“وطن على شراع الذّاكرة” في اليوم السابع
ديمة جمعة السّمّان
تاريخ النشر: 29/07/22 | 12:31القدس: 28-7-2022-
من ديمة جمعة السّمّان: ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة المقدسية كتاب “وطن على شراع الذّاكرة”، وهو رسائل متبادلة بين الأديبة الفلسطينيّة د. روز اليوسف شعبان المقيمة في بلدة طرعان في الجليل الفلسطيني، والسّفير الفلسطيني الدّكتور الشّاعر د. عمر صبري كتمتو المقيم في أوسلو. صدر الكتاب قبل أسابيع قليلة “عن دار الأسوار في عكّا، ويقع في 120 صفحة من الحجم المتوسّط، وصمّمت غلافه ومنتجته وأخرجته الفنانة.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان:
عندما يبدأ اثنان بتبادل الرسائل، وهما لم يلتقيا وجها بوجه، بل ولم يزد تعارفهما عن لقاءات افتراضية عبر ندوة ثقافية أسبوعية.. قرأ كل واحد منهما قصائد للآخر ضمن برنامج النّدوة الأسبوعي، فشعرا أنّ ثمة ما يجمعهما، شعر كلّ واحد منهما أنّ نصوص الآخر لامست وترا حساسا يسكنه، فخرجت آهة وجع انطلقت من قلبين ينبضان بحب الوطن.
جاءت الرّسائل تحكي مشاعر الغربة بكل مكوّناتها، إذ أن الغربة لا تقتصر على المكان فحسب، بل قد تشعر بأعلى درجات الغربة وأنت في قعر بيتك، عندما يسلبك المحتل أبسط حقوقك، عندما تجد نفسك وحيدا دون أهل بفعل سياسة التّهجير الممنهجة التي يتبعها المحتل؛ ليسلب الوطن وما فيه من كنوز، ويحرم أهله من حقوقهم على مرأى من العالم أجمع، ولا منصف يقول كلمة حق، يعمل على إعادة الحقوق إلى أصحابه.
” وطن على شراع الذاكرة” رسائل كتبت بالدّموع، تبادلها الدّبلوماسي الشاعر د. عمر كتمتو الذي هجّر من مدينته عكا عام 1948 وهو لا زال طفلا بسن الخامسة، اختلطت عليه مشاعر غربة المكان وذكرياته تحت شجرة التّين في حديقة المنزل، والتي شكّلت لهم مظلّة وحافظة أسرار.
تبادل كتمتو الرّسائل مع المربية الشاعرة د. روز اليوسف شعبان التي بقيت أسرتها في بلدتها طرعان في عام النّكبة ولم تهاجرها، إلا أنّها عاشت نوعا آخر من الغربة، ألا وهي الغربة الاجتماعية، إذ أن معظم أفراد عائلة زوجها هجّروا من حطين إلى الأردن وسوريا ولبنان، وبقيت أسرة زوجها الصّغيرة كالغصن الذي انفصل عن الجذع. وقد ظهر هذا واضحا جليّا عند ابنها البكر هشام الذي عبّر عن مشاعر الغربة في كتابة واجب “الانشاء” في مدرسته، إذ تحدّث بإسهاب عن تلك المشاعر.
من الملاحظ أن الكاتبة شعبان كانت تخاطب صديقها عبر الرّسائل، إما صديقي المغترب أو المهجّر أو صديقي في المنفى، وكان الكاتب كتمتو يخاطب صديقته بِ صديقتي في الوطن.
لم تأت صيغة المخاطبة هذه صدفة، بل حملت دلالات عميقة جدا، إذ أن الرسائل لم تكن شخصيّة بقدر ما هي عامّة، تنقل مشاعر المغتربين مكانيّا وهم خارج الوطن، تماما كما تنقل مشاعر الغربة الاجتماعيّة والوطنيّة لمن يعيش داخل الوطن تحت نير الاحتلال الغاشم.
رسائل قوية ومؤثّرة، كان وقعها على نفسي أشبه بوقع رواية عائد إلى حيفا لعميد أدب المقاومة الشّهيد غسان كنفاني.
الشاعر كتمتو وصف مشاعر الطفل الذي لا زال يسكنه عندما عاد عام 1994 إلى مدينته عكا لأول مرّة بعد تهجيرهم، تلك المشاعر التي حملت عذابات 45 عاما من الانتظار، والتّرقب.
كان وصف اللقاء مع جارة الطّفولة فاطمة يهزّ المشاعر. لم يجرؤ كتمتو أن يكتب رسائله بضمير الأنا، كتبها بضمير الغائب، كتبها عن الطفل عمر، وكأنّه يختبىء خلف هذا الطّفل الذي لا زال هناك يستظلّ بشجرة التّين، ويترك حقيبته تحتها، ويلهو على شاطئ بحر عكا يداعب أمواجه. ربما خشي إن تحدّث بلسان الكهل أن تختفي بعض الصّور من الذّاكرة، فتمسّك بالطفل يستعين به لاسترجاع الماضي بتفاصيله.
من يقرأ الرسائل يشعر بالتّناغم الكبير بين الكاتبين، الكاتبة شعبان تسمع بحر عكّا ينادي صديقها المغترب، فتنقل له النّداء بأمانة، وتسأله إن كان سيلبّي النّداء.
تزور بيته القديم في عكّا- بيت الطّفولة – هي وزوجها وترسل لصديقها الصّور، تعلمه أن ذكراه لا زال هناك.
استعانا بالشّعر، فأخذهما الى عوالم الماضي والذّكريات.
كان كتميتو يستشهد ببعض من أشعارها، وهي كذلك، كانت تستشهد ببعض من أشعاره. فيلتقيان في نقطة تؤكّد أنّهما نتاج شعب منسوج من خيوط متماسكة وعيون لا تحتاج إلى مصابيح النّور. شعب يعرف الطّريق إلى البحر والعنب والزّيتون والرّمان والقمح والحبّ والفرح والألم الذي لن يفارقهم.
رسائل كانت قصيرة، لم تثقل على القارىء، كانت شيّقة، مليئة بالمعاني والمشاعر الجيّاشة، حملت كل منها “عنوان” يحمل دلالات، يؤكّد على ما جاء فيها.
العمق ميّز رسائلهما، فحملت قضيّة وطن بكل ما فيها من ألم وأمل.
هنيئا لنا بهذه الرّسائل التي تشكّل حتما إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، إذ أنّ فنّ كتابة الرّسائل تضاءل في الفترة الأخيرة، ولكنّي ألحظ أنّه يعود تدريجيّا بقوة، فيرتدّ له اعتباره، ليعوّض الفترة الّتي هجرها القلم.
وكتب محمود شقير:
على امتداد ثلاثين يومًا، وبأسلوب شاعري مملوء بالحنين إلى بيت الطفولة وإلى مسقط الرأس عكا وإلى فلسطين، يتبادل د. عمر صبري كتمتو و د. روز اليوسف شعبان تسعًا وعشرين رسالة؛ يتمحور أغلبها حول البيت الذي ولد فيه عمر وعاش بعض طفولته فيه، قبل أن تشرّده الغزوة الصهيونية هو وأهله ومئات الآلاف من أهل البلاد، ليعيش ويعيشوا في المنافي عبر غربة قاسية ومعاناة في أغلب الأحيان.
جاءت هذه الرسائل المرهفة التي اختُتمت بالرسالة الثلاثين التي وجهها مؤلفا الرسائل إلى القراء، بعد عدد من اللقاءات بينهما عبر منصة زووم، المنصة التي اعتمدتها ندوة اليوم السابع المقدسية لعقد ندواتها إثر التحول عن الندوات الوجاهية بتأثير جائحة كورونا، ما يدعو إلى الثناء على الندوة التي كانت سببًا في هذه الرسائل التي صدرت في كتاب يقع في 120 صفحة عام 2022، من دار الأسوار في عكا بإشراف صديقيّ عمر وروز؛ العزيزين حنان ويعقوب حجازي، وهما الجديران بإصدار هذا الكتاب ما دامت عكا هي المقصودة في الغالب في متن الكتاب، وما دام بيت عمر في عكا يشكل بؤرة السرد والعنصر الرئيس فيه.
وكنت طوال الوقت وأنا أقرأ الرسائل أتذكّر رواية “عائد إلى حيفا” التي كتبها الفلسطيني الكبير؛ ابن عكا الأديب الشهيد غسان كنفاني، واصفًا عودة “سعيد س.” وزوجته “صفية” من رام الله إلى حيفا بعد هزيمة حزيران 1967، لتفقّد بيتهما الذي اضطرا إلى تركه في العام 1948 أثناء النكبة الكبرى، وللسؤال عن طفلهما “خلدون” الذي نسياه في البيت من جرّاء الارتباك والخوف من رصاص القتلة المحتلين الذي شكل تهديدًا لهما في ذلك النهار.
عودة سعيد وصفية تختلف على نحو أكيد عن عودة عمر بعد أن امتدت به رحلة المنفى، ثم أتيح له أن يزور عكا غير مرّة ليجد هناك شعبًا ما زال متمسكًا بالأرض وبالوطن، ويجد الجارة “فاطمة” التي عرفته وعرفها في مفاجأة مدهشة أعادت الذكريات إلى نبعها الصافي الوثير، فيما كانت عودة سعيد وصفية تشكل صفعة قاسية لهما، حين التقيا ابنهما “خلدون” وقد أصبح اسمه “دوف”؛ بعد أن تعهدته بتربية مغايرة مهاجرةٌ يهوديةٌ احتلت البيت، وسيطرت على الطفل، وجعلته يكبر على الولاء لدولة الاحتلال؛ حدَّ الانخراط جنديًّا في جيشها.
يتحدث عمر في رسائله عن أمل العودة الناجزة إلى البيت، البيت الذي عثرت روز على مكانه في عكا، وأرسلت صوره إلى عمر في منفاه، ولم تكتف بذلك، بل تحدثت عن فداحة الغربة خارج الوطن، وعن الحنين من جراء قسوة المنفى؛ حدَّ الاستشهاد بآراء المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حول المنفى، وتحدثت عن الغربة وعن المنفى في داخل الوطن حين وصفت تشرّد أهل زوجها في غير مكان.
ولأنَّ شاعرًا وشاعرة هما اللذان صاغا هذه الرسائل الجميلة فلن نعدم قراءة نماذج من قصائدهما، ومن قصائد شعراء آخرين لها علاقة بالحالة التي تحدّثا عنها أو تطرّقا إليها في معرض الكتابة الأدبية الوارفة.
وإحساسًا منهما بضرورة الإنجاز السريع، وبقصد نشر هذه الرسائل في كتاب، فقد كانت الرسالة والرد عليها لا يستغرقان سوى ساعات، وبرغم هذه السرعة في الإنجاز فقد جاءت الرسائل حافلة بالمشاعر وبالرؤى والأفكار، وبالتوقّف عند بعض الظواهر المقلقة في المجتمع الفلسطيني كالعنف الموجه إلى الناس، وبالحديث عن الحياة في المنفى، وكذلك بوصف الأمكنة كما حدث حين تحدّثت روز عن بلدتها طرعان، ووصفت جبلها الراسخ الرصين، وحين تحدّثت عن بعض الفعاليات الأدبية التي شهدتها البلدة في الآونة الأخيرة، وتحدثت كذلك عن جامع الجزار وعن كنيسة يوحنا المعمدان وعن حدائق البهائيين وعن بحر عكا وعن سورها “الذي هزئ بالبحر وهزم الغزاة”.
لغة الرسائل سلسة جميلة متقنة، وأسلوبها يغري المتلقي بمواصلة القراءة من دون ملل، بل إن عمر ينوّع في أسلوب كتابته فينتقل في أثناء الكتابة من السرد بضمير المتكلم الذي يصف حالة عمر الكبير، إلى السرد في بعض رسائله بضمير الغائب وهو يتحدث عن عمر الطفل الذي يقبع في داخل الكهل الكبير.
بقي أن أشير إلى ملاحظتين، الأولى أنني أتمنى على الصديق عمر أن يعيد النظر في موقفه من ديوان “أعراس” لشاعرنا الكوني محمود درويش، ففي الديوان لغة شعرية غاية في الجمال، وفيه إيقاعات داخلية وأخرى متأتّية من حرص درويش على موسيقى القوافي، تلك التي تزيّن شعره وتزيده رونقًا وجمالًا باستمرار؛ وأخص بالذكر في هذا الديوان قصائد: “أعراس، كان ما سوف يكون، قصيدة الرمل، وتحمل عبء الفراشة، حالات وفواصل التي تشتمل على ست قصائد”.
والملاحظة الثانية لها علاقة بسهوٍ وقعت فيه الصديقة روز ص88؛(ربّما بسبب التباس الجملة الواردة في رسالة عمر ص63) حين قالت إن عمر كان يرى عكا صغيرة وهو صغير، والعكس هو الصحيح؛ فقد كان يراها كبيرة وهو صغير، فيما صار يراها صغيرة وهو كبير، وذلك هو الأمر الطبيعي في نظر الطفولة إلى الأماكن، وإلى أشياء الطبيعة بين زمنين متباعدين.
تحياتي إلى الشاعر د. عمر صبري كتمتو المغترب في أوسلو، وإلى الشاعرة د. روز اليوسف شعبان المقيمة في وطنها فلسطين، على رسائلهما التي ترمز إلى وحدة المصير الفلسطيني والتطلعات والآمال؛ سواء أكان ذلك في المنفى أم في الوطن، وتشكّل إضافة نوعية إلى هذا اللون من الكتابة الأدبية.
وقال جميل السلحوت:
معروف أنّ فنّ الرّسائل ليس جديدا في الثّقافة العربيّة، وإن كانت الرّسائل الأدبيّة ليست واسعة الإنتشار في الأدب العربي الحديث. لكنّها تبقى موجودة، فعلى سبيل المثال في العصر الحديث هناك رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، غسان كنفاني وغادة السمان، أنسي الحاج وغادة السمان، خليل حاوي ونازلي حمادة، رسائل شقي البرتقالة محمود درويس وسميح القاسم، رسائل آمال عواد رضوان ووهيب نديم وهبة التي صدرت في كتاب” أتخلدني نوارس دهشتك”، محمود شقير وحزامة حبايب، محمود شقير وشيراز عنّاب، الأسير حسام شاهين وقمر، جميل السلحوت وصباح بشير. و”رسائل فوق المسافات والجدران” لنسب أديب حسين، والذي يحوي الرّسائل المتبادلة بين نسب ود. بيان نويهض، والرسائل التي تبادلها والداهما المرحومان أديب حسين وعجاج نويهض.
بداية يجدر التّنويه بأنّ الكاتبين تعرّفا على بعضهما من خلال تقنيّة زوم، بحضورهما جلسات ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة الأسبوعيّة التي تعقد جلساتها مساء كلّ خميس، والتي انتقلت من قاعة المسرح الوطني الفلسطينيّ- الحكواتي- في القدس، إلى تقنيّة زوم بعد جائحة كورونا عام 2019، حيث انضمّ إلى الندوة عدد من الكتّاب والمثقّفين من خارج القدس ومن جميع أنحاء العالم. وها هي جمعت بين شاعرين فلسطينيّين عن بعد، بين الفلسطينيّ الدّكتور عمر صبري كتمتو، الذي ولد في عكّا، وشرّد مع أسرته منها وهو طفل في نكبة شعبه ووطنه الأولى عام 1948م، ويقيم الآن في أوسلو-النّرويج، والدكتّورة روز اليوسف شعبان، التي ولدت وترعرعت ولا تزال تعيش وتعمل في بلدة طرعان الجليليّة الفلسطينيّة. وقد تطوّرت العلاقة بين الأديبين عندما ناقشت ندوة اليوم السّابع “مسرحيّة بيت ليس لنا” للدّكتور عمر كتمتو، وديوان “أشواق تشرين” للدّكتورة روز اليوسف شعبان، وكلاهما أعجب بما كتبه الآخر، فتولّدت بينهما صداقة عن بعد أنتجت لنا كتاب الرّسائل هذا.
وهنا لا بدّ من التّنويه بأنّ نشر الرّسائل التي تبادلها الأديبان الكبيران محمود شقير وحزامة حبايب قد فتحت الباب أمام الكتّاب؛ لنشر رسائل تبادلوها، كما حصل مع جميل السلحوت وصباح بشير، فنشرا رسائلهما “رسائل من القدس وإليها، قبل رسائل اليوسف وكتمتو بأيّام قليلة، فالأخيران كتمتو واليوسف تكتّما على رسائلهما حتّى ظهرت بداية شهر تمّوز-يوليو-2022في كتاب
” وطن على شراع الذّاكرة”، فهل أصابتهما العدوى من شقير وحبايب كما حصل مع السلحوت وبشير؟ والجواب: ربّما.
لكنّ الوضع مختلف بالنّسبة للأسير حسام شاهين، الذي كتب رسائله لقمر بنت أحد أصدقائه الذي اختبأ في بيته وهو مطارد، وتركها طفلة عندما وقع في الأسر عام 2004.
ما علينا، سنعود إلى الكتاب الذي نحن بصدده، “وطن على شراع الذّاكرة”، وهذا العنوان يدخلنا في دائرة تساؤلات كثيرة، فالكاتب د. عمر صبري كتمتو ولد عام 1943 في مدينة عكّا الفلسطينيّة، وشرّد وأسرته مع من شرّدوا من أبناء شعبهم في نكبة العام 1948م، لكنّ ابن الخامسة هذا لم ينس مسقط رأسه، وطفولته الأولى وذكرياته الطّفوليّة البريئة في بيت أسرته ومدينته وبحرها الذي تحطّمت على أسوارها سفن نابليون قبل قرنين وعقدين. وإذا ما عاش هذا الطفل في دمشق ودرس في مدارسها، ودرس مرحلته الجامعية في صوفيا، وعمل في الجزائر، وتنقّل في بعض الدّول الإسكندنافيّة، وعمل في بعضها سفيرا لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة وللسّلطة الفلسطينيّة، إلّا أن بوصلته لم تحد يوما عن وطنه الذي شرّد منه، ولا عن بيت أسرته في مدينة عكّا.
ويلاحظ أنّ الرّسالة الأولى التي كتبتها د. روز اليوسف شعبان مؤرّخة في 13 مارس 2022. وجاءها الرّدّ في اليوم التّالي مباشرة. وأنّ الرّسالة الأخيرة كتبتها د. شعبان أيضا في 10 ابريل 2022، وأنّ كلا الكاتبين كتبا خاتمة هذه الرّسائل في 11 ابريل 2022. أيّ أنّ هذه الرّسائل المتبادلة قد كتبت وأعدّت للنّشر في أقلّ من شهر واحد.
ويلاحظ أنّ الكتبة شعبان كانت تفتتح رسائلها بـ “صديقي المغترب عمر، فيردّ عليها:صديقتي في الوطن روز” و”صديقي في المنفى، فيردّ عليها: صديقتي في الوطن” و” صديقي المغترب، فيردّ عليها: صديقتي في الوطن”، لتتطوّر العلاقة الأخوية بينهما، فيكتب د. كتمتّو:”صديقتي وأختي العزيزة روز، فتردّعليه: صديقي وأخي العزيز عمر”.
ويلاحظ أنّ هذه الرّسائل المتبادلة من وراء البحار، كان الجامع بين الكاتبين فيها هو حبّ الوطن، يقول د. كتمتو ص 18:” لا تؤاخذيني يا صديقتي، فأنا لم ألتق بك بعد، غير أنّ الوطن وحبّ الأدب جمعنا.”، وبما أنّ رسائلهما احتوت على قصائد لكلّ منهما، وحتّى قصائد لشعراء آخرين مثل محمود درويش وراشد حسين وشكيب جهشان تعبّر عمّا يجيش في صدر كلّ منهما، فإنّ د. كتمتو يقول:” يا لهذا القدر الذي أوصلنا إلى صياغة الواقع في جمال الشّعر ورحابة صدر اللغة.”ص20.
وهنا لا بدّ من التّنويه بأنّ الكاتبين قد استعملا في رسائلهما لغة شعريّة وشاعريّة جميلة، تأسر المتلقّي وتسحره بجمالها ومباشرتها ورقّتها، وازدادت جمالا بالمضمون الذي يتحدث عن وطن شُرّد شعبه، وعن ذكريات إنسان رقيق يتذكّر مسقط رأسه ومدينته بلوعة بائنة، فتتلقّفها أديبة متمكّنة وتعزف على حبّ الوطن هي الأخرى، فهل تبقى الذّكريات حلوة حتّى لو كانت مرّة؟ لكنّ التّعلّق بهذه الذّكريات تؤكّد من جديد، أنّ الحق سيعود لأهله ولو بعد حين.
من الرّسالة الأولى يذكر د. كتمتو بأنّ الطفل الذي كانه وكبر معه، لم ينس البيت الذي ولد فيه، ولا شجرة التّين التي أمامه، ولا سمعان بائع الفخّار، ولا المقبرة التي بجانب البحر، ولا مطعم خريستو، ولا سبيل الطّاسات أمام مسجد الجزّار، حتّى أنّه عندما زار الوطن الذّبيح عام 1994، عاد يبحث عن بيته وما تحمله ذاكرته في طفولته عن مدينته، وهناك التقى بزميله في الدّراسة الجامعيّة المرحوم المهندس اسماعيل بكري، وزوجته الفنّانة سامية قزموز، ويعقوب وحنان حجازي والفنّان محمّد بكري.
لكنّ د. شعبان هي الأخرى لم تكتف بما ذكره صديقها د.كتمتو عن ذكرياته في عكّا، فذهبت هي الأخرى تبحث عن تلك الذّكريات، وتصوّر البيت وتبعث الصّور لمالكه الذي لن ينساه.
وإذا كان الدّكتور كتمتّو قد زار الوطن مرّة أخرى، ووقّع مسرحيته في متحف محمود درويش، وعاش ولا يزال وسيبقى يعيش مرارة التّشتّت والرّحيل، ويعذّبه الحنين إلى الفردوس المفقود، إلّا أنّ د. شعبان تعيش هي الأخرى لوعة ضياع وطن تعيش فيه، ومأساة ضياع وطن وحرمان شعبها من حقوقه، فكلاهما يتعذّبان وإن اختلفت الأسباب، لكنّهما لم يفقد الأمل بعودة الحقّ إلى أصحابه.
وبعد صدور الكتاب، التقى الكاتبان في أوسلو حيث سافرت د. روز وزوجها إلى تلك البلاد، وهناك سيكون البوح بالذّكريات عن عكّا وغيرها.
وماذا بعد: يبقى القول أنّه لا يمكن الإحاطة بمحتويات هذا الكتاب في هذه العجالة، والذي اتّخذت رسائله الطابع السّرديّ المطعّم بقصائد شعريّة، ولا ينقصه عنصر التّشويق بحيث يتمنّى القارئ بأن لا تنتهي هذه الرّسائل، التي تشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة بشكل خاصّ، وللمكتبة العربيّة بشكل عامّ، وترجمتها إلى الإنجليزيّة وإلى لغات أخرى ستشكّل رافعة جديدة لمأساة شعب ووطن.
وكتبت صباح بشير:
صباح بشير:
وطن على شراع الذّاكرة
كانت الرسائل وما زالت منفذا هاما لمداخل بعض الشخصيات الأدبية، عبّروا من خلالها عن مناطق مظلمة في حياتهم، أضاؤوها بشعلة البوح والصدق، فكتبوا بحبر القلب ومداده، مشاعرهم وأفكارهم، وبالقلم رسول الكلمة، ضخّوا بالدماء فيها لتنبض بالشوق والحنين. ومن المعروف أن أدب الرسائل فن أدبي من الفنون النثرية، اهتم به الأدباء والنقاد رغم انحساره في وقتنا الحاضر، وقد يكون هذا النوع من الأدب، من أهم الفنون الأدبية التي تُسمِع صوت الكاتب وتعرّفنا به دون تصنُّع، وهذا هو سرّ قيمتها وجمالها، فمن خلالها نعرف كتّابنا على حقيقتهم، ذلك لأنهم حين يكتبون رسائلهم لا يتّخذون شخصية تخالف حقيقتهم.
ها هو هذا الفن النثري بأنواعه، يشهد نهضة جليّة وتنوّعا في مضامينه، وتطوّرا في المحتوى والأسلوب، وممّا يثبت ذلك، تعدّد الأدباء الذين اهتموا بالمشاركة في موضوعات متنوعة في رسائلهم، أدبيّة اجتماعيّة وسياسيّة، فعبّروا عمّا ينطوي بداخلهم دون تكلّف، ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر البعض ممن تنوعت رسائلهم بين مواضيع مختلفة، أشجان وأحزان، مثل رسائل الرافعي لمي زيادة، مي زيادة والعقاد، غسان كنفاني وغادة السمان، جبران خليل جبران ومي زيادة، آمال عواد رضوان ووهيب نديم وهبة، محمود شقير وحزامة حبايب، ومؤخرا صدر كتابنا “رسائل من القدس وإليها” لجميل السلحوت وصباح بشير.
أما كتاب “وطن على شراع الذّاكرة” فقد صدر قبل أيام عن دار الأسوار في عكا، وهو رسائل متبادلة بين الشاعرة روز اليوسف شعبان المقيمة في قرية طرعان الجليلية، والشّاعر عمر صبري كتمتو المقيم في أوسلو.
يقع الكتاب في 120 صفحة من الحجم المتوسّط، وقد صمّمت غلافه ومنتجته الفنانة مرام صبّاح. حملت هذه الرسائل التي أُعدّت وكُتبت في شهر واحد، الشيء الكثير من عبارات حبّ الوطن، الحنين والأمل، وسنوات الطفولة الأولى والذكريات البريئة، مدينة عكا وبحرها، الانتماء والوفاء للأرض، فالوطن هو نبض القلوب وشريانها، إليه يحن كل مهاجر غائب، فكيف يكون الأمر حين يكون الغائب شاعرا وكاتبا؟ ساحته ومنبره الذي يعرف هو الكتابة، تلك التي تسكنه فتغدو وجوده وكيانه الذي يتماهى، ليعبّر عن نفسه ومكنونات وجدانه، فالشاعر كتمتو الذي ولد في عكّا، شرّد منها وأسرته خلال النكبة عام 1948م، أما الكاتبة شعبان فقد ولدت في قرية طرعان، تعيش فيها وتعمل، وقد تطوّرت علاقتهما بعد تعارفهما في ندوة اليوم السابع المقدسية الأسبوعية، فنشأت بينهما صداقة عن بعد، اجتمعا فيها على حبّ الوطن.
يقول د.عمر كتمتو ص8 بلغة شفيفة جميلة: أنه لم ينس بيته الذي كانت تجاوره شجرة تين معطاءة، ولا رحلته مــن خارج مدينته القديمة العريقة.
وتقول الكاتبة د. روز ص15 بلغة شاعريّة جميلة: هنا كانت جدّتـي وجدتك، تسقيان أحواض الحبق والنعناع، تعقدان المنديل على رأسيهما، تشمّران عــن سواعدهما وتزرعان كروم الزيتون والعنب والرّمان.
حققت هذه الرسائل التّماسك في الفكرة والتشويق في أسلوبها، فقد أفضت كلّ فقرة إلى الفقرة التي تليها بسهولة ويسر. هذا الأسلوب يضيء السطور للمتلقي ويفتح آفاقه على الصّلة الوثيقة بين الموضوع المطروح، كما لاحظنا الاهتمام بخواتيم الرسائل بنفس القدر والحرص على مقدّماتها، ولعلّ الكتّابين قد حرصا أيضا على المضيّ قدما نحو إقامة الفكرة التي تضمن تفاعل القارئ، وتنأى عن الأشكال التقليديّة للرسالة الأدبيّة، فجاءت اللغة جزلة واضحة في مجملها، وقـد أسعفهما موضوعها الإنساني الشفاف، الذي أبرز حالة المشاركة الوجدانيّة لكليهما، فأكّدا على صدق العاطفة وعشقهما للوطن، الذي حضر بكل ما يملكه من ماضٍ وتاريخ وحاضر.
ثمة أحاسيس كثيرة متزاحمة في هذه الرسائل، وازدحام هادئ محبب لطيف يطغى على كل جزء فيها، بدأً من الحنين الذي لا تكاد تخرج منه إلا وتعود إليه، وصولا إلى الأحلام والذكريات، والعناوين الكثيرة، فكل عنوان هو محطة بذاتها، إذ تبدأ الرسالة به ليجد القارئ نفسه أمام صور متعددة تتفرّع منه، يرافقها الأحاسيس التي تجتمع في ذات الهاجس، وهو الشوق إلى الوطن.
لم يخطر لي حين بدأت قراءة هذا الكتاب أن تلك الأحاسيس التي حمَلتها هذه الرسائل ستسكنني، فهي تروي حكاية شعب، وتسير في فضاءات الّذاكرة الجمعية التي تمتّد وتمتّد، تختبئ خلفها الأحلام والصور الشعرية، عبق التراب والأزهار وبيوتنا الصامدة، الأمنيات والرغبات وخطوات العابرين وأصوات المهاجرين، فتجمع غزالات القلب ومواسم الوعد، وتنثر الحبّ على جدران الدهشة، فتطّل الأمنيات خلف الحروف لتَرقُّب المستقبل، علّه يزهر بخطى العائدين ومواكب الغائبين.
أبارك للكاتبين هذا التميز في الكتابة وحسن اختيار الفكرة والوصف، مع كل الأمنيات بالتوفيق والتألق الدائم لكليهما.
وكتبت نزهة الرملاوي:
صديقتي روز، صديقي عمر:
بعد التّحية والسّلام، والرسائل الباعثة للإلهام، ها أنا ألملم شتات روحي وبقايا تأثري بعد انتهائي من قراءة رسائلكما الموسومة في كتاب وطن على شراع الذاكرة، تلك الرسائل التي ولدت من رحم الصّدفة ومن لقاءات ثقافية مميّزة في فضاء أزرق رحيب.
رسائل رومانسية كتبتني على أشرعة الأبجديات، رسمتني كمنارة شامخة قبالة السّاحل، هناك حيث تغازل الشّمس عكّا فتنطوي خجلا خلف الأسوار، تستحمّ في بحرها الأبيض، تمشّط شعرها بالنّور، وتطلق تراتيل عشق للحياة، وصلوات أمل بالحريّة.
رسائل حنين أخذتني إلى البعيد البعيد، إلى الجليل وطرعان وقصائد شوق تحيي تشرين من قلب روز الجميلة، حملتني إلى عكا وعمر الصغير وبيته العتيق، إلى شجرة تين تنتظر طيورا هجّرت وما عادت، تنتظر كهلا فارقها صغيرا، آنست ذاكرته جذورها الباقية، وبيتا يسكنه مهجّر آخر، بكى، ترك القلب معلّقا في فضاء المدينة، ثمّ مضى في شوارع الاغتراب.
رسائل أغرقتني بعواطفها الجيّاشة، أبكتني، أخذتني إلى منازل الغربة، نبشت حقول الذاكرة وعرّتها، جالت بالأمكنة وتنهّدت، كعبق جميل يلاحقنا يغلّف أجواءنا لنحيا، صور معلقة على جدران أزمنة جميلة، لا نستطيع نسيانها؛ بل نستمد منها العزيمة والثبات.
رسائل صنعت من الوقت الرّاحل حكاية المستقبل، أخذت تثبّت أشرعة الذاكرة بقوّة؛ كي لا تمزقها رياح الغربة، ويبقى عمر في غياهبها فتنساه الأماكن.
شاركت روز الفرح وهي تراقـص الـورود والأزهـار، وتشـدو مـع العنـادل والبلابل، وشاركتها الحزن لانطفاء النور وانحناء السنابل قهرا وذلّا.
أيها الكهل العائد من سفر بعيد، ما نسيتك عكا ولا رمال شاطئها، ولا تسابيح فجرها النادي، ما نسيتك فاطمة ولا مطعم خريستو ولا قناديل الحارة ولا تكبيرات الجزار ولا طاسات العذراء، بل كان فرحهم بعودتك بحجم السماء، فتحت لك المدينة قلبها، فأسمعتك دقات الاشتياق السّاكنة في زوايا الحارات ولمّة الأحباب في بيوتها الدافئة.
أحبائي: قرأت رسائلكما المكتوبة بحبر الحزن والألم، قرأت بين ثناياها الأمل بعودة قريبة، رغم قذارة النكبة ووحشيّة اللجوء وعقود من الشقاء.
رسائل أزاحت السّتائر عن مشاهد نكبتنا المؤلمة، طفل يمسك بيد أخته وعيناه لا تفارق ألعابه الباكية وخربشاته المتروكة بالدفاتر تحت ظلال تينة وفيّة ثابتة، بكت المهاجرين وأصواتهم، والمؤمنين وصلواتهم، بكت أناشيد الطفولة وحقائب سفر مزّقتها المراكب الراحلة، بكت ألعاب الطفولة وروضة ما غابت عن خيال الصغير.
التينة تنوح في مسامعي وقلبي يعلو بالصّراخ: يا إلهي: أيّ تين يحمل جبالا من الهموم، ينتظر وفود العائدين ولا يعتريه اليأس، ولا يطويه الملل إلا تين الوطن؟!
أحبائي: شكرا لرسائل أبهجتنا، امتلكت حلاوة السّرد بحروف جميلة رقيقة، وجمل متماسكة دقيقة، أثارت عواطفنا وتماهت ما بين القلب المغترب والقلب الشاعر بالاغتراب، ما أرقّ تلك المشاعر حين تغرقنا بالأمل، نتوسّم النصر على الفقد ومرارة الغياب!
صديقتي في الوطن روز، صديقي المغترب عمر:
ها هي الشّمس تطوي بقايا الليل وتعود مع كلّ طلعة نهار، تلملم خطى الصّامدين وتكسّر أبواب الانتظار.
تكلل عشقنا للوطن بالزنابق والياسمين، عشق مندفع مسكر حتى الثّمالة، لم يولد بداخلنا فجأة، بل كان مكوّنا لجيناتنا المتوارثة.
ومن شيكاغو كتبت هناء عبيد:
ما أجمل أن نجد من يكمل كلماتنا وما يجول بخاطرنا شعرًا ومشاعرًا وإحساسًا، ومن يهدينا الأمل في سطور إهداء خُطّت من واقع مرير مرّ بآلامنا وأحزاننا، هذا ما جاء في كتاب الرسائل الأدبيّة “وطن على شراع الذاكرة”.
غلاف الكتاب يكشف عن حنينٍ إلى الوطن، وهو أحد عتبات النصّ الأدبي، حيث البيت المهجور من أهله والشراع الهائم على شواطئ الذكريات.
الرسائل تحكي آلام الفلسطينيين ومأساتهم سواء كان ذلك في داخل الوطن أو خارجه، فقد كتب على الفلسطينيّ، أن يعيش العذاب أينما حلّ، عذاب الحنين والشوق في الغربة، وعذاب الاحتلال والتضييق، بل وأحيانا الغربة في داخل أسوار الوطن.
وقد استطاع الأديبان أن ينقلا هذا الواقع المؤلم ببراعة، بحيث أن من عاش خارج الوطن أو داخله وجد نفسه بين السطور، واقشعرّ جسده لكلّ حدث وواقع وتفصيلة إن صغرت أو كبرت.
فقد جاءت الرسائل عفوية، صادقة، مسترسلة، شاعرية، استطاعت أن تجد لها مسربا في ثنايا قلوبنا دون تكلف أوعناء، وجاءت مواضيعها لتلامس مشاعرنا دون إقحام، بل وجدت طريقها سهلًا لا مشقة فيه ليدق جدران حنيننا.
وهنا لا بد من أخذ زاوية قد تبتعد قليلا عن محتوى الرسائل، وجدت أنه من المهم تسليط الضوء عليها، وهي عن مدى أهمية الندوات الثقافية في فتح أبواب جسور التعارف بين الأدباء والمثقفين، والتفاعل مع الظروف المعيشية المختلفة للإنسان أينما كان من هذا العالم، وفي أي بقعة وجد، وأشير هنا تحديدا إلى ندوة اليوم السابع المقدسيّة الأسبوعيّة بإدارة الأديبة الرّاقية ديمة السمان، وأعضاء الندوة الكرام الّتي جمعت قلمين أدبيين استطاعا أن يخطّا مشاعر متشابهة رغم بعد المسافات، وكان لي الحظ الوافر أيضا بالتعرف على هاتين القامتين السامقتين من أهل وطني، إضافة إلى قامات باسقة لا يتسع المجال هنا لذكرها جميعها.
ولعل من يقرأ هذه الرسائل يدرك تماما أنها لا تخص الأديبين فقط، بل هي رسائل تخصّنا جميعنا؛ نحن أبناء فلسطين، سواء كنا داخل الوطن أو خارجه، فهي تحكي واقعنا جميعنا، بل وتصف مشاعرنا بكل دقة.
فأنا على سبيل المثال، تشوقت إلى شجرة التين التي كان يلعب تحت ظلها الطفل عمر، ومت حزنًا حينما زرتها وإن كان الموقع يختلف، فهي ليست في عكا إنما في مدينتي القدس، زرتها ولم أجدها، كم بكيتها كما بكاها الدكتور عمر، فقد كانت تتحمل شقاوتنا بكل صبر، وكانت تمدنا بأعذب طعم، وأحلى نكهة.
استطاعت هذه الرسائل أن تدخل القشعريرة إلى أجسادنا، فكيف لطفل أن يعود كهلا ليرى بيته الذي يحمل كل ذكريات طفولته، وقد سكنه الغريب دون أي حق، أي ظلمٍ أكبر من هذا؟
إن مثل هذه الرسائل، تعتبر أكبر توثيق لمأساتنا الفلسطينية، ولعلها تكون أكبر تعويض عن غياب قضيتنا من الذكر، ودحض للإعلام الأصفر الذي يقول أن الأرض ليست أرضنا، لقد استطاعت هذه الرسائل أن تثبت للجميع سواء بالصور أو بالذكريات التي تسكننا حتى بعد البعث أن الأرض أرضنا، وأنها ستعود ولو بعد حين.
تخلل الرسائل قصائد شعرية للأديبين، وكأن إحدى القصائد تكمل الأخرى، حيث توافق الأفكار والمشاعر والأحاسيس، فجاءت لغتها متناغمة ومتناسقة، وهذا ما حدث في معظم لغة الرسائل التي كانت تسير في وحدة لغوية متشابهة.
وكما توقعت فقد شدتني عذوبة اللغة وشاعريتها وانسيابيتها، فهي ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها أعمال الأديبين، إذ كنت قد اطلعت سابقا على عمل مسرحي للدكتور عمر كتمتو بعنوان “بيت ليس لنا” وتشرفت بكتابة مقالة كاملة عنه، تحدثت فيها عن هذا العمل الأدبي القيم، كذلك قمت بعمل فيديو في قناتي باليوتوب تتناول هذا العمل من جوانبه المختلفة، كما أسعفني الحظ بقراءة بعض أشعاره الّتي تدخل القلب دون استئذان بسبب شاعريتها وصدق أحاسيسها، وكذلك الأمر مع الدكتورة روز اليوسف الّتي تشرفت بقراءة ديوانها “أشواق تشرين” الذّي يحمل معه نسائم وطنية رقيقة، ومشاعر تنطق بأعلى صوتها بأنها مشاعر الدكتورة روز اليوسف، فهي تشبهها في أحاسيسها ونبضاتها ورقتها، وقد كان لي الشرف أيضا بكتابة مقالة كاملة عن هذا الديوان.
وأظنني وغيري ممن أبعدوا قسرا عن الوطن، جذبهم الحنين والشوق إلى ذكرياتهم الّتي انغرست في الذاكرة، خاصة هؤلاء الذين ذاقوا عسل وحلاوة العيش على أرض الوطن ولو لفترات قصيرة، فأصبحت مرارتهم مضاعفة، حينما وعوا وقد أصبحت الحواجز التي تحولهم عن الوطن كترسانة صلبة لا يمكن اجتيازها إلا بالمشقة، لهذا بكينا بيت الدكتور عمر الذّي هو بيتنا كما بكاه، وانغرست سكاكين الألم في قلوبنا ونحن نرى الغريب وهو يدنس أرضنا بكل وقاحة.
ولكن رغم البعد إلا أن الوطن يشتاق إلى ذلك الطفل الذي تعلقت بذاكرته كل ألوان الجمال، فالأمل موجود بالعودة لا محالة، والذكريات العالقة في الروح لن تنمحي يوما، وستظل شوكة تؤرق راحة المحتل الغاشم، فلن يهنأ يوما بأرض اغتصبها، سيظل الحنين إلى الأرض والشوق إلى الأحبة بندقية تهدد مضجع هذا المغتصب.
رسائل وطن على شراع الذاكرة، رسائل تؤجج الحنين إلى الوطن، فتبكينا تارة وترسم الابتسامة على وجوهنا تارة أخرى، تؤلمنا وتسعدنا، تسقمنا وتشفينا، إنها رسائل الأمل والبشرى بأن الحق عائد؛ رسائل إنسانية شاعرية تضيف قيمة أدبية إلى أدب الرسائل وإلى رفوف مكتباتنا العربية.
وقال الدكتور عزالدين أبو ميزر:
بداية لا أملك إلا أن أقول : الله الله الله ثلاثا على هكذا رسائل اجتمع فيها الفن والأدب، واللغة والخيال والبيان والسحر والابداع، والجمال في قارب واحد، كان الاثنان شراعي هذا القارب الجميل. ورسائل وقعت في فترة وجيزة امتدت من: 13-3 الة 10-4-2022، وليست أعواما كغيرها من الرسائل.
فهي رسائل سريعة سرعة الاتصالات السريعة في هذا الزمن السريع. بين أديبين التقيا صدفة في ندوتنا العتيدة ( ندوة اليوم السابع) كتباها على صفحات افتراضية، وانتقلت بينهما على وسائل الاتصال الافتراضية. وقد قال العلماء لنا : الضغط يولد الانفجار، ونسوا أن هذا الضغط ولد لنا جمالا وإبداعا نحن في أمس الحاجة إليه في هذا الزمن الرديء.
حيث كلا الكاتبين وضع نفسه وبرغبة منه وإصرار تحت هذا الضغط، وهما يعلمان علم اليقين ككاتبين قد سلما نفسيهما للقدر الذي يخفي في نفس كل منهما هواجس، ويفرض حبا لا إراديا بينهما يجعل الواحد منهما منجذبا للآخر بشكل لا إرادي، يبحث عن نقاط الإلتقاء ليخرجا لنا عملا رائعا
ومولودا من صنع أيديهما، أطلقا عليه إسم : وطن على شراع الذاكرة.
هذا الحب اللاإرادي الجميل يملي عليهما مزاجا خاصا يقرب الواحد من الآخر للوصول إلى النجاح.
هذا الحب اللاإرادي الذي أضع نفسي تحته عند كتابة أي قصيدة ناجحة.
بعد قراءتي المستفيضة ترسخ في ذهني ما كنت اعتقدته سابقا وانطبعت به لاحقا عن الكاتبين وكتاباتهما، وبعد قراءتي لما كتبا، أوجزه في نقاط :
◇ إن د. عمر كتمتو شاعر مطبوع، وأديب رائع. وأن د.روز شعبان أديبة رائعة تملك ناصية البيان والكتابة بجدارة وكفاءة لا يمكن لأحد إغفالها. وتمنيت بعد قراءة رسائلها لو أن كتاب (أشواق تشرين). الذي ناقشناه في ندوتنا كانت كتبته على شكل خواطر نثرية. لا على طريقة الشعر الحر، لابتعدت عن كثير من التعقيدات وسجع القوافي التي وضعت نفسها فيه، فلديها شاعرية رائعة في نثرها كأديبة تفوق الوصف تغنيها عن لقب شاعرة.
◇ د.عمر في إحدى رسائله لها ، (بعنوان المغامرة)وهما يتحدثان عن القاسم المشترك بينهما ، والشاعر الكبير محمود درويش وديوان: أعراس، انتبه بأدب جم إلى ذلك فقال لها :
“لاحظت فارقا بين نثرك وشعرك رغم استخدامك الدائم في نثرك لتعابير اختص بها الشعر، وهذا دليل قاطع على شاعريتك. وأردف إن التفعيلة لا تأتي عن طريق تعلّمها بل عن طريق الاحساس بموسيقاها من خلال القراءة والاستماع لأشعار من قبلنا، وصولا لعصر النهضة الحديث والتي أصبحت موسيقى البحور والتفاعيل جزء من ذاكرة موسيقى التفعيلة، لأن هذه البحور هي البديل السمعي للسّلّم الموسيقي.
ويبقى الجزء الأهم من ذلك وهو : اختيار القافية.
وهذه تخضع لشروط أخرى”
(انتهى كلام د.عمر.)
◇ لقد بدأت الرسائل بينهما
بِ صديقتي في الوطن. و ….
صديقي في المهجر.
ومع تتابع الرسائل وتحت الضغط الذي سبق ذكره والحب اللإرادي الذي يفرض نفسه عليهما كانت آخر رسالة :
صديقتي وأختي في الوطن
وصديقي وأخي في المهجر
ولو زادت الرسائل وأصبح المنادى أكثر قربا وانسجاما ودفئا لما وجد القارىء غضاضة أو شططا في ذلك، وإنما هو صدق الشعور وصدق العاطفة في إيصال الرسالة وأمانة الكلمة، والتي تفرض ذلك بكل حسن نية وسلامة طوية.
◇ إن كل رسالة لها وضعها الخاص بها ولها جمالها وحلاوتها، ولم أجد غير خطأ مطبعي في الكتاب مع سلامة تامة في قواعد اللغة، وكانت السمة الأبرز فيه مما يثلج قلب القارىء.
◇ إننا في ندوة اليوم السابع عامة وأنا بشكل خاص نفخر بكاتبنا الدكتور عمر، وأديبتنا الرائعة د.روز، ونشد على أيديهما ونبارك لهما هذا الإصدار ونغبطهما على جمال ما كتبا.
وكتبت هدى عثمان أبو غوش:
رسائل تسافر عبر الرّسائل الإلكترونية من الوطن إلى المنفى، ومن المنفى إلى الوطن، بين أصدقاء جمعتهم ندوة اليوم السّابع المقدسية التي تعقد كل يوم خميس في مسرح الحكواتي في القدس، والتي انتقلت إلى تطبيق الزوم بسبب الكورونا، تلك الرسائل ذات مضمون وطني بعيدة عن الأسرار الشخصية أو العاطفية التي كانت بين مي وجيران أو غادة وغسان أو أنسي الحاج وغادة وغيرهم.
في تلك الرسائل تنتصر الذاكرة والحنين والحب للوطن، رسائل تؤكد على حفظ الذاكرة الفلسطينية وعدم النسيان وإن أُقتلعت وغابت شجرة التين وصار البيت بملامح عبرية، وتؤكد أن المنفى ليس بيت الفلسطيني، رسائل وجدت فيها زملائي في الندوة روز وكتمتو مع حفظ الألقاب، كلّ يساند الآخر، روز تبث الأمل في نفس كتمتو وتتعاطف معه، وكأنها تريد أن تبرق برسالة لكل فلسطيني في المنفى، إنا معكم صبرا وإن طال المدى، هنا ننتظركم. أما كتمتو فيعزز من صمودها وشعبها.
رسائل رأيت فيها الجميلة عكّا بين قلوب محبيها في الوطن والمنفى، رأيتها في همسات وبوح ابنها كتمتو حين فاض حنينه لطفولته، وأكثر في المشهد الإنساني المؤثر عندما تحدث وتعرّف على جارته فاطمة في زيارته لعكّا بالصدفة، ورأيتها في سرد روز في وصفها الشاعري لعكّا.
من خلال تلك الرسائل ظهرت شخصية روز الإنسانة المبادرة المساعدة، وفي إسعاد صديقها كتمتو في البحث عن بيته،وإيجاده، كما ظهرت عاطفة روز الجياشة تجاه الوطن من خلال قلمها الجميل، وكما ظهرت شخصية الطفل عمر التي كشفت عن صفاته.
استخدم الكاتبان عدّة وسائل للمراسلة، الواتس آب ،التقاط الصور وإرسالها، كرسمة الأيائل من جهة كتمتو والبيت في عكا من جهة روز. والرسائل الإلكترونية.لقد تمّ سرد الرّسائل من خلال الوصف والحوار والأسلوب الانشائي والشاعري، فمثلا استخدمت الكاتبة روز الحوار بينها وبين البحر بأُسلوب شاعري، كما واستخدمت أسلوب التأنيس في جعل شجرة التّين تسأل عن كتمتو وتحنّ إليه، للدلالة على أنّ الأرض والشّجر ما زالا أوفياء لأبنائهم وعدم النسيان، كما واستخدمت الخيال في نقل صورة معبرة عن طفولة عمر قبل النكبة نسجتها الكاتبة من خيالها.
أسلوب المدح كان جليا في الرّسائل في نقل مدى تأثر الكاتبين بما يكتبه الآخر من قصائد تعبر عن الوجع والحنين للوطن. أجد هناك إسهابا في تعليق الكاتبة على مسرحية ،”بيت ليس لنا”،فالرسائل يجب أن تعرفنا إلى الأشخاص لا إلى الإنتاج الأدبي، وهذا هو سرّ قيمتها.
ذكرت الكاتبة روز حدائق البهجة أثناء ذكرها أيضا الأماكن في عكّا كجامع الجزّار والبحر، حبذا لو ذكرت مكان الحدائق في حيفا، لأن القارىء سيظنّ أنّها في عكّا.
تمّ عنونة الرّسائل وعادة لا يتمّ وضع عنوان حين نرسلها للأصدقاء، وإنمّا تم وضعه من أجل الكتاب.
من الواضح من خلال قراءتي للرسائل أنّ الكاتبين خططا لجمع الرّسائل منذ البداية وليس بشكل عفوي، ويظهر ذلك من التقديم وأيضا حين يقول كتمتو مخاطباً روز ”أنّ هذه الندوة كانت السبب فيما نعمل عليه الآن.. وهنا لا بدّ لي من أن أُثمّن فكرتك الهامّة لاجتماعنا على كتاب واحد”والسؤال الذي يحول بخاطري ماذا لو كانت الرّسائل غير مخططة للنشر؟ انسيابية غير محددة في إطار الوطن، فهل كنّا سنحظى بمعلومات شخصية أكثر أو يتمّ الكشف عن أحداث أخرى فيها تنوع عدا الاشتياق للوطن؟
أُبارك للأصدقاء عملهما المشترك في إنشاء تلك الرّسائل الجميلة التي كانت باقة حب وحنين للوطن.
وقالت نزهة أبو غوش:
تبادل الكاتبان الرّسائل مابين شهريّ آذار ونيسان، أي لمدّة شهر واحد فقط.
لقد اخترقت الرّسال الأثير والحواجز العسكريّة، وقوّة الاحتلال، لتصلنا ناصعة نقيّة من قلبي أديبين متمكّنين من اللغة الأدبيّة، والتّعبير الصّادق التّلقائي غير المتكلّف.
الكاتب عمر كتمتو فلسطيني مهجّرمن مدينة عكا، يحمل الجنسيّة السوريّة؛ بينما الكاتبة شعبان فلسطينيّة مقيمة في الداخل الفلسطيني.
لقد غلبت العاطفة على معظم الرّسائل الّتي تحلّت باللغة الأدبيّة الجميلة؛ فهي عاطفة الشّوق والحنين، والحرمان، والتخوّف من المستقبل، والأسف على الماضي المؤلم لشعب قد هجّر وتشتّت، وحرم من أبسط حقوقه الإِنسانيّة؛ من أجل حياة حرّة كريمة.
نجد أنّ في رسائل كتمتو تكثر عواطف الحنين ولوعة الشّوق للوطن والمدينة العتيقة، عكّا الرّابضة فوق سطح البحر. الاشتياق للبيت القديم والأزقة المعتّمة والحواري، وشجرة التّين الكبيرة المظلّلة الّتي ترك تحتها دفاتره وألوانه. وأنّ الذّاكرة منذ طفولته قد أقضّت مضجعه، وأرهقته.
في رسائله الموجّهة للكاتبة روز، فتح الكاتب قلبه بكلّ صدق وأمانة وأفرغ من حجراته كلّ ما يؤلمه وينغّص عليه حياته، وخاصّة أنّه يعيش مرحلة متطوّرة من العمر؛ أشعرنا بأنّه يفقد الأمل؛ لكنّ الكاتبة الصّديقة تفاجئنا بطريقة ذكيّة برسالتها المبدعة “ما زال بالعمر بقيّة”.
لاحظت من خلال الرّسائل بأنّ الكاتب يشكو ويتألّم وروز شعبان هي الطّبيب النّفسي المعالج الّذي يحتوي كلّ شيء. نجد مثلا في ص 82 تقول له مواسية: ” هوّن عليك يا صديقي، فأنت تزور عكّا كلّ يوم من خلال ما تكتبه عنها، أنت تراها في أحلامك ويقظتك، ورائحة البحر تعبق في أنفك فتملأ قلبك وروحك غبطة وفرحا، هي كلّها لك…” كما أنّها تؤكّد له بأنّها أيضا تعيش غربة أخرى في وطنها.
الأهل مهجّرون في بلاد الله والبعد يفرّق بين الأحباب.
جميل من الكاتبة أن تذكّر صديقها ببعض أبيات من شعره؛ كي يهدأ أكثر فتقول له: ألست القائل في شعرك” كم قلت لك/ رطّب شفاهك من مياه النّبع/ كي تقوى على الغيظ الّذي أدمى الشّفاه.” ص84.
ملامح الرّسائل بالدرجة الأولى هي أدبيّة، ممّا يضيف للرسائل قيمة ذات فائدة. كما أنّها لا تعتمد على الوصف الذّاتي للكاتبين، بل تتحدّث عن قضايا عامّة تخصّ الناس ذوي العلاقة. غير أنّها تخوض في مواضيع جغرافيّة وتاريخيّة واجتماعيّة، وسياسيّة. من خلال الرّسائل يتمكّن القارئ على التّعرّف على الأماكن طبيعتها وجغرافيّتها، نحو بلدة الكاتبة شعبان، بلدة طرعان فقد ذكرت عن نشاطات هذه البلدة في مدارسها، كذلك طبيعة مدينة عكا وموقعها من فلسطين عامّة، وعن مناطق فلسطينيّة أخرى؛ أمّا من النّاحية التاريخيّة فقد تحدّث عن تاريخ نكبة فلسطين من خلال مساعدة الاحفاد في دروسهم. أمّا عن الحياة الاجتماعيّة فقد بدت واضحة من خلال الحديث عن الأصدقاء المشتركين بين الكاتبين .
لقد ضمّن الكاتبان بعضا من أشعارهما في الرّسائل ممّا أضاف لفحوى الرّسائل بعدا أدبيّا؛ كذلك التّنصيص لشعراء آخرين من الوطن العربي، مع أنّني أرى بأنّه كان زائدا أحيانا في حجم القصيدة وكان القليل يكفي.
وقالت رفيقة عثمان:
انبثقت فكرة الرّسائل المُتبادلة بينهما، من خلال تعارفهما عبر الزّووم تحت مظلّة “ندوة اليوم السّابع المقدسيّة” .
تبادل الكاتبان رسائلهما عبر صفحات التواصل الاجتماعي، خاصّة (الفيسبوك) و (الواتس أب )؛ حيث تضمّنت الرّسائل مضامين مختلفة منها: الاجتماعيّة، السياسيّة، التعبيرعن المشاعر الخاصّة، بث الشّكوى، وعرض تفاصيل خاصّة عن حياة كل واحد منهما مهنيّا واجتماعيّا.
من الممكن تصنيف هذا النوع من كتابة الرّسائل المتبادلة بين الكاتبين، بأدب فن الرّسائل النّثريّة؛ والّذي كان رائده “أحمد حسن الزّيّات” وهو واحد من كبار النهضة الثّقافيّة في كل من مصر والعالم العربي، (سليمان ربى، 2022 المحتوى العربي). من النت.
حضرت هذه الرّسائل على غرار الرسائل الصّادرة، مثل الرسائل المُتبادلة بين (الأديبة مي زيادة وجبران خليل جبران، وغسّان كنفاني مع غادة السّمّان، وفي العصر الحديث ظهرت رسائل مُتبادلة بين الشّاعرين: محمود درويش مع الشّاعر سميح القاسم) وغيرهم. يبدو بأنّ هذا النّوع من الرّسائل الأدبيّة، ابتدأ بالاستخدام في الآونة الأخيرة؛ نظرًا لانتشار وإتاحة وسائل التّواصل الإلكتروني.
أهم ما لفت الانتباه في رسائل “وطن على شراع الذّاكرة”، بأنّه برزت عاطفة الحنين والحسرة والشّجن على فقدان الوطن والبيت خلال الغربة، لدى الشّاعر عمر كتمتو، ومقابلها ظهر الأمل في العودة إليه مهما طال الزّمان، وبالمقابل عزّزت الكاتبة شعبان هذا الأمل في روح الكاتب المُغترب كتمتو؛ من خلال زيارة بيته في عكّا، بعد البحث عنه طويلًا، ونقل تفاصيل المكان، وإرسال الرّسائل التوثيقثيّة بالكتابة والصّورة، ممّا أضاف في نبش الذّاكرة والحنين للوطن، ودفع الكاتب المغترب للتّعبير عمّا يجول في نفسه من حنين وحسرة الاغتراب. حظي المكان مكانة مرموقة في الوصف، والمشاعر الجيّاشة؛ لفقدانه والاشتياق لاحتضانه مع كل تفاصيله الصّغيرة.
إنّ بحث الكاتبة روزعن بيت الكاتب عمر كتمتو المُغترب في عكّا داخل فلسطين التّاريخيّة، أضفى تشويقًا للرّسائل المُتبادلة، وجعل القارئ يتتبّع الاحداث حتّى العثور عليه، وإرفاق صورة للبيت القديم المهجور؛ ممّا أضاف استثارة الإحساس بالحنين والشجن لدى الطّرف الآخر.
صاغ الكاتبان رسائلهما بلغة أدبيّة فصيحة سلسة وبليغة، وأبدعا في الوصف للأماكن بلغة شاعريّة، باستخدام الشعر النّثري من تأليفهما في وصف المشاعر الجيّاشة، والحنين المفرط للوطن وحرقة الاغتراب. استخدم الكاتبان المحسنات البديعيّة الجميلة، والّتي أضفت على الرّسائل عنصر التّشويق للقراءة.
أبدع الكاتبان في الوصف الجميل للأماكن المختلفة بطريقة دقيقة، وفي وصف البحر وأمواجه، باستخدام الصور الشعريّة والبيان، والمحسنات البديعيّة.
استخدم الكاتبان “التّناص” وخاصّةً للاشعار المتوافقة مع آراء الكاتبين كما ورد في صفحات: (19-17-14- 57- 61-62 – 75-76- 79- 82-101-102). للشعراء: حافظ إبراهيم والشّاعر راشد حسين والشّاعر أبي تمّام الطّائي، وإدوارد سعيد، والشّاعر محمود درويش، والشّاعر شكيب جهشان، والشّاعر أبو القاسم الشّابي، والشاعر أحمد شوقي.
برأيي أنّ هنالك مبالغة في استخدام التّناص المُستخدَم بالرّسائل وطول الفقرات الشعريّة المُتناصّة، لشعراء آخرين. يظهر التأثّر الشّديد للكاتبة روز بشخصيّة الشّاعر الفلسطيني “محمود درويش” حيث ورد الاستشهاد بأشعاره الوطنيّة، والّتي تهتم بالوطن والاغتراب وحق العودة وما إلى ذلك.
رسائل الكاتبين: روز وعمر على الرّغم من قصر فترة المراسلة وحصرها في شهر واحد تراوح ما بين تاريخي: .13.3.2022ولغاية 10.4.2022- إلّا أنّها نجحت أن تضيف قيمة جماليّة ومعرفيّة متنوّعة، والكشف عن جوانب كثيرة عن الشّخصيّتين وحياتهما الخاصّة؛ لخدمة الأهداف الاجتماعيّة والوطنيّة العامة، بعيدًا عن الخوض في إبرازالذّات والنرجسيّة؛ ممّا أضفى قيمة أدبيّة كبيرة، وتشويقًا شديدًا.
ظهر التناغم بين الشّخصيّتين، في الفكر العميق والإحساس، على الرّغم من فوارق السّن بينهما؛ ممّا نجح في خلق إبداع متميّز.
برأيي لو كانت الفترة الزّمنيّة للمراسلة أطول، ما بين الرسالة والأخرى بين المُرسِل والمُستقبِل؛ لإتاحة الفرصة بتكوين الأفكار واختمارها في العقل والقلب لدى الكاتبين؛ ظنًّا مني بأنّ هذا العمل الأدبي سيحظى بقيمة أكبر ممّا هو عليه.
وكتبت دولت الجنيدي:
كتاب رسائل متداولة بين عمر كتمتو وروز شعبان تكمل إحداهما الأخرى وتجيب عليها، ويجمعهما الأدب والشعر وحب الوطن وفقده والألم والمعاناة والغربة. هو يعيش غريبا مبعدا عن وطنه وهي تعيش الغربة بداخله. تبادلا هذه الرسائل خلال فترة قصيرة ” شهر واحد من الزمان” لكنها تحمل في أعماقها وبين طياتها الكثير الكثير من الحب والألم والمعاناة والصبر والمشاعر الفياضة، وشحذ الهمم وبعث الأمل في النفوس من خلال السرد الجميل والحروف العذبة، والاستعارات الرقيقة، وبعض السجع أحيانا. ولغتها السهلة الجميلة التى تأسر القارئ وتشجعه على الإستمرار بالقراءة والمعاني الجميلة، التي تعبر عن مكنون قلبيهما المفعمين بحب الوطن والألم مما ألمّ به من اغتصاب واحتلال، وطرد صاحب البيت وإسكان الغريب المحتل مكانه ومع ذلك يبثان الأمل في الصدور بتغيير هذا الواقع الى الأحسن بإذن الله.
هذا الوطن الذي هجر منه الطفل عمر كتمتو عام النكبة 1948 وعمره خمس سنين مع جميع أفراد عائلته من مدينته عكا، وتجرعوا مرارة الاغتراب، هذا الطفل أصبح سفيرا لبلاده في أوسلو النرويج، ولكنه لم ينس مدينته ولا شجرة التين أمام بيته، ولا حقيبته وقرطاسه وقلمه الرصاص ولعبه الكرة والغميضة مع أصحابه، وأكرمه الله بزيارتها للمرة الأولى عندما أرسل في مهمة رسميه والتقى بالصدفة بفاطمة صديقة العائلة وببعض أصحابه فغاص في أعماق ذكرياته، واقتفى أثرها فتذكر مطعم خريستو على رمال البحر وفي طريقه الى خارج المدينة توقف أمام سبيل الطاسات مقابل جامع الجزار كي يشرب ماء زلالا كما شرب منه صغيرا .ويعود وفي قلبه فرحة اللقاء ووجع الرحيل. وزارها مرة أخرى مع زوجته وابنته. كل ذلك قرأته الدكتورة روز في رسائله وأجابته عليها، وأخبرته أنها ستذهب لبيته وتصوره وترسل له الصور، وفعلا ذهبت وأرسلت له رسائل لا أعذب ولا أجمل منها. وكتب عن سوريا التي عاش فيها وشرب من ماء بردى وعين الفيجة وعن عذب مائها وعن نسائها وغيرة رجالها، وعن البلاد اتي تنقل بينها ودرس فيها.ولكنه لم ولن ينسى عكا وكت،ب قولي لعكا أن ابنك العاق لا يستطيع أن يمحو ذنب الرحيل، هجرك طفلا ويتمنى أن تضميه في ترابك كهلا. وتضمنت الرسائل بعضا من أشعارهما وقصائد أخرى لمحمود درويش وشكيب جهشان وغيرهما. وأخيرا أعود الى الإهداء: الى جميع المغتربين والمهجرين عن أوطانهم عامة، والفلسطينيين خاصة الذين عانوا مرارة المنفى وقساوة الاغتراب. المقدمة هي ملخص هذه الرسائل.
وكتبت فاطمة كيوان:
مرة أخرى يطالعنا كتاب جديد من كتب الرسائل. هذا النوع الأدبي الجميل الذي بدأ يستعيد وجوده . وجاءت هذه المجموعة التي لم يتعدّ الشهرين تبادلها منمقة جميلة انسيابية، لطيفة وشاعرية تدخل القلب بدون استئذان. مفعمة بالحب والحنين للأرض والوطن والذكريات.
احتوت أيضا بالعديد من الأشعار المقتبسة لبعض الشعراء وللكاتبين نفسيهما كانت قد نشرت في دواوين لهما سابقا، وكذالك لم تخلُ من التناص الأدبي المرصع لشعراء آخرين أمثال احمد شوقي كما جاء في رسالة الدكتور عمر ص 102 ( سلو قلبي) وراشد حسين وغيرهم مما زادها ثراء أدبيا.
جائت هذه الرسائل بلغة نثرية بعضها وشعرية أخرى وكانت عبارة عن خزائن من الحكايات والمشاعر الفياضة بما حوت من بوح وفصفضة وحنين للوطن ومسقط الرأس ” عكا”.
يأخذ المكان بجمالياته وتركيبه من حيث الجغرافيا او الطبيعة الساحرة حيزا كبيرا فيها.
ويتجلى ذلك في وصف البحر ورمال الشاطئ والسور العظيم، ويتعدى ذلك لاستذكار البيت وجوانبه وشجرة التين، ووصف المقبرة والسوق وأهلة ومعالم المدينة مثل جامع الجزار وحديقة البهجة، أي كل ما كان داخل السور ” المدينة الحقيقية” على لسان أحد شخصيات المدينة ص 14 في رسالة د.عمر كتمتو .
وسيرة المكان هذه لها أثر كبير في استحضار الذكريات وما للذكريات من بعد عقائدي وديني والعاطفي النفسي والتاريخي. فهنا الشاعران يستحضران المكان في محاولة منهما لإعادة ذلك الزمن الذي هرب والذي فقد. لأن الإنسان دون ذكريات هو كائن مبتور الوجود .لا امتداد له.
وهنا يحضرني قول الكاتب حسن المصلوحي في الرغيف الأسود .( كيمياء المكان تصنع منك شخصا آخر) .
هؤلاء الكاتبان اللذان تعرفا على بعضهما من خلال ندوة اليوم السابع المقدسية التي جمعت وتجمع العديد من القامات الأدبية، ولا يسعنا إلا أن تقول شكرا كورونا التي عرفتتا بهم من خلال تقنية الزوم على امتداد العالم كانت مصدرا للإلهام لهم للكتابه . فقد جمعتهم العديد من الأفكار والهواجس وخاصة قضية الاغتراب .
فهما يعيشا الاغتراب بشتى اشكاله الاجتماعية والسياسية ولمكانية كما ذكرت ذلك د. روز في رسالتها المؤرخة 4/4/22 .
كذالك في استحضارها إحدى محطات الذاكرة في صفحة 15.
” هنا كانت جدتي وجدتك تسقيان أحواض الحبق والنعناع وتعقدان المنديل على رأسيهما.”
وهي صورة أدبية جميلة جدا.
ووحدتهم فكرة الحديث عن الوطن للأبناء لتدوين وكتابة التاريخ كل عن بلده خاصة وانهم يعون أهمية كتابة التاريخ .
فجاء صفحة 10 ” تأخذنا الحياة تقذفنا في المنافي، نتجرع حسرة الفقدان ومرارة الاغتراب لكننا لا ننسى” .
فالوطن يسكنهم ولا يستطيع الكاتبين أن يهربا منه.
وكان من الجيد ما ذكرت الكاتبة عن تلك المحافل الأدبية التي أقيمت في بلدتها طرعان، وفي ذالك إشارة الى النهضة الثقافية التي تحاول بعض الأطر برمجتها و دعمها مثل اتحاد الكتاب الكرمل 48 وغيرها.
و يبقى الأمل يسكن الشاعرين رغم ذلك. الأمل بالعودة والأمل بالغد الأفضل.
من اللافت أن الرسائل خلت من ذكريات فرحة واجواء مرحة للشاعرين، وكانت مليئة بالحزن نوعا ما والتحسر . ويا حبذا لو استحضر لنا الكاتب بعض القفشات من أيام الطفولة وطالت الرسائل أكثر، لنستكشف خبايا نفس الشاعرين أكثر وأكثر ونستمتع بالمزيد من الجمال الأدبي.
وكتبت خولة سالم العواودة:
عاد كما عاد آلاف مثله للوطن افتراضيا وعبر رسائل التواصل الاجتماعي واستقبله الوطن برسائل اشتياق أيضا وعبر التواصل الاجتماعي ، بصدق وصلت كل تلك المشاعر المتبادلة بين مغترب ومقيم، بين ملتاع لرؤية بيت وشجرة تين وحي وشارع غادرها طفلا قسرا، مهجرا يحمل حقيبته الصغيرة، وعاد كهلا يحمل كل الذاكرة في شراع مسافر، وبين مقيم يرسم لوحة الوطن بحرفية رسام وشاعر يوصل السلام والتحية من البيت المهجر والتينة المقتلعة حديثا ومما تبقى في فناء البيت، ومن أهل وأحباب تعثرت بهم ذاكرة مغترب وبحث مقيم .
هكذا قرأت رسائل عنونت ب ” وطن على شراع الذاكرة ” للثنائي شعرا ونثرا وأدبا د. عمر كتمتو ود.روز اليوسف شعبان .
منذ أن بدأت القراءة لم أتوقف لحظة إلا وقد التهمت وجبة فاخرة من مشاعر صادقة أدخلتني دوامة الغربة والاغتراب، الفقد والحنين، بكيت مرات ومرات وأنا اتابع الرسائل المتبادلة بثقة المتأمل بعودة وإن طال الاغتراب .
قرأت عكا وحيفا والناصرة وطرعان ولنقل الشمال الفلسطيني ببذخ حضوره وأنا الجنوبية التي لم ترَ البحر والساحل إلا في رحلات نادرة جدا، أذكر فيها ملامح الأماكن المذكورة، ولكنها راسخة في الوجدان رسوخ الذاكرة الجمعية لأبناء الوطن على امتداد تواجدهم في الوطن والمهجر.
وقالت سامية شاهين:
تدور الرسائل بين د. روز وبين الأديب عمر كتمتو حول الغربة والحياة التي عاشوها في مدينة يافا المهجرة وعكا.
دلالة العناوين: استخدم كل من الأديبين عناوين تحمل دلالة الغربة والحسرة على البلاد المهجرة مثل حقيبة السفر، وعناوين تدل على معالم البلاد المهجرة مثل التين، البحر وعبق الوطن.
استعمال التعابير الشاعرية العاطفية، رمال الشاطئ، الصخر، الضجر والحزن إلخ.
وطـن.إنـك