انطباعات وتبصّرات حول رواية “نصف ما تبقّى” لنيفين سمارة
د. محمود أبو فنّه
تاريخ النشر: 27/07/22 | 18:0526.7.2022
تمهيد:
العمل الأدبيّ الجيّد والناجح عندي هو الذي يشدّ المتلقّي ويشوّقه لإتمام قراءته، ويمنحه المتعة الفنيّة، ويثير لديه التساؤلات والتأويلات حول واقعه المعيش، ويكسبه بعض التبصّرات والرؤى لمراجعة نظرته تجاه الأحداث التي حدثت وتحدث في محيطه القريب والبعيد!
صراحةً، نجحت رواية: “نصف ما تبقّى” للطبيبة نيفين سمارة في تحقيق هذا التوصيف، لذلك لم يكن صدفة أن جذبتني لإنهاء قراءتها في يومين ونيّف!
من عادتي أن لا أبحث عمّا كتبه النقّاد والقرّاء عن أيّ عمل أدبيّ قبل إتمام قراءته، وهذا ما فعلته بالنسبة لهذه الرواية، وفعلًا بعد قراءتها وجدتُ أنّها اقد حظيت بالدراسات والنقد لمحاورها وشخصيّاتها وأحداثها ورسالتها وأسلوبها ولغتها لدى أكثر من ناقد وقارئ ممّا يؤكّد على أهميّة الرواية ونجاحها.
الواقعيّة في الرواية:
اعترفَ أكثرُ من أديب أنّه يستلهم واقعه، وأنّ بعضًا من شخصيّته وحياته وأفكاره تظهر في عمله الأدبيّ، وهذا ما استنتجته من قراءة هذه الرواية.
فالشخصيّة الرئيسيّة في الرواية هي طبيبة مثل المؤلّفة، والأحداث تدور في بلدة الصابرة التي أوضاعها لا تختلف كثيرًا عن أوضاع مدينة الطيرة وبلداتنا في البلاد منذ النكبة وحتّى أيّامنا،
والشخصيات الواردة في الرواية قد نلتقي بها في محيطنا وحياتنا، والأزمات والمصائب والمعاناة التي واجهت شخصيات الرواية هي جزء من واقعنا!
بروز الشخصيّات النسائيّة:
تلعب الشخصيّات النسائيّة في هذه الرواية أدوارًا أكثر فاعليّة وإيجابيّة من الشخصيًات الذكوريّة؛ فالدكتورة ميسم في الرواية هي التي تتحرّك وتحرّك الأحداث، فهي التي تعمل في المشفى مع الزملاء والزميلات من الوسط اليهوديّ، وهي التي تحاورهم أو تسكت عن مجادلتهم في وقت الحرب والهجوم على غزّة، وهي التي تساعد الزوجة من الضفّة في معالجة ابنها، وهي التي تكتشف حقيقة زوجها المحامي وليد الذى حقّق الثراء السريع بارتباطاته مع العالم السفليّ فتقرّر الطلاق منه، وهي التي تحبّ جدّتها وتبادلها الحديث، وترافقها في العلاج عندما سقطت صريعة وتوفيت، وهي التي تسرد لنا ما تمرّ به شخصيّات الرواية من صراع وأزمات وآلام وآمال، وهي التي تلتقي بالدكتور المصري علي وتفتح نافذه للحوار معه والتعرّف على معاناته في وطنه مصر، وهو في نهاية القصّة من يجعلها تعي موقفها وتجمّدها ويدفها للتحرّك والتغيير.
إلى جانب شخصيّة الطبيبة ميسم تظهر أختها نبال المعلّمة التي اختارت زوجًا لها أمين صاحب محل لتصليح السيّارات، وقد نجحت في حياتها ومع زوجها وأنجبت بنتّا وولدًا، واتّضح أن اختيارها كان موفّقا، فزوجها أثبت شهامته وإخلاصه ووفاءه لعائلة أهلها في المحن! والجدّة أمّ رشيد كانت مصدر القوّة والثبات للأسرة حتّى وفاتها.
والأمّ أمّ صلاح ظهرت في الرواية كأمّ محبّة عطوف عاشت فاجعة ابنها أمير وحاولت أن تفعل شيئًا لتأكيد حبّها له وحسرتها على فقدانه وتخليدًا لذكراه.
وزوجة الأخ صلاح هنادي ظهرت كشخصيّة قويّة عرفت كيف تتعامل مع ابنها المصاب بالتوحّد ومع زوجها بحكمة وعقلانيّة رغم هشاشة شخصيّة الزوج صلاح وتقلّبها!
شخصيّات الرجال سلبيّة على الغالب:
تأمّلت ميسم من زوجها وليد المحامي الوسيم تحقيق أحلامها في حياة زوجيّة هانئة، لكنّه خيّب آمالها وتوقّعاتها واكتشفت حبّه للثروة والتسلّق بعيدًا عن المبادئ والقيم التي آمنت بها، فلم يتورّع من التعامل مع العالم السفليّ ليحقّق الثراء السريع، كذلك عكف على “التلصّص” وقراءة الرسائل في عنوان الإيميل لزوجته ميسمّ!
أمّا الأخ أمير فكان كما وصفه المحامي وليد: “يحبّ القوّة والمال ويسعى للوصول إليهما بسرعة”- (الرواية: 56)، وكانت النتيجة تورّطه مع عصابات الإجرام، فاعتقل وسجن أوّلًا ثمّ قُتل رميًا بالرصاص.
ونجد الأخ صلاح شخصيّة متقلّبة يعاني من الشكّ والقلق، ويرفض حكم القضاء والقدر الذي ابتلاه بمرض ابنه بمرض الصرع والتوحّد، فسيطر عليه اليأس والغمّ وعدم الرضا.
ويظهر الأب في الرواية فاقد الطموح والأمل، فميسم ابنته تقول عنه: “بدا الإرهاق شديدًا على أبيها. يتقدّم العمر وتصغر الاهتمامات وتنحسر. ترى ذلك جليًّا في والديها مع مرور الوقت. لا يعود في العمر متّسعٌ إلّا لأهمّ الأشياء وأقربها…” – (الرواية: 122)
أمّا الطبيب المصريّ عليّ الذي التقت به ميسم في أحد المؤتمرات في برلين فيعاني من القلق واليأس والإحباط من الأوضاع في مصر ومن حياته مع زوجته الأولى التي طلّقها، ثمّ تزوّج ثانيةّ وأنجب بنتًا سمّاها بيسان كاسم بنت ميسم قبل أن يُعتقل ويختفي!
بعض التأمّلات والطروحات في الرواية:
على امتداد الرواية نقرأ العديد من التأمّلات والطروحات الحكيمة وأحيانًا العميقة التي تثير في نفوسنا القلق والحيرة والمزيد من التفكير، من هذه الطروحات عبارة الطبيبة اليهوديّة “تالي” زميلة ميسم أثناء الجدال والحوار بينهما عن الحرب والقصف على غزّة:
“أنتم رهائن عجزكم، وحبيسو خيالكم الضحل!”. (الرواية:119)
كذلك نقرأ رأي ميسم في تواصل الناس عن بعد – كما غلب على تواصلها مع د. عليّ – فتقول:
“عجيبٌ أمرُ التواصل عن بعد. أغلبُ الناس تشتري بهذا الوهم متعةً وتسلية، والبعضُ – كما يبدو – يشتري همومًا إضافيّة…” (الرواية: 156)
وفي لقاء ميسم الأخير مع د. عليّ وبعد الفراق تقول ميسم:
“…عليها أن تعيشَ مع اليأس، من ادّعى أنّ الأملَ أقلُّ ألمًا؟ لا حرّية مثل حرّية اليأس!” – (الرواية: 164)
وفي نهاية الرواية تجلس ميسم مع هنادي زوجة أخيها صالح تتبادلان الحوار الصريح العميق حول ضرورة رفض التسميات وعذاباتها، فتقول هنادي:
“لو أسمينا الحبّ خطيئة لما أحببنا، ولو أسمينا الزواجَ قيدًا لما تزوّجنا، ولو أسمينا الأمومة حِملًا لما أنجبنا”. – (الرواية: 173)
وتنتهي الرواية بقول ميسم:
“…أنا قد شفيتُ تمامًا…لم يتبقَّ الكثير من الوقت لأتجمّد حتّى أفهم، فأنا لم أكن تائهة، كنتُ متجمّدة. فسأفعلُ وأقولُ ما أراهُ صوابًا، وفورًا. الدنيا كلّها مسرحيّة، علّ الحركة توصلني إلى الفهم والطمأنينة. سلّمتُ أنّني قد أصل لحظة واحدة قبل النهاية وقد لا أصل، المهمّ الطريق، هذا ما تعلّمتُه من عليّ”. (الرواية: 174)
وقد تكون متعة الطريق – كما كتبت الأديبة أحلام مستغانمي – تفوق الوصول!