متى يتحقّقُ حلمي بالمدينة القارئة؟!
د. محمود أبو فنّه
تاريخ النشر: 29/09/22 | 9:25كم أتماهى مع الشاعر نزار قبّاني في حلمه الطوباويّ الجميل، حيث كتب يقول:
” أريد أن يكون الفنُّ مُلكًا لكلِّ الناس كالهواء، وكالماء، وكغناء العصافير يجبُ أن لا يُحرم منها أحد.”
ويستطرد نزار مفصّلا ومخصّصًا للشعر مكانةً مرموقة فيقول:
” إنّني أحلمُ (بالمدينة الشاعرة) لتكونَ إلى جانب مدينة الفارابي (الفاضلة)”
أمّا الغايةُ التي يسعى نزار لإدراكها فهي كما كتب:
” أن أجعلَ الشعرَ يقومُ في كلّ منزل إلى جانب الخبز والماء…”
فأنا، كما ذكرتُ، أتماهى مع نزار في حلمه الجميل، ولكن لي حلمي الخاصّ الذي يراودُني في نومي وفي صحوي، فأنا:
“أحلمُ بالمدينة القارئة، أحلم أن تصبحَ القراءةُ/المطالعة عادةً يمارسُها كلُّ الناس في مجتمعي وشعبي وأمّتي، لأنّ القراءة مفتاحُ التقدّم والرقيّ، ومصدرُ الإثراء والمتعة!”.
ورغم ما ألمسه من إقبال وتهافت على مشاهدة التلفزيون بقنواته وفضائيّاته، ورغم التوجّه المتزايد إلى استخدام الحاسوب والإبحار في مواقع الإنترنت، ورغم شبه الإدمان على استخدام الهاتف الخلويّ، إلّا أنّني أعتقدُ أن لا بديل عن القراءة والمطالعة.
فالقراءة تحقّقُ متعةً خاصّة لا تتوفّرُ في التلفزيون ولا في غيره من وسائل الاتصال الحديثة، ففيها الأُلفة، الحميميّة، الدفء والمشاركة الفعّالة.
أمّا أبرز الأهداف والغايات من الإقبال على المطالعة وممارستها فهي:
إنّ غرسَ عادة القراءة الذاتيّة – للنصوص الوظيفيّة والنصوص الأدبيّة على السواء – تُعتبرُ ضرورة ملحّة، ولكنّني سأركّز في هذه المقالة على غرس عادة القراءة للنصوص الأدبيّة على أنواعها – النثريّة والشعريّة -للأسباب التالية:
– تُعتبرُ قراءة الأدب من أهمِّ الوسائل في بناء شخصيّة الإنسان وبلورة مواقفه وعاداته واتّجاهاته وقِيَمه. فعن طريق الامتصاص والتماهي والتذويت تتبلور هُويّةُ الفرد الفرديّة والاجتماعيّة والقوميّة والإنسانيّة.
– وتُعتبر قراءةُ الأدب من أهمِّ وسائل المتعة والترفيه التي تساعد القرّاء – الصغار والكبار- في استثمار أوقات فراغهم المتزايدة وفي انتشالهم من براثن الفراغ والملل.
– وقراءة الأدب تُشبعُ العديدَ من الحاجات النفسيّة لدى القرّاء مثل:
الحاجة إلى الأمان؛ الأمان الماديّ والأمان النفسيّ، الحاجة إلى الحبّ والانتماء، الحاجة إلى التقدير، الحاجة إلى تحقيق الذات، والحاجة إلى المعرفة والفهم… (بحسب سلّم ماسلو).
– وقراءة الأدب تُعتبر وسيلة للتطهير والتخلّص من المشاعر السلبيّة المكبوتة التي تؤدّي إلى القلق والضيق والملل، وقد تُستعمل القراءة كثيرًا كوسيلةٍ علاجيّة (بيبليوترابيا) للوصول إلى الصّحة النفسيّة للقارئ.
– والقراءة تساعد في تنمية ثقة الفرد بقدراته وكفاياته، وتقلّل من تعلّقه بالأنماط الحضاريّة السائدة فيتّجهُ إلى التجديد والتغيير.
– وقراءةَ الأدب، خاصّة القصصَ والروايات، تعمِّق فهم القارئ لنفسه وللآخرين؛ فالتعرُّف على الشخصيّات القصصيّة وعالمها الداخليّ وتجاربها ودوافعها وصراعها … كلّ ذلك يمنح القارئَ فرصةً لإصدار الأحكام المرنة والموضوعيّة على الآخرين.
– والإكثارُ من القراءة يشحذ الذهن، ويقوّي الذاكرة، ويقلّص احتمالاتِ فقدان الذاكرة والخرف في مراحل العمر المتقدّمة!
– وقراءة الأدب تُثري خيال القرّاء، وتعزّز مهاراتِ اللغة المختلفة، وتنمّي التفكيرَ والتحليل والنقد والإبداع.
– وتُسهم قراءة الأدب في تعزيز التواصل والتضامن والحوار بين البشر على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وثقافاتهم؛ فالأعمالُ الأدبيّة العالميّة الرائعة – مثل الملاحم، حكايات ألف ليلة وليلة، ودون كيشوت وغيرها… – مُلكٌ للبشريّة جمعاء.
– ويشكّل الأدبُ الجيّد – كغيره من روائع الفنون الأخرى مثل الرسم الموسيقى والنحت وغيرها – القاسمَ المشترك بين جميع الناس على اختلاف مهنهم وأماكنهم وظروفهم.
اقتراحات وتوصيات لتشجيع القراءة وتذويتها
– إعطاء القدوة في حبّ المطالعة وممارستها!
– توفيرُ مكتبةٍ بيتيّة متجدّدة غنيّة بالكتب والمجلات.
– توفير بيئة وأجواء مناسبة للقراءة في البيت مثل: مكان مريح وهادئ بلا ضجيج وأصوات عالية، وكرسيّ ملائم، وإضاءة كافية.
– تسجيل الكتب المقروءة في قائمة ممّا يحفّر لقراءة المزيد من الكتب لضمّها للقائمة.
– تخصيص وقت للقراءة اليوميّة في البيت والسعي لزيادة هذا الوقت!
– حَملُ كتاب بشكل دائم ومستمرّ أثناء السفر والتنقّل في أماكن مختلفة.
– قراءة جماعيّة لأفراد الأسرة في البيت ممّا يعزّز الروابط الأسريّة
والإقبال على القراءة.
– مشاهدة الأفلام والمسرحيّات التي تعتمد على أعمال أدبيّة مشهورة.
– متابعة ما يبثّ في التلفزيون أو ما يكتب في المجلّات والصحف عن كتب جديدة.
– زيارة المكتبات العامّة للاطّلاع على الكتب المتنوّعة للقراءة والاستعارة.
– زيارة المكتبات ومعارض الكتب لاختيار كتب جديدة ملائمة واقتنائها.
– التواصل مع الأصدقاء لتبادل الكتب أو إهدائها في المناسبات والأعياد.
الأطراف والوكلاء المشاركون في غرس عادة المطالعة وتذويتها:
يشارك في إكساب عادة المطالعة للأبناء والطلّاب وكلاءُ التنشئة الاجتماعيّة والتربية: الأهلُ والمؤسساتُ التعليميّة، ووسائلُ الإعلام، والسلطاتُ المحلّية، والقياداتُ الفكريّة والسياسيّة والدينيّة وغيرهم!
متى تتكاتف الجهود، ويتعاون جميع أولئك الوكلاء لتصبح أمّتنا “أمّة اقرأ” كما يليق بها وكما ينبغي أن تكون؟!
ومتى تصبح القراءةُ عادةً متأصّلة لدى جميع المواطنين لا يمكن الاستغناءُ عنها في تلبية حاجات الفكر والروح تماما كما لا يمكن الاستغناء عن حاجات الجسد الأساسيّة.