلك الاحتمال، ولم تتحوّل الإمكانيّة إلى الواقع المرغوب فيه، فهُزمت الثّورة والخلافة الرّاشديّة وانتصرت الثّورة المضادّة والملكيّة الضّلاليّة.
سياسة عليّ بين الفقراء والأغنياء:
كان الغنى النّقيض السّافر لفكر “عليّ” الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والمعيشيّ، وقد تزامنت فترة حكمه مع علوّ مكانة المال والاستغلال وعودة الأثرياء ليستبدّوا بعد أن تراكمت ثرواتهم، من الحلال قليلها ومن الحرام كثيرها، وكان معظم هؤلاء الأثرياء من الصّحابة الأوائل الّذين جمعوا الأموال الطّائلة أثناء خلافة “عثمان” الغنيّ هو الآخر. ولذلك كان من الصّعب على “عليّ” كخليفة حاكم يروم العدالة والمساواة معاداة هؤلاء الصّحابة ومعظمهم من المبشّرين بالجنة: “عبد الرّحمن بن عوف” وَ “الزبير بن العوّام” وَ “طلحة بن عبيد الله” وَ “سعد بن أبي وقّاص” (595 – 674) وآخرين مثلهم، وكان من الصّعب عليه أيضًا القبول بشرعيّة ثرواتهم الفاحشة، وهو الّذي قال: “ما اغتنى غنيّ إلّا بفقر فقير”، والقائل: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”، ومن هذا التّقاطب الكبير بين الغنى والفقر أو بين قلّة الأغنياء وكثرة ثرواتهم وكثرة الفقراء وقلّة مواردهم تقوم الثّورات السّياسيّة والاجتماعيّة. لقد نظر “عليّ” إلى الفقر كآفة اجتماعيّة وواقع يودي بالإنسان إلى أحد اتّجاهيْن: إمّا إلى التّسوّل كسلوك اضطراريّ لسدّ الحاجة والعوَز، ممّا يؤدّي به إلى الانحراف الاجتماعيّ فيزيد في غروب القيم الإيجابيّة وازدياد النّفاق والفساد والسّعي لكسب المال بطرق غير شرعيّة، ما يسبّب في هذا الإنسان ويولّد فيه السّكوت عن الظّلم. أمّا الاتّجاه الثّاني فهو الثّورة على السّلطة الحاكمة بكونها المسؤولة عن الفقر والمسبّب له، ففي ظلالها ينمو الأغنياء المستأثرون بالمال والثّروات ويتنامى الفقر واليأس والميل إلى الثّورة لقلب النّظام واستبداله بنظام جديد ينصف الفقراء ويحقّق حقوقهم بالحياة الكريمة والعدالة الاجتماعيّة السّويّة، وهذه الأوضاع الثّوريّة هي الّتي لا يطيقها الأغنياء. لقد عُرف عن “عليّ” لقب “نصير الفقراء” خاصّة وأنّ الحديث النّبويّ قرن الفقر بالكفر “اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر”، أو “كاد الفقر أن يكون كفرًا”. طبعًا بفعل مسبّبه وليس بواقع أصحابه.
لذلك يميل الأغنياء إلى حبّ الاستقرار ليس لذاته بل لأنّ الاستقرار الاجتماعيّ والسّياسي معوانًا لهم في الحفاظ على ثرواتهم وسير أمورهم ومصالحهم بانتظام، ولذلك تراهم يريدون استمرار الأوضاع السّائدة، فيؤيّدون نظام الحكم القائم الّذي يضمن لهم بقاء ثرواتهم وزيادتها ومصالحهم وأطماعهم، ولذلك أخشى ما يخشوْن الثّورة، ثورة الفقراء والمحرومين والعبيد، وكان الفقراء والبسطاء والمستضعفون يرفضون هذا الغبن والظّلم وتعاسة الحياة، خاصّة بعد أن فتحت الثّورة الإسلاميّة عيونهم فرأوا صعوبة الظّروف والغنى والفحش وفتحت قلوبهم فأحسّوا بالظّلم على جلودهم، وفتحت عقولهم فأدركوا الأهداف الّتي باتوا يسعوْن لتحقيقها برفض الواقع الأليم والعمل والكفاح من أجل واقع سعيد ومشرق بالحرّيّة والعدل والكرامة. هؤلاء الفقراء والعبيد هم الّذين سعى الإسلام بقائده الأوّل “محمّد” ومؤسّس دولته “عمر” وبأعظم زهّاده وأشجع قادته “عليّ” لإنصافهم وبتعويضهم عن تضحياتهم العظيمة. هؤلاء هم الّذين يكرههم الأغنياء على مدى التّاريخ لأنّهم يزعزعون الأرض تحت أقدام مصالحهم ويزلزلون أركان نظام الحكم الظّالم، هؤلاء الفقراء كان ممثّلهم “عليّ”، وأنّى له أن يقبل ويقرّ للأغنياء تلك الثّروات الفاحشة، وقد أيقن هؤلاء الأغنياء أنّ “عليّ” سوف يحاسبهم على هذه الثّروات، وهو ذلك القانون العمريّ “من أين لك هذا”؟ ومن هذا الباب كثيرًا ما نصح “عليّ” “عثمان” بإقصاء بطانته الانتهازيّة تلك وتغيير سياسته الّتي مالت إلى المال وأصحابه وحجبت عنه قلوب عامّة النّاس، ومع ذلك ومع كلّ ذلك النّصح الصّادق والسّديد، عندما دعا “عثمان” مقرّبيه من “بني أميّة” للتّشاور في أمر الفتنة لمحاولة إصلاح الوضع، لم يدعُ “عليّ” وهو خير النّاصحين، ودعا رؤوس الفتنة والمؤلّبين عليها، وأبرزهم مستشاره الأوّل “مروان بن الحكم” و”معاوية بن أبي سفيان” و”عمرو بن العاصّ” و”عبد الله بن أبي سرح” (23 ق. ه – 656م) وهم أشدّ النّاس مقتًا عند المهاجرين والأنصار، ويكفي أن نعرف أنّ “مروان بن الحكم” مستشار “عثمان” المقرّب هو نفسه الّذي كان يؤلّب ويحرّض ضدّ خليفته.
لقد كان “عليّ” في مفارقة كبرى قبل مقتل “عثمان”، فكأنّه مسؤول أمام الثّوّار عن الخلافة ونظامها وعن الخليفة الّذي ولّاه المسلمون وبايعوه، وفي الوقت ذاته كأنّه مسؤول عن الثّوّار وحقوقهم ومطالبهم أمام النّظام الحاكم والخليفة الّذي بسبب سياسته الّتي ميّزت الأغنياء ورأس المال، ولذلك ثاروا على ذلك الظّلم والإجحاف. رفض “عليّ” طلب الثّوّار بتنحية “عثمان” ودافع عنه بشجاعة كبيرة وضرب ولديْه لأنّهما لم يحسنا الدّفاع عنه، ومع ذلك اتّهم ظلمًا بقتله. ومع ذلك وبعد مقتل الخليفة وتولّي “عليّ” بعده رفض الأغنياء: “طلحة” وَ “الزبير” مبايعته، وحرّضوا ضدّه مع “عائشة”، وكانت وقعة “الجمل” سنة (656) في أوّل خلافة “عليّ”.
لقد بنى “عليّ” سياسته على استعادة قوّة الخلافة الدّينيّة، والدّين عنده ووفقًا لرؤيته هو جوهر عميق في دلالاته المعنويّة ومثله الأخلاقيّة وقيمه العمليّة الّتي تنفع النّاس وبخاصّة البسطاء والفقراء، وليس الدّين عنده أشكالًا وحركاتٍ ظاهرةً، لذلك كان في صلب تفكيره ومنهجه كحاكم أن يقيم نصوص الشّرائع والسّنن بتطبيقها بالعدل والمساواة وإنصاف النّاس وإغاثة الفقراء على أرض الواقع، لا لتبقى شعارات برّاقة جوفاء، ولذلك رأى أن لا سبيل للنّجاح بذلك إلّا بالفكر الثّوريّ وبواقع عزل الولاة الأغنياء من مناصبهم المؤثّرة لأنّهم اكتنزوا الثّروات الطّائلة وتمرّغوا بالمال الفاحش وانغمسوا بأمور الدّنيا وفواحشها جاعلين الدّين الكاذب لحافًا يلتحفونه والتّقوى الزّائفة غطاء يتسترون به رئاء وكذبًا وبهتانًا، ولذلك غضب أولو النّعمة والثّروات على “عليّ”، إذ لم يولِّ “طلحة” ولا “الزّبير” وأراد إعادة العمل بخطّة “عمر” بعدم السّماح للصّحابة بمغادرة “المدينة” العاصمة، وكان لمعاداة “قريش” له أن نقل عاصمته إلى “الكوفة”، فوقف الفقراء معه ووقف الأغنياء ضدّه، وفي هذا التّوجه الطّبقيّ نحو الفقراء تكمن صورة أخرى من صور عظمة “عليّ”.
انتصر “عليّ” على خصومه من الأغنياء في وقعة “الجمل”، ولكنّ الظّالمين والأغنياء وقوى الثّورة المضادّة لا ينفكّون عن الحرب من أجل مصالحهم وامتيازاتهم في المناصب الحاكمة وفي التّسلّط على مفاصل الدّولة، فكانت بعد سنة واحدة من وقعة “الجمل” معركة “صفّين” سنة (657) ضدّ الخصوم من “بني أميّة” وعلى رأسهم “معاوية” الّذي رفض مبايعة “عليّ” متّهمًا إيّاه بالتّحريض على “عثمان” وقتله، وليس هذا الاتّهام إلّا محض افتراء، كي يتمكّن “معاوية” كزعيم للثّورة المضادّة من استرداد الحكم له ولبني “أميّة” ومؤيّديهم من الأغنياء المنتفعين من التّزلّف للسّلطة الحاكمة الّتي تضمن مصالحهم المادّيّة وزيادة ثرواتهم الفاحشة.
وفي “التّحكيم” بعد انتصار “عليّ” في “صفّين” عسكريًا انتصرت المؤامرة بالخداع، والحقيقة أنّ الخلاف بين اتّجاه “عليّ” واتّجاه “معاوية” ليس مجرّد خلاف بين رجليْ دولة وليس بين توجّهيْن لنظاميْ حكم طمعًا بالاستئثار، بل هو خلاف بين اتّجاهيْن متناقضيْن، يحكمهما الصّراع بين المستغَلّين (بفتح الغين) والمستغِلّين (بكسر الغين) اجتماعيًّا طبقيًّا وسياسيًّا اقتصاديًّا وثقافيًّا حضاريًّا على منهج الحكم والمصالح ووسائل الإنتاج وثروات الأمّة الجماعيّة والثّروات الفرديّة، ومن المفروض أن يخدم هذا الحكم اثنيْن: أحدهما يتمرّد ويثور على مجرّد الإحساس بالظّلم ويرفض تراكم الثّروات والاستعباد واستغلال البشر بالنّفوذ والمال، والثّاني يريد استقرار الأوضاع بكافّة جوانبها للبقاء في السّلطة والتّحكّم بكلّ مفاصل الدّولة السّياسيّة والاجتماعيّة وبخاصّة الاقتصاديّة للحفاظ على ثروات طبقة الأغنياء ومصالحها. كان “عليّ” نموذج الطّهارة السّياسيّة والدّينيّة الّتي تمثّل مصالح السّواد الأعظم من النّاس والعامّة منهم، بعكس مُلك “معاوية” الدّنيويّ المادّيّ الّذي يمثّل مصالح الأقليّة من خاصّة الأغنياء. كان الخلاف بين خلافة “عليّ” بكلّ طهارتها ونقائها ومُلك “معاوية” بكلّ دنسه وموبقاته حدّ المجازر ونشر الرّعب، وقد انتصر لطغيان المصالح المادّيّة وفحش المال المُلك على الخلافة، تأكيدًا لقول النّبيّ: “الخلافة ثلاثون عامًا ثمّ يكون من بعد ذلك المُلك”. وكان “عليّ” آخر الخلفاء قاطبة في التّاريخ الإسلاميّ والعربيّ، وكان “معاوية” أوّل الملوك وابنه “يزيد” أوّل وليّ عهد في التّاريخ الإسلاميّ والعربيّ، وكانت تلك المملكة بداية السّقوط، وما زال الملوك وأولياء العهد يتوالون حتّى يومنا هذا في ممالكنا الإسلاميّة العربيّة المتفتّتة والمتشرذمة والخائنة واحدًا إثر واحد حذوك النّعل بالنّعل.
عليّ رجل إدارة:
وعلى أساس هذا التّقاطب بين الفريقين: فريق أنصار الثّورة وضرورة الحفاظ على إنجازاتها ومكتسباتها، وهو الفريق الّذي يتزعّمه “عليّ”، ومن قبله “عمر” وفريق أنصار الثّورة المضادّة الأغنياء الّذين أرادوا تسلّم سلطة الدّولة وإدارتها بالاعتماد على ثرواتهم المتراكمة واستعباد النّاس من جديد بعد القضاء على ثورة الفقراء، وكان هذا الفريق بقيادة “معاوية”. منذ خلافة “عمر” اتّضحت معالم الإدارة في الدّولة الإسلاميّة ومسؤوليّات كلّ موظّف ومهامّه ومجال إدارته، من الخليفة نفسه وحتّى أصغر الموظّفين، واتّضحت الأسس والقوانين والمعايير الّتي قامت عليها هذه الإدارة، وكان أبرز ما في أُسسها اعتبار الإنسان في الدّولة صاحب المقام الأوّل ومحلّ الرّعاية الأهمّ، ولذلك يجب العمل على خدمته بإنسانيّة ونزاهة وبدافع من المسؤوليّة الدّينيّة والأخلاقيّة والمهنيّة، فالإداريّ خادم والمواطن مخدوم، وكلاهما إنسان بالأساس، وقد ترسّخ هذا الاتّجاه الأساسيّ خلال خلافة “عمر”، وكان من الممكن له أن يستمرّ لو حكم “عليّ” بعده، لأنّه آمن بنهج “عمر” الإنسانيّ والشّامل والعامّ والمنفتح، ولكنّ فترة الانكسار الكبيرة والمؤثّرة سلبيًّا الّتي ألمّت خلال خلافة “عثمان” الطّويلة نسبيًّا، أدّت إلى تراجع هائل بعد تحوّل حادّ في الاتّجاهات والأسس، فتزعزعت الإدارة وعادت لتخدم الخاصّة وتنزع إلى الانغلاق والانحصار في فئة دون أخرى، وبإعطاء امتيازات في الحكم والنّفوذ والتّأثير وتراكم الثّروات والميل إلى الاستغلال والاستعباد عند “بني أميّة” الّذين انتمى لهم الخليفة الثّالث والضّعيف “عثمان”، وقد اسْتخلِف “عليّ” بعده، ولكنّ الظّروف السّياسيّة والخلافات بين معسكر الخليفة الشّرعيّ “عليّ” ومعسكر المارق على الخلافة الشّرعيّة “معاوية” الّذي استغلّ مقتل “عثمان” لمآرب استرداد الحكم لبني أميّة وانقلاب المفاهيم وتردّي القيم والابتعاد عن الدّين والدّولة بالمعنى الإنسانيّ ممّا جعل الأمور تسير نحن هاوية شاملة لكلّ الأسس والمعايير، ومنها الأسس والمعايير الإداريّة، الأمر الّذي لم يمكّن “عليّ” من الإمساك بشؤون الدّولة المضطربة وتطبيق ما يؤمن به من إدارة سليمة ونزيهة تسير وفقًا للمفاهيم الإنسانيّة السّامية والطّهارة بكلّ تجلّياتها وفي جميع مجالات الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة، خدمة للإنسان في الدّولة سواء كان مسلمًا أو معاهدًا.
كان “عليّ” على احترامه للثّوابت الدّينيّة الأصيلة والسّمحة يميل فكريًّا إلى الانفتاح ويؤثر الاجتهاد على التّقليد، ولذلك تراه وافق الخلفاء الّذين سبقوه في أساليب الإدارة وخالفهم في أساليب أخرى معتمدًا على رؤية خاصّة أملاها عليه فكره الطّبقيّ الخلّاق والمنفتح وكراهيّته للمال والدّنيا ومقته لتراكم الثّروات لأنّها تشكّل دافعًا قويًّا لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وانهدام العدالة الّتي جاء بها الإسلام لإنصاف الفقراء والمستضعفين والعبيد وغير المسلمين من أهل الذّمّة. ولذلك كان “عليّ” قريبًا من فكر “عمر” في الإدارة، بعيدًا عن مسار “عثمان”، أمّا في زمن النّبيّ وفي خلافة “أبو بكر” فلمّا تكن معالم أساليب الإدارة وأسسها والأدوار والمؤسّسات والمهمّات والمراكز والوظائف الإداريّة أو الحكوميّة محدّدة وواضحة.
وقد بيّن “عليّ” هذه الأسس الإداريّة في رسائله ووصاياه إلى ولاته في الأمصار، وقد جُمع معظمها في كتاب “نهج البلاغة”، وأبرزها رسالته ووصاياه لابنه “الحسن” والّتي نشرها الكاتب “عبّاس محمود العقّاد” في كتاب له بعنوان “عبقريّة الإمام”، حيث أظهر أنّ “عليّ” مسلم لا يعتمد التّقليد، بل يميل إلى الاجتهاد الفكريّ ويبتكر رؤيته بالاعتماد على بصيرة ثاقبة كحكيم مجتهد عاش الإسلام منذ بعثته الأولى وتربّى في حجر النّبيّ فنما على نقاء الأخلاق والقيم الدّينيّة وسار على نهج من السّلوكيّات السّويّة والرّغبة في تحصيل كلّ مجالات العلوم في عصره، وكان له ذلك فنال صفة “الإمام العالم” باستحقاق، وبتقدير خاصّ ومميّز من النّبيّ فسمّاه “بوّابة العلم” ومن قائد فذّ وخليفة عارف وحاكم عادل مثل “عمر”. ولعلّ أبرز وصاياه إلى ولاته تلك الّتي قال فيها: “ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ”.
وأنا أفكّر في الكتابة عن هذا الجانب من شخصيّة “عليّ” الحاكم وحسن رؤيته الإداريّة أمدّتني الكاتبة الصّديقة “روز اليوسف شعبان” مشكورة بكتاب مفيد، يتناول هذا الموضوع بالذّات بعنوان “خصائص الإدارة عند الإمام عليّ بن أبي طالب” للباحث العراقيّ “محسن باقر محمّد صالح القزوينيّ”، ففتح أمامي هذا الكتاب الكثير من المصادر الّتي تناولت هذا الموضوع.
إنّ أبرز مزايا الإدارة بنظر “عليّ” هي الصّفة الإنسانيّة، فعمّال الإدارة على كافّة مناصبهم ووظائفهم ومراكزهم هم أناس، أولو أحاسيس وميول يخدمون أناسًا في مجتمع إسلاميّ يقوم على العدالة وعلى تقدير الإنسان ومكانته بشكل عامّ وشامل، وليس فئة أو مجموعة بتوفير الامتيازات والتّسهيلات لها على حسب الدّولة والمجتمع وعامّة النّاس البسطاء، والموظّفون ليسوا آلات جامدة بلا مشاعر، ولذلك كان الأوْلى بهم التّميّز بالمزايا الإنسانيّة وهم يؤدّون مهامّهم، لأنّهم ينتمون إلى مؤسّسة إداريّة هي في الحقيقة صورة مصغّرة عن مجتمع إنسانيّ، يحتوي على كلّ المقوّمات الحياتيّة والعلاقات الاجتماعيّة المتشابكة، وهذه المؤسّسة جهاز منظّم يقوم على أخلاق وقيم منبثقة من الإسلام كدين يسعي من أجل تحقيق أهداف سامية وعظيمة، أبرزها العدالة وخدمة الإنسان بعدالة ومساواة. ولكي يستطيع هذا الجهاز أن يؤدّي هذه المهامّ الجسام ويحقّق الأهداف السّامية لا بدّ للعاملين فيه من التّمتّع بالمهنيّة العالية والدّراية الواسعة بشؤون الدّولة والمجتمع، ليتمكّنوا من معرفة مواطن القوّة والضّعف في الدّولة، ولتحريك القدرات لاستنباط الموارد بالاعتماد على العقل، ولذلك سنجد للإمام “عليّ” مئات الأقوال حول أفضليّة العقل، فالعقل أساس التّنظيم ومصدر الأفكار والنّظريّات ومنبع الخطط والبرامج، فلن يتيسّر تطبيق عمليّ بلا هذه الأسس النّظريّة العقليّة الخلّاقة. ولعلّ في رسالته إلى واليه في مصر، “مالك الأشتر” (585 – 658) حول إدارة شؤون الزّراعة ما يبيّن الجانب العقلانيّ بين الأسباب والنّتائج، أو بين أهمّيّة استصلاح الأرض لتزيد المحاصيل والإنتاج، فقد أوصاه: “وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لأَنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً”.
وإلى جانب ذلك لا بدّ وفق نظرته الإداريّة من تحقيق انسجام بين الحقوق والواجبات وفق قوانين اتّفق عليها بالشّورى وحقّ المعارضة بين السّلطة والرّعيّة، إذ لا بدّ أيضًا من توضيح العلاقات بين الوالي والرّعيّة وتبيان حقّ الوالي على الرّعيّة وحقّ الرّعيّة على الوالي، كي تنمو شبكة علاقات إنسانيّة واجتماعيّة متعادلة ومتساوية، لأنّ النّظام الإداريّ عامّة وبالأساس يجب أن يقوم على مصالح جماعيّة لمجتمع متكامل ومنسجم وليس على مصالح فئويّة وفرديّة تستدعي التّنافر الاجتماعيّ وتهدّد بناءه وتضع الانسجام في شبكة العلاقات الاجتماعيّة السّليمة، وعليه من الضّروريّ أن تعمل الإدارة على انسجام مصالح الفرد وأهدافه مع مصالح الأمّة وأهدافها. ولا بدّ للإداريّ المسؤول أيًّا كانت رتبته كي يحافظ على مجتمعه الإسلاميّ من أن يكون أمينًا على مصالح الأمّة، لأنّه سيحاسَب أمام النّاس في الحياة وأمام الله بعد الموت. وقد بيّن “عليّ” شروط هذا المسؤول الّذي ينبغي أن يكون قدوة: “مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ”.
فكلّ ما سبق من نظريّات وأفكار وبرامج وتطبيق لا ينفع برأي الإمام “عليّ” بلا استرخاص للدّنيا ومادّيّتها وثرواتها وأطماعها وشهواتها، لذلك كان يرشد المسؤولين بضرورة ما أوصى وقال: “خذ من قليل الدّنيا ما يكفيك”، وكذلك قال وهو القدوة في التّخويف من معصية الله: “والله لو أُعطيت الأقاليم السّبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لبّ شعير ما فعلت”. وكان بغيته من إدارة الدّولة إنصاف الفقراء ليحسّوا بالانتماء لمجتمعهم الّذي يكفل لهم الحرّيّة والعدالة والحياة الكريمة، ولا تحرمهم الدّولة من ذلك فينمو فيهم الإحساس بالاغتراب والنّفور واضطراب النّفوس، فقال “عليّ” في ذلك: “الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة”. ولذلك صبّ اهتمامه في السّياسة والحكم وإدارة البلاد على المشورة بين الحاكم والمحكوم ومحاربة الفساد الإداريّ والماليّ وتحقيق مصالح النّاس وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة.
هذا هو “علي” العظيم وهذه هي رؤيته العظيمة الشّاملة للمجتمع الإسلاميّ السّليم والمبنيّ على نظرة إنسانيّة وإسلاميّة منفتحة وعلى عقليّة فكريّة خلّاقة ودراسة واقعيّة جدليّة للعلاقات المتشابكة بين النّاس ومصالحهم المتعدّدة، نظرة تقوم على الأخلاق والقيم الإسلاميّة وعلى إشباع حاجات الفرد والمجتمع الاقتصاديّة بانسجام مصالحهما، مع مراعاة كبيرة للجوانب الإنسانيّة والرّوحيّة على أسس من التّعدّديّة والتّسامح والعدالة وجهاد النّفس، فقال: “إنّ المجاهدين باعوا أرواحهم واشتروا الجنّة”.
عليّ مفكّر تربويّ:
ثمّة من يعتقد من الباحثين المعاصرين أنّ أسس علم التّربية قد بدأت منذ العصر الحديث، فكانت التّجارب والمقاييس والنّظريّات، وليس الأمر صحيحًا! فقد بدأ هذ العلم ينمو منذ العصور القديمة، قبل المسيحيّة والإسلام، وبخاصّة في الثّقافة اليونانيّة، ولذلك لا أدّعي أنّ “عليّ” أوّل من وضع أسسًا تربويّة، ولكنّ له نظريّات ومعايير متكاملة، تجعله صاحب رؤية تربويّة ناضجة نافعة لعصرنا كذلك، لأنّها ذات وشائج متبادلة مع جوانب وأحوال حياتيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة أخرى ممتدّة على مدًى زمانيّ مع مراحل عمر الإنسان، آخذة بالحسبان التّغيّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة والأخلاقيّة مع مسار الحياة المتطوّر وغير الثّابت تاريخيًّا وجدليًّا، وما يؤكّد هذه الرّؤى دعوته لمحو الأميّة كمرض اجتماعيّ ولإقامة نظام تعليم يرافق التّنشئة التّربويّة، يحارب الجهل والأميّة وتطوير المعرفة ومجالسة العلماء، حيث يقول في رسالة لأحد عمّاله: “وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ”.
وهنالك مؤلّفات كثيرة تناولت هذا الجانب من جوانب شخصيّة “عليّ” العديدة، والمعتمدة على مقولات “عليّ”، وبخاصّة في الكتاب الشّهير الّذي جمع فيه “الشّريف الرّضيّ” (969 – 1015) خطب “عليّ” وأقواله، والّتي جعلته يتربّع على عرش المعرفة والدّراية النّظريّة والعمليّة في كثير من علوم عصره، لذا استحقّ صفة الإمام العالم، وهذا يشكّل بعدًا إضافيًّا ومكوّنًا هامًّا في عظمة “عليّ”. ومن أبرز هذه المؤلّفات كتاب للباحث “سلام مكّي خضيّر الطّائيّ” بعنوان “المعايير التّربويّة في فكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب”، وفيه يتحدّث عن حسن التّربية كنموذج في فكر الإمام، وفيه يظهر “عليّ” كفيلسوف وصاحب نظريّات تربويّة استقى من ينابيعها علماء التّربية في العصر الحديث، ومنها أسّسوا نظريّاتهم العلميّة. ولكنّي رغم كلّ هذا الفضل الكبير للإمام العالم “عليّ” في هذا المجال التّربويّ لا أدّعي أنّه كان الأوّل بل هناك من الأوّلين قبله من فلاسفة اليونان والرّومان الّذين سبقوه، وقد سبقه في وضع هذه الأسس اثنان على الأقلّ بالتّأكيد هما: السّيّد “المسيح” (1 – 33) والنّبيّ “محمّد” (570 – 632)
لا يهمّني من قال تلك المقولة “ربّوا أبناءكم على غير أخلاقكم، فإنّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم”، أهو أحد فيلسوفيْ اليونان: سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) أو أفلاطون؟ (427 ق.م – 347 ق.م) أم هو الإمام “عليّ” وهل قيلت دالّة على المعنى المقصود نفسه أم باختلافات في بعض الألفاظ وبعض الدّلالات، ومع أنّ كثيرين من الباحثين ينسبونها للإمام “عليّ”، ولا يهمّني إذا كانت أصيلة له وهذا مقام جليل أو إذا نقلها من الفلاسفة القدماء، وهذا يدلّ على سعة اطّلاع ثقافيّ وسعة صدر لرمز من رموز الإسلام الحنيف والسّمح الّذي يتقبّل ويستوعب ويهضم ما هو مفيد ونافع للإنسانيّة والإنسان، أينما كان وفي أيّ زمان ومكان، حتّى لو جاء من فلسفات قديمة، تعرّف أنّها وثنيّة أو بلا دين ولا تنبثق عن دين سماويّ كالمسيحيّة والإسلام. هذا هو الإسلام المنفتح على الحضارات يستمدّ ويستقي منها ما فيها من علوم ومعارف ويمدّها ويغذّيها بما في حضارته وثقافته من كنوز فكريّة وعلميّة ومعارف وأصول وخبرات.
لأنّ هذه المقولة تعتبر قاعدة من قواعد التّربية، ذات العلاقة مع التّعليم في الأسرة والمدارس، ففي الحقيقة “لا تعليم بلا تربية”، لأنّه بالتّعالق بينهما تمضي العمليّة التّربويّة في مسار سليم من أجل إعداد الأبناء كأجيال ناشئة وصاعدة لمواجهة المستقبل واحتمالاته ومتغيّراته، ولكنّ تلك الرّؤية الجدليّة في فكر “عليّ” التّربويّ لا تعني ترك الثّوابت التّربويّة الإسلاميّة القائمة، بل تدعو أيضًا إلى خلق الاستعداد لدى الأبناء وآبائهم ومعلّميهم للتطوّر وقبول الجديد وفقًا لظروف الزّمان والمكان والبيئات المتغيّرة والمناخات المختلفة، ولا شكّ في أنّ صاحب هذه الرّؤية يؤمن بإدراك فكريّ بقوانين ديالكتيك الحياة والمجتمع والطّبيعة، وهي نظرة جدليّة متقدّمة عُرف الإمام “عليّ” بها في هذا المجال التّربويّ بالذّات.
ولعلّ مصدر هذه المضامين التّربويّة سنجدها في أقوال “عليّ” في الكتاب الشّهير الّذي ينسب إليه، وقد سمّاه جامعه “الشّريف الرّضيّ” وهو فقيه من فقهاء الشّيعة، جمعه في القرن الرّابع الهجريّ، وقد اشتمل على 238 خطبة و79 رسالة ديوانيّة وإخوانيّة و489 قولًا، وفي مضامينها المواعظ والإرشادات ذات المواضيع المختلفة، وفيها الكثير من الحِكم والوصايا والآداب.
ولذلك قد نرى أنّ “عليّ” صاحب نظريّة تربويّة شاملة تبدأ التّعامل مع تنشئة الطّفل منذ ولادته وضرورة رعايته الجسديّة وتغذيته الروحيّة، “فحقّ الولد على الوالد أن يحسن اسْمه ويحسن أدبه ويعلّمه القرآن” هذه قاعدة تربويّة أساسيّة بنظر “عليّ”. ومرحلة الطّفولة مقرونة وذات علاقة وطيدة بتطوّر الطّفل الجسديّ والذّهنيّ مع المراحل العمريّة القادمة، فقد قال الإمام: “إنّما الغلام يثغر في سبع سنين ويحتلم في أربع عشرة ويستكمل طوله في أربع وعشرين ويستكمل عقله في ثمانية وعشرين، وما كان بعد ذلك فبالتجارب”. ولذلك حدّد الإمام مرحلة الطّفولة بالخامسة عشرة، مميّزًا إيّاها عن مرحلة البلوغ وبدايات الخبرة والتّجربة الحياتيّة الّتي يكتسبها الولد البالغ من التّعليم والأطر المحيطة به والحياة العامّة بكافّة جوانبها ومؤثّراتها الّتي يعيش فيها، ولذلك وصّى “عليّ” الآباء بقوله: “ولدك ريحانتك سبعًا وخادمك سبعًا ثمّ هو عدوّك أو صديقك”، فالآباء هم بحسن تربيتهم لأبنائهم أو بسوئها هم من يجعلون في النّهاية الأبناء منذ سنّ البلوغ أصدقاء أو أعداء، وذلك بمراعاة الحالة النّفسيّة والمعاملة بالرّفق واللّين، ومن ثمّ بالتّأديب الخلقيّ والتّعليم الدّينيّ لإكسابهم القيم مثل احترام الآخرين في المحيط العائليّ والمحيط الاجتماعيّ وأداء الواجبات الشّرعيّة، حتّى العقاب أشار إليه في مقولاته وآمن بمفهومه الإيجابيّ كوسيلة للتّربية الحسنة والتّعليم السّليم، وقد تطرّق في أحد أقواله إلى ضرب الأبناء كعقاب فقال: “وإذا بلغوا عشر سنين فاضْربْ ولا تجاوز ثلاثًا” لأنّ الإمام آمن بوجوب الابتعاد عن استخدام الضّرب كعقاب جسديّ حتّى سنّ العاشرة، وبعدها أشار بوجوب تحديده لأنّ الضّرب بالمفهوم الإيجابيّ ليس غاية بل هو وسيلة تهدف إلى التّأديب وتصحيح عوج أو ترشيد طريق. وبذلك يكون “عليّ” قد اكتشف العلاقة الوثيقة بين المرحلتيْن: الطّفولة والبلوغ، ومن ثمّ بالوصول إلى مرحلة الاكتمال العقليّ، بمعنى أنّ ما تزرعه من قيم تربويّة وأخلاق رشيدة في الطّفل في الصّغر يبقى معه وينشأ عليه في الكبر، في المراحل المتقدّمة، وهو الأساس النّظريّ التّربويّ الّذي يجمع عليه معظم علماء التّربية الحديثة، وبخاصّة الرّبط والانسجام بين البعديْن: الشّعوريّ والعقليّ في تربية الأبناء الّذي تحدّث عنه عليّ منذ القرن السّابع الميلاديّ، الموافق للقرن الاوّل الهجريّ.
عليّ وحقوق الإنسان:
مثّلت حقوق الإنسان في رؤية “عليّ” السّياسيّة والاجتماعيّة أساس العقيدة الإسلاميّة، وفي صلبها حرّيّة الإنسان الاساسيّة والمساواة بين البشر، وقد تجمّعت في “عليّ” الكثير من المناقب، أبرزها الشّجاعة والكرم والتّسامح والإنسانيّة والعلم، وقد قال فيه النّبيّ: “عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار”، ومع ذلك تعرّض لكثير من الظّلم ومحاولات التّزوير والتّشويه في شخصيّته ومسيرته التّاريخيّة العظيمة، والّتي ينطق كلّ موقف من مواقفها بالعظمة والمجد المنقطع النّظير. ولعلّ أهمّ سمة من سمات إيمانه بحقوق الإنسان هي اقتران هذا الإيمان بالشّفقة والعطف والزّهد والتّقشّف، فحقوق الإنسان بنظره ثابتة طبيعيّة، وليست مكتسبة من أحد، ولم يمنحها أحد لأحد، ولذلك فالمسّ بها هو ليس مسًّا في الفرد أو الآخر بل هو مسّ بالشّريعة ينطوي على اعتداء على حقوق الله، وهذا المسّ يطال الفطرة الإنسانيّة الّتي خلق الله عليها النّاس. ولأنّه تميّز بسعة علومه ومعارفه وثقافته وخبرته ودرايته وتجاربه من جهة، وببساطة عيش واسترخاص دنيا وميل وجدانيّ إلى الفقراء والمستضعفين والأقلّيّات، فقد بنى على ذلك الكثير من رؤاه الحياتيّة، لقد كان وزيرًا للنّبيّ كمصدر للمعرفة فسمّاه بوّابة مدينة العلم، وقال فيه: “عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى”، وكان يأكل الخبز والزّيت ويلبس لباس العبيد ويفترش الخيش ويجالس الفقراء، كان يفعل ذلك “كي يقتدي الفقير بفقري” كما كان يقول، وقال عنه “ضرار بن ضمرة”: (لم أجد تاريخًا لمولده ولا لموته، ولكن تجمع المصادر أنّه لم يعش طويلًا بعد موت الإمام عليّ سنة 661) “كان فينا كأحدنا”، وكان “ضرار” من أشدّ المخلصين لآل البيت وللإمام “عليّ”، عاش في فترة حكم “معاوية” وشهد حقده على “عليّ” وكيف كان يطلب من أئمّة الجوامع أن يطمسوا اسمه ويغيّبوا ذكره وتراثه ومسيرته وإنجازاته وأقواله من أحاديثهم وخطبهم، ومع ذلك بكى “معاوية” بعدما ألحّ على “ضرار” أن يصف الإمام “عليّ” في مجلسه فقال: “أمّا إذ لا بُدّ، فكان والله بعيد المدَى، شديد القوى، يقول فَصلا، ويَحكم عَدلا، يتفَجّرُ العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يَستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستَأنس باللّيل وظلمته. كان والله غزير الدّمعة كثير الفكرة، يُقَلِّب كَفّهُ ويُخاطِبُ نفسه، يُعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطّعام ما جَشُب”.
يعتبر “عليّ” أوّل واضع لوثيقة متكاملة لحقوق الإنسان منذ ما ينيف عن 14 قرنًا، هذه الوثيقة الّتي اجتمع عليها مئات المفكّرين من كلّ دول العالم في العصر الحديث. أمّا حقوق الإنسان الأساسيّة الّتي تحدّث عنها “عليّ” في رسائله ووصاياه وخطبه، وعلى سبيل الإيجاز فهي: حقّ الحياة وحقّ المساواة العادلة والحقوق السّياسيّة وحقّ حرّيّة الرّأي والتّعبير وحقّ المشاركة السّياسيّة وحقّ ضبط الحكّام وحقّ المعارضة السّياسيّة والحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة وحقوق المرأة وحقوق الأسرة وحقوق الطّفولة وحقّ التّعليم وحقّ العمل والتّملّك وحقّ الضّمان الاجتماعيّ وحقوق إنسانيّة، أبرزها حقّ الكرامة الإنسانيّة وحقّ التّقاضي وحقوق الإنسان في زمن الحرب. وهذ تلخيص مستمدّ من كتاب “عليّ بن أبي طاب وحقوق الإنسان” لمؤلّفه د. “حسن الزين” (1928 – 2016) وكتاب آخر يحمل العنوان نفسه تقريبًا لمؤلّفه د. “غسّان السّعد”. وفي كتاب بعنوان “عناصر التّفاوض بين عليّ بن أبي طالب وروجر فيشر” يعقد د. “صائب عريقات” (1955 – 2020) في دراسة مقارنة بين رؤية “عليّ” منذ 14 قرنًا ذات ال 15 بندًا وبين رؤية “روجر فيشر” (1922 -2012) في القرن ال 20 ذات ال 7 بنود، فيرى “عريقات” أنّ “عليّ” وَ “فيشر” يتساويان في سبع محاور تتعلّق بعناصر التّفاوض وحقوق الإنسان ويزيد “عليّ” عنه بخمس محاور. ولم تقتصر اهتمامات “عليّ” في هذا الشّأن بتسجيل هذه الحقوق نظريًّا، بل اهتمّ بأن تطبّق في المجتمع، عن طريق إيجاد الوسائل العمليّة لحماية هذه الحقوق، وبخاصّة حقوق الفرد أمام السّلطة، بضمان حقّه بالمعارضة والمساوة والحرّيّة والعلاقة مع غير المسلمين، باختصار حماية الحقوق من ظلم السّلطة ببناء الإدارة السّليمة وإقامة دولة المؤسّسات، للحدّ من صلاحيّات الحكّام بالرّقابة والمساءلة والمحاسبة والعقاب، وحماية الأقلّيّات الدّينيّة والعرقيّة، لقد أقام “عليّ” لو أردنا التّحدّث بمصطلحات العصر الحديث مرتكزًا لحياة ديمقراطيّة تقوم على التّعدّديّة السّياسيّة والثّقافيّة.
ولقد حاول البعض التّشكيك في صدق “عليّ” واقعيًّا وتشويه معتقده، في أنّه حارب معارضيه في كثير من الحروب، ولكنّ الحقيقة المعروفة عنه، أنّه لم يبدأ أحدًا ولا جماعة بقتال في أيّ من حروبه، لا في الجمل ولا في صفّين ولا في النّهروان، في كلّ الحالات فرضت عليه الحروب فكان هدفه الدّفاع عن النّفس ومنع الفتنة بين المسلمين وعن نقاء الإسلام كدين سمح وحنيف ومنفتح وإنسانيّ وفقًا للمفاهيم الفكريّة والرّؤى الإداريّة، والّتي يقف الإنسان فردًا ومجتمعًا ومصالحه في صميمها كما ذكرت في فصول سابقة. وعلى كلّ ما سبق في فضل “عليّ” شواهد تشهد، فقد تعامل بتسامح مع الّذين كفّروه وساوى بين المسلم والذّمّيّ مساواة تامّة ومنع عبادة الشّخص، فالقانون يساوي بين الحاكم والمحكوم، ولذلك رفض أن ينحني أمامه وفد من نصارى الأنبار تبجيلًا وإجلالًا له، جاءوا للتشاور معه في شؤونهم وأوضاعهم.
عليّ بين العرب وغير العرب:
في سنة (2002) وفي التّقرير السنويّ للهيئة الدّوليّة أطلق “كوفي عنان” (1938 – 2018) الأمين العامّ السّابع لهيئة الأمم المتّحدة لفترتين متتاليتيْن، من حوالي 10 سنوات (1997 – 2006) وهو سياسيّ أفريقيّ من غانا، أطلق لقب “حكيم الشّرق” على الخليفة العظيم “عليّ بن أبي طالب”، ورأى فيه شخصيّة مميّزة ورمزًا للعدالة الإنسانيّة والاجتماعيّة ونموذجًا لاحترام حقوق الإنسان. وضمن حديثه ذكر “عنان” قول “عليّ بن أبي طالب” لعامله مالك الأشتر فقال: “يا مالك إنّ النّاس إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق”، وفي تعليقه على هذه العبارة قال “عنان” عنها: “يجب أن تعلَّق على كلّ المنظّمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية”، وبعد أشهر اقترح “عنان” أن تكون هناك مداولة قانونيّة حول كتاب “عليّ” إلى “مالك الأشتر”، في اللّجنة القانونيّة في الأمم المتّحدة، بعد دراسات طويلة للكتاب، وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتّصويت، وصوّتت عليه الدّول بأنّه أحد مصادر التّشريع الدّوليّ. وقد أعلنت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة قرارها التّاريخي الّذي نصّ على ما يلي: “يعتبر خليفة المسلمين عليّ بن أبي طالب أعدل حاكم ظهر في تاريخ البشر”، وقد استندت هذه الخلاصة الأمميّة إلى وثائق من 160 صفحة، نشرت باللّغة الإنجليزيّة في معظم دول العالم.
إنّهما صنفان: “إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق”، ولعلّ هذه النّظرة الإنسانيّة الشّاملة والكامنة في قول “عليّ” تأتي تأكيدًا لمنهج الإسلام الإنسانيّ السّمح والحنيف، كما أراد له حامل دعوته ورسالته أن يكون، فقد قال: “الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أحبّهم إلى خلقه”، وتأتي كذلك داعمة لمقولة الخليفة “عمر”، مؤسّس الدّولة الحقيقيّ الّتي وجّهها لواليه على مصر “عمرو بن العاصّ” عندما استغل ابنه مكانة أبيه واعتدى على مواطن مصريّ قبطيّ مستضعف، فقال له: “يا ابْن العاص! متى استعبدتم النّاس؟ وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، وعلى نهج “عمر” الإنسانيّ والعادل والقويم كان عليه “عليّ” يرغب ويريد أن يمضي، وما كان لحاكم غير “عليّ” أن يقوم بهذا المقام أو ينهج هذا النّهج. ولنا في “عثمان” نموذج لتحطيم النّموذج الفذّ.
هذا هو الإسلام الحقيقيّ الأصيل، وليس إسلام ملوك الدّولة الأمويّة الظّالمة قديمًا، وهي الدّولة الّتي قامت على التّلفيق والتّزوير وعدم احترام العهود والاغتيالات وقطع الرّؤوس وسياسة “فرّق تسد” والاستئثار وتراكم الثّروات والابتعاد عن جوهر الدّين الأصيل. وليس إسلام “الإخوان المسلمين” والحركات الأصوليّة المتذيّلة والمتساوقة مع برامج الإمبرياليّة وخططها وهيمنها، هذه الحركات الّتي شوّهت أصالة الدّين وإنسانيّته بالتّقوقع والقتل والجري وراء الحكم على بحر من الدّماء والهدم ونهب الثّروات الوطنيّة وتدمير الأقطار القوميّة.
صنفان نعم، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ، بدأها “عليّ” بأخ في الدّين، قالها “عليّ” في زمن كثرت فيه الخلافات والاختلافات، وظهرت فيه الفتن وحملت السّيوف بوجهه، وأدخلته حروبًا مع أبناء جلدته من المسلمين، حاول أن يتفاداها، ولكنّها حصلت رغمًا عن كلّ محاولاته الإنسانيّة في إيقافها، فمقولته العظيمة هذه لم تظهر في زمن الإسلام الموحّد بل جاءت في زمن الإسلام ذي المذاهب والأفكار والطّوائف، ورغم ذلك يؤمن “عليّ بحقّ الاختلاف كحقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، فهو يسمّيهم رغم خلافهم معه واختلافهم الواضح لمنهجه وأفكاره ومعتقداته إخوة في الدّين، لأنّه نظرته الثّاقبة والشّاملة والعميقة هي نظرة الحكيم الّذي يرى العامّ دون الخاصّ، وهو يعطي لكلّ إنسان حقّه في الاختيار، حيث “لا إكراه في الدّين”، فلا خطاب طائفيّ محرّض، ولا عداء مسبق، ولا سمّ يتخلخل بين الكلمات. وفي الصّنف الثّاني اهتمّ بغير المسلمين، كلّهم على حدّ سواء، فهو ينظر لهم بشرًا أحرارًا، لهم كرامتهم، وحقّهم في العيش، ولهم أيضًا كما للمسلمين حقّ الاختيار، واضعًا بذرة الإنسانيّة في الأرض الجرداء، عسى أن تنمو لتظلّل المجتمع الإنسانيّ كلّه والحياة الإنسانية.
وقد تكلّم “عليّ” بكلام واضح، يشير فيه إلى المساواة في الحقوق بين “أهل الذّمّة” وبين المسلمين، يقول: “دماؤهم كدمائنا”، و”دم الذّمّيّ كدم المسلم حرام”. إنّ الواقع الّذي كان قائمًا عبر التّاريخ يظهر أنّهم كانوا يتمتّعون بامتيازات اقتصاديّة وغير اقتصاديّة، ويعترفون بأنّ عبارة “ذمّيّ” ترجمت إلى الفرنسية عبر العبارة كانت تعني صاحب الضّمير والشّرف، ولم يحمل المصطلح “أهل الذّمّة” أية إهانة لهم. حتّى مع من كفّروه تعامل وفقًا لمبدأ حقوق الإنسان في المعارضة الدّيمقراطيّة، فقد تعامل “عليّ” مع التّكفير بطريقة إنسانيّة ومثاليّة وحضاريّة، لأنّه خاضع لأحكام الشّريعة الإسلاميّة، إذ رأى أنّهم “طلّاب حقّ ضلّوا”. وقد نهى في وصيّته: “لا تحاربوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”. ومع أنّه كان الخليفة الحاكم وكان “الخوارج” من رعاياه، لكنّه لم يسجنهم ولم يقطع نصيبهم من العطاء من بيت مال المسلمين، وذلك لاعتبار أنّ إعطاءهم لحقوقهم هو أمر أساسيّ من أسس حقوق الإنسان في الدّولة.
سُئل “الخليل بن أحمد” (718 – 786) عن أمير المؤمنين الإمام “علي بن أبي طالب” فقال: ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسدًا، وأخفاها محبّوه خوفًا، وظهر من بين ذيْن وذيْن ما ملأ الخافقيْن”! هذا هو الرّجل العظيم “عليّ” مجّدته الأمم المتّحدة وحظي باحترام معظم الأمم كم شاهدنا في تقرير “كوفي عنان”، وبعد هذا التّكريم لحياة “عليّ” وشخصيّته وخلاصاته الفكريّة في الإدارة السّليمة وفي تفصيل الحقوق والواجبات للفرد والسّلطة، أليس من العار على جبين الأمّة العربيّة والإسلاميّة أن تتجاهل مثل هذا العملاق العظيم، وتبحث عن وجوه مقنّعة في قيادات العالم الغربيّ والأوروبيّ لتمجّدهم كأبطال لا يملكون إلّا النّزر اليسير من العمل الإنسانيّ المزيّف لتصنع منهم روّادًا وعظماء، أين اعتزازنا بتاريخنا وتمجيدنا بحضارتنا! وإذا كانت الحضارة اليونانيّة تفخر على عالم العصر الحاضر بشرائع “صولون” الحكيم (640 ق.م – 560 ق.م) وكان التّاريخ الإنجليزيّ يباهي حضارة اليوم بوثيقة “الماغنا كارتا” (بالعربيّة الوثيقة العظمى، صدرت سنة 1215) والثّورة الفرنسيّة تزهو بين تاريخ الثّورات بإعلان حقوق الإنسان، فحسب الحضارة العالميّة والعربيّة والإسلاميّة اليوم أن تزهو فخرًا وتختال مجدًا بأنّها قدّمت للأجيال المتعاقبة منذ أربعة عشر قرنًا أرقى المبادئ وأعدلها وبأنّ منها هذا العظيم الخالد أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب”.
عليّ العالم المثقّف:
هناك من يقول أنّ العلم جزء من الثّقافة فقط، ومفهوم المثقّف أرحب وأشمل من مفهوم المتعلّم أو العالم، فالعالم أو المتعلّم قد يدرس علمًا واحدًا أو أكثر وقد يتخصّص العالم بنوع من العلوم، أمّا المثقّف فإنّه يلمّ بكلّ علوم عصره ومعارفه، وهذا المفهوم للمثقّف يجعله قريبًا لمفهوم الجاحظ (775 – 868) حول الأديب، إذ رأى أنّ الأديب هو من يأخذ من كلّ علم بطرف، أي يأخذ من كلّ العلوم بقسط يفي لغرض الثّقافة العامّة والمعرفة الشّاملة لمعارف العصر الّذي يعيش فيه الأديب أو المثقّف بالمصطلح الحديث. ومن هذا المنظور فإنّ “عليّ” ينطبق عليه هذا المدلول للمثقّف أو الأديب وبشكل عميق، حيث كان عارفًا بكلّ علوم عصره، ومتّصفًا بأسمى الصّفات الرّوحيّة الطّاهرة والمزايا الخلقيّة الرّفيعة، ومحبًّا للخير لمجتمعه وناسه في الدّولة الإسلاميّة، ومحافظًا على عقيدته وإيمانه، ومؤمنًا بدينه إيمانًا منفتحًا إنسانيًّا أمميًّا، كلّ النّاس عنده كأسنان المشط. وهو إلى جانب ذلك حمل لقب “الإمام” ليس لحسن عقيدته ودينه ولحسن إدارته كحاكم، بل لرحابة درايته ومعارفه في الكثير من مجالات العلوم. وحمل كذلك لقب “بوّابة العلم”، وهذا اللّقب يكفي للدّلالة على “عليّ” الإمام العالم، الّذي كان يقول: “سلوني سلوني في كتاب الله! فوالله لا تخفى عليّ آية نزلت في وادٍ أم في جبل”، ولِيستحقّ الإمام العالم هذه الصّفة برأي “عليّ” عليه أن يكون قدوة لغيره، وقد قال في ذلك: “من نصّب نفسه للنّاس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه”. ومع سعة اطّلاعه وثقافته وكثرة معارفه، يرى “عليّ” أنّ: “كلمة لا أدري نصف العلم”، بمعنى أنّ رغم ما تحصّله من المعرفة يبقى الكثير المجهول منها، وهي دعوة صريحة من “عليّ” للعلماء أن يجدّوا في البحث لاكتساب المزيد، فالمعرفة الحقيقيّة هي الّتي يشقى الإنسان في البحث عنها ويتعب في تحصيلها. وقد حذّر العلماء من الكِبر والخيلاء بسعة علومهم، ولم يحصر البحث عن المعرفة بالعلماء، بل هي مهمّة إنسانيّة شاملة، فقد أوصى النّاس عامّة والعلماء خاصّة بقوله: “أكثر من مجالسة العلماء ومناقشة الحكماء والصَق بأهل الورع والصّدق ثمّ رضّهم على ألّا يطروك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتُدني العزّة”. ولعلّ الإمام “عليّ” من أشدّ الأسس عنده هو ارتباط العلم والمعرفة والثّقافة بالاستقامة والصّدق والكرامة الذّاتيّة للعالم كإنسان حرّ مستقلّ، ولا يسعى لتحصيل المعارف من أجل مآرب سياسيّة أو دنيويّة أيًّا كانت، فالمهمّة هي العلم وتحصيل المعرفة والغاية هي سعادة الإنسان وليس إرضاء السّلطان. ولذلك قد يكون “عليّ” قد أشار أو لمّح إلى ضرورة التّواصل بين السّلطة والمثقّفين، ولكنّه اشترط هذا التّواصل والعلاقة باحتفاظ كلّ من الطّرفين بكيانه واستقلاله، وضرورة ضمان السّلطة لحرّيّة المثقّف وكرامته وأمنه، ولا تسعى لتجنيده لمآرب سياساتها ولأهداف إرساء أركان حكمها ولاستصغارٍ لغايات المعرفة الإنسانيّة السّامية، ولا بدّ ورغم ضرورة التّواصل بينهما من مساحة للاستقلاليّة بين السّياسيّ والثّقافيّ، لضرورة الحفاظ على طهارة الثّقافة وطهارة الحكم، من أجل علاقة سليمة ومكاشفة سويّة وصريحة بينهما، تؤدّي إلى علاقات شفّافة وإلى إرساء أسس حياة ديمقراطيّة وبناء مجتمع متساوٍ وديمقراطيّ، تسوده الحرّيّة والعدالة.
وكم للإمام “عليّ” من أقوال عن إيمانه بسعة العلم والسّعي لاكتسابه، حيث قال: “لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب”، وكأنّي بالإمام يقرن في كثير من أقواله المعبّرة عن صدق رؤيته بين العلم والأدب بمعنييْه: المعنى الجماليّ الفنّيّ والمعنى الأخلاقيّ السّلوكيّ، وقد أوصى نابذًا العصبيّة والتّعصّب بكلّ أشكاله ومعانيه وداعيًا لعصبيّة من طراز جديد: “إن كان لا بدّ من العصبيّة فتعصّبوا لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال”. وكان من مزايا الحاكم الصّالح عنده أنّ يسعى لتحصيل العلم ولا ينتظر العلم باستجلاب العلماء إلى قصره، وكأنّي به يؤمن بصورة قاطعة “بأنّ العلم يؤتى ولا يأتي”، وشتّان ما بين الشّبعيْن عندما قال “عليّ”: “اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال”، فالأوًل يسعى لاكتساب المعرفة له ولغيره ولأهداف نفيسة ونبيلة وسامية وخالدة، والثّاني يسعى لتحصيل المال له فقط، ولمآرب رخيصة ودنيويّة ومادّيّة وفانية، ولذلك كانت له مقولة عظيمة المعنى وعميقة الأثر للحثّ على السّعي من أجل العلم، وذلك بتفضيله العلماء على الملوك، فقال: “إذا رأيت العلماء على باب الملوك فقل بئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيت الملوك على باب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء”، ولقد آمن لسعة في رؤيته ولعمق في معرفته بأنّ “كلّ وعاء يضيق بما جُعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتّسع”.
اكتسب “عليّ” علوم الإمامة أو العلوم اللّازمة لبناء الدّولة الدّينيّة والعلوم الدّنيويّة اللّازمة لإدارة شؤون الدّولة من النّاحية العمليّة، وقد تحقّق له ذلك من خلال اتّصاله بكلّ المذاهب والفِرق الإسلاميّة الّتي كثرت في هذه الفترة من الاضطرابات الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ونتيجة لتباين الآراء والمواقف من موضوع الحكم والخلافة وازدياد الفجوات بين الأغنياء والفقراء، وخلط المفاهيم، ولقد كان “عليّ” متّصلًا ومعلّمًا لكلّ الفِرق، وله علاقاته مع علماء الكلام، فقد جادل الخوارج ومعاوية والرّوافض وغيرهم من الّذين لا يرون رأيه ولا يقفون موقفه، وتداول مع علماء الفقه والشّريعة في كثير من القضايا وبرع في هذا المجال، حتّى كان وزيرًا للنّبيّ ومستشارًا للخلفاء الثّلاثة الّذين سبقوه، وللخليفة “عمر” كان المستشار الأوّل، لذلك كان “عمر” عندما يواجه عقبة كأداء يقول: “ولا أبو الحسن لها”، وله باع مع علماء اللّغة والبلاغة، ويقال أنّ “عليّ” هو من حفّز “أبو الأسود الدّؤليّ” (16 ق.م – 68 ه) على وضع علم النّحو، بعد أن اعتنق الإسلام أقوام من غير العرب فانتشرت ظاهرة اللّحن، جاءه “الدّؤليّ” مستشيرًا له في الأمر، فيروى أنّ “عليّ” قال له بعد أن اقتنع بحجّته: “أنحُ هذا النّحو”. وله الكثير من الأقوال الّتي تبيّن معرفته بالنّقد وحسّه بفنّ الجمال والتّمييز بين الأساليب التّعبيريّة، ولعلّ ما جُمع من خطب ووصايا ورسائل وأقوال في كتاب “نهج البلاغة” يكفي للتّدليل على قدرة “عليّ” على التّعبير وبلاغة الأداء وجودة الصّياغة وصدق المعاني، والتّمييز بين أساليب الإنشاء الفنّيّ. لقد كان “عليّ” عالمًا بكلّ العلوم في عصره، كعلم الجفر وعلم التّنجيم لاستطلاع المستقبل والغيب، وكذلك اضطرّه علم الفقه إلى اكتساب خبرة بعلوم الحساب لما له من علاقة في المسائل الشّرعيّة الّتي تتعلّق بالميراث.
هل كان عليّ شاعرًا:
سؤال جدير بالإجابة، ولكن لا يحتمل إجابة قاطعة، بنعم، كان شاعرًا! أو بلا، لم يكن شاعرًا! ولن يزيد الشّعر عظمة أخرى لِ “عليّ” إذا لم تصنع منه مسيرته التّاريخيّة في كلّ المسارات والمواقف والإنجازات الّتي تحدّثنا عنها سابقًا، لن يجعله الشّعر عظيمًا. هنالك من ينسب له ديوانًا يحتوي على 424 قصيدة، وثمّة مَن يدّعي أنّ أبياتًا قليلة له تحتويها هذه القصائد المنسوبة إليه، وليس أكثر من ذلك، ولكن يؤكّد البعض أنّ كثيرًا من القصائد المنسوبة إليه لا تصحّ نسبتها إلّا إليه، لأنّها تصف حالات ومواقف عاشها “عليّ” بنفسه كتجربة حياتيّة قبل أن يحوّلها إلى تجربة فنّيّة شعريّة. ولكن هنالك إجماع على أنّ “عليّ” كان ينظم الشّعر ويحسن النّظر فيه وفي نقده ويستطيع أن يميّز جيّده عن رديئه، بالاستناد إلى علم وبصيرة وذائقة تجعله يميّز الأساليب الشّعريّة ووجوه الاستخدامات البلاغيّة، فانظر في جوابه كناقد عندما سئل: “من أشعر النّاس”؟ فقال: “إنّ القوم (يقصد الشّعراء) لم يجروا في حلقة حتّى نعرف الغاية عند قصبتها، وإن كان لا بدّ فالملك الضّلّيل” (500 – 540) ويعتبر “عليّ” لسعة معرفته بالشّعر وسموّ ذائقته أوّل من قسّم الشّعراء إلى مجموعات وأغراض واتّجاهات مختلفة. وفيما لو صحّ ما نسب من شعر إليه، فقد تميّز أسلوبه كشاعر بفصاحة الخطاب وبيان الكلام ومعاني البديع، وكذلك إجادته على كثير من البحور الخليليّة، كما تبيّن قصائد الدّيوان.
وبغضّ النّظر عن كميّة الشّعر أو عدد القصائد الّتي قالها أو كتبها “عليّ” أكانت كثيرة أم قليلة، نستطيع من هذه الكميّة أن نتبيّن بسهولة الموضوعات الّتي أشغلته، وقد نذهب أكثر من ذلك أنّ “عليّ” الشّاعر استطاع أن يعبّر بصدق عن تجاربه الذّاتيّة عندما كان يتعلّق الأمر بمعاناة عاش آلامها وهمومها وأحزانها، ولعلّ الحزن هو الإحساس الجامع والمشترك بينها، وقد تجلّى ذلك في مجموعة من قصائد الرّثاء الشّخصيّ أو ما تصحّ تسميته بالرّثاء الخاصّ، حيث يرثي فيه الشّاعر أحدًا من أقربائه أو ممّن تربطه بهم علاقة شخصيّة خاصّة، كما فعلت “الخنساء” (575 – 645) في رثاء أخيها “صخر”، وكما فعل “جرير” (650 – 728) في رثاء زوجته، وكما فعل “ابن الرّوميّ” (836 – 896) في رثاء ابنه الأوسط، أو كما فعل “ابن نباتة” (1287 – 1366) في رثاء ابنه عبد الرّحيم. ومثله هؤلاء الشّعراء موضوعيًّا وقبلهم زمنيًّا فعل “عليّ” في رثاء أبيه “أبو طالب” والسّيّدة “خديجة بنت خويلد” زوجة النّبيّ، وقد ماتت بعد “أبو طالب” بثلاثة أيّام، فسمّي هذا العام بِ “عام الحزن” (3 ه) ففقد الإسلام وهو طريّ العود مسانديْن كبيريْن، وهو ما أحزن “عليّ” بشكل أليم، وكذلك رثا النّبيّ، وهو أبوه الرّوحيّ الّذي تربّى ونشأ في حضنه منذ طفولته، وبعد ستّة أشهر فقط من موت أبيها فقد “عليّ” زوجته ورفيقة دربه وأحبّ النّساء إليه السّيّدة “فاطمة الزّهراء” أمّ السّبطيْن: “الحسن” وَ “الحسين”. ولعلّ القصيدة الّتي قالها في بكائها خير نموذج لها الغرض من شعره في الرّثاء الخاصّ، لأنّ هذا الرّثاء يمتاز بكونه حزنًا متواصلًا وتتحوّل فيه الحروف والكلمات إلى بكاء ودموع. ولنمثّل لهذا اللّون بقصيدة من 19 بيتًا من شعره في رثاء زوجته “فاطمة”، الّتي يقال أنّه كان يزور قبرها ويجهش بالبكاء، ويقال إنّه رغم لمسة الحزن الزّاهدة في الدّنيا قد غمرت وجدان “عليّ” من سلسلة الوفيات الّتي مُني بها تباعًا كان لا يطيق أن يراه أحد مهمومًا جزوعًا، بل كان يبدي صبره وجلده أما الشّدائد مهما ثقلت، فلا يشمت به الأعداء ولا يحزن له الأحبّاء، ويكفينا هذا المقطع لتصوير أحزانه وإحساسه الكبير بالفقدان العظيم المشوب بتصوير الدّنيا وآلامها والحِكم العميقة الّتي يستمدّها الإنسان منها:
“أرى عــلـــل الـــدّنيـــا عـــليَّ كــثيرةً – وصــــاحـبـــها حــتَّى الـــممات عليلُ
وإنـّــي لمـــشتـــاق إلـــى من أحبّـــه – فـــهل لـــي إلى من قد هويت سبيلُ
وإنّـــي وإنْ شطّـــت بــي الدّار نازحًا – وقد مـــات قـــبلي بـــالفراق جـــمـيلُ
فقد قال في الأمثال في الـــبيْن قـــائلٌ – أضــــرَّ بـــه يـــوم الـــفراق قـــليـــلُ
لـكلِّ اجـــتماعٍ مــن خـــليليْنِ فرقـــةٌ – وكـــلُّ الـّــذي دون الـــفـــراق رحـيلُ
وإنّ افـــتقـــادي فـــاطمًا بـــعد أحـمدٍ – دلــــيـــلٌ عـــلـــى أن لا يـــدوم خـليلُ
وكـــيف هناك العيش من بـعد فقد (م) – هم لـــعـــمـــرك شـــيءٌ مـــا إليه سـبيلُ”
ولكنّ “عليّ” طرق الكثير من الموضوعات الشّعريّة مثل الافتخار بالنّسب والأهل، فهو ابْن سادة قريش، الّذي تغذّى على معاركهم وغزواتهم منذ صباه، فهو من بني “هاشم” الّذين ناصروا النّبيّ في دعوته، فكانوا عشيرته الأقربين، وكان يتفاخر دائمًا على أعدائه في شعره، وله قصيدة في هذا الباب نقتبس منها:
“أنا عليّ وابْن عبد المطّلبْ – مُهذَّب ذو سطوة وذو غضبْ
غُذّيت في الحرب وعصيان النّوبْ – من بيت عِزٍّ ليس فيه مُنشعبْ
ورغم اعتزازه الكبير بنسبه وأعلام بني “هاشم” وآل البيت فهو الفارس العصاميّ، الّذي يرفض أن يكون الحسب والنّسب وحدهما مقياسًا لأفضليّة الإنسان، ويسعى لبناء شخصيّته معتمدًا على عظمته ونفسه، وليس على عظمة عشيرته ورموزها البارزين، فكثيرًا ما تغني بالعصاميّة والاعتماد على النّفس عن الحسب والنّسب وصيت الآباء والأجداد، فيقول:
“كنِ ابْن من شئت واكتسبْ أدبا – يغنيك محموده عنِ النّسبِ
فليس يغني الحسيب نسبته – بلا لسان له ولا أدبِ
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا – ليس الفتى من يقول كان أبي”
لم يكن الشّعر مهنة “عليّ” ولا صنعته، بل كان صاحب مواقف فروسيّة وبطوليّة مشوبة بجوانب إنسانيّة، وقد تكون قصيدته في تصوير بلاء قبائل “همدان” في القتال يوم “صفّين” من أجمل القصائد في تصوير البطولة والفروسيّة والشّجاعة، وفي أبياتها ما يذكّرنا بشعر عنترة بن شدّاد البطوليّ، حيث قال:
“لمّا رأيْتُ القومَ أقبلَ جمعُهُمْ – يتذامرونَ كررْتُ غيرَ مذمّمِ”
أمّا “عليّ” فقد صوّر في قصيدته البطولة الّتي تمتّعت بها أبطال “همدان” وما اتّسموا به من شجاعة نصرة للحقّ كما يراه “عليّ”، بكلمات كلّها ترسم صورة نموذجيّة لشخصيّة البطل الشّعبيّ أو الإسلاميّ، وما يتمتّع به من رجولة وإنسانيّة إلى جانب البطولة والكبرياء. وهذا المقطع نموذج لما قاله “عليّ” فيها:
“ولمّا رأيت الخيل تقرع بالقنا – فوارسها حمر النّحور دوامي
ونادى ابن هند في الكلاع ويحصب – وكندة في لخم وحي جذامِ
تيمّمت همدان الذين همُ همُ – إذا ناب خطب جنّتي وسهامي
فناديت فيهم دعوة فأجابني – فوارس من همدان غير لئامِ
فوارس ليسوا في الحروب بعزّل – غداة الوغى من شاكر وشبامِ
ومن أرحب الشّمّ المطاعين بالقنا – ونِهم وأحياء السبيع ويامِ
ووادعة الأبطال يخشى نصالها – بكلّ صقيل في أكفّ حسامِ”
ولعلّ أبرز المواضيع الّتي طرقها “عليّ” في شعره، هي الأبرز في رؤيته الاجتماعيّة ونظرته الفكريّة، والنّابعة من صميم إيمانه بالقيم والأخلاق الإسلاميّة، وفي مقدّمتها الاستقامة والحكم في الموت والحياة والدّنيا وشدائدها، والزّهد بالدّنيا والطّمع والفقر، وفي شعره الحكميّ رؤى فلسفيّة واضحة. وكنموذج لهذا الباب سنمثّل بمقطعيْن: الأوّل يبيّن رؤية “عليّ للاستقامة، إذ يكون فيه ناصحًا وموجّهًا للإنسان، كما صار سائدًا فيما بعد بموضوع الأدب بالمعنى الخلقيّ في النّثر الفنّيّ العربيّ، وقد برع فيه “ابن المقفّع” (724 – 759) وفي هذا المقطع يقدّم “عليّ” صورة للإنسان المثاليّ بالمفهوم الاجتماعيّ والأخلاقيّ والسّلوكيّ في المجتمع الإسلاميّ. يقول:
“تنزّْه عن مجالسة اللئـام – وألممْ بالكرام بني الكرام ِ
ولا تكُ واثقًا بالدهر يومًا – فإنّ الدهر منحلُّ النظام ِ
ولا تحسد على المعروف قومـًا – وكن منهم تنل دار السلام ِ
وثقْ بالله ربّك ذي المعالــي – وذي الآلاء والنعم الجسام ِ
وكنْ للعلم ذا طلب وبحث – وناقشْ في الحلال وفي الحرام ِ
وبالعوراء لا تنطق ولكـن – بما يرضي الإله من الكلام ِ
وإن خان الصديق فلا تخنـه – ودمْ بالحفظ منه وبالذمام ِ
ولا تحملْ على الإخوان ضغنًـا – وخذْ بالصفح تنجُ منَ الأثامِ”
وفي مقطع من قصيدة أخرى يصوّر “عليّ” مفصّلًا المكارم والأخلاق الّتي يجب أن يؤمن بها الإنسان ويقتنيها كرؤية حياتيّة ويتّخذها أسلوب حياة ومنهج سلوك، وبأسلوب منطقيّ جليّ يعدّد “عليّ” هذه المكارم، ومن ثمّ يخلص إلى وصف الجنّة الّتي يكسبها الإنسان الحامل لتلك المكارم التّسع، فقال:
“إنّ المكارم أخلاق مطهّرة – الدين أوّلها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها – والجود خامسها والفصل ساديها
والبرّ سابعها والشكر ثامنها – والصبر تاسعها واللين باقيها
واعملْ لدار غدًا رضوان خازنها – والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها – والزعفران حشيش ثابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل – والخمر يجري رحيقًا في مجاريها
والطير تجري على الاغصان عاكفة – تسبّح لله جهرًا في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها – بركعة في ظلام الليل يحييها”
اغتيال عليّ كاغتيال عمر جريمتان أمويّتان:
اغتيل العظيم العادل “عمر”، وقلنا إنّ اغتياله كان مؤامرة دبّرت بليل وخُطّط لها بدقّة ومكيدة أمويّة بامتياز، فكانت الجريمة أوسع وأعمق وأبعد أثرًا من أن تنسب لِ “أبو لؤلؤة فيروز” (توفّي سنة 644) الفارسيّ المجوسيّ، الّذي كان مجرّد اليد الّتي نفّذت الجريمة، أمّا “أبو سفيان” وأتباعه وأولاده و”بنو أميّة” وأتباعهم المتذيّلون بهم فهم المجرمون الحقيقيّون، قادة الثّورة المضادّة ضدّ ثورة الإسلام الّتي رسّخ معانيها وأسسها “عمر” في السّياسيّة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق ونظام الحكم باعتماد مصلحة الإنسان فوق كلّ اعتبار، وبخاصّة الفقراء الّذين جعلهم مركزًا لهذا النّظام بضمان أمنهم ومعيشتهم الكريمة وحرّيّاتهم المختلفة. وجاء “عليّ” ليسير على النّهج العمريّ الثّوري بعد انتكاسة الحكم وزوال العدالة والمساواة في خلافة “عثمان”، جاء “عليّ” استمرارًا للثّورة العمريّة فجابهته قوى الثّورة المضادّة نفسها من أسياد “بني أميّة” وكبار الأثرياء، فكانت وقعة “الجمل” في السّنة الأولى لحكمه ووقعة “صفّين” في السّنة الثّانية، كانت الوقعتان محاولتيْن للحدّ من امتداد “عليّ” وثورته الاجتماعيّة وخلافته المشروعة ونهجه الفكريّ التّقدّميّ والتّنويريّ، وهو “نصير الفقراء” والدّين السّمح والعدالة والمساواة والتّقشّف والزّهد، وفي الآن ذاته كان نقيض الظّلاميّة والتّقاطب الاجتماعيّ والأغنياء والبذخ وتراكم الثّروة والاستبداد واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
وإنّي لأعتقد أنّ الظّروف والقرائن الّتي شابت مؤامرة اغتيال “عمر” لتكاد تكون هي الظّروف والقرائن نفسها الّتي لابست مؤامرة اغتيال “عليّ، فنهجهما السّياسيّ واحد وفكرهما الدّينيّ المنفتح واحد ومنهجهما في الحكم والاقتصاد والمجتمع واحد هو الآخر، ونصرتهما للفقراء ومعاداتهما للأغنياء واحدة والمتضرّرون من ذلك النّهج من الأغنياء والولاة وأصحاب الثّروات والممتلكات والخائفون على مصالحهم وثرواتهم ونفوذهم هم أنفسهم في فترتيْ خلافتهما، و”عمر” اغتيل بسبب مواقفه الصّارمة منهم وقد انتدبوا عنهم يدًا صغيرة غريبة، لها أسبابها الّتي تساوقت مع مصالح الرّأسماليّين الكبار، فلماذا لا يلاقي “عليّ” المصير نفسه لميله إلى تطبيق النّهج العمريّ الصّارم، وقد انتدب هؤلاء المجرمون أنفسهم يدًا صغيرة أخرى، لها أسبابها الّتي تساوقت مرّة أخرى مع مصالح الرّأسماليّين الكبار.
الاتّفاق الثّلاثيّ أكذوبة تاريخيّة:
كما هو شائع فقد اجتمع ثلاثة هم: “عبد الرّحمن بن ملجم” توفّي سنة (661) و”الحجّاج بن عبدالله التّميميّ” الملقّب بِ “البُرَك” توفّي سنة (660) و”عمرو بن بكر التّميميّ” توفّي سنة (660) وهم من “الخوارج”، والخوارج جماعة شكّلت حزبًا سياسيًّا فيما بعد معارضًا للنّظام الأمويّ وثاروا ضدّه، فشكّلوا تهديدًا للأمويّين، فلم يجدوا إلّا التّنكيل بهم من جلاوزة النّظام الأمويّ الحاكم بالمجازر وقطع الرّؤوس والإبادة، وهم الّذين انشقّوا عن “عليّ” وخرجوا عليه بعد وقعة “صفّين” وقبوله بخدعة “التّحكيم”، فحاربوا جيش “عليّ” فكانت حربهم له هديّة ثمينة استغلّها “معاوية” وأنصاره، إذ بذلك أضعفوا الطّرف المناوئ للأمويّين وأصحاب رؤوس الأموال الّذين يريدون الاستئثار بالحكم والدّولة وسياستها وفقًا لمصالح الكبار. حاربهم “عليّ” وقضى على قوّاتهم في معركة “النّهروان” سنة (658) اجتمع هؤلاء الثّلاثة بذريعة كاذبة، مفادها أنّ الأمّة وصلت إلى حالة من السّوء أوصلها إليها: “عليّ” و”معاوية” و”عمرو بن العاص”، ولذلك لا بدّ من التّخلّص منهم، ورفعوا شعار “لا حكم إلّا حكم الله”.
والصّائب تاريخيًّا وفقا للمصادر والقرائن أنّ ذلك الاجتماع الثّلاثيّ بينهم كان مجرّد تلفيق على التّاريخ، وأنّ ذلك الاجتماع والاتّفاق لم يكن بتاتًا، فَ “ابن ملجم” لم يكن خارجيًّا وقاتل “الخوارج” في جيش “عليّ” ببسالة وقوّة وفرح لانتصار “عليّ”، وهو أوّل مَن زفّ خبر انتصار “عليّ” إلى النّاس في “الكوفة”، وتؤكّد بعض مصادر التّاريخ القديمة لمؤرّخين موثوقين أنّ للأمويّين ضلعًا قويًا في مؤامرة الاغتيال، ومنهم “المسعوديّ” (283ه – 346ه) وَ “البلاذريّ” (توفّي سنة 279ه) وَ “الأصفهانيّ” (897 – 967) وَ “المبرّد” (826 – 898) في هذه الجريمة النّكراء، أمّا “أبو الأسود الدّؤليّ” (603 – 688) فيذكر صراحة أنّ المؤامرة أمويّة، وقد قادها “معاوية” بنفسه، ويرى أنّه منذ مقتل “عمر” وحتّى مقتل “الحسين” جريمة ممتدّة واحدة. لقد شكّل “عليّ” العقبة الوحيدة والأخيرة أمام الأمويّين للوصول إلى الحكم، بعد أن اطمأنّوا لذلك بوصول “عثمان” للخلافة، ولكنّهم عادوا ورأوا الحكم يبتعد بعد الثّورة عليه ومقتله. فنجح “معاوية” في مخطّطه الشّيطانيّ.
نجح “عبد الرّحمن بن ملجم” يوم 19 رمضان سنة (40 ه) الموافق ليوم 27 كانون الثّاني سنة (661 م) في قتل “عليّ” في المسجد الكبير في “الكوفة” أثناء الصّلاة، إذ ضربه على رأسه فشجّه بسيف مسموم، فمات أعظم المسلمين وإمامهم وعالمهم بعد يوميْن من الجريمة النّكراء، وضبط القاتل وقتل، وقد كان “عليّ” قد أمر أهله إذا لم ينجُ أن يقتل القاتل وحده “ألّا يقتلّنّ إلّا قاتلي”، أمّا “البُرَك” الّذي توكّل بقتل “معاوية” فأصابه بإصابة خفيفة فنجا، وأمّا المستهدف الثّالث “عمرو بن العاص” فقد توكّل بقتله أثناء إمامته بالصّلاة “عمرو بن بكر” فمرض “ابن العاص” وأوكل أمر إمامة الصّلاة ذلك اليوم لِ “خارجة بن حذافة” توفّي سنة (661) فقُتل وذهبت هذه الحالة مثلًا يضرب “أردت عمرًا وأراد الله خارجة”. ومن نجاح اغتيال “عليّ” وفشل اغتيال “معاوية و”عمرو” نستطيع أن نتبيّن المكيدة والمؤامرة، فَ”عليّ” في صدق المنهج وانفتاح التّفكير وطهارة الحكم والتّوجّه الدّيمقراطيّ نقيض “معاوية” و”عمرو” وهو نصير الفقراء، وهما ممثّلان للثّروة والأثرياء وفساد الحكم والاستبداد والاستغلال. وأمر آخر كيف لعبت الصّدفة دورها مرّتيْن يموت “عليّ” بالذّات وينجو الاثنان الآخران، فهي صدفة تنطوي برأيي على مؤامرة، لأنّ الأخطر على الإسلام ودولته ونقائه هما “معاوية” و”عمرو”، وليس “علّيّ”، وقد كان “الخوارج” في صفّه ضدّ “معاوية”، وقد قاتلوا “عليّ” للثّأر من قتلاهم يوم “النّهروان”، و”ابن ملجم” عندما وصل “الكوفة” التقى بامرأة خارقة الجمال أحبّها منذ زمان، اسمها “قطام” من بني “تيم الرّباب”، كان “عليّ” قد قتل أباها وأخاها يوم “النّهروان”، وكان “ابن ملجم” قد نسي مهمّته الأساسيّة في قتل “عليّ” بعد أن التقاها وفتن بجمالها، لكنّها طلبت رأس “عليّ” مهرًا لها لتقبل الزّواج منه. وممّا يزيد من شكّي في أنّ اغتيال “عليّ” كان مؤامرة ومكيدة، للأمويّين يد فيها أنّ “الأشعث بن قيس” (599 – 661) وهو زعيم قبيلة “كندة” كان يميل إلى “معاوية” بعد أن عرض عليه الأموال الكثيرة لقاء وقوفه ضدّ “عليّ”، وكان “الأشعث” على علم بمؤامرة الاغتيال، ويقال أنّه استضاف “ابن ملجم” لعدّة أيّام حرّضه فيها وشجّعه على تنفيذ الجريمة. ولماذا لا يكون القاتل المجرم “ابن ملجم” متآمرًا مع “معاوية” بشكل غير مباشر وبوساطة “الأشعث”، فيحقّق المهر المزدوج الّذي طلبته “قطام” بشقّيْه: المال الكثير فقد طلبت ثلاثة آلاف درهم وعبدًا وقينة ورأس “عليّ”. وقد قال الشّاعر “ابن أبي ميّاس المراديّ” وهو من شعراء “الخوارج” بذلك:
“ولمْ أرَ مهرًا ساقَهُ ذو سماحةٍ — كمهرِ قطامٍ بينَ عُربِ وأعجمِ
ثلاثةِ آلافٍ وعبدٍ وقينةٍ – وضربِ عليٍّ بالحسامِ المسمّمِ”
فمن أين لِ”ابن ملجم” بذلك المال الكثير وشراء عبد وقينة، إن لم يوفّرها ويزوّده بها “الأشعث” من مال “معاوية”، حتّى يتمكّن من زواج من يحبّ. إنّي لأكاد أكون على يقين من ذلك!
الجريمة الممتدّة:
لعن الله “معاوية” و”الأشعث” و”ابن ملجم” و”قطام”، ورحم الله “عليّ”. وقد نلخّص هذا الموضوع لنتعرّف على مدى الإجرام الأمويّ، فقد حاول أسياد “قريش” وعلى رأسهم “أبو سفيان” بمؤامرة أن يقتلوا النّبيّ فنام “عليّ” مكانه ففشلت المكيدة، وعزلوا “بني هاشم” في “الشِّعب” ومنعوا عنهم الطّعام والشّراب، فمات “أبو طالب” وَ “خديجة” زوجة النّبيّ الأولى، حتّى ثارت على قذاراتهم العرب، وأرسلوا “عمرو بن العاصّ” ليتعقّب المهاجرين إلى الحبشة ويطلب من “النّجاشي” (توفّي سنة 630) تسليمهم، وكان على رأسهم “جعفر بن أبي طالب” وفشل “عمرو” بالمهمّة، ودبّروا اغتيال “عمر بن الخطّاب” ونجحوا بمكيدة دنيئة لكنّها محكمة، ومن ثمّ نجحوا بعد عدّة محاولات باغتيال “عليّ”، واغتال “معاوية” الإمام “الحسن بن عليّ” بيد زوجته لنقض الاتّفاق معه، وقتل الأمويّون رسول الإمام “الحسين بن عليّ” وهو “مسلم بن عقيل بن أبي طالب” (632 – 680) إلى أهل “الكوفة” وأهل “العراق” ليناصروا “الحسين” فخذلوه وقتلوه، وكانت الجريمة العظمى بل المجزرة الكربلائيّة الّتي قتل فيها الملك المجرم “يزيد بن معاوية” (647 – 683) أطهر النّاس الإمام الشّهيد “الحسين” وأحبّهم إلى النّبيّ، وقال عن يوم “انتصاره” في “كربلاء” كما قال جدّه اللّعين “أبو سفيان” عن يوم “أحد”: “يوم بيوم بدر”، رموز الثّورة الملكيّة المضادّة تثأر من الثّوّار المكافحين المسلمين الحقيقيّين والطّاهرين. إنّها جريمة ممتدّة واحدة بيد أمويّة دنسة واحدة. يثأر الكفر من الإيمان والملك من الخلافة والغنى من الفقر، يثأر “الطّلقاء” الكذّابون الجبناء بنكران جميل دنس من الأحرار الصّادقين الأنقياء.
مات “عليّ” الّذي لم يقبل الخلافة إلّا خوفًا على الدّين وطهارة الحكم وكرامة المحكوم، وجرى وراءها “معاوية” جري الكلاب على جيفة الثّراء والاستئثار والاستبداد وجاه الحاكم، لم يقبلها “عليّ” إلّا بعد توجّه وإلحاح من معظم الصّحابة، وقد قال: “لولا الخشية على دين الله لم أجبهم”، و”عليّ” ما كذب ولا ادّعى ولا سعى وراء مال ولا جاه، ولعلّ قبوله بها لأنّه أدرك ببصيرة ثاقبة أنّ “معاوية” لا يخشى الله ولا يقيم أهمّيّة لدين ولا لخلق ولا لكرامة ولا لعدالة. إنّه في مفاهيمنا اليوم ممثّل الرّأسمال والرّأسماليّين. مات “عليّ” أطهر المسلمين وأعظمهم ودفن في العتبات المقدّسة في “النّجف الأشرف”، وبعد موته كثر المعجبون به وبشخصيّته ونزاهته واستقامته، خاصّة بعد أن ذاقوا طعم الاستبداد الأمويّ وسوء الحكم الظّالم والقمع. مات “عليّ” أعظم الطّالبيّين المظلومين وتحوّل في تاريخنا إلى رمز للمظلومين وصار شعارًا للمكافحين الّذين يطالبون ويثورون من أجل حقوقهم الإنسانيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة.
عليّ الإمام الخالد في الفنّ والبحث:
إلى جانب أنّ “عليّ” كان باحثًا وعالمًا، كاتبًا وشاعرًا، كُتب عنه وحول شخصيّته وعلاقاته ومسيرته التّاريخيّة بشكل عامّ، الكثير من الأبحاث والأشعار منذ العصور القديمة، وما زالت شخصيّته تستهوي الكتّاب والشّعراء حتّى هذا العصر الحديث، لتميّزه في مجالات كثيرة في الحياة ولوجوه شخصيّته وأبعادها المتعدّدة، ولا شكّ أنّ هذه الشّخصيّة وهذه المسيرة في التّاريخ والواقع أعظم من كلّ ما قيل عنها في الأدب والفنّ والبحث والدّراسات والمقالات، سواء كانت صادرة عن مريديه ومحبّيه أم من الّذين يعادونه، ومع ذلك ثمّة شبه إجماع على مقامه المحمود ودوره المشهود ومكانته القياديّة الرّصينة واستقامة حياته الّتي تميّزت بالزّهد بالدّنيا وبحبّه للفقراء والبسطاء، وفضله كشخصيّة ذات أثر عظيم وتأثير كبير في المسيرة الإسلاميّة، منذ بعث النّبيّ رسولًا. “عليّ” وحتّى ليلة “المبيت”، وبلائه كان جنديًّا وفارسًا مقاتلًا وقائدًا عسكريًّا في الذّود عن الإسلام، إلى أن كان أحد عشرة من الصّحابة الّذين بُشّروا بالجنّة، ومن ثمّ خالفته الأيّام واضطراب الظّروف الّتي أحاقت بها، حتّى موته مقتولًا شهيدًا كأحد أبرز مقاتل الطّالبيّين. شخصيّة من شخصيّات الصّفّ الأوّل والأسمى في التّاريخ الإسلاميّ، بل في التّاريخ الإنسانيّ على ترامي طول عصوره ورحابة أمدائه من القديم إلى الوسيط إلى الحديث.
في البحث كُتب الكثير من الكتب والدّراسات، فالعميد “طه حسين” (1889 – 1973) خصّص جزءًا كاملًا من كتابه “الفتنة الكبرى” هو الجزء الثّاني بعنوان “عليّ وبنوه”، وهذا الكاتب المصريّ “عبّاس محمود العقّاد” (1889 – 1964) يخصّص عبقريّة من عبقريّاته لِ “عليّ” بعنوان “عبقريّة الإمام”، أمّا الباحث “عبد الرّسول زين الدّين” (لم أجد سنة مولده وموته) فقد جمع الكثير من أقوال “عليّ” وقدّم لها بكتابه “المنتخب من كتاب الإمام عليّ في مصادر التّاريخ والأدب”، وهناك كتاب بعنوان “أعمال عليّ بن أبي طالب” للباحث “عبد الفتّاح عبد المقصود” ولد سنة (1912) وللعلّامة “الأمينيّ” (1902 – 1971) كتاب “الغدير”، وللكاتب الرّوائيّ المصريّ “عبد الرّحمن الشّرقاويّ” (1921 – 1987) كتاب بعنوان “عليّ إمام المتّقين”، ومن المثير فعلًا أنّ ثمّة دراسة ذكرت من قبل، للدكتور “صائب عريقات” (1955 – 2020) كبير المفاوضين الفلسطينيّين، يتناول موضوعها كدراسة مقارنة بكتاب عنوانه “عناصر التّفاوض بين عليّ وروجر فيشر”، ولعلّ أكثر ما يلفت النّظر أنّ الشّاعر اللّبنانيّ “جورج جرداق” (1933 – 2014) ألّف كتابًا أبدى فيه إعجابه وتقديره للإمام الإنسان “عليّ” وسمّاه “عليّ صوت العدالة الإنسانيّة”.
أمّا في عالم الشّعر فقد كتبت عنه مئات القصائد، لكثير من كبار الشّعراء بالفصحى في العالم العربيّ والإسلاميّ، وبالعاميّة لكبار الزّجّالين اللّبنانيّين. لن نستطيع في هذه المقالة/ الدّراسة الذّاتيّة أن ننقلها جميعًا، بل سنكتفي بذكر عناوين بعض القصائد، مع تسجيل بعض النّماذج. فقد جمع “رسول كاظم عبد السّادة” (لم أجد سنة مولده وموته) في كتاب أسماه “أحلى عشرين قصيدة في مدح عليّ”، وهنالك قصيدتان يرِد فيهما مدح “عليّ” كواحد من “آل البيت”، القصيدتان بعنوان “مدح أهل البيت”: للشّيخ “الآزريّ” (1880 – 1954) وللشّيخ “سبط بن الجوزيّ” (1186 – 1256) وثمّة قصيدة بعنوان “القصيدة الكوثريّة” للشّاعر “رضا الهنديّ” (1290ه – 1362ه) وللشّاعر “محمّد كاظم الخاقانيّ” ولد سنة (1954) قصيدة في مدح مولد “عليّ”، وله مجموعة قصائد في مدح “آل البيت”، وللشّاعر العراقيّ الكبير “محمّد مهدي الجواهريّ” (1899 – 1997) قصيدة في مدح “عليّ” يقول في مطلعها:
“فِدَاءً لمثواكَ منْ مَضْــجَعِ – تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ منْ نَفحاتِ الجِنـانِ – رُوْحًا ومنْ مِسْكِها أَضْـوَعِ”
وكذلك ما يلفت الانتباه والاهتمام أنّ الشّاعر اللّبنانيّ “جوزيف الهاشم” ولد سنة (1937) والّذي كان سياسيًّا وشغل منصب وزير، له قصيدة رائعة في مدح “عليّ”، يقول في مطلعها:
“نِعمَ العليُّ ونِعمَ الاسمُ واللّقبُ – يا مَنْ بِهِ يشرئبُّ الفضلُ والنّسبُ”
وفيها يتغنّى ببطولة “عليّ” وشجاعته، ويصل به المدح إلى أن قال أنّ “عليّ” لو عاصر المسيح لاستطاع قتل قاتليه وصالبيه، وقد قال في بيتيْن منها:
“لوْ كانَ عاصرَ عيسى في مسيرته – ومريمُ في خُطى الآلامِ تنتحبُ
لثارَ كالرّعدِ يهوي ذو الفقارِ على – أعناقِ بيلاطسَ البنطيِّ ومَنْ صَلبوا”
قد تكون القصيدة “المحمّديّة العلويّة” للشّاعر اللّبنانيّ “نصرات قشاقش العامليّ” (ولد سنة 1975) هي أمدح قصيدة ذكر ومدح لِ”عليّ” من حيث مبناها ومضمونها ومعانيها في اقتران اسْم “عليّ” باسْم “محمّد”، ولعلّ أبرز ما فيها ذلك التّكرار لاسْميْهما: محمّد أوّلًا ويرد في آخر كلّ صدر من أبيات القصيدة، ويرد اسْم “عليّ” ثانيًا في آخر كلّ عجز من أبياتها، وكأنّ الشّاعر أراد التّعبير عن تعلّق “عليّ” بالنّبيّ، ولكنّ الدّائرة الإيمانيّة لا تكتمل إلّا بِ”عليّ”. وفي القصيدة الّتي تتكوّن من حوالي عشرين بيتًا يتتبّع فيها الشّاعر مسيرة النّبيّ ودعوته ومساندة أخيه وصفيّه ومستشاره وفارسه الهمام في الأيّام والغزوات والمواقف الثّقيلة والصّعبة وأمام القضايا والعقد الكأداء. يقول في مطلعها
“بـعثَ الإلهُ إلى الأنامِ محمّدًا – وأتمّها بخلافة المولى علـــــي
وتنـزّل القرآنُ عندَ محمّدٍ – وكمالُ تأويلِ الكتابِ غــدا علــي
وإلى معاريجِ السّماءِ محمّدٌ – يرقى فيلقى عندَ سدرتِها علـــي
ويهاجـــرُ البلدَ الحرامَ محمّـــدٌ – ويبيتُ مختبــأً بمرقدِهِ علـــي”
ثمّ يتحدّث الشّاعر عن الجهاد وليس من يبدأه إلّا النّبيّ وليس من يتابعه حتّى الانتصار إلّا “عليّ”:
“ويقيم صرحًا للجهادِ محمّدٌ – مَنْ ذا الّذي صرعَ العتاةَ سوى علي
في خندقِ الأحزابِ نادى محمّدٌ – مَنْ ذا لعمرٍ فأنبرى يمضي علي
وكذاكَ في أحدٍ أصيبَ محمّدٌ – فــرَّ الجميعُ وكــانَ كــرّارًا علـــي”
ولعلّ الصّحبة الّتي جمعت النّبيّ مع “عليّ” في القرابة وصلة الرّحم والحياة والقتال وفي تحصيل العلم والدّفاع عن الإسلام ورسالته، زد على ذلك كلّه زواج “عليّ” من “فاطمة الزّهراء” بنت النّبيّ، هذه الصّحبة لا بدّ أن تستمرّ وتدوم حتّى في الآخرة وفي جنّة النّعيم، وينهي الشّاعر قصيدته بهذه الصّحبة الأبديّة بينهما:
والجنّةُ جُعلتْ لدينِ محمّدٍ – لكــنْ بشرطِ دخولِــها تــــهوى علي
والنّارُ ما خُلقتْ وحقِّ محمّدٍ – إلّا لتصــلى الحاقدينَ على علــي
والجنّةُ والنّارُ قلْ لمحمّدٍ – وقسيمُها يومَ الحسابِ غــــدا علــي
وعليُّ يدعو ربَّهُ بمحمّـــدٍ – ومحمّــدٌ يدعو بحقِّ أخــي علـــي”
ظهرت شخصيّة “عليّ” في مسلسل “عمر” لأوّل مرّة في تاريخ التّمثيل التلفزيونيّ والسّينمائيّ، وقد جسّد شخصيّته ودوره في المسلسل الممثّل التّونسيّ “غانم الزّرليّ” (1984) والمسلسل من إنتاج قطريّ ومن 31 حلقة، وقد استغرق حوالي سنة كاملة لتصويره وشارك فيه ممثّلين وفنّيّين وعاملين حوالي 30 ألفًا. قصّته من تأليف الكاتب الفلسطينيّ “وليد سيف” (1948) ومن إخراج المخرج السّوريّ “حاتم علي” (1962 – 2020) وقد شارك في التّمثيل عشرات الممثّلين من معظم الأقطار العربيّة، أبرزهم الفنّان السّوريّ “سامر إسماعيل” (1985) في دور “عمر”، والفنّان السّوريّ “غسّان مسعود” (1958) في دور “أبو بكر” والفنّانة السّوريّة “مي سكاف” (1969 – 2018) في دور “هند بنت عتبة”، والفنّانة الأردنيّة “نادرة عمران” (1965) في دور “سجاح” والفنّان العراقيّ “جواد الشّركجي” (1951) في دور “أبو جهل” والفنّان التّونسيّ “فتحي المهدّاويّ” (1961) في دور “أبو سفيان”، والفنّان السّوري نجاح سفكوني (1946) في دور “سهيل بن عمرو”، والفنّان السّوريّ “مهيار خضور” (1983) في دور “خالد بن الوليد”، والفنّان السّودانيّ “ياسر عبد اللّطيف” (1970 – 2020) في دور “النّجاشيّ” ملك الحبشة، والفنّان السّوريّ “قاسم ملحو” (1968) في دور “عمرو بن العاص، والفنّان المصريّ “عبد العزيز مخيون” (1946) في دور “أبو طالب”، والفنّان المغربيّ “محمّد مفتاح” (1949) في دور “حمزة بن عبد المطّلب”، والفنّان المغربيّ “حسن الجنديّ” (1938 – 2017) في دور “عتبة بن ربيعة”. ولكنّ شخصيّة “عليّ” كانت حاضرة في كثير من المسلسلات والأفلام السّينمائية، ولكنّ حضور شخصيّته في الأحداث كان بالصّوت فقط، وكان أبرز أدواره في فيلم “الرّسالة” الّذي أخرجه بنسختيْن: عربيّة وإنجليزيّة المخرج السّوريّ الشّهيد “مصطفى العقّاد” (1930 – 2005) الّذي اغتالته قوى الإسلام المتطرّف الظّلاميّ، عدوّ التّنوّر والحريّة والفنّ وكلّ ما هو ثقافيّ نبيل وجميل وحضاريّ وإنسانيّ على مدى مسيرة التّاريخ الإسلاميّ والإنسانيّ وعلى رحابة الحياة الكريمة والمتجدّدة.
تعجّ مدن الوطن العربيّ والإسلاميّ وقراهما بمساجد وشوارع وميادين ومؤسّسات ومشاريع تتشرّف بالتّسمية على اسْم “عليّ بن أبي طالب”، وفي قريتي “كابول” الواقعة في منطقة “الجليل”، من شمال فلسطين جامع كبير بمئذنتيْن اثنتيْن، يقع في الحيّ الشّرقيّ من القرية، هو جامع “عليّ بن أبي طالب”.
ويلفت النّظر والاهتمام أنّ للإمام “عليّ بن أبي طالب” رسميْن فنيّيْن: واحدًا في المتحف الإيطاليّ في “روما”، وآخر في متحف “اللّوفر” الفرنسيّ الشّهير في باريس. ناهيك عمّا كرّم به في هيئة الأمم المتّحدة سنة (2002) عندما اعتبره الأمين العامّ “كوفي عنان” أحد أبرز الشّخصيّات في التّاريخ البشريّ.
أقوال في عظمة عليّ:
قال النّبيّ في شجاعته وبطولته: “لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتًى إلّا عليّ”، وقال: حامل لوائي في الدّنيا والآخرة”. وقال في عدالته: “هو الفاروق بين الحقّ والباطل”، وقال: “أقضى أمّتي عليّ”. وفي سعة علومه قال النّبيّ: “أعلم أمّتي من بعدي عليّ”، وقال: “عليّ منّي كرأسي من بدني، وهو لي كهارون )1439 ق.م – 1317 ق.م) لموسى” (1463 ق.م – 1316 ق.م)
وما من أحد كان يقدّر مكانة “عليّ” في البطولة والعلم والحزم والقضاء بعد النّبيّ مثل “عمر” فقال: “لقد أُعطيَ عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لأنْ تكون لي خصلة منها أحبّ إليّ من أن أُعطى حمر النّعم، قيل له: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تزويجه فاطمة بنت رسول الله وسكناه المسجد مع رسول الله يحلّ له فيه ما يحلّ للنّبيّ والرّاية يوم خيبر. وقال في تقدير صدارته وعدله وحبّه للنّاس ورزانة فكره: “إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعليّ: يا عليّ لك سبع خصال لا يحاجّك فيها أحد يومًا: أنت أوّل المؤمنين بالله ايمانًا وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله وأرأفهم بالرّعية وأقسمهم بالسّوية وأعلمهم بالقضيّة وأعظمهم مزّيةً يوم القيامة. وقال “عمر”: “كانت لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثماني عشرة سابقة، فخصّ عنها عليّ بثلاث عشرة وشركنا في الخمس”. جاء رجلان إلى “عمر”، فقالا له: ما ترى في طلاق الأمّة؟ فقام إلى حلقة فيها رجل أصلع، فقال له: ما ترى في طلاق الأمّة؟ فقال: فأشار بإصبعيْه أن اثنتيْن! فالتفت “عمر” إليهما فقال: اثنتان، فقال له أحدهما: جئناك وأنت الخليفة فسألناك عن طلاق الأمّة، فجئت إلى رجل فسألته فوالله ما كلّمك، فقال له “عمر”: ويلك! أتدري من هذا؟ هذا “عليّ بن أبي طالب”، إنّي سمعت رسول الله يقول: لو أنّ السّماوات والأرض وُضعت في كفّة ميزان، ووزن إيمان “عليّ” لرجح إيمان “عليّ” على السّماوات والأرض”. هذا هو “عمر” أعظم المسلمين ويقول عن “عليّ” بعد أن يحلّ معضلة حار فيها: “لا حرمنا الله من رأيك يا أبا الحسن” أو يقول له: “لا أحياني الله بأرض لا تكون فيها يا أبا الحسن”.
قال “عبد الله بن عبّاس” وهو ابن عمّ النّبيّ وابن عمّ عليّ: “كانت لعليّ ثماني عشرة مَنقبة ما كانت لأحد من هذه الأمّة”، وتابع: “والله لقد أُعطي “عليّ” تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر.
وقال: “وقد سأل بعض النّاس ابن عبّاس: أيّ رجل كان عليّ؟ قال: كان ممتلئًا جوفه حكمًا وعلمًا وبأسًا ونجدة مع قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم”. وقال أيضًا في إظهار رغبة عمر في أحقيّة “عليّ” بالخلافة بعد النّبيّ: “مرّ عمر بعليّ وأنا معه بفناء داره فسلّم عليه فقال له عليّ: أين تريد؟ قال: “البقيع”! قال: أفلا تصل صاحبك ويقوم معك؟ قال: بلى! فقال لي عليّ: قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه، فشبك أصابعه في أصابعي ومشينا قليلًا، حتّى إذا خلّفنا “البقيع” قال لي: يا ابن عبّاس، أما والله إنّ صاحبك هذا لأولى النّاس بالأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلّا أنّا خفناه على اثنيْن، قال “ابن عبّاس”: فجاء بكلام لم أجد بدًّا من مساءلته عنه، فقلت: ما هما يا أمير المؤمنين قال: خفناه على حداثة سنّه وحبّه بني عبد المطلّب”. قال “سلمان الفارسيّ” في وصف شدّة ورعه وعميق تقواه: “إنّ عليّ باب فتحه الله، مَن دخله كان مؤمنًا ومَن خرج منه كان كافرًا”.
وعن “أبو بكر” الّذي اتّهم “عليّ” كذبًا أنّه على خلاف معه ولم يبايعه، ومعروف أنّ “عليّ” كان يقدّم “أبو بكر” في صحبته للنّبيّ ويقول هو صاحب رسول الله وثاني اثنيْن. عن “محمّد بن الحنفية (16 ه – 81 ه) وهو ابن عليّ بن أبي طالب قال منوّهًا بتقديم أبيه “لأبي بكر” ومبيّنًا فضله وأسبقيّته وصحبته للنّبيّ ومبيّنًا تواضع أبيه: “قلت لأبي: أيّ الناس خير بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمّ مَن؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثمّ أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجل من المسلمين”. وكان عليّ لا يطيق أن يفضّله أحد على الشّيخيْن: “أبو بكر وعمر”، فقد قيل له: “ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف، ولكن إن يرد الله بالنّاس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيّهم على خيرهم”، وقال عليّ رضي الله عنه: “لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلّا جلدته حدّ المفتري”.
وكان “أبو بكر” يقول معترفًا بمكانة “عليّ” في نصرة النّبيّ وصدق الإيمان وسعة العلم: “عليّ بن أبي طالب” عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أيّ الّذي حثّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على التّمسّك بهم والأخذ بهديهم، فإنّهم نجوم الهدى، ومن اقتدى بهم اهتدى، وخصّه “أبو بكر” بذلك لأنّه الإمام في هذا الشّأن وباب مدينة العلم والعرفان، فهو إمام الأئمّة وعالم الأمّة”. قال الشّعبيّ: (641 – 723) “رأى “أبو بكر” “عليّ” فقال: “مَن سرّه أن ينظر إلى أعظم النّاس منزلةً من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقربه قرابةً، وأفضله دالةً، وأعظمه عناءً عن نبيّه، فلينظر إلى هذا”. وقال الشّعبيّ أيضًا: “بينما “أبو بكر” جالس إذ طلع “عليّ بن أبي طالب” من بعيد، فلما رآه قال “أبو بكر”: من سرّه أن ينظر إلى أعظم النّاس منزلةً وأقربهم قرابةً وأفضلهم حالًا وأعظمهم عناءً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلينظر إلى هذا الطّالع”. وقال عبد الله بن مسعود: (توفّي سنة 32 ه) “قُسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطيَ “عليّ” تسعة أجزاء والنّاس جزء واحد، وعليّ أعلم بالواحد منهم”.
قال الفخر الرّازي: (544 ه – 605 ه) “من اتّخذ “عليّ” إمامًا لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه”. وقال “الجاحظ”: (775 – 868) سمعت “النّظّام” (777 – 836) (وهو أحد أبرز فقهاء المعتزلة) يقول: عليّ بن أبي طالب محنة للمتكلّم، إن وفى حقّه غلى، وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادّة اللّسان، صعبة التّرقّي إلّا على الحاذق الذّكيّ”. وقال “الخليل بن أحمد الفراهيديّ” (718 – 786) صاحب علم العروض في عظمة “عليّ” وتميّزه: “احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على أنّه إمام الكلّ”. وعن هارون الحضرميّ قال: (225 ه – 321 ه) “سمعت “أحمد بن حنبل” (780 – 855) يقول: “ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب”.
قال “محمّد بن إسحاق الواقديّ: (747 – 823) “إنّ عليّ كان من معجزات النّبيّ كالعصا لموسى، وإحياء الموتى لعيسى” (1 – 33) وعن بعض الفضلاء وقد سئل عن فضائل “عليّ” فقال: ما أقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسدًا، وأخفى أولياؤه فضائله خوفًا وحذرًا، وظهر فيما بين هذين ما طبّقت الخافقيْن: الشّرق والغرب.
سأل “ابن عبّاس” الخليفة “عمر” بعد أن رآه مهمومًا بأمر الخلافة: “أين أنت عن عبد الرّحمن بن عوف”؟ فقال: ذلك رجل ممسك وهذا الأمر لا يصلح إلّا لمُعطٍ في غير سرف ومانع في غير إقتار، قال: قلت سعد بن أبي وقّاص، قال: مؤمن ضعيف، قال فقلت: طلحة بن عبيد الله، قال: ذاك رجل يناول للشّرف والمديح يعطي ماله حتّى يصل إلى مال غيره وفيه بأو وكبر، قال فقلت: فالزّبير بن العوّام فهو فارس الإسلام قال: ذاك يومًا إنسان ويومًا شيطان، كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظّهر حتّى تفوته الصّلاة، قال فقلت: عثمان بن عفان قال: إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أميّة على رقاب النّاس وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلنّ والله لئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتّى تقتله في بيته، ثمّ سكت قال، فقال: امضها يا ابْن عبّاس، أترى صاحبكم لها موضعًا، وهو يقصد “عليّ”؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه، قال: هو والله كما ذكرت، ولو وليهم لحملهم على منهج الطّريق فأخذ المحجّة الواضحة، إلّا أنّ فيه خصالًا: الدّعابة في المجلس واستبداد الرّأي والتّبكيت للنّاس مع حداثة السّنّ، قال: قلت: يا أمير المؤمنين هلاّ استحدثتم سنّه يوم “الخندق”، إذ خرج “عمرو بن عبد ود” وقد نكص عنه الأبطال وتأخّرت عنه الأشياخ، ويوم “بدر” إذ كان يقطّ الأقران قطًّا، وهلّا سبقتموه بالإسلام إذ كان جعلته الشّعب وقريش تستوفيكم فقال: إليك يا ابن عبّاس، أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعليّ بأبي بكر يوم دخلا عليه. قال: فكرهت أن أغضبه فسكتّ”. فقال: والله يا ابن عبّاس، إنّ “عليّ” ابن عمّك لأحقّ النّاس بها، ولكن قريشًا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثنّ بيعته ثمّ ليحاربَنّ”.
سأل “معاوية”: يا أخا كنانة وهو أبو الطّفيْل (625 -721) صاحب “عليّ”: من أحبّ النّاس إليك؟ فبكى أبو الطّفيل ثمّ قال: “أحبّ النّاس إليّ والله إمام الأئمّة والأمّة وقائدها وأشجعها قلبًا وأشرفها أبًا وجدًا وأطولها باعًا وأرحبها ذراعًا وأكرمها طباعًا وأشمخها ارتفاعًا، فقال “معاوية” كمن سمع ما لا يحبّ: “يا أبا الطّفيل ما أردنا هذا كلّه، فقال: “ولا أنا قلت العُشر من أفعاله ثمّ أنشأ “أبو الطّفيل” يقول في مدح شجاعة “عليّ” ومكانته وصلته بالنّبيّ وحسن قيادته:
“صهر النّبيّ بذاك الله أكرمه – إذ اصطفاه وذاك الصّهر مدّخرُ
فقام بالأمر والتّقوى أبو حسن – بخٍ بخٍ هنالك فضل ما له خطرُ
لا يسلم القرن منه إن ألمّ به – ولا يهاب وإن أعداؤه كثروا
من رام صولته وافى منيّته – لا يدفع الثّكل عن أعدائه الحذرُ”
وثمّة أقوال لكثير من كبار الأدباء والمفكّرين في العصر الحديث في العالم العربيّ والإسلاميّ، وهو ما يشكّل اعترافًا ممتدًّا منذ خمسة عشر قرنًا بمكانة “عليّ” ودينه وعلمه وفكره. ومن أجمل ما قيل عن الإمام “عليّ بن أبي طالب”. قول للأديب والمفكّر اللّبنانيّ الشّهير “جبران خليل جبران” (1883 – 1931) إذ قال: إنّ عليّ بن أبي طالب كلام الله النّاطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى من عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدّة الاقتراب ممسوس في ذات الله”. وقول للدّكتور “طه حسين” عميد الأدب العربيّ (1889 – 1973) يقارن فيه بين طهارة الخليفة “عليّ” وزهده وفساد الملك “معاوية” وطمعه: “كان الفرق بين عليّ ومعاوية عظيمًا في السّيرة والسّياسة، فقد كان عليّ مؤمنًا بالخلافة ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين النّاس، أمّا معاوية فإنّه لا يجد في ذلك بأسًا ولا جناحًا، فكان الطّامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزّاهدون يجدون عند عليّ ما يحبّون”. وقال الدّكتور “خليل سعادة”: (1857 – 1934) “قد أجمع المؤرّخون وكتب السّير على أنّ عليّ بن أبي طالب كان ممتازًا بمميّزات كبرى لم تجتمع لغيره، هو أمّة في رجل”. وقال الدّكتور “مهدي محبوبة”: (1923 – 1999) “أحاط عليّ بالمعرفة دون أن تحيط به، وأدركها دون أن تدركه”. ومسك ختام الأقوال في أوّل الأصفياء وآخر الخلفاء للأديب اللّبنانيّ “ميخائيل نعيمة” (1889 – 1988) وقد قال في “عليّ”: “وأمّا فضائله فإنّها قد بلغت من العظم والجلال والانتشار والاشتهار مبلغًا يسمج معه التّعرّض لذكرها، والتّصدّي لتفصيلها، فصارت كما قال “أبو العيناء” (191 ه – 283 ه) لعبيد الله بن يحيى بن خاقان (209 ه – 263 ه) وزير المتوكّل: (822 – 861) “رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النّهار الباهر والقمر الزّاهر، الّذي لا يخفى على النّاظر، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصّر عن الغاية، فانصرفت عن الثّناء عليك إلى الدّعاء لك، ووكلّت الإخبار عنك إلى علم النّاس بك”.
ولعلّ هذه الأقوال لا تستدعي لا تفسيرًا ولا تحليلًا، ففيها إجماع واضح وجليّ على مكانة “عليّ” الرّفيعة وقربه من النّبيّ ومقامه المحمود وسعة معرفته ورحابة علومه واستقامته وحكمته وشجاعته وتفانيه من أجل الدّين الحنيف وصدقه وميله إلى العدالة الإنسانيّة وحبّه للنّاس الفقراء والبسطاء وكراهيته للدّنيا وأباطيلها المادّيّة، ومقته للغنى وتراكم الثّروات والأملاك الّتي تمهّد الطّريق للاستغلال والاستبداد والاستئثار. ومعارفه وعلومه وفكره وإدارته، وكلّ ذلك الموروث العظيم ما زال يشكّل مراجع نظريّة للباحثين المعاصرين.
خلاصة الكلام في عظمة الإمام:
عندما قرأت مسرحيّة “إله رغم أنفه” للكاتب المصريّ “فتحي رضوان” (1911 – 1988) وفيها يطرح الكاتب قضيّة تأليه الإنسان، من خلال شخصيّة ملك هنديّ أراد أهل مملكته أن يألهوه عنوة وبعكس رغبته، فرفض بشدّة تلبية ما أرادوا متمسكًا بطبيعته الإنسانيّة، عندما قرأتها تذكّرت موقف “عليّ” من بعض غلاة الشّيعة وفرقها كالرّافضة والطّائفة النّصيريّة الّذين أرادوا تأليهه، وكيف كان ردّه عندما قالوا: “أنت ربُّنا وخالقُنا ورازقنا! فقال: ويلكم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكم آكلُ الطعامَ كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعتُ اللهَ أثابَنِي إن شاء، وإن عصيتُه خشيتُ أن يُعذِّبَني فاتَّقوا الله وارجعوا! فعند ذلك الملك الهنديّ وفقًا للأسطورة كما عند “عليّ” الإنسان هو الإنسان يقبل ما يقبل ويقتنع به ويرفض ما يرفض ويقتنع به، حتى لو أراد له غيره مرتبة خياليّة سماويّة فوق الملوك والخلفاء في عالم الأرض وحقيقة الواقع.
هذا هو “عليّ” العظيم الّذي رفض والنّبيّ مريض، رغم إلحاح من بعض الصّحابة أن يطلب استخلافه منه وقال: “والله لا أسالها رسول الله أبدًا”، ومن ثمّ بايع ثلاثة خلفاء من قبله، ولمّا سألوه: “أنبايع الحسن من بعدك” قال: “لا آمركم ولا أنهاكم”! لم يشبه “عليّ” في هذا الموقف في التّاريخ الإسلاميّ إلّا اثنان: “أبو بكر” الّذي فضّل “عمر” لتولّي خلافة النّبيّ، فرفض “عمر” وبايعه، وكذلك “عمر” الّذي رفضها مرّتيْن، ولكنّه قبلها في الثّانية لإصرار “أبو بكر” ولمصلحة المسلمين، وأبى بقوّة أن يستخلف ابنه “عبد الله” مع أنّه يستحقّ ذلك، ووفقًا لطلب كثير من الصّحابة، خوفًا من أن تتحوّل الخلافة والشّورى إلى ملك وولاية عهد.
كيف تلخّص وإلى ماذا تخلص أمام تجربة حياة عريضة ومسيرة تاريخ طويلة لهذ البحر الغزير، وأيّ جانب تأخذ او جانب تترك وكلّ الجوانب مشرقة وطافحة بالحياة والحرّيّة والميل إلى العدالة والكرامة والإنسانيّة. فعلًا! صدق من قال إنّه “رجل واحد بأمّة كاملة”. “عليّ” هذا الرّجل العملاق يذكر بإشارة بالبنان بل بإشارات الأصابع العشرة إذا ذكر العلم والحكمة والمعرفة والأدب، يذكر إذا ذكر الحقّ والعدل والمساواة والدّيمقراطيّة وحبّ الإنسان، يذكر إذا ذكر الزّهد بالمراتب والمناصب والتقشّف في العيش والابتعاد عن فساد الدّنيا وأباطيلها، يذكر إذا ذكرت التّربية السّويّة وأسس التّنشئة وحسن الإدارة والمصالح العامّة للأمّة، يذكر إذا ذكر الحقّ العامّ من أجل مصلحة الإسلام والقضاء بالحقّ والعدل الّذي يعلو ولا يُعلى عليه، يذكر “عليّ” إذا ذكرت البطولة والشّجاعة والإقدام والتّفاني والفداء. ولأنّه يؤمن بأخوّة الأجناس والشّعوب تحت راية الدّولة الإسلاميّة الّتي تأسّست على العدل فقد اختار “الكوفة” عاصمة له لأنّها كانت ملتقى الشّعوب ومركز التّجارة القائمة على طرقها إلى بلاد فارس والهند واليمن والشّام والعراق، وهي عاصمة الثّقافة وملتقى الفكر ومدارس الأدب واللّغة والكتابة والشّعر.
والله أردت أن أقول فيه: “أيّ مشعل للفكر قد انطفأ! وأيّ قلب توقّف عن الخفقان! ولكنّي عدلت لأنّه يستحقّ أكثر منها، فهو مشعل للفكر لم ينطفئ، بل ما زال نور فكره مشتعلًا ومتوقّدّا ونتعلّم منه، بل العالم كلّه يتعلّم من مقولته لواليه “الأشتر”: “الناس اثنان: إمّا أخ لك في الإسلام وإمّا أخ لك في الخَلق”. ما زالت هذه المقولة تجلجل بإنسانيّتها وعمق دلالاتها العظيمة، وهو قلب خالد لا يتوقّف خفقانه فينا ما دامت لنا قلوب تنبض بحبّه وترى فيه نموذجًا للمحبّة والعطف والحياة الكريمة.
هذا هو “عليّ” الّذي أراد ذلك اليهوديّ المتفقّه إحراجه بتقديم بعضًا من فاكهة العنب فأكل “عليّ” العنب بسرور، ومن ثمّ قدّم اليهوديّ بعضًا من خمرة النّبيذ، بنت العنب، فنظر “عليّ” باستغراب وقال: “أمّا هذه فلا! فهي حرام”، فاستهجن اليهوديّ أمام “عليّ” حال المسلمين والإسلام من تحليل أكل العنب وتحريم شراب النّبيذ المعمول من العنب، فانبرى “عليّ” سائلًا اليهوديّ أن يدعو زوجته، فدعاها فاستجابت وجلست والزّوج حائر و”عليّ” صامت، فسأله “عليّ” أن يدعو ابنته، فدعاها فاستجابت وجلست والأب يزداد حيرة، أمّا “عليّ” فقال: “هل هذه زوجتك وحلال لك”! مشيرًا إلى الزّوجة الواجمة فقال له: “نعم”! فتابع “عليّ” مشيرًا إلى البنت: “هل هذه ابنتك وحرام عليك”! قال اليهوديّ: “نعم”! فقال “عليّ” برضا: “أليست هذه البنت من هذه الأمّ كما النّبيذ الحرام من العنب الحلال”! “فتبلكم” اليهوديّ ولم يحر جوابًا معجبًا بفكر الإمام الثّاقب.
هذا هو الإمام “عليّ” العظيم الّذي حاول البعض من الغلاة والمتطرّفين في تقديسه أن يجعلوه في مصفّ الإله فرفض ودافع عن إنسانيّته، وعاداه الخصوم السياسيّون ودعوْا إلى لعنه من على منابر الحقد والجهل والجحود فأبى أن يستخدم هذا الرّجل النّبيل هذه الوسيلة الدّنسة، وقاتله الأغنياء أولو الثّروات وأصحاب النّفوذ والأسياد ذوو عقليّة الاستبداد والاستغلال فأبى إلّا أن يجرّدهم من ثرواتهم المتراكمة بالاستغلال وبلا حقّ شرعيّ ولا استقامة أخلاقيّة وتمسّك بالفقراء والبسطاء والمستغلّين الّذين قام الإسلام العادل على دمائهم وتضحياتهم، وخالفه كثير من أهل الفرق الدّينيّة الرّأي والموقف والتّوجّه، وظل يؤمن بالحوار مع هؤلاء وغيرهم مهما اشتدّت مناوئتهم واتّخذوا الموقف النّقيض، لأنّه كان ديمقراطيًّا يميل إلى العدل والحقّ ويتقبّل الرّأي الآخر والآخر البعيد والمختلف كما يتقبّل القريب والمؤتلف.
ما أعظم “عليّ” عندما يقول عنه عظيم آخر في تاريخنا الإسلاميّ، هو “عمر بن الخطّاب”، الّذي أسّس الدّولة الإسلاميّة وأرسى نظامها السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ على الحرّيّة والعدل والمساواة والحقّ والكرامة الإنسانيّة، هذا الرّجل الّذي أسّس دولته على مضمون مقولته الّتي وجّهها سائلًا “عمرو بن العاص”: “يا ابْن العاص! متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، يقول عن “عليّ” الّذي أسّس دولته على المقولة الّتي وجّهها إلى “الأشتر”: “يا أشتر! النّاس صنفان أمّا أخ لك في الإسلام، وإمّا أخ لك في الخلق”. يقول “عمر” عنه: “عجزت النّساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب”.
لو كان “عليّ” يعيش ما نعيش في زماننا ويرى ما نرى على عمق فكره وعظمة رؤيته وقوّة إيمانه بالإنسان والإنسانيّة، لشكا لحالنا ولسوء أوضاعنا في ازدياد سطوة المال والاستغلال والاستبداد، كيف لا وقد قدّم منذ قرون توصيفًا مطابقًا بالكامل لما تعاني الشّعوب المظلومة والطّبقات الفقيرة الّتي تطالب بحقوقها بدفع دمائها من أهل الباطل الرّأسماليّين الّذين يستأثرون بثروات العالم ويتحكّمون بمصائر الشّعوب وبوسائل الإعلام فيجعلون باطلهم حقًّا والحقّ الحقيقيّ للشّعوب والفقراء باطلًا، وقد قال “عليّ” في هذا: “حين سكت أهل الحقّ عن الباطل، توهّم أهل الباطل أنّهم على حقّ”. أليس في هذه المقولة توصيفًا لحالة الرّكود الاجتماعيّ وقبول المظلومين بالواقع المرّ بسكوتهم عن الباطل؟ أليس في هذه المقولة دعوة للثّورة على الباطل والظّلم حتّى ينتصر الحقّ والعدل؟ ألا تنفع هذه المقولة الثّوريّة في مساندة المقاومة الفلسطينيّة ضدّ الباطل الإسرائيليّ؟ وفي مساندة الشّعوب الفقيرة ضدّ الإمبرياليّة الأميركيّة وهيمنتها ومحاولاتها الدّائبة لنهب ثروات الشّعوب القوميّة؟ ألا تنفع هذه المقولة في كفاح الطّبقات الفقيرة ضدّ قوى الرّأسماليّة؟ ألا تنفع القوى الدّيمقراطيّة في كفاحها من أجل الحرّيّات والعدالة والمساواة أمام القوى الظّلاميّة والفاشيّة والدّكتاتوريّة، ألم تعبّر هذه المقولة عن الحالة من خذلان “عليّ وآل البيت” بعد تراكم ثروات الأغنياء واستبدادهم وباطلهم وانجرافهم نحو الباطل وعدم سكوت “عليّ” عنهم، كما قد تعبّر عن نظام الرّجعيّة العربيّة الحاكم لشعوبنا بحديد الاستغلال وبنار القمع والمحكوم والمتذيّل بمشاريع الهيمنة الصّهيو – أميركيّة، وفي صميمها التّنازل عن الحقّ الفلسطينيّ بالاستقلال والدّولة والعاصمة. لقد سكتوا عن باطل الاحتلال الإسرائيليّ، فصار هذا الاحتلال الباطل يعتقد أنّه يمتلك حقّ الاستيلاء على الأرض والثّروات الفلسطينيّة بالاستيطان ويحكم الشّعب الفلسطينيّ بالاحتلال والقتل والهدم والاستيلاء على الأحياء والبيوت والمقدّسات.
قال “عليّ”: “يحبّني أقوام حتّى يدخلوا النّار في حبّي، ويبغضني أقوام حتّى يدخلوا النّار في بغضي”. وقال: “يهلك فيّ رجلان: محبّ مفرط بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني”. أيّ رجل عظيم كان “عليّ” هذا الّذي يحبّه بعض النّاس حتّى يدخلوا بحبّه وتقديسه النّار، ويكرهه بعضهم فتوصلهم الكراهية والأحقاد إلى النّار أيضًا. ويحبّه البعض بإفراط فيهلكون لأنّهم يروْن فيه ما ليس فيه، إنّما هي المغالاة في التّقديس والتّأليه، ويبغضه البعض فتصل بهم الشّحناء والبغضاء حدّ إنكار ما فيه من مناقب جليلة وما أنجزه من إنجازات عظيمة خدمة للدّين والعلم والمجتمع والدّولة والإنسان. والمهمّ في هذا العظيم حقًّا والّذي تأتي عظمته من الأرض ويقيمها على الأرض ويستفيد منها أهل الأرض يرفض هذا الحبّ الزّائد والمُهلِك ويرفض هذا البغض الزّائد والمُهلِك. وهذا هو الإنسان العظيم “عليّ بن أبي طالب” الإمام الثّائر والعالم والمظلوم الّذي ظُلم ولم يظلم أحدًا. هذا هو القائد والمفكّر العربيّ والمسلم الّذي يجب علينا نحن العرب والمسلمين أن نفتّش في حياته، وندرس مسيرته، وندرك مآثره، وننقب في فكره وعلمه في مجالات الإدارة والتّربية والتّنوير، قبل أن نذهب إلى “جون لوك” و”مونتسكيو” و “فولتير” و”جان جاك روسو” وغيرهم من مفكّري النّهضة الأوروبيّة الحديثة، فقد نجد جميع ما توصّلوا إليه من فكر متنوّر ونظريّات حديثة في مجالات الحياة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق في القرنيْن: الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديّيْن قد استمدّوه ممّا توصّل إليه “عليّ” منذ القرن السّابع الميلاديّ.
وأخيرًا:
كنت سأتوقّف قبل كتابة هذا القسم من مقالتي، على اعتبار أنها اسْتوفيت بكلّ مضامينها وأفكارها، وظلّ الأمر على ذلك حتّى شاركت بحضور “مؤتمر أدب الأطفال: الإشكالات والتّحدّيات المستقبليّة” يوم الثّلاثاء الموافق للعاشر من أيّار سنة (2022) بدعوة من عمادة العلوم الإنسانيّة وقسم الطّفولة المبكّرة في “أكاديميّة القاسميّ” في مدينة “باقة الغربيّة”، وامتدّ المؤتمر بزخم محاضراته ومداخلاته حول جوانب متعدّدة من أدب الأطفال منذ التّاسعة صباحًا حتّى الثّالثة بعد الظّهر. سيسأل سائل: “ما علاقة ذلك بالإمام “عليّ بن أبي طالب”؟ ولماذا صار من الضّروريّ أن تزيد المقالة الطّويلة أصلًا بصفحتيْن أخرييْن؟
والحقيقة أنّني أعجبت بجميع المحاضرات ومضامينها وأسلوبها وبخاصّة محاضرة الأستاذ “د. محمود أبو فنّة” (ولد سنة 1945) وكانت بعنوان “أدب الأطفال المحلّيّ: الواقع والتّحدّيات”، وما أثار اهتمامي وانتباهي وإعجابي أن يستهلّ “د. أبو فنّة” محاضرته بمقولة للإمام “عليّ” كنت قد ذكرتها في مقالتي من قبل، وهي “ربّوا أبناءكم على غير أخلاقكم، فإنّهم خُلقوا لزمان غير زمانكم” حيث تؤكّد هذه المقولة أنّنا نملك في ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة كنوزًا تربويّة أغدقناها على الثّقافة العالميّة وبخاصّة الأوروبيّة في كثير من المجالات العلميّة والتّربويّة. وبالمقابل يأتي بعض المحاضرين ليكرّر لأكثر من مرّة ضرورة حاجتنا إلى التّرجمة في مجال أدب الأطفال عن الأدب الغربيّ وغير الغربيّ، اليابانيّ مثلًا. لست ضدّ التّرجمة بل معها كوسيلة من وسائل التّواصل الثّقافيّ بين الحضارات الّتي أؤمن بأنّها تتكامل ولا تتصارع كما يدّعي “جهابذة” العولمة ومنظّروها المأجورون عند الشّركات الاقتصاديّة الكبرى والمتعدّدة الجنسيّات الّتي تريد أن تنهب ثروات شعوب العالم وتهيمن على مقدّراتها المادّيّة والرّوحيّة وأن تحوّل أسمى القيم الأخلاقية النّفيسة وأعظم المعاني الإنسانيّة الغالية إلى موادّ وسلع وبضائع تباع وتشترى في الأسواق التّجاريّة بأبخس الأثمان.
ولو عدنا إلى تراثنا الثّقافيّ العربيّ القديم والعظيم في كتاب “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” وغيرهما وترجمنا لغته الكلاسيكيّة إلى لغة عربيّة جديدة تلائم عصرنا الحديث لوجدنا فيه كنوزًا هائلة حتّى لأطفالنا الّذين دعانا “عليّ” إلى تربيتهم بغير ما تربّينا عليه لأنّهم سيحيَوْن في زمان مغاير ومختلف. كيف لا! وقد أكّد علماء وباحثون غربيّون غنى تراثنا بهذا المجال، فقد أدركنا بتريتنا لأطفالنا منذ العصور الوسطى أنّ الطّفولة مرحلة عمريّة مميّزة وخاصّة ومختلفة عن الكبار، بينما نظر الغرب في تلك القرون إلى الأطفال على أنّهم “رجال صغار” وأرضعت أمهاتنا أطفالهنّ بحبّ وحنان، وإذا تعذّر الأمر صحّيًّا جلبن لأطفالهنّ لاستواء نموّهم المرضعات، أمّا الأمّ الغربيّة في القرون الوسطى فقد نظرت إلى طفلها كحشرة ماصّة لدمائها، وفي تراثنا العلميّ سبقنا الغرب بالطّبّ وكتاب “القانون في الطّبّ” للعالم “ابن سينا” يشهد، فقد درّس الكتاب في كلّيّات الطّبّ في الجامعات الأوروبيّة منذ بداية النّهضة الأوروبيّة وعلى مدى ثلاثة قرون، والأهمّ من ذلك فقد سبقنا أوروبا والغرب بحوالي 500 سنة في تأليف كتاب متخصّص بطبّ الأطفال للعالم “ابن الجزّار”. وقال حجّة الإسلام “أبو حامد الغزاليّ” ما معناه أنّ ما تنشئ عليه الطّفل منذ مرحلة الطّفولة سيؤثّر عليه وسيشكّل شخصيّته في المراحل المتقدّمة، وللإمام “عليّ” مقولات كثيرة في هذا المجال، ذكرتها في باب سابق، أمّا المفكّر والمؤرّخ “ابن خلدون” (1332 – 1406) ومنذ القرن الرّابع عشر الميلاديّ، أي قبل النّهضة الأوروبيّة الحديثة بثلاثة عقود، وقبل أن تمنع المدارس البريطانيّة العقاب الجسديّ والضّرب بطويل وقت، فقد ذكر في مقدّمته، أنّ الضّرب في التّعليم مضرّ للوِلْدان.
وفوق ذلك كلّه أغدق الشّرق على الغرب الأرقام من العرب والورق من الصّين وأساليب البحث العلميّ، وهل ينمو علم وتنمو ثقافة بدون هذه الوسائل والأدوات! أخذ الغربيّون واستفادوا من ثرائها وغناها وأنكروا فضلنا، وشوّهوا أسماء رموزنا محاولين طمس ثقافتنا العربيّة علمًا وأدبًا وعمرانًا وفنونًا واكتشافات وحضارات، ومع ذلك سطعت أشعّة ثقافتنا العربيّة وأنارت العالم كلّه، ولنا خير النّماذج في “عمر بن الخطّاب” و “عليّ بن أبي طالب” و “ابن خلدون” و “ابن سينا” (980 – 1037) و “ابن رشد” (1126 – 1198) و “الإدريسيّ” (1099 – 1166) و “ابن النّفيس” (1210 – 1288) و “ابن الهيثم” (960 – 1040) و “عبّاس بن فرناس” (810 – 887) و “ابن الجزّار” (898 – 979) و “الخوارزميّ” (781 – 847) و “أبو بكر الرّازيّ” (865 – 925) والنّجوم والكواكب والأقمار في مسيرة حضارتنا العظيمة لا تعدّ. ولو توقّف الغربيّون عند إنكار فضلنا لهان الأمر، ولكنّهم عادوا علينا بنظرة استعلاء وتفوّق واستعمار واحتلال وفرض استعباد واستغلال ونهب ثروات وادّعاءات كاذبة بالتّطوير والإعمار والتّقدّم ونشر الحرّيّة والدّيمقراطيّة، وما كانت تلك إلا محض افتراءات ووسائل من سراب كي يسيطروا على أقطارنا ويهيمنوا بالحديد والنّار على شعوبنا وينهبوا ثرواتنا ويستغلّوا أيادي عمّالنا وفلّاحينا كعبيد في سوق العمل الرّخيص، وآخر تقليعاتهم الّتي عادوا بها تصنيع الحركات الإسلاميّة الإرهابيّة المتطرّفة وتنظيمها وتسليحها: “داعش” و”النّصرة” وغيرها وتصديرها لتدمير دولنا وحضارتنا وبيع ثرواتنا ومعالمنا لأولئك الغربيّين، وقد نجحوا فعلًا في تدمير عدّة دول واستولوا ونهبوا وقتلوا وحرقوا وأعدموا وذبحوا تحت شعار الإسلام و”الله أكبر” وبدعم من العالم الغربيّ. هذا هو الغرب “المتنوّر والمتقدّم والحرّ والدّيمقراطيّ”! فلماذا نأخذ منهم! ولماذا لا نعود إلى “عليّ بن أبي طالب” وغيره من العظماء، عظمائنا.