أيام تتنزل فيها الرحمات وتُتقبل فيها الطاعات
تاريخ النشر: 02/11/11 | 2:00هي أيام تتنزل فيها فيوض رحمة الله تعالى على عباده، قد جعلها مآباً لهم، يرجعون فيها إليه، يتخففون فيها من آثامهم ومعاصيهم، ويستدركون ما فاتهم من طاعات وقربات.
إنها الأيام العشر من ذي الحجة، مع قلبها النابض يوم الموقف يوم عرفة؛ ذلك أن الله تعالى قد علم أن عباده لا محالة يعتريهم الضعف والقصور، فقد تفتر همة الإنسان عن شيء من العبادة، فلا يؤديها، أو لا يتقن الأداء، فقد خلق الإنسان ضعيفا، يضعف أمام شهوة، أو رغبة، أو فتنة من الفتن، وفي هذا يقول الله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)، وكذلك فإن الإنسان خطّاء، كثير السهو والنسيان، وكثيرا ما توسوس له نفسه بالسوء، فيقع في حبالها، يقول الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، ويقول صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”.
هذا وكون الإنسان ضعيف النفس كثير الخطأ، فإنه يترتب على هذا أن صحائف أعماله قد تسود بما يقترف نتيجة ضعفه هذا، فيكون ممن يؤتون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وإذا ما لقي الله تعالى على هذه الحال فإنه خاسر لا محالة، لقول الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ).
من أجل ذلك كله اقتضت رحمة المولى عز وجل أن يجعل للناس في دهرهم مثل هذه النفحات، من مثل هذه الأيام العشر التي نعيشها، عشر ذي الحجة، التي عدها الله تعالى من ضمن الأشهر الحرم التي ذكرها في كتابه العزيز.
ولو حاولنا أن نتتبع سبب فضيلة هذه الأيام، وسرّ الرحمة فيها، فإننا نقف أولاً عند ذلك القسم الذي أقسمه الله تعالى بها، حيث قال (والفجر وليالٍ عشرٍ) حيث جاء عن ابن عباس أن هذه الليالي هي ليالي الأيام العشر من ذي الحجة، وقسم الله تعالى بها يدل على عظمتها عنده الله عز وجل، ثم إن الله تعالى قد بيّن أنها أيام معلومات، أي مشهورات، حيث قال تعالى:(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)، حيث ورد في التفسير أن الأيام المعلومات هي هذه الأيام.
ثم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح فيها ـ أي عمل صالح ـ هو من أحب الأعمال عند الله تعالى، وهو أحب من الجهاد في سبيله، حيث ورد في الحديث الشريف: “ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر من ذي الحجة ـ فسأل الصحابة، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله في سبيل الله فلم يعد من ذلك بشيء”.
ثم إن قلب هذه العشر هو يوم عرفة، ذلك اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه نعمته على الناس، وأتمّ فيه عليهم نعمته، حيث قال عز وجل: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)، وأي فضل بعد هذا الفضل؟ غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فإن يوم عرفة هو الحج كله، حيث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الحج عرفة” ثم يتوج هذا بأن صوم هذا اليوم يكفر سنة قبله وسنة بعده، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “أحسب أن صوم يوم عرفة يكفر سنة قبله وسنة بعده”، ثم إنه اليوم الذي يباهي به الله تعالى الملائكة، حيث ورد في الحديث الشريف: ” إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء”، ثم إن الدعاء فيه هو خير الدعاء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة”.
هذا ولو كان المقام يتسع لنا لذكرنا كثيراً من الفضائل التي اختصت بها هذه الأيام، ولكن ما نقوله في الختام هو إن أياماً لها مثل هذا الفضل لهي بالحق أيام رحمة ومغفرة، ولا يكون عاقلاً من غفل عنها وعن فضلها، وضيعها دون أن يتدارك ما فاته من الطاعة في غيرها، فيقتنصها، ويغتنم خيرها المشهود.
بقلم د. ماهر أحمد السوسي
الحمد لله رب العالمين