معركة الثّقافة والتّعليم في القدس.. إلى أين؟
ديمة جمعة السّمان
تاريخ النشر: 29/09/22 | 8:15الثقافة والتعليم توأمان سياميان لا يمكن فصلهما دون التّسبب بضرر لكليهما، يعكس نفسه على المجتمع وتطوره وثباته وصموده أمام عواصف اقتلاع الجذور والتجريد من التراث ومحو الهويّة الوطنيّة وشرذمة الهوية الاجتماعية وتشويه الهوية الشخصية لدى الفرد. هذا ما يسعى إليه الاحتلال الاسرائيلي، من منطلق تحقيق السيادة من جهة، والسّيطرة على المجتمع، من خلال ترويض “فكر” الجيل الجديد الذي سيتسلّم الرّاية ليقود مجتمعه بثقة إلى نهاية النّفق، حيث التّحرير من جهة أخرى.
هذه العلاقة التّبادلية التّكامليّة بين التّعليم والثّقافة تلعب دورا حيويّا في حياة الفرد، تجمع العديد من العناصر التي تشكّل الوعي والتّنوع، مما يخلق حالة من التّوازن لدى المرء مع مرور الزّمن، إذ تسهم في إطلاق الابداعات وتعزيز الكفاءات، وبالتّالي تعمل على الارتقاء بالمجتمعات.
من هنا تبدأ قصّتنا في العاصمة الفلسطينية المحتلة.
القطاعان المذكوران: “التعليم والثقافة” يتصدّران أعلى سلم استهداف الاحتلال الاسرائيلي، يضع خططه المدروسة الممنهجة للسّيطرة عليهما وإخضاعهما لسياساته العنصريّة التّجهيلية، التي تعمل على احتلال الوعي، قاصدا تجريد المجتمع من تراثه وتاريخه ليتركه غصنا ضعيفا يتأرجح في مهبّ الرّيح دون جذور يرتدّ إليها، تشكّل له سندا داعما.
معركة التّعليم والثّقافة هي معركة وجود.. أكون أو لا أكون. لذلك عمل الاحتلال على أسرلة المناهج التّعليمية فور ضمّ القدس في عام 1967عام النّكسة، فسيطر على المدارس الحكوميّة القائمة في القدس المحتلّة، واستبدل مناهجها الأردنيّة بإسرائيلية، فزوّر التّاريخ، وفرض روايته الصّهيونيّة الّتي تخدم أهدافه الاحتلاليّة.
تصدّى لهذه الخطوة المجتمع المقدسي بجميع أطيافه ومكوّناته من أفراد واتّحادات ومؤسّسات، منطلقا من قناعاته بخطورة أسرلة المناهج على المستويين التّعليمي والثّقافي، رافضا أن يدرُس أبناؤه مناهج الاحتلال، فسحب أبناءه من تلك المدارس، وتم العمل على فتح مدارس الأوقاف الإسلاميّة التي احتضنت الطّلبة المقدسيّين، جنبا إلى جنب مع المدارس المقدسيّة الوطنيّة (الأهليّة والخاصّة). ممّا اضطرّ الاحتلال على أن يعيد المناهج الأردنيّة إلى المدارس التي سيطر عليه وأصبحت تعمل تحت إدارته، وذلك بعد أن أصبحت مدارسه خالية من الطلبة.
لقد حقّق المجتمع المقدسي نجاحا كبيرا من خلال وقفته المشرّفة الرّافضة للعبث بعقول أبنائهم، وتشويش إدراكهم، واحتلال وعيهم. ولولا وعي الآباء والأجداد، لكانت عقول الأبناء والأحفاد اليوم “أسرى” لمناهجهم الاحتلالية المزوّرة.
الخطوة التي قام بها المقدسيون بعد احتلال القدس وضمّها، كانت نتاج الثّقافة الوطنيّة الّتي تم زرعها في كل خليّة تنبض داخلهم. فلم ييأسوا، ولم يستسلموا. لأنّهم كانوا على قناعة بأنّ الثّقافة هي أهمّ مفتاح من مفاتيح التّغيير. نعم.. هُزمنا سياسيّا، ولكنّنا لم نهزم ثقافيّا، وهذا هو الأهم.
وفي عام 2000، درس الطّلبة الفلسطينيون المناهج الفلسطينية لأول مرة في تاريخ الوطن، فاحتفل الشعب الفلسطيني بهذا الإنجاز الذي يحمل الخصوصيّة الفلسطينيّة، ويقدّم الرواية الفلسطينية من المنظور الوطني، كما أنّه وحّد جناحي الوطن بخطاب تعليمي ثقافي واحد (الضفة الغربية وقطاع غزة)، إذ كانت مدارس قطاع غزة تدرس المناهج المصرية، ومدارس الضفة الغربية تدرس المناهج الأردنية).
جنّ جنون الاحتلال، وشنّ حملات تحريضيّة على مستوى دولي ضد المناهج الوطنيّة، معتبرا إيّاها تحريضية، تؤثر سلبا على عمليّة السّلام، وتبثّ الكراهية والعنف داخل الطلبة الفلسطينيّين.
أثّرت هذه الحملات على المجتمع الدّولي، وحوّل المبالغ التي رصدها لتمويل طباعة كتب المناهج إلى تمويل الدّراسات والأبحاث حول المناهج، لمعرفة إن كانت فعلا تحريضيّة. وعلى الرغم من أن جميع الدّراسات أثبتت أنها ليست تحريضيّة، بل متوازنة، إلا أن الاحتلال لا زال يشكو، ويتهمها بأنها تضرّ يأمنه.
وصل الاحتلال إلى قناعة بأنّهم لن يستطيعوا فرض المناهج الإسرائيليّة على مدارس القدس، خاصة وأنّ القوانين والمواثيق الدّولية تكفل لأولياء الأمور الحقّ في اختيار المناهج التي يتناسب وثقافتهم ومعتقداتهم وديانتهم.. الخ
لم ييأس الاحتلال، ولا زال يعمل جاهدا على تنفيذ مخططاته، ففي كل عام دراسي جديد، يبتدع أساليب مختلفة محاولا تطويع المجتمع المقدسي، فكثّف هجماته المسعورة على المدارس المقدسيّة الوطنيّة، مهدّدا بإغلاقها، وعمل على إعادة طباعة كتب المناهج الفلسطينية وبتر كل ما له علاقة بالانتماء الوطني واستبدالها بمواد أخرى تخدم أهدافهم الاحتلالية والتّطبيعيّة، ووزعها على المدارس المقدسيّة، وهدّد من لا يتعاطى مع الكتب المزوّرة بسحب تراخيصها وإغلاقها. ضاربا بعرض الحائط أن حقوق الطبع محفوظة لمركز المناهج الفلسطيني ولمؤلفي الكتب. الكتب التي يعبثون بمضامينها ويعملون على تشويهها وإفقادها رسالتها الوطنيّة، مع إبقاء أسماء المؤلّفين عليها.
مع العلم أنّها خطوة أولى لترويض المقدسيّين، ومن ثم تأتي الخطوة الثّانية التي وضعوا لها الخطط المختلفة لتنفيذها، وهي فرض المناهج الإسرائيلية على 98% من الطلبة المقدسيين، وإبقاء 2% للمناهج الأجنبية. ومحو المناهج الفلسطينية بشكل كامل من مدارس القدس.
وعلى صعيد آخر، كثّف الاحتلال استهدافه للمراكز والمؤسّسات الثّقافيّة الوطنيّة، إذ زاد عليها الأعباء الماليّة من خلال الضّرائب والغرامات المختلفة، مخطّطا إلى وصولها إلى مرحلة الافلاس لدفعها إلى الاغلاق. ومن جهة أخرى يعمل على تطوير المراكز الثّقافية التي يديرها ويضع لها الأجندات المختلفة لتحقيق أهدافه، وعلى رأسها التّطبيع. تحمل هذه المراكز اسم “المراكز الجماهيرية”، وهي تقدّم البرامج الثقافية المختلفة لجميع أفراد الأسرة مجانا، وليس فقط لفئة الشّباب، ممولة من بلديّة الاحتلال.
نشر الاحتلال هذه المراكز موزعة على إحدى عشر موقع داخل القدس المحتلة، وربطها بشكل أو بآخر مع المدارس التي تتبع المعارف الإسرائيلية وبلدية الاحتلال، إذ اشترط على مدارس القدس المحتلّة التي تدرس الطّلبة الفلسطينيّين ادخال عددا من الأنشطة اللامنهجية بالتّعاون مع المراكز الجماهيريّة، بتمويل من بلدية الاحتلال.
أما على مستوى المناهج الإسرائيلية التي يدرّسها الاحتلال لأبنائه، فقد أتقن ربط الثّقافة العنصريّة والفوقيّة مع التّربية والتّعليم من خلال الأنشطة المختلفة التي تكرّس الكراهية ضد كل من هو ليس يهودي، وقد استعانت المدارس بالقصائد الشعرية وقصص الأطفال داخل الحصص الصّفية، التي تظهر صورة الفلسطيني العربي على أنّه سيء شكلا ومضمونا، فهو البشع، معقوف الأنف، أسنانه صفراء، قذر لا يستحم، لا يعرف الصابون، يبصق بفنجان القهوة لتنظيفه، ويمسحه بيده قبل أن يصبّ القهوة للضّيف إكراما له، قاتل، مغتصب، جبان، يجب قذفه بالحجر كالكلب المسعور والا يهاجم النّاس الخ من صفات غير إنسانيّة، كانت بمثابة غسل أدمغة لطلابهم، وانعكست في ممارساتهم ضد الفلسطينيين عند التّجنيد، وتعاملهم مع الفلسطينيّين عبر الحواجز. عشرات الحوامل من الفلسطينيّات ولدن على الحواجز لعدم السماح لهن بالمرور عبر الحاجز للوصول الى المستشفى. وكذلك الأمر بالنّسبة للشيوخ والأطفال المرضى الذين فقدوا حياتهم على الحواجز، لعدم السماح لهم بالمرور الى المشافي، دون أن يكون لدى الجنود الشّباب أدنى شعور بالرأفة أو الانسانية تجاههم. فهم أبناء تلك المناهج العنصريّة المنهجية واللا منهجية، التي زرعت في عقولهم أن اليهود هم الأسياد، والآخرين خلقوا ليكونوا عبيدا لهم.
وفي الختام.. هي دعوة لكل من يمتلك أداة إبداعية، أن يحسن استخدامها، لتكون رسالة إنسانية وطنيّة. فهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتق كل مبدع. فمن لا يتقن توجيه الرّسالة وتسخيرها لصالح الوطن والانسان، فليحتفظ بها لنفسه، كي لا يتحمّل وزرها.