“توت عن توت يفرق” – قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني
تاريخ النشر: 30/07/22 | 8:49شجرة التوت التي اهتدينا إليها هذا العام في مشوارنا الصباحي المعتاد، أنا وزوجتي، تختلف عن تلك التي كنا نضعها على برنامج المشوار الصباحي في هذا الموسم خلال السنوات الثلاث الماضية. الأشجار المزروعة قرب سياج البيوت تمتد أغصانها لتصبح فوق الممر المحاذي للشارع، ممر مخصص للمشاة في الرصيف تفصله عن الشارع مساحة عشبية خضراء. الشجرة الجديدة في حديقة بيت يقع على تقاطع شارعي جون وسنترال بارك واي، يانعة وكثيفة الأغصان والأوراق، أوراق كبيرة الحجم كأنها من توت بلادنا، على عكس الأشجار الأخرى ذات الأوراق الصغيرة والأقرب إلى الأشجار البرية. هذه الشجرة اكتشاف يستحق الذكر، فقد وضع نفسه على مسار أي مشوار صباحي لنا بغض النظر عن المسار الذي سيتضمنه المشوار، حتى يمكن القول “كل المشاوير تقود إلى التوتة”، كما كان يقال كل الطرق تؤدي إلى روما. ثمارها الناضجة أيضاً أكبر بما لا يقارن من ثمار تلك الشجرات التي تعرفنا عليها سابقاً، ولكن للإنصاف ينبغي القول باستثناء الشجرات الثلاث الموجودات في حديقة بيت المسنين في الطرف الآخر للمدينة التي مررنا بها صدفة، شجرات يشبهن هذه الشجرة في كل المزايا، ولكن ذلك المكان بعيد ولا يمكن دمجه في مشوار المشي الصباحي. صارت التوتة الجديدة هدفنا، نصلها قبل أن ترتفع درجة حرارة النهار وذلك لسببين، أولهما لنتفادى الأشعة فوق البنفسجية التي تشكل خطراً على الجلد، وخاصة على الصلعة، وثانيهما فإن أكل التوت و”الدنيا شوب” يسبب الإسهال. نتناول حباتها الناضجة الحلوة، ثماراً ناضجة لدرجة أن أصابعنا تصطبغ بعصيرها الذي يخرج بمجرد لمس بعض الثمار الناضجة جداً.
قبل أيام راودتني نفسي أن أحضر وعاء صغيراً لأعود ببعض التوت إلى البيت، لكنني تراجعت عن الفكرة لأسباب تتراوح بين الخوف من الإحراج إن رآنا صاحب البيت من جهة، ولاعتبار ذلك ليس من حقنا واعتداء على حقوق مارة آخرين. في ذلك اليوم حين أقبلنا باتجاه الهدف، وخلال وقوفنا على الإشارة الضوئية لنقطع الشارع نحو توتنا، فمن حقنا أن نقول “توتنا” انطلاقاً من حقوق الاكتشاف، شاهدنا رجلاً على سلّم قصير تحت التوتة. لم نفكر بالتراجع، إنها فرصة لمعرفة ردة فعله، لنعرف فيما إذا كان ما نقوم به مستساغاً بأعراف هؤلاء الناس وهل هو مقبول في القانون أم لا؟ حضّرت نفسي لمرافعة تفصيلية، إن اعترض، مستندة إلى تعاليم أمي بأن ثمار الأغصان خارج السور حلال للمارة، وحتى ثمار البستان حلال للجائع يأكل منها حاجته، ولكن لا يحق له أن يقطف زيادة عمّا يكسر جوعه. كان الرجل يعلق قطعة قماش كبيرة على الأطراف السفلية لأغصان متباعدة لتتساقط فيها ثمار التوت حين يهز الأغصان. وصلنا وألقينا التحية ثم وقفنا تحت الأغصان الممتدة خارج السياج والتقطنا بعض الثمار، نزل عن السلم وبيده الوعاء الذي يجمع فيه الثمار، رجل سبعيني بوجه بشوش، علاقته بالشجرة وملامحه جعلتني أفترض أنه كان في يوم من الأيام فلاحاً، رد التحية ودعانا لتناول التوت من وعائه. أخبرناه أننا نمر من هنا في مشوار الصباح ونستمتع بمذاق ثمار شجرته، فرحب وأكد لنا أنه يتقبل ذلك بكل سرور. خمنت أنه لا بد من بلدان حوض المتوسط ورجحت أن يكون يونانياً. الكثير من الناس في هذا البلد لا يستسيغون سؤال “من أي بلد أنت؟”، ولكن إن بادر وسألك هذا السؤال فلا مانع من أن ترد بسؤال بمثله. قلت له في بلدي نضع تحت الشجرة قطعة قماش أو بلاستيك كبيرة ونهز الشجرة لنجمع التوت الناضج، فبادر بالسؤال “من أي بلد أنت؟” أجبته “من فلسطين، وأنت؟”، فأجاب بأنه من البرتغال.
كانت ثمار “توتنا” هذا الصباح شهية، كانت هناك كمية كبيرة من الثمار السوداء اللامعة الحلوة، أكلنا نصيبنا منها، وزدنا بعض الثمار التي ما زالت حمراء بطعمها الحامض، وتأكدنا أن الموسم ما زال يعد بثمار ناضجة للأيام القادمة، فهناك ثمار كثيرة لم تنضج بعد.
في طريق العودة، حين اقتربنا من شجرة كنا نعرفها سابقاً، كانت أوراقها صغيرة يشوبها بعض الاصفرار، وتلوح بعض الثمار الصغيرة السوداء، كان التباين بين هذه الثمار وثمار توتنا شاسعاً. هل كانت سابقاً هكذا، أم أنها أصبحت كذلك في نظرنا بعد أن عرفنا التوتة الجديدة؟ شعرت بالأسى نحوها، وشعرت بالذنب، إنني أسيء إليها إن مررت عنها وكأنني لا أعرفها. سمعتها تعاتبني “يا ناكر الجميل، أهكذا تمر دون سلام؟ ألم تسمع بالمثل القائل اللي ما له بقديمه ما له بجديده؟”. اعتذرت لها، اقتربت وأمسكت بطرف غصن مرتفع، شددته وقطفت بضع ثمار سوداء صغيرة وأكلتها، وقلت شكراً. رأيت الشجرة تضحك وسمعتها تسامحني.
مشيت بخطوات قصيرة تثقل كاهلي أحمال صور تتوالد في الذاكرة، كل صورة منها تلد صوراً.
موسم التوت والولد الذي يجمع الثمار على الندى مع أمه، أولاً من تحت التوتة البيضاء بعد هزها لتقع الثمار على القش المفرود تحت الشجرة نظيفة سليمة إلى جانب تلك التي سقطت من تلقاء ذاتها أثناء الليل. ثم ينتقلان إلى التوتة السوداء الموجودة في حضن السلسلة الحجرية التي تفصل الجزء العلوي من البستان عن الجزء السفلي، مما يجعل جمع ثمارها صعباً.
الولد يركض نحو شجرة توت ضخمة، توتة أكبر من البيت، علقت بأحد أغصانها القوية أرجوحة بسيطة، مجرد حبل قوي توضع في نهايته المستديرة قطعة قماش أحياناً، جلس الولد في النهاية المستديرة للحبل، رجع إلى الخلف بقدر ما تمكنه ساقيه من البقاء ضاغطاً على الأرض، دفع نفسه بأقصى قوته ليطير إلى الأعلى، يطير من الفرح.
عريف الحفل الشاب يردد في مهرجان وطني كلمات توفيق زياد “عندما مروا عليها صباحاً، همست شجرة توت، العبوا بالنار ما شئتم فلا حق يموت”، ويطلب من منسق المهرجان أن يشغل أغنية، فيصدح صوت المغني أبو عرب “يا توتة الدار صبرك ع الزمان اللي جار، لا بد ما نعود مهما طوّل المشوار”.