وهيب نديم وهبة / في مسرحة القصيدة العربية /المجنون والبحر
كتبَ الشاعر: مالك صلالحة
تاريخ النشر: 09/10/22 | 15:16أول ما تبادر بذهني حين التقطت أصابعي كتاب المجنون والبحر للشاعر الأديب وهيب نديم وهبه… هو لماذا أختار هذا العنوان؟!
وسريعًا ما توصلت للإجابة، إذ أن هنالك قاسمًا مشتركًا بين البحر والمجنون… فالمجنون تارة هادئ وأخرى صاخب… مرة وديع ومرة أخرى هادئ… شأنه بذلك وشأن البحر… فالبحر على هدوئه وودعته، إلا أنهُ يحمل في طياته كل رعب الصخب والهدير فالاثنين متقلبين دائمًا… وأن ما قاد وهيب إلى تقمص شخصية المجنون ما هو إلا ردة فعل إلى الواقع والمحيط والعالم المجنون من حوله…
كأني بالشاعر الوهيب يتذكر شخصية الملك الحكيم… الذي جاءته ساحرة في أحدى الليالي ووضعت سائلًا في بئر المدينة أدت إلى جنون أهلها حين شربوا من مائها… وأخذوا يتهمون الملك ووزيره بالجنون لأنهما امتنعا عن شرب ماء البئر، مما حدا بالملك ووزيرة إلى شرب الماء والجنون كما هم أهل المدينة والمملكة حيث خرج الناس يهتفون بحياة مليكهم الذي عاد إليه رشده وشفى من جنونه…
قدْ يكونُ الْجنونُ…
في هذا الزّمنِ بالذّاتِ، أكثرَ واقعيّةً منَ الْواقعِ الْحياتيِّ الْمعيش… وحقيقةً حتميّةً مفروضةً… وقوانينَ اجتماعيّةً وسياسيّةً تدقُّ بعنفٍ بصلابةٍ على الْعقلِ والأعصابِ… أصبحْنا بحاجةٍ إلى قضاةٍ ولجانِ تحكيمٍ…
في ما بينَنا من علاقةٍ…
وهذا ما نلمسه يوميًا إذ أن الإنسان الطيب النزيه، أصبح منبوذا ومرفوضًا وكافرًا إما الخائن والغشاش والمخادع فهو المحترم والشريف، وهو صاحب أحسن الفرص للتقدم في حياته الاجتماعية – السياسية أو الثقافية ألخ…
كما أنهُ ينظر إلى القضية الأزلية الأبدية وهي آدم وحواء، حيثُ أن النظرة إلى حواء لم تتغير منذُ قصة الخليقة فهي ما زالت المتهمة الأولى والسبب المباشر في خروج آدم من الجنة وهي التي ما زالت تشبه الأفعى لمكرها وحيلها… حتى أنهُ في الكتب المقدسة حذر الأنبياء والرسل من كيدها ومكرها حيث جاء (وكن من خيارهن على حذر…/ وأن كيدهن عظيم) حيث يقول وهيب على لسان المجنون…
قلْتُ: “إنّ كلَّ امرأةٍ يُمكنُها أنْ تكونَ سمكةً”
ضحكَ الْمجنونُ، وقالَ:
“ويُمكنُها أنْ تكونَ ملعقةَ السّمِّ في الْحنجرةِ.”
الأمر الذي يذكرنا بالمثل الشعبي القائل أن النساء ثلاثة أنواع: “هنالك امرأة وهنالك مرمرة وهنالك مسمار في القنطرة” كما ويحذرنا من الاستسلام والاستكانة للمرأة.
ثم يضيف عن جشع الإنسان وعدم قناعته ورضاه بما كسب وبما قسمه لهُ الله… حيثُ جاء:
“لماذا هذا الرّكضُ الْباكرُ للْإنسانِ
وكلُّ شيءٍ كانَ…
هزَّ رأسَهُ مرّةً أخرى. أينَ يمضي؟
وهذا السّباقُ الْعنيفُ.
كلُّ واحدٍ منهُم يُريدُ أنْ يأكلَ الدّنيا،
والدّنيا كما هيَ…”
الأمر الذي يذكرنا بالقول المأثور الذي ينصح الإنسان بالقناعة إذ أن (القناعة كنز لا يفنى)… إضافة إلى المثل الشعبي القائل: (يا راكض ركض الوحوش غير نصيبك ما بتحوش)
ثم ينتقل الوهيب إلى انتقاد الوضع السياسي في العالم اجمع ومحيطنا العربي خاصة… حيث ما زالت الزعامة السياسية تنتقل بالوراثة أو بقوة السلاح والانقلابات العسكرية أو الثورة؟
بعدها ينتقل أديبنا وشاعرنا إلى الوضع الاجتماعي وقضية النفاق الاجتماعي والمداراة ومحاولة طمس الحقيقة، وتغطية الشمس بالغربال… وكأن قرانا بألف خير… رغم معرفتهم الحقيقة المؤلمة لوضعنا المزري: اجتماعيًا، سياسيًا، صحيًا وثقافيًا، فها هي المحاكم على قدم وساق بين من يدعون الزعامة… وها هو (نشر الغسيل) القذر من على شاشة التلفزيون من خلال البرامج المختلفة… فها هي قرانا ما زالت تسبح في مياه المجاري وأولادنا في الغرف المستأجرة وهاهم أصحاب البيت الواحد والعائلة الواحدة والقرية الواحدة والشعب… تعمل فيهم معاول التفرقة الطائفية والعنصرية والدينية والسياسية الخ…
مع هذا الوضع المزري يأتي من يقول ويتبجح أن وضعنا بألف خير وأننا نعيش في بحبوحة. أضف إلى العداء المستحكم بين رجال الدين والجهال بين الرجعيين والتقدميين… فهناك من يرى بالموسيقى ” وجع قلب” (وأنهُ لا حاجة لنا بروضات أطفال ومراكز شبيبة) وهمهم الوحيد هو الأكل والشرب والنوم…
ثم يعود الوهيب لينتقد وضعنا المأساوي الاجتماعي… الذي يرى (مجرد الحلم جريمة) ويتباهى بأننا (نحنُ أمة مؤمنة/ تؤمن بالقضاء والقدر/ والأجل المحتوم) تلك الأشياء التي تربى على الخنوع والاستسلام للأمر الواقع وتقبل الأمر والمصير الذي وصلنا إليه والتأخر الذي نحنُ فيه، غير متجرئين على مد أصبع الاتهام نحو المتهم الحقيقي…
فكيف لا يجن الوهيب وأمثال الوهيب من هذه الشرذمة… التي ما زالت تسرح وتمرح على هواها إلا أن المجنون لا يقطع الأمل ويرى (بهالة) بطلة الكتاب… الأمل المنشود الذي يمكن أن يعيد الفرح ويهزم الحزن، ويجئ بالنصر ويمحو الهزيمة ينير الدرب ويبدد الظلمة…
ويرى شاعرنا الوهيب (بهالة) رمزًا للحرية القادمة:
“يضحكُ لها الْمجنونُ بالْفرحِ الْمتساقطِ كالْمطرِ،
هيَ قادمةٌ، منْ تحتِ أقواسِ النّصرِ…
وأكاليلِ الْوردِ والْغارِ… حاملةً طيبَ الدّنيا…
والْمحبةَ في العينينِ الواسعتينِ وهي باسمةٌ.”
ثم يضيف المجنون منتقدًا الوضع المأساوي للحرية في بلادنا العربية إذ يقول:
الْمجنونُ: “الْحريّةُ امرأةٌ، جاءَتْ منْ كتبِ
التّاريخِ إلى هذا الشّرقِ… ودخلَتْ داخلَ
زجاجةِ عطرٍ وأغلقَ الشّرقُ فتحةَ الزّجاجةِ.”
وإذا يقول بلسان هالة (ممثلة الحرية) المخنوقة في هذا الشرق، والتي تريد أن تخرج من عنق الزجاجة والتي سُجنت فيها… فها هي الحرية تنادي:
هالةُ: “أحبُّ أنْ أحيا في ضوْءِ النّهارِ. لا
تُسرَقُ لحظةُ حريّةٍ، وعلينا أنْ نحياها.
نتعطّرُ بها، ولكنْ في عزِّ ضوْءِ النّهارِ.”
ولذا فان مجنوننا لا يفقد الأمل بقدومها ويؤمن بحتمية هذا القدوم…
الْمجنونُ: “الْحريّةُ سوفَ تأتي ذاتَ نهارٍ…
منَ النّجمِ الْعالي، وتلعبُ معي هنا،
على الشّاطئِ.”
ولكنه سرعان ما يستدرك ويُنادي:
“هالةُ، تعالي نذهبُ نحنُ إلى الْحريّةِ.”
هالةُ تُنادي: “الْحريّةُ لا تأتي إلينا.
نحنُ نذهبُ إلى الْحريّةِ.”
وكأني بالمجنون قد تذكر مقولة “سلطان باشا الأطرش” رحمه الله، الزعيم العربي، قائد الثورة السورية الكبرى: “أن كأس الحنظل بالعز أشهى من ماء الحياة مع الذل” و ” وأن الحرية تؤخذ ولا تعطى”
ثم ينتقل إلى نقد حضارة العالم المادية التي استفحل أمرها حتى كادت تطغى على الحضارة الروحية التي امتاز بها دومًا شرقنا الحبيب: “وكادت تدوس القيم الاجتماعية والإنسانية فنتيجة لهذه الحضارة المادية هنالك الملايين من البشر بلا مأوى… ينخر في أمعائهم الجوع والمرض… بينما في الدول الغنية المسماة بالمتقدمة والمتحضرة. هنالك جمعيات لحماية الحيوان… وهنالك الآلاف أن لم يكن الملايين من أطنان الأغذية ترمى في البحر تحت شعار حماية الأسعار… بينما هنالك ملايين الأفواه تتوق للقمة العيش وتتضور جوعًا ويفتك بها المرض والحر والبرد”
الأمر الذي يحدو بالمجنون أن يتوجه إلى “هالة الحرية” ليقول:
“تعالي بكلِّ هذا الْخيرِ، الرّزقِ
والْحبِّ، نصنعُ منْ هذهِ الدّنيا عالمًا آخرَ
لا يعرفُ الْجوعَ، والْعطشَ والْأحزانَ.”
ويعلو صوته بالنداء والحث على الثورة ضد الواقع المر والظلم والتقاليد البالية.
“كيْ تعيشَ، يجبُ أنْ تهربَ منَ الْحياةِ،
وتقتربَ منَ الْموتِ، وتكسرَ يدَ الظّلمِ.
يجبُ أنْ ترتديَ ثيابَ الْقوّةِ والْعنفِ.”
ويستدرك في الشرح مذكرًا…
“إنَّ الْحياةَ غابةٌ كثيفةُ الْأشجارِ، وكثيرةُ الْأفاعي.
تلدغُ، تقتلُ وتميتُ…
اهربْ منَ الْحياةِ إلى الْموتِ – لا تموتُ،
اهربْ منَ الْحياةِ إلى الْحياةِ – تمتْ.”
فمن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب.
بعد هذا يعود أديبنا وشاعرنا وهيب نديم وهبة من خلال المجنون لينتقد الظلم والقتل في هذا العالم… ليؤكد أن رغم وجود الموارد الطبيعية الهائلة والأماكن الشاسعة التي يستطيع أن يعيش فيها الإنسان براحة وأمان حيث أن هنالك متسعًا للجميع إذا ما ساد السلام والحب هذا العالم الا أن الوضع هو على العكس تمامًا… فالحروب والنزاعات ما زالت منذُ التاريخ مستمرة حول مصادر المياه والموارد الطبيعية والثروة السمكية والأرض…
فلو أن الحب والسلام موجودان لما كانت حروب ونزاعات… إذ أن المجنون يقول:
“مَنْ منّا يقتلُ الْآخرَ! هنا على هذهِ الْأرضِ وفي هذا الْعالمِ، يا هالةُ، هناكَ منْ يملكُ مهنةَ الْقتلِ… وهناكَ منْ يملكُ مهنةَ الْحبِّ… ومنْ يملكُ مهنةَ الْحبِّ لا يقتلُ!”
لذا نرى المجنون يثور ضد القتلة ويرفع راية التحدي… ليعلن الثورة على الواقع الذي يسود هذا الشرق بالذات والعالم أجمع ليرفع صوته قائلا:
هالةُ: “أصبحْتُ مثلَ الْبحرِ، موجي ثورةٌ… وثورتي تحدٍّ. لنْ أهربَ بعدَ الْآنَ، سوفَ أكسرُ ذاكَ الْقيدَ. نحنُ ملكُ الْحياةِ، ولسْنا ملكَ الْموتِ.”
كيف لا يثور الوهيب وفي شرقنا ما زال يُمارس الظلم باسم الحرية والقتل باسم العدالة… والحرب باسم الدفاع عن الكرامة والشرف… ويرفض مجنوننا هذه المقولة التي تدعو إلى الاستسلام والخنوع. (العين ما بتلاطم مخرز) ليقولها بكل ثقة وتحد.
الْمجنونُ: “معي سوفَ تدخلينَ… ومعي
سوفَ تكونينَ، عيني الّتي تلاطمُ الْمخرزَ،
أنتِ لي.”
اللغة هنا موجه إلى الحرية. ورغم أنهُ يتوقع الصعاب… لكنه لا يفقد الأمل والثقة بالنفس.