أنا الرئيس عليكم .!
قصة بقلم : يوسف جمّال - عرعرة
تاريخ النشر: 30/09/22 | 13:10يا أسفي على نادر السعيد .!
أصبت بحسرة شديدة , عندما علمت بالحالة التي وصل إليها ..
حالة لا تسرُّ الصديق .. ولا تغيظ العدى ..
عرفته عن قرب وتوثقت علاقتي به , بعد أن طرق باب بيتي
ودخل متطوِّعاً ليحلّ مشاكلي مع ضريبة الدخل , التي كادت تطيح بيَّ وبعائلتي .
قال – أنه كان قد مرَّ بهذا الموقف الصعب , واستطاع أن يخلِّص نفسه منه , وبعدها ساعد الكثيرين في الخلاص منها .
كان بالنسبة لي منقذ نزل من السماء ..
بجهوده وبمساعدته , استطعت أن أصل الى حلٍّ مع سلطات الضريبة ,
لم يكلِّفني إلا القليل .
وبهذا ضمّني الى مريديه , والنجوم الصغيرة التي كان يعمل على تصغيرها , كي تدور خفيفة في فلكه .. أفراداً وجماعات يتحلَّقون حوله .يجلس بينهم مثل شيخ الكتّاب أيام زمان ..
هو يحكي .. وهم يمدحون ويستحسنون .. غالباً أحاديث معادة مكرَّرة , وأحياناً كثيرة لا ينصتون لكلامه , إنما ينتظرون علامة النهاية كيّ يمدحون ويهللّون ويعظِّمون .
حتى جاء يوم .. دخلت عليه جالساً في غرفته , واتخذت لي مجلساً على أحد المقاعد المقابله له .
“وطرحت” عليه تحيَّتنا المعتاده ” هي أبو رياض !” .
رفع رأسه عن صحيفة , لم أتأكَّد أنه كان يقرأ بها, أم أنه كان يستعملها كنقطة انطلاق لهجومه عليَّ ..
” أنت إنسان خائن ! لا تحفظ المعروف .!” ..
هاجمني بسهام انطلقت من عينين تقدحان , من وجه تحوّل الى ساحة حمراء من الحقد والكراهية ..
” والخائن ليس له مكان في صحبتي ومجلسي .!” .
إستمر في مهاجمتي بعنفه المعتاد , الذي يستعمله ضدِّ أيّ شخص ملَّه أوغضب منه لأمر ما , مستعملاً كلَّ أدوات هجومه ..
” تريد أن تصوِّت مع ابن عمك .!؟ أنا لا أطيق الرجل ذا الوجهين .. الناس عندي – يا معايَّ يا ضدّي ! أنا هيك الله خلقني !” .
حاولت أن أدافع عن نفسي ..
أن أقول له أنني لم أتكلَّم مع أحد عن الانتخابات , التي مازال تاريخها بعيداً ..
ولكنه منعني صارخاً : ” قمْ من هنا ! واذهب الى ابن عمك وقل له : “إنه ساقط في الانتخابات , وأنني سأهزمه وأعرِّفه من أنا ومن هو !” .
وخرجت من بيته ومن حلقة مريديه ولم أعد .
حاول بعض الأصدقاء إصلاح الحالة بينا , فلم يقبل هو , ولم أقبل أنا أن أعود الى مجموعته .. شعرت براحة بعد تخلصي من حملٍ ثقيلٍ كان على كاهلي مدة طويله .
وغاب عنّي وغبت عنه عدة أشهر ..
حتى لم يبق سوى أسابيع عدة , لموعد التصويت في الانتخابات ..
في إحدى الليالي بينما كنت راجعاً من سهرة طالت عند أحد الأصدقاء ,رأيت من بُعد عشرات الأمتار سيارة واقفة بالقرب من بوابة بيتي , تكشفها الأضواء المسلَّطة على الطريق المؤدية اليه . وعندما أوقفت سيارتي بجانبها , نظرت من خلف زجاج شباكها عن قرب..
كان هو .. نادر السعيد .! كان جالساً خلف مقوَّد سيارته فاتحاً شباكها .
أوقفت سيارتي , وفتحت نافذتها المقابلة لنافذة سيارته , وصحت به بهمس مطعون :
” ما الذي ساقك الى هنا.. الى باب بيتي في هذه الساعة من الليل!؟
إنّي انتظرك وأريد أن أتكلّم معك ! همس من بين شفتين تحملان ابتسامة صفراء زائفة مصطنعة .
أنا لا أريد أن أراك أو أقابلك ! .. صرخت به من أعماق غضبي ..
لو تسمح غادر المكان حالاً ! أكملت بصوت متفجّر .
“أتيت لأحذرك قبل فوات الأوان .. أنا سأربح حتماً الانتخابت , وإن لم تصوِّت معي ستخسر الكثير .!” استمر بقول ما جاء لقوله..
أنت مريض .. ولا أحد يعرف كم أنت مريض أكثر مني .!
صرخت به بصوت أعلى , جعل جيراني يفتحون شباكهم , ليتبيّنوا مصدر الصوت وسببه .
وعندما شعر بذلك أغلق باب سيارته , أشعل محرِّكها وغادر المكان .
بعد أيام رنّ صوت البلفون .. كان رياض السعيد على الخط , وقبل أن أنطق صاح :
تتردد على مقرِّ ابن عمك .! أما مقرّي فأنت محرِّمه .!
سأذهب الى المكان الذي أريده , وأمتنع عن الذي لا أريده !
أنا حرٌ يا أخي . ولن أقبل أن يتحكّم بيَّ أحد !
أكملت ساخطاَ ..
” أنت تعرف منزلتي عند مكتب ضريبة الدَّخل .. أرفع ما أشاء وأنزِّل من أشاء !” .. ردّ بلهجة تهديد لا تحتاج الى تفسير .
فأغلقت البلفون في وجهه , ولعنت اليوم الذي عرفته به .
وبعد أيام أُستدعيتُ الى مكتب ضريبة الدخل .!
في إحدى الليالي, وقبل الانتخابات بإسبوع , فتحت بوابة بيتي لسيارة أحد المداومين على حلقة رياض ..
فتحتها بعد أن ألحَّ عليَّ في اتصال تلفوني . قال أنه يريد مقابلتي , وسيأتي الى بيتي تحت جناح الظلام في ساعة متأخرة , وذلك لأمر هام عرفت أن بخصوص نادر السعيد ..
فوافقت على مضض , وذلك بضغط نتائج زيارتي لمكتب الضريبة .
وعندما جلسنا .. كان ملخص رسالة نادر التي حملها الصديق : ” أنه يريد منك فقط أن تأتي الى مقرِّه , وتمكث فيه لمدة نصف ساعة ” .
ولما سألته عن سبب تلهف “صديقنا” لهذه الزيارة !
أجاب : يا أخي اعملها ولن تخسر شيئاً ..
ولم يقل أني سأفعلها مقابل تسوية ديوني لضريبة الدَّخل ..
فاستنتجت أن يريد منّي أن أزور مقرِّه , لكيّ يراني الحاضرون في المقر, وينتشر خبر زيارتي في البلد :
“سامي العلي ترك ابن عمه المرشَّح وانضم الى أتباع رياض ! ..
وهذا يدلّ على انقسام وتصدُّع , في عائلة وصفِّ محمود الصالح المنافس الرئيسي لنادر السعيد “.
انه يريد أن يستعملني قنبلة , ليفجِّر جماعة ابن عمي , فيتفرَّقون ويسهِّل عليه اصطياد بعضهم .
وذهبت الى مقرِّ رياض , جلست فيه نصف ساعة , وغادرته بعد أن وقفت وإقترحت أن يتِّحد المرشحان ويتفقان عل مرشَّح واحد , أو يتقاسمان مدة الرئاسة .
ونقل لي أحد الحاضرين ما حدث بعد مغادرتي :
” بدأ نادر يصرخ من قلب الغضب الذي تفجّر من بين قسمات وجهه الحانق :
انه مجنون !. ان هذا الشخص مجنون ومعتوه وأحمق .!
إننا ماضون وحدنا ولن نشارك أحداً , وسننتصر .. وسننتصر !
كان يصيح وسط تصفيق وهتافات حناجر مريديه وأنصاره التي كادت تنفجر”.
وجرت الانتخابات للبلدية .. وخسرها نادر ..
ولكنه لم يقبل بالخسارة .. أغلق على نفسه أبواب ونوافذ غرفته , كي لا يسمع زمامير وطبول وصيحات جمهور الفائزين فيها .. وبعد أيام خرج من عزلته واعتكافه .
وأخذ يطوف في شوارع المدينة وحاراتها وهو يصرخ : ” أنا لم أخسر الانتخابات .. أنا الفائز فيها .. أنا الرئيس ..أنا رئيس هذه البلد .. أنتم الذي خسرتم .. خسرتم أفضل رئيس يمكن أن يكون لهذا البلد !
كان أهل البلد الذين يمرّون به أو يمرُّ بهم , يرمونه بنظرات الشفقة والرحمة .. وأحياناَ بنظرات التشفِّي .
وأنفضَّ من حوله المريدون .. شعروا أنهم تحرّروا من سجنه .
إنه مازال يطوف في البلد , وصيحاته تملأ طرقاتها : أنا الرئيس .. أنا الذي يجب أن أكون رئيس هذا البلد .. أنا الرئيس .. أنا الرئيس ..
ومعظم الناس يغلقون آذانهم .. ونوافذ وأبواب بيوتهم كيّ لا يسمعون صوته .
مازال يطوف ويصيح .. ما زال يطوف ويصيح .!
أنا الرئيس الأوحد ! .