اتفاقية الغاز وشبح نتنياهو وحق فلسطين
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 13/10/22 | 9:37بعد إعلان كل من الرئاسة اللبنانية وديوان رئاسة الوزراء الإسرائيلية عن الموافقة على النص الأخير لمسودة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، بدأت عملية المصادقة الرسمية، التي ستمنح الاتفاق مكانة قانونية ملزمة. وهناك استعجال للوصول إلى التوقيع الفعلي في مقر الأمم المتحدة في منطقة «رأس الناقورة» الحدودية، قبل نهاية الشهر الحالي، حيث تنتهي ولاية الرئيس اللبناني ميشيل عون ليدخل لبنان بعدها في مرحلة فراغ دستوري الى حين انتخاب رئيس جديد.
وبعد نهاية الشهر مباشرة، في الأول من نوفمبر المقبل، ستجري الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، وقد يفوز فيها بنيامين نتنياهو، الذي يعلن فوق كل منصة أنه يعارض الاتفاق بشدة، ويعتبره «استسلاما تاريخيا»، وقد يسعى وقد يتمكن من تعطيله نهائيا.
هناك مطالبة في لبنان بإقرار الاتفاق في مجلس النواب، لكن هذا ليس ملزما من الناحية القانونية، ورئيس الجمهورية، ضمن إجراءات معينة، مخول دستوريا بالمصادقة على المعاهدات الدولية. أما في إسرائيل فالأمور معقدة نسبيا، وهناك ادعاءات قانونية بأن الاتفاق يشمل تنازلا عن أراض «سيادية» ما يجعل المصادقة عليه مرهونة بتصويت 80 عضو كنيست، أو إجراء استفتاء عام، وقد حاول معارضو الاتفاق استصدار قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية بمنع جلسة الحكومة، التي تبحث الموضوع، لكن المحكمة ردت التماس، استنادا الى أن هذه الجلسة لن تقر الاتفاق نهائيا، وما هي إلا محطة من محطات المصادقة. ومن المتوقع أن تكون هناك توجهات كثيرة إلى المحاكم الإسرائيلية لمنع المصادقة عليه.
هناك، من ناحية القانون الإسرائيلي، عدة مسارات لإقرار الاتفاق، وقد اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي يئير لبيد، منها ما هو أسهل له من الناحية السياسية، وهو المسار الذي يشمل: إقرارا أوليا للاتفاق في مجلس الوزراء المصغر (وقد حصل ذلك بالإجماع) وفي مجلس الوزراء، ثانيا: عرض الاتفاق في الكنيست لمدة أسبوعين لمعاينته من قبل النواب من دون التصويت عليه، وثالثا: المصادقة النهائية والرسمية في جلسة مجلس الوزراء. ويتعرض هذا المسار إلى انتقادات من اليمين الإسرائيلي، إلى درجة وصفه بغير القانوني، حتى إن بعض قادة اليمين صرحوا بأن المصادقة بهذه الطريقة لن تلزمهم.
يمكن في الواقع التعامل مع «اتفاق الغاز» على أنه، بمكانته وبإسقاطاته، أكثر بقليل من اتفاق هدنة، وأقل بكثير من اتفاقية سلام وتطبيع
شبح نتنياهو
في الأسابيع الماضية صرّح نتنياهو بأن حكومته المقبلة لن تكون ملزمة باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان حتى لو صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية، ولكنه بدأ بالتراجع في الأيام الأخيرة، مكتفيا بمهاجمة الاتفاق من الناحية السياسية والقانونية، ولم يعد يذكر مبدأ «عدم الالتزام»، ويبدو أن ضغوطا وجهت من واشنطن للكف عن تكرار هذا المبدأ، لكن ما الذي سيحدث لو لم يتوفر متسع من الوقت للمصادقة على الاتفاق قبل الانتخابات الإسرائيلية وقبل نهاية ولاية الرئيس عون، وانتقل الملف إلى الحكومة الإسرائيلية المقبلة بعد الانتخابات؟ عندها قد يكون نتنياهو رئيسا للوزراء وهو بالتأكيد سيفتح الملف من جديد، على الأقل لإيجاد سلم للنزول، وربما لنسف الاتفاق كليا. يحاول نتنياهو استغلال الحديث عن «اتفاق الغاز» لمهاجمة خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم يئير لبيد رئيس الوزراء وبيني غانتس وزير الأمن. ويدعي نتنياهو أن حكومة لبيد تنازلت عن أمور رفض هو التنازل عنها خلال السنين العشر الماضية، ويدعي أيضا أنها سلمت لبنان أراضي سيادية إسرائيلية، وتخلت عن مصالح اقتصادية، ووافقت عمليا على ضخ عشرات الملايين من الدولارات إلى حزب الله، الذي سوف «يستغلها للمس بأمن المواطنين الإسرائيليين»، كما كتب وقال. هدف نتنياهو مزدوج، فهو من جهة يريد تقزيم لبيد ودمغه بالرخاوة وبتبخيس ما يحاول تسويقه كإنجاز تاريخي ليحرمه من اكتساب شعبية، وكسب أصوات إضافية. من جهة أخرى يسعى نتنياهو لإثارة حالة من الذعر من تبعات الاتفاق، مدعيا بأنه هو وحده القائد الصلب، والوحيد الذي يستطيع حماية شعب إسرائيل من حزب الله ومن خلفه إيران. في الاستطلاعات التي أجريت هذا الأسبوع لم يبرز تأثير يذكر لاتفاقية الغاز، ولكن القضية لن تهدأ بعد ضخ الغاز إلى أتون الانتخابات الإسرائيلية، ويبدو أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان سيكون محورا مهما في الصراع الانتخابي المحتدم، وليس واضحا من سيستفيد منه، هل يستطيع لبيد تسويقه كإنجاز تاريخي ليرفع رصيده من الأصوات؟ أم أن نتنياهو سيتمكن من تحويله إلى سوط يضرب به لبيد ليضعفه وليزيد من أسهمه هو.
مكانة الاتفاق
ذهب بعض المحللين العرب إلى إدراج اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ضمن إطار اتفاقيات التطبيع، مع الحرص على تشبيهه باتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، ووادي عربة مع الأردن وأوسلو مع فلسطين والسلام «الإبراهيمي» مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وأكد هؤلاء أن حزب الله هو المسؤول والمذنب بهذا «التطبيع». في الحقيقة يفتقر هذا التحليل والتوصيف إلى الحد الأدنى من التشخيص المحايد، وهو بالأحرى مجاف للموضوعية، ولا يمكن فهمه إلا كموقف كيدي وتصفية حسابات لا علاقة لها بصلب الموضوع المطروح حاليا. هذا لا يعني بالمرة أن الاتفاق معقول ومقبول بمنظار العروبة الشامل. يجب الاعتراف بأن «هضمه» ممكن فقط كحالة اضطرارية بحكم أزمة لبنان الخانقة، وتخلي الدول العربية عن الدعم والإنقاذ. ولو أخذنا الاتفاق من باب خلاف اعتيادي بين دول لكان بالتأكيد اتفاقا معقولا ومقبولا، لكن إسرائيل ليست دولة عادية، بل حالة استعمارية عدوانية، وما تطلبه هو تعبير عن مطامع وليس عن حقوق، وعليه فنحن أمام تسوية غير عادلة بين ما يحق للبنان وما استولت عليه إسرائيل.
يمكن في الواقع التعامل مع «اتفاق الغاز» على أنه، بمكانته وبإسقاطاته، أكثر بقليل من اتفاق هدنة، وأقل بكثير من اتفاقية سلام وتطبيع. وهذا الاتفاق بنصه وبمقاصده ينحصر في شأن محدود وهو ترتيبات حدودية واقتصادية وأمنية لاستخراج الغاز، ولا ينسحب، رسميا على الأقل، على أي بعد آخر. ومع ذلك يتموضع الاتفاق في مقام «القانون الصارم» الملزم، الذي يستوجب مصادقة رسمية من قبل الدول المعنية، وهو يختلف عن مجموعة «القانون المرن» الفضفاضة، التي تنتمي إليها الإعلانات والقرارات والبيانات، التي لا تقتضي مصادقات ملزمة.
تحفظات لبنانية وفلسطينية؟
هناك في المعاهدات والاتفاقيات الدولية مكانة خاصة للتحفظات، التي تحرص الدول على ضمها للنص المصادق عليه، للتأكيد على مواقف لا يشملها النص الأصلي ولحفظ الحق في طرحها مستقبلا. اللافت للانتباه أن لبنان، وفق ما هو معروف حتى الآن، لم يرفق رسالة تحفظات تشمل ما أعلنته قيادات لبنانية رسمية وازنة من ادعاءات مهمة. ويبدو أن كل التعليقات والتعقيبات والانتقادات والاعتراضات قد تحولت إلى مجرد ثرثرة سياسية في ظل الامتناع عن تسطيرها كتحفظات لبنانية رسمية، ترسل إلى الوسيط الأمريكي وتودع في سجلات الأمم المتحدة. كان من الأوجه والأصح أن تكتب كلمة تحفظات بلا علامة استفهام. ولكن علامة الاستفهام فرضت نفسها، لأن لبنان لم يقدم أي تحفظ رسمي، وقد فوت الفرصة. لكن يمكن بالتأكيد، إذا توفرت الإرادة، إزالة علامة الاستفهام عن الموقف الفلسطيني، حيث هناك فرصة تاريخية لتقديم وثيقة تحفظات فلسطينية قانونية وسياسية وتاريخية وجغرافية منمقة، حول حقوق فلسطين البحرية. وتبعا لمحمود درويش يقول الشعب الفلسطيني بأسره «هذا البحر لي»، وعلى الأقل لي حقوق فيه. هذه ليست مسألة مستقبلية بعيدة المدى، بل قضية راهنة، يجب أن تقحم فلسطين نفسها فيها، حيث يجري استغلال ثروات طبيعية لصالح المشروع الاستيطاني الصهيوني على حساب شعب فلسطين. الحقوق البحرية الفلسطينية لا تتعلق ببحر غزة، على أهميته، بل تمتد من حيث المبدأ على طول الشاطئ الفلسطيني، وهي جزء من حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في وطنه وبره وبحره. أما من الناحية القانونية الجافة، فالحقوق الإقليمية والاقتصادية البحرية هي امتداد لشاطئ معترف به. لا يوجد حتى اليوم اعتراف دولي قانوني ملزم بسيطرة إسرائيل على الشاطئ الفلسطيني، وقرار التقسيم هو الوثيقة الوحيدة التي تشمل تقسيما قانونيا للأرض وللشواطئ، وفيها حقوق مثبتة لشعب فلسطين. وبما أن الرئيس محمود عباس قد دعا قبل مدة وجيزة من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى العودة إلى تبني قرار التقسيم رقم 181، فإن من المنطقي استغلال قضية ترسيم الحدود البحرية، لترجمة قرار التقسيم إلى مطالب عينية في البحر الفلسطيني، وتكفي معاينة بسيطة لخريطة قرار التقسيم لتحديد بأن حصة فلسطين من الشاطئ هي أكثر من الثلث، وعليه يجب أن تكون حصة فلسطين كذلك من عائدات الغاز. وقد يكون لدى المختصين القانونيين اقتراحات أخرى بهذا الشأن، والمطلوب عموما هو تحويل مقولة «هذا البحر لي» إلى فعل سياسي قانوني.
المهم في هذه المرحلة هي صياغة قانونية مناسبة تقدم كوثيقة تحفظات للأمم المتحدة، وفلسطين لها مكانة قانونية دولية تؤهلها لتقديم التحفظات، التي سيكون لها حتما وزنا مهما، في ظروف مستقبلية مواتية.