أيقونيّة غسان كنفاني
حسن عبّادي| حيفا
تاريخ النشر: 05/08/22 | 14:03“عائد إلى حيفا” هي عمل أدبي روائي للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، تتناول تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطيني الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه.
مسرح أحداثها صبيحة الحادي والعشرين من شهر نيسان عام 1948، عام النكبة، وتبدأ بوابل من القنابل والرصاص وقذائف المدفعيّة تجاه أحياء حيفا العربية، وساعتئذ كانت صفيّة قد تركت رضيعها خلدون ابن الخمسة شهور في البيت وخرجت تبحث عن زوجها سعيد وسط حشود الناس المذعورين ساعة اضطرارهم للنزوح. تمر الأيام والسنون ويعودا صفية وسعيد بعد نكسة حزيران 1967 إلى بيتهم في حيفا ليتفاجأ بأن ابنهم خلدون أصبح شاباً يحمل اسم دوف، وهو مجند في جيش الاحتلال وقد تبنّته أسرة يهودية من القادمين الجدد، استحوذت على البيت واستوطنته بعد نزوح 1948 وتبنّت خلدون، وتبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف دوڤ/ خلدون الحقيقة وأصر على الانحياز إلى جانب “الأم” اليهوديّة التي تبنته ولم يرغب بأية علاقة مع والديه الطبيعيين، وفي نفس الوقت كان سعيد/ الأب يعارض التحاق ابنه الثاني/ خالد بالعمل الفدائي، وبعد أن رأى حالة ابنه البكر/ خلدون أعاد النظر بالأمر ووافق فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي وهكذا نرى أن الإنسان موقف، فعلى الرغم من أن خلدون وخالد أخوة في الدم إلا أنهما نقيضان.
بعد زيارتهما لحيفا لخّص سعيد قائلًا: “كنت عَمبفتتش عن الوطن. وبالنسية إلنا أنا وانت، هذا مجرّد تفتيش عن شي تحت غبرة الذاكرة… وشو لاقينا تحت هالغبرة ….؟! كمان غبرة جديدة…!! غلطنا لمّا اعتبرنا إنه الوطن هو الماضي وبس. بالنسبة لخالد، الوطن هو المستقبل. عشرات الآلاف مثل خالد بنظروا للمستقبل، وراح يصحّحوا اخطاءنا واخطاء العالم كلّه.”
جاءني عندما شاهدت مسرحيّة “عائد إلى حيفا” على خشبة مسرح حيفاوي ما قاله محمود درويش حين تعرض لقضية اللجوء والوطن:
وتسأل: ما معنى كلمة “لاجئ”؟
سيقولون: هو من اقُتِلَع مِن أرضِ الوطن
وتسأل: ما معنى كلمة “وطن”؟
سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات….وتضيق بنا؟
تثير الرواية تساؤلات كثيرة حول التهجير والتشريد والغربة والحنين والوطن والإنسان والإنسانية حين يصير الإنسان قضية، وحول العودة وحق العودة، وما هو السبب والداعي لزيارة صفية وسعيد لحيفا وعلاقته بالعودة؟ هل فلسطين استعادة للذكريات أم هي صناعة المستقبل؟
سعيد يعبّر عن مشاعر السخط والمهانة التي يشعر بها في طريق “العودة”، وحين يرى حيفا التي “يرونها” له وليس حيفاه، حيث أصبحت مُحتَلّة، وأصبحت كما يريدها الاحتلال، وليس كما يجب أن تكون، فيبدو السخط والغضب واضحًا في كلام سعيد وتعابيره لرفضه الاحتلال المُذل والمُهين ويعبّر عن معاناته المُرّة لما آلت إليه الحال وحسرته، ويزيد شعوره بأنه أخطأ في تركه لبيته أيًا كان السبب الذي دعا إلى ذلك.
هذه رؤية غسان كنفاني الواضحة ولا غبار عليها بأن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة لتكون العودة شريفة، بعزّ وكرامة ودون مذلّة ومهانة وليست عودة مبتورة وموءودة.
غسان وحيفا أصبحا متلازمين، وأيقونيّته أصبحت علامة فارقة، وحين تقول حيفا يحلّق اسم غسان في الفضاء، جعل منها “إيسام” و/أو توسيم “branding” أي ماركة مسجّلة وأبقاها حيّة في وجدان كلّ فلسطيني وعربي.
في شهر آذار 2016 استضفنا ابنَ حيفا الشاعر أحمد دحبور الذي ولدَ في حيِّ وادي النسناس الحيفاويّ عام 1946 وهُجِّرَ منها في النكبةِ حين كان في الثانيةِ من عمرِهِ.
كشفَ لي حبِّهِ لحيفاه، وحيفاه الحبيبة هذه كانت تُحضرُها والدتُهُ دومًا في غنائِها، إذ تأخذُه معها في كلّ أغنيةٍ، بصوتها المميّز الجميل، إلى حلم حيفا، ذاك الصوت الذي يحملُ بأشجانِهِ حنينَهُ إلى حيفا، حيفا الجنّة، حيفا الحاضرة، العصيّة عن النسيان.
تحدّث عن الذاكرةِ والطفولةِ والوجدانِ الفلسطينيّ الذي لا يُنسى، ولا يُغفر نسيانُهُ، تحدّث عن معاني المنفى والعودة، وعن غسان كنفاني وحيفاه، مؤكّدًا بجميلِ كلمتِه أنّ بحرَ حيفا لن يخونَ أبناءَ مدينتِهِ العزيزة، مستشهدًا بما قاله غسان، فمنه ستأتي موجةُ العودة القادمة لا محالة.
حين تجولنا في شوارع حيفا، طلب أن نمشي درب غسان كما صوّره في “عائد إلى حيفا”، وأخبرته عن بعض الأخطاء الطوبوغرافيّة التي وردت في الرواية، وأخذ يسترسل بأبياتِ شعرٍ من قصيدته: “يا طيورًا طائرهْ… يا وحوشًا سائرهْ… بلّغي دمعَ أمي أن حيفا لم تزل حيفا… وأني أسأل العابرَ عنها في ربوع الناصرهْ”.
كان للمنفى والاغتراب حضورٌ مميّزٌ في حياته، فهو حيفاويٌّ حتى النخاع، حمل حيفا معه إلى كلّ مكان، كما فعل صديقُهُ الـ “عائد إلى حيفا” طيّبُ الذكرِ غسّان كنفاني وحين جلسنا في مقهى بحريٍّ على سفوحِ الكرملِ وشاطئِ حيفا، لم يكفَّ عنِ الحديثِ عن معشوقتِه حيفا، وحين ناولتُه ديوانَهُ “هنا وهناك” ليوقّعَ عليه، انسكبت دموعُه وألقى على مسامعِنا قصيدتَه “مسافر مقيم”:
“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بعد؟
حيفا، أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها؟
لعلها مأخوذة بحسرتي
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد”
كتب لي صديقي الأسير كميل أبو حنيش في رسالة عنونها: ” جولة في وادي النسناس”:
كلّ شيء يبدأ في حيفا وكرملها وكأنّها بوّابة الخليقة؛ حيفا التي يرضع كل فلسطيني اسمها مع حليب الأمهات، مع أخواتها يافا وعكا والرملة واللد…. حيفا الرسم الموازي للسحر …. للحلم … الشعر… تلك التي لم يتسنَّ لك زيارتها إلّا أثناء الطفولة في رحلة مدرسيّة وما عدا ذلك يمنعك الغرباء من ملامستها أو حتى من مجرّد ذكر اسمها. فتلجأ للأدب والشعر. تطالع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني فيبهرك الوصف الدقيق للمكان وتكاد تحفظ ما نظمه الشعراء عنها. درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين وتوفيق زياد وآخرون وأخريات. يكاد كل فلسطيني يقول شعراً إن نطق اسم حيفا … أو كرملها … سيخلدها أبناؤها وعشاقها … وسيقولون فيها ما لم يقله الشعراء في مدنهم وأوطانهم … وسيكثّف محمود درويش هذا الحب لحيفا حين يقول:
“أحبُّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقول التي سأحبُّ
ولكنّ قطرة ماءٍ بمنقارِ قبّرة في
حجارة حيفا
تعادلُ كل البحار”
مشهد البحر أيقظ فيّ إحساس بالظمأ لحيفا وودت لو أتجول في شوارعها. ماذا لو تجوّلت عن بعد في وادي النسناس؟ ماذا لو رأيت غسان وحسن يمشيان ويتمختران في أزقّتها؟
انتهت الجولة. لُذت لصمتي. عشر دقائق لا غير في جولة أشبه بالحلم لحيفا ووادي النسناس. مجرد لحظات مسروقة من بين فكّي الزمن. كنّا على موعد مع حيفا ووادي النسناس وحسن وغسان. أحقًا كنّا في حيفا قبل لحظات ونحن الذين لم يتسنَ لنا يوماً أن نراها؟ وإذا بالسجن الذي صُمِّم ليقصينا عن الحياة الطبيعية، هو ذاته من مكّننا من رؤية حيفا. لقد أهدانا السجن حيفا، وبعضاً من أهلها الطيّبين المنزرعين بكل شموخ وإصرار في بلدهم ولم يفتّ في عضدهم كل إجراءات القمع العنصرية.
لقد كانت هذه اللحظات التي التقينا من خلالها على هامش أثير الزمن من أسعد اللحظات في عمر أسير أنهكه القيد. وكان بمقدورنا استرداد حيفا ولو في ومضة حلم لمعت على حين غرّة في أعماقنا. ومن حقنا أن نقول إن حيفا هي من أجمل المدن على الإطلاق.
هنيئاً لحيفا التي جمعتنا على عشقها.
وفي رسالة أخرى من الصديق الأسير منذر مفلح عنونها: “من حيفا وغسان إلى حيفا وحسن.. “علاقة جدلية” جاء فيها:
“أن حسن يشيد عاصمة القلب، حيفا، ويأخذنا كمواطنين إلى وطننا الجديد، كميل يفتخر بمملكته يقدمها لنا، كي نرى الفردوسَ الذي حاز عليه، بانغراسه في حيفا، حسن، الظاهر عمر الجديد، يشيّد مملكة ووطن فلسطيني، ويغرس فينا من جديد حب الوطن، وحب حيفا، ووادي النسناس، ينسج بقية حكاية غسان ليكمل الرواية، بأن العودة لا تكون إلاّ لحيفا، كي نصلي صلاة العائدين فوق الكرمل، وقبلتنا الوحيدة البحر الذي صلينا صلاته في موعدٍ سابق” … ” ما بين أم إلياس، المنغرسة كشجرة برتقالٍ حزينة، مرّ عليها غسان كنفاني ولم يزل يوصينا بإرواء ظمأ تربتها، ولا يزال في حيفا رجال كحسن تحت شمسها، يذكروننا بالوصايا المقدسة…. يطلق حسن حملته، مشروع وطنٍ افتراضيٍّ، وأدعو كل شابات وشبان وطننا أن يلتحقوا بركب حسن في إطلاق أجمل ما في وطننا، لتغدو العلاقة ما بين حيفا وحسن، وفلسطين وأبنائها علاقة جدلية، كما هي حيفا وغسان علاقة جدليةٰ.
أما الصديق الأسير ناصر أبو سرور فقد طلب مني أكثر من مرّة أن أصف له درب غسان كنفاني في “عائد إلى حيفا” بتفاصيل التفاصيل واستشاط غضبًا حين مررت عنها مرور الكرام ليعرّض بي (إن جاز التعبير) بقصيدة كتبها لي عنونها:
“خُذْني إلى حَيْفا”
قُلْتَ حَيْفا وَخَبَّرْتَ عَنْها قليلاً وقالَ
وَجْهي كُلَّ ما تَبَقَّى
وقُمْتُ أعتذرُ عن بُكائي
وانْفِعالي
أَيَّ أَحْمَقٍ يعتذرُ عن حَيْفا
أَنا الآنَ
أسحبُ اعتذاري وَلَيْتَني
نَسيتُ كِبريائي أَمامَكَ
وبكيتُ خَنْسائي
وخَنْساءَكَ
بُكاءَ الجاهِلين
خُذْني إلى حَيْفا سَأَلْتُكَ مَخْجولاً ودَفَنْتُ
رَأْسي
خُذْني إلى حَيْفا أستعيدُ ذاكِرَتي
وأَغْفِرُ لي حينَ
نَسيتُ
دُوارَ البَحْرِ
وَكَوْمةَ الصَخْرِ
وحينَ رَسَمْتُ على جداري مدينةً
تُشْبِهُها
شُلَّتْ يَدايَ
وَبِئْسَ الذاكِرون
خلال زيارة الزعتريّة إيفا (سميرة) حمد للوطن زرنا برفقة زوجها نستور النصب التذكاريّ الذي أقيم في أكتوبر 2018 تخليدًا لذكرى شهيد غسّان كنفاني، ابن مدينة عكا، في مدخل مقبرة النبي صالح في مدينة عكا، حيث تربطها علاقة بآني كنفاني ولكونها متطوّعة مع الجبهة الشعبيّة في حينه. التقطنا الصور التذكاريّة وصوّرنا شريطًا شاركناه على الشاشة الزرقاءّ، وفوجئنا في حينه بخبر إزالة النصب، تلبية لنزوة وزير الداخليّة الإسرائيلي أرييه درعي الذي توجّه بدوره إلى لجنة أمناء الوقف الإسلاميّ لإزالة النصب التذكاريّ بحجّة أنّه “مخرّب وينتمي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، رغم اغتياله يوم 08.07.1972!!
اتصلت إيفا باكية لأنّها فكّرت للحظة أنّ الشريط المصور هو السبب بإزالة النصب التذكاري فهدّأت من روعها بأنّها ريشة غسان وقلمه هي التي تلاحقهم حتى اليوم.
لا يجوز الحديث عن غسان دون ذكر الراحل ناجي العلي؛
وحكايته معه كما ورد في سيرة ناجي العلي “أكلهُ الذئب”
هناك علاقة جدليّة بينهما؛ كل منهما مبدع فلسطيني، صاحب موقف نضالي صريح، يرفض التطبيع وغامر بحياته وهو يعرف أنه مشروع شهادة، وفعلًا استشهدا في الشهر ذاته في المنافي حالمين بعودة.
كان غسان أول من قدّم ناجي العلي باعتباره رسام كاريكاتير شابا، كانا مبدعين شهيرين، اختارا طريقًا جبلية وعرة أودت بهم للتهلكة.
رافقت رسومات ناجي الكثير من كتابات غسان،
اختارا تعرية الأقنعة بالكتابة وبالرسم حين شاهدا قتلة شعبهم يُقدّمون كضحايا لا سفاحين، والأنظمة العربية متواطئة حين صرخ جملته الشهيرة: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.
اختارا الكتابة والرسم لفلسطين…والموت.
كلمات لا بد منها؛
سلّط غسان كنفاني الأضواء على الأدب الفلسطيني المقاوم وروّاده وعلى أقلام واعدة في بداياتها ومسك بيدها موجّهًا وكان رياديًا في ذلك،
وكثير من الأقلام الشابّة ترى غسان بوصلة ومنارة وقِبلة يُقتدى بها، فكرًا وأسلوبًا،
وأخيرًا؛ كُتب الكثير عن غسان ولكن لا بد من الإشارة لكتاب صدر مؤخرًا بعنوان “استعادة غسان كنفاني” لصديقي فراس حج محمد ووجدته مغايرًا لما قرأته وسمعته وغوغلته عن غسّان؛ وجدته يستعيد غسّان وكأنّي به حيّ يُرزق، يتمختر بيننا بريشته الواثقة اللاسعة، والكيبورد تحت إبطِه، يتأمل المشهد اليومي “سياسياً وثقافياً واجتماعياً في الحياة الفلسطينية وطناً وشتاتاً” كما جاء في التظهير.
غيابك يا غسّان يشتدّ حضورًا!
***مداخلتي في ندوة “غسان كنفاني.. الفكرة لا تموت” التي أقيمت في نابلس يوم الخميس 04.08.2022 نظّمها منتدى المنارة للثقافة والإبداع والمنتدى التنويري الثقافي