عدل اسرائيلي مغشوش وذاكرة فلسطينية شعبية قصيرة
جواد بولس
تاريخ النشر: 14/10/22 | 14:02أجازت المحكمة العليا الاسرائيلية في قرارها الصادر في السادس من الشهر الجاري لحزب التجمع الوطني الديمقراطي خوض المعركة الانتخابية القادمة للكنيست ؛ وبهذا تكون عمليًا قد نقضت قرار لجنة الانتخابات المركزية القاضي بشطب قائمة الحزب.
لا أعرف كم من المواطنين، لا سيما أولئك الذين تابعوا تداعيات تلك القضية وعقّبوا عليها، قد قرأ جميع مضامين الوثائق القضائية الخاصة بها، وأهمها نص الاستئناف الذي قدمه “مركز عدالة”، باسم حزب التجمع، مرفقًا بتصريح النائب سامي أبو شحادة، المشفوع بالقسم، وكذلك قرار المحكمة الذي كتبته في الأساس رئيستها، القاضية إستر حيوت، وتعقيبات زملائها الثمانية على المسوّغات التي أوصلتها للنتيجة المذكورة.
لا شك أن لجوء أي حزب عربي إلى المحكمة الاسرائيلية العليا متظلماً من غبن مؤسسات الدولة، واستخارتها في طلب تحقيق العدل، يتضمن إقرارًا، لا التباس حوله، بأن هذه المؤسسة هي الوسيلة النضالية القانونية المقبولة على قادة ذلك الحزب؛ وارتضائهم طوعيًا بأن يكون سقف القانون الاسرائيلي النافذ هو فصل المقال بين موقف حزبهم وموقف غريمه، وهو في هذه الحالة لجنة الانتخابات المركزية.
وقبل أن أنتقل إلى المحور الآخر في هذا المقال، لا بد من التأكيد على أن حق جميع الأحزاب، أو المرشحين ضمن قوائمها الانتخابية، بالتوجه الى المحكمة العليا مكفول وفق القانون؛ بيد أن اللافت في مثل هذه الحالات هو التناقض الصارخ بين حاجتنا وتوجهنا الى المحكمة العليا وبين اتهامنا، نحن المواطنين العرب، الصحيح والمبرر، لها ولجهاز القضاء الاسرائيلي بشكل عام، بأنها مؤسسات غير نزيهة تجاهنا، وتعمل، بمنهجية واضحة، على ترسيخ عنصرية الدولة ضدنا. ولئن كان هذا السلوك العبثي صحيحًا ومنتشرًا في حالتنا السياسية العامة ، فهو أشد عبثية في حالة حزب التجمع الديمقراطي، الذي يعتبر نفسه ممثلًا وحيدًا للوطنية الفلسطينية في الداخل، وجزءًا من حركتها الكفاحية؛ فعنده يشكّل التماس عدل هذه المؤسسة العنصرية “ورطةً”؛ ويكشف، في ذات الوقت، عن إحدى معاضل واقعنا المتعلقة بممارسة هويتنا القومية داخل إسرائيل العنصرية.
وقد يكون هذا الإشكال هو ما دفع النائب سامي أبو شحادة أن يعلن في تعقيبه الأول بعد صدور قرار المحكمة أن حزبه فاز بنتيجة تسعة لصالحهم مقابل صفر لصالح جانتس وليبرمان والمتآمرين معهما ! ووصفه، غير الموفق، لموقف القضاة التسعة كإجماع من طرفهم “على دعم فكرة دولة جميع مواطنيها”. من الغريب أن يتبرع النائب أبو شحاده باكرام أولئك القضاة بمثل هذا التقدير، وهم من ذلك براء طبعًا؛ هذا علاوة على كون كلامه بحقهم غير دقيق ومنافياً لما ورد في حيثيات قرارهم، الذي لو قرأه الناس لتسنى لهم تقييم اسقاطاته على واقعنا وعلى ما يقوله حزب التجمع علنًا للناخبين.
يحظر البند (السابع أ) من قانون أساس الكنيست، على أية قائمة انتخابية أو مرشح في قائمة انتخابية، التنافس في الانتخابات اذا كان من بين أهدافهم أو أعمالهم أو تصريحاتهم ، المعلنة أو الضمنية، واحد من هذه الاهداف: نفي وجود الدولة كدولة يهودية وديمقراطية، أو التحريض على العنصرية، أو دعم النضال المسلح لأية دولة عدوة أو تنظيم ارهابي ضد دولة إسرائيل. ويكفي أن نُعمل قليلًا من المنطق كي نستنج أن أمام القضاة عرضت موادّ كافية لاقناعهم بأن البرنامج السياسي الرسمي لحزب التجمع لا يتضمن موقفًا صريحًا وعمليًا ضد يهودية الدولة، وهي العلة التي اعتمدتها لجنة الانتخابات كأساس لقرار شطبها لقائمة التجمع. وكي نكون منصفين للحقيقة يجب أن نشير الى أن القضاة أكدوا ان قصة شطب حزب التجمع وشطب الشطب لم تبدأ في أيام رئيسه الحالي، بل بدأت في زمن مؤسس الحزب، وبعده، مرورا في محاولة شطب النائب حنين زعبي، وبعدها محاولة شطب النائب هبة يزبك، وعليه، كانت قرارت المحاكم السابقة في تلك الحالات سببًا مساندًا لعدم شطب الحزب في هذه المرة.
لقد تمنينا ورغبنا بأن يلغى قرار لجنة الانتخابات التي تعمل بدوافع سياسية حزبية عنصرية ضيقة، وهذا ما تم فعلا؛ بيد أن قرار المحكمة العليا لا يحولها الى جهاز عادل ومنصف تجاه قضايانا، كأقلية مضطهدة داخل الدولة، وسيظل عدلها احيانًا بمثابة الورطة المحرجة حتى لو تحممنا بشموس وطنية.
يعلن قادة حزب التجمع، إلى جانب تأكيدهم على شعار “دولة كل مواطنيها”عن كونهم القوة الوطنية الوحيدة الفاعلة بين المواطنين العرب داخل اسرائيل ويؤكدون على انهم جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى انسجامهم مع اهداف شعبنا الفلسطيني ومشروعه التحرري.
وما داموا ودمنا نتكلم عن الوطنية والمساواة التامة في دولة جميع مواطنيها، ساستذكر احدى المحطات النضالية التي وقفت قيادات تلك الأزمنة على ناصيتها، ولا تعرفها أجيال اليوم، للأسف؛ خاصة بعد أن طويت أخبارها في بطن التاريخ وغُيّب وأهمل دور هؤلاء القادة الذين ناضلوا من اجل حقوقنا وبقائنا بكرامة وطنية وبحكمة وباخلاص.
في السادس من حزيران / يونيو من العام 1980 صدرت جريدة “الاتحاد” الحيفاوية وعلى صفحتها الأولى عنوان عريض صارخ يعلن بتحدّ واضح موجه لحكام اسرائيل أنه “حتى لو جوبهنا بالموت نفسه لن ننكر أصلنا العريق؛ اننا جزء حي وواع ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني”. كان نداء جريدة الاتحاد موجها الى ممثلي أوساط الرأي العام العربي في اسرائيل، يهيب بهم الى عقد مؤتمر يعبّر عن ارادة شعبنا في التصدي الحازم، جنبا الى جنب مع القوى الديمقراطية اليهودية، لتصاعد خطر العنصريين والفاشيين في اسرائيل. جذبت العريضة المنشورة في الجريدة مئات التواقيع؛ فبادر أصحابها الى اقامة لجنة تحضيرية، ترأسها ووجه أعمالها القائد الشيوعي الدكتور اميل توما. التأم اجتماع اللجنة الاول في مدينة شفاعمرو، في السادس من ايلول/ سبتمبر عام 1980، وفيه وضع الدكتور اميل توما ملامح المشروع المرتقب وحدد المفاصل الاساسية لمفهوم واهمية المؤتمر ومهامه الكفاحية في بناء وحدة الجماهيرالعربية، كأقلية قومية. ووضع تصوراته بخصوص برامج النضال وبالمشاركة التي خطط أن تستهدف ايضًا القوى الديمقراطية اليهودية الحقيقة، وضرورة طرحها بديلًا للاجماع القومي الصهيوني السائد.
لم يسمع معظمكم بتداعيات تلك الحقبة، أو بما كان يعرف عندئذ “بوثيقة السادس من حزيران 1980 ” التي قضّت مضاجع حكام اسرائيل بشكل غير مسبوق، ودفعت رئيس الحكومة مناحيم بيغن، بصفته وزير الامن أيضا، لاصدار أمر عسكري، يعتمد على انظمة الطواريء الانتدابية، يحظر بموجبه عقد المؤتمر والتعامل مع وثيقة السادس من حزيران، بعد ان اعلنه كنشاط خارج عن القانون، ويحظر كذلك استمرار عمل اللجنة التحضيرية للمؤتمر.
لقد أخافتهم فكرة انعقاد المؤتمر الذي كان كفيلًا، لو قيّض للقائمين على فكرته النجاح، أن ينقل قضايا المواطنين العرب في اسرائيل من كونها هواجس حزبية أو فئوية ضيقة الى قضية وجودية كبيرة، او كما كتب في حينه: “أن يجسّد المؤتمر أوسع وحدة شعبية عرفتها الجماهير العربية في هذه البلاد، بغضّ النظر عن معتقداتها السياسية، الاجتماعية المتباينة، وعن انتماءاتها الحزبية؛ فبهذه الوحدة تستطيع الجماهير التي تؤلف قوة سياسية اجتماعية ذات وزن كبير، أن تمارس دورها في الكفاح من اجل حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، من اجل السلام العادل والدائم، ومن اجل العيش باحترام متبادل في هذه البلاد، ومن اجل المساواة ولا اقل من المساواة للجماهير العربية”.
لقد اخافتهم وطنية اميل توما ورفاقه وسائر القياديين الميامين حين اعلنوا “نحن أهل هذه البلاد ولا وطن لنا غير هذا الوطن” وأضافوا، “من العمى ان يتصور القائمون على هذه الدولة انهم يستطيعون اقتلاعنا من جذورنا الضاربة عميقًا في تربة وطننا. لقد صمدت الجماهير العربية وهي اقلية ضئيلة وهي تعاني صاعقة نكبة الشعب الفلسطيني واستطاعت حتى في تلك الفترة العصيبة ان تتغلب على شعور التمزق والضياع، فخاضت معركة البقاء بصلابة وحزم فما بالكم اليوم…” ولكن اسرائيل صحت على ما استهدفته الفكرة، واستوعبت خطورتها، فحاربتها وبدأت بهجومها المضاد من أجل تدمير ما كان منجزًا، سيان على المستوى الوطني والقومي أو على المستوى المواطني الحقوقي. وهذه روايات اخرى.
هكذا اذا، الوطنية موجودة منذ نطق التراب ؛ ولم يخترعها قائد واحد، مهما علا شأنه أو توقّد فكره. والوطنية انتماء، لم يكتشفها حزب مهما صخب صوت قادته وبُحّت حناجر نشطائه. وهي، كما قلت ذات يوم لاولادي: جوّاكم، تولد الوطنية في صدوركم وترضعونها مع حليب الامهات الحرّات، وتكبر فيكم مع كل طلة فجر، حيث خمائل الطفولة وحيث يتكاثر الحنان.. الوطنية ربة تنام على شرفات بيوتكم كيما تحرس النور في عيونكم والأمل، وهي هكذا حرّة ترفض التعليب والتصدير ..