قراءة في رواية “حارس الفنار” للروائي الفلسطيني نافذ الرفاعي
تاريخ النشر: 25/09/22 | 10:26عفيف قاووق
في روايته حارس الفنار، يُعيد الأستاذ نافذ الرفاعي إلى الأذهان والذاكرة العربيّة تلك الأحداث الدراماتيكيّة، التي عصفت ولا تزال تعصف بالوطن الفلسطيني، وما رافقها من تداعيات تشظّى بنتيجتها المجتمع بكلّ مكوّناته.
أضاءت الرواية على البدايات الموجعة للإحتلال، وما ترتّب عنه من عمليّات تهجير قسريّ وتبعثر للعائلات وتشتّتها في مخيمّات اللجوء، والشتات في بقيّة البلدان العربيّة والغربيّة. كما نطلُّ فيها على الداخل الفلسطيني، وتحديداً الجامعات التي شهدت أولى بذور العمل السياسي والنضالي والحركات الطالبيّة المناوئة للإحتلال، ونشوء أحزاب وتنظيمات متعدّدة ومتنوّعة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وما بينهما، هذا التنوع في الحركات السياسية ما بين الرديكاليّة والبرجوازيّة والاشتراكيّة والوسطيّة والقوميّة، كان لا بدّ له من أن ينتج إختلافاً في الرؤى وكيفيّة مقاربة الامور، وكان النقاش الفكري يصل في بعض الأحيان إلى حدّ التباعد والتنافر إن لم نقل التشكيك المتبادل.
المُتبحّر في الرواية وما تضمّنته من أحداث ووقائع، مع ذكرها لبعض الشخصيات المعروفة في عالمنا، يجد أن الكاتب قد مزج في روايته هذه بين الحقيقة والخيال، وإن بنسب متفاوتة، وهنا قد نستطيع اقتباس ما قالته غادة للحارس عندما وصفته بأنّه ” يشيّد روايته بغبار الحقيقة وركام كلمات تحاكي الواقع بقناعة كبيرة”.
كثيرة هي المواضيع والإشكاليّات التي تضمنتها الرواية وسنحاول التطرّق إلى بعضها وبإيجاز:
العمل السياسي في الجامعات وإنخراط غادة فيه وما واجهته من تخوين:
تحدّثنا الرواية عن غادة، تلك الفتاة التي عاشت في كنف جدّها، وإلتحقت بالمدرسة، لتكتشف ان ساحات المدرسة تغصّ بالمنشورات السرّية التي تملأ الشوارع ويجمعها الإحتلال قبل الفجر، فأستيقظت فيها المغامرة بعد سماعها عن بطولات الفدائيّين، 79 . لتلتحق بتنظيم الطلبة الثانويّين، وانكبّت على قراءة روايات الأدب الثوريّ. والتحقت بعد ذلك في الجامعة حيث يمارس العمل السياسي من خلال مجلس طلبة منتخب 79.
تتعرض غادة لوشاية من إحداهنَّ لتُتّهم بإنها جاسوسة تعمل لصالح الإحتلال، وهذا ما قلب كيانها وأبقاها مشوّشة، تبحث عن دليل لدفع التهمة عنها وإثبات البراءة تقول : في هذه البلاد الخطرة، قد يكون الإحتلال أرحم من ظلم الرفاق. 38 . »ليت هذا العالم يفتح أبوابه لي؛ ليحرّرني من ارتهاني! ممنوعة من السفر، ومطعونة في وطنيّتي. الإحتلال والوطن يحاربانني، والقدر يقهرني.« 45 . فتلجأ إلى حارس الفنار الذي لا تقل خيبته وانكساره عن خيبتها وانكسارها. فهو الثوريّ الذي كان رمزاً للفلسطيني الّذي نذر نفسه للوطن والذي تذوّق مرارة السجن والهزيمة والخيانة. أصبح يتمنّى أن يحصل على لتر من البنزين لأجل اشعال نفسه، متمثّلا بالبوعزيزي.. بعد أن إكتشف أنّه أمام جمهور مغمىً عليه، فاقد الوعي، تغويه الفضيلة ويتمثّل الرّذيلة، 156 ، وأسف لكيفيّة التعامل مع جنازة الشاعر الثائر الذي كتب معظم أغاني الثّورة، إنه الفدائي صخر حبش، والذي دفن في أصغر جنازة لأيّ طفل في المخيّم . يقول الحارس في هذا الموضع “أبحث عما يخفّف ألمي ووجعي من الموقف. يا للوفاء! أين أنتم أيها الأوفياء، يا تلاميذ المعلم؟ واه على غيابكم عن جنازة صخر حبش! نسيتم أشعاره وأهازيجه، سلختم جلودكم واستبدلتموها 109
يوميات الفدائيين ومعاناتهم:
يذكر لنا الكاتب بعضاً من يوميّات العمل الفدائيّ، الصعوبات والكمائن التي تواجه الفدائيّين، متّخذا من باجس رمزاً لهؤلاء الثوار، وهو القائد الذي استوطن الجبل، ونجا من مئات الكمائن. لم يستطع الإحتلال الوصول إليه إلّا نتيجة الخيانة، لإن الخيانة كما يقول تنتصر على الثورة فالجواسيس يهزموننا 83. وهذا يأخذنا للحديث عن الإعتقالات وسجون الأسرى، حيث كان الوضع الأمني للمعتقلين يتهاوى؛ لزيادة الجواسيس، وأيضا المتساقطين الذين إنهاروا خلال التّحقيق. وكيف يعمد الإحتلال إلى تدمير شخصيّة المناضل، وتحويل السّجين الى كمّ مُهمل، وهذاحسب ظنّهم يقود للكفر بالثورة 87
سلطة الحكم الذاتي وطبقة المستفيدين:
في نوع من المكاشفة حول سلطة الحكم الذاتي وطبقة المستفيدين منها يذكر ان البعض قد فاز في مناصب عليا في أجهزة الأمن، وفي معرض الحديث عن طبيعة المعالجة السياسية من قبل السلطة ينقل لنا الكاتب إقتناع المسؤول بأنهم أفضل مفاوضين في التّاريخ الذين حوّلوا المفاوضات الى حياة ، ويكمل ليقول “نحن الوحيدون الّذين كثّفنا التضامن والوقفات الإحتجاجيّة، أمّا الإستيطان، فنحن الوحيدون الّذين نطالب بعدد من الباصات لنقل العمال الفلسطينيين، بعدما رفض المستوطنون أن يصعدوا في نفس الحافلات”. 111
حرب العام 1967 :
أما فيما يتعلق بحرب العام 67 ، تشير الرواية كيف أن الإحتلال عمل على ترحيل الناس في حافلات نحو جسر الأردن بعد أن يوقّعوا مرغمين على وثيقة ترانسفير.64 . كما يعيدنا الكاتب إلى أحمد سعيد، “بينوكيو” إذاعة صوت العرب ، وكمّية ألأخبار الزائفة التي أعلنها، والإنتصارات الوهميّة التي يدّعيها، في حين ان جنود العدّو وأسلحته، تهتك أطراف المدن وتنتهك حرمتها (63). ومن التداعيات المباشرة لهذه الحرب نشأت مخيمّات اللجوء والتشرّد، مثل مخيم البقعة للاجئين في بيوت من الصفيح ومخيّم الدهيشة، وأيضا مخيّم الوحدات الملاصق لمدينة عمّان، وغيرها من المخيّمات. ولم يغفل الكاتب من ذكر بعض النماذج التي رفضت التهجير وأصرّت على البقاء فهذه جدّة غادة التي نبذ َت التشرد، وهجر البيت والذّكريات والوطن والتّاريخ والإنجرار وراء الفوضى النّاجمة عن الحرب والهزيمة.
وأيضاً، هناك “رجُل الكهف” الذي بقي يزرع أرضه، ويعتني بأشجارها ليُزيل عنها تهمة البوار مقاوماً للإحتلال، رافضاً الإخلاء، يموت بعد أن لفظ كلماته الأخيرة ” لن أرحل” ، لقد هدموا كهفه، ولم يغتالوا صموده، وما زال ظلّه منتصباً في البريّة.
وتلحظُ الرواية معضلة التشرّد وتفكّك الأسرة الواحدة، فوالد غادة سافر مرغماً إلى بريطانيا ومات هناك، وأمّها عادت إلى لبنان وأختها إستقرت في السويد بعد أن هاجرت للبحث عن والديها وبقيت هي في كنف جدّها.
الحرب الأهليّة في لبنان:
في إطلالة على الحرب الأهلية في لبنان والتجاوزات التي رافقتها، وفيما هو نوع من النقد الذاتي او إعادة القراءة لهذه الحرب، والتي كان الفلسطيني طرفاً فيها، يقول “زوج الملكة” أنه عندما يموت الوعي ويفنى العقل، نكون أمام انحطاط بشريّ للقيم الإنسانية، وهذا ما واجهناه في الحرب الأهليّة في لبنان، إلى جانب انقسام البلاد طائفياً ومذهبيّاً 137 . مستذكراً معركة مخيّم الضبيّة حيث أجرم فيها الإنعزاليون اللبنانيّون بقتل المسيحيين الفلسطينييّن، وأبادوا أحياء المسلخ والكرنتينا، وهي جيوب في منطقة الكتائب، وهي ميليشيا طائفيّة مسيحيّة، فكان الردّ بالمثل بإقتحام مدينة الدامور المسيحيّة وذبح المئات، ليخلص إلى القول بأن “البندقيّة يجب أن تكون واعية، وإِلآ تتحوّل الى قاطعة طريق. تباً لهمجيّة الحروب 138.
… أخيراً لم يفُت الكاتب ان يطلّ على بعض المناطق الجغرافيّة ليقدّم لنا شرحاً ولو موجزاً عن بعضها، للدلالة على تجذّر هذه المناطق في التاريخ وأهميتها، ولذا كان التطرّق الي المغطس، وهوالمكان من نهرالأردن، الذي عمّد فيه يوحنا المعمدان، أي “النّبي يحيى”، المسيح عليه السّلام تغطيساً في الماء، فأضحى مقدّسا ومَحجّاًّ للمسيحيّين في العالم 72 .
ليأخذنا بعد ذلك إلى وادي النار الذي يوصل إلى دير “سانتا ماريا” القديم. ويذكر أيضا وادي القلط حيث تلوح سهول الغور الرّحبة، وتتبدّى مزارع الموز والبرتقال والحقول الخضراء. ويستطرد للإشارة إلى البحر الميّت الذي رغم مواته، إلا أنّ فيه شفاء للناس، وما يحويه من طين أسود تدهن به الأجسام للتخلّص من الأمراض الجلديّة ً71 . وأيضاً يشير الى مدينة أريحا المتربّعة في السّهل الغوري، وهي أقدم مدينة في التاريخ.
ختاما نقول إن رواية حارس الفنار تلامس الوجدان العربيّ، وتهزّ ما تبقّى من ضميرٍ لدى هذا العالم،كُتبت بأسلوب رشيق وبلغة سهلة تلامس المحكيّة بحيث تجعل القارىء حاضراً بين شخوص الرواية مستمعاً لحواراتهم . فشكراً للأستاذ نافذ على هذا الإبداع، الذي هو ليس يغريبٍ عن مناضلٍ وطنيٍّ عايش الإحتلال وإكتوى بناره وظلم سجونه.