تحليق عابر لطيور الذاكرة 15: أيام جامعية

تاريخ النشر: 15/10/22 | 18:03

د. سامي الكيلاني

كانت الفيزياء دراستي الجامعية الأولى برغبة صادقة، تخليت من أجلها عن حقي في الالتحاق بكلية الطب التي بدأت في الجامعة الأردنية مع نهاية السنة الأولى، حيث كان متاحاً لأفضل 45 طالباً ممن أنهوا السنة الأولى في كلية العلوم الالتحاق بهذه الكلية، وكان ترتيبي 15. فضلت دراسة الفيزياء على دراسة الطب، ولامني الكثير من الأقارب والأصدقاء على ذلك ساخرين من “فلسفتي” الزائدة حين دافعت عن قراري. كان قسم الفيزياء مهد ذكريات عزيزة وسط دفعة مميزة من الزملاء والزميلات الذين ما زلت أذكر أسماءهم ووجوههم بعد كل هذه الأعوام. وكان للفيزياء دور في تشكيل شخصيتي وتفكيري، وكانت خططي وتطلعاتي أن أستمر في هذا المجال في الدراسات العليا والتدريس والبحث، لكنني غادرته مجبراً كتخصص أكاديمي، دون أن أغادره كعلم وتفكير، وذلك بسبب منعي من السفر خارج فلسطين لمدة 16 عاماً، فانتقلت لدراسة أساليب تدريس العلوم كتخصص أصبح متاحاً للدراسة العليا في جامعة النجاح الوطنية في الوطن، فكنت في هذا التخصص الطالب الأول في الجامعة والخريج الأول منها، وقد قمت بذلك إلى جانب عملي في الجامعة ذاتها. وبعد أن سمحت ظروفي بالسفر التقطت فرصة للالتحاق بدورة مكثفة في أساليب تدريس الفيزياء في جامعة ليدز البريطانية. بعد أن ضاعت فرص كثيرة عليّ نتيجة الحصار، أصبحت أتلقف أية فرصة حتى لا أظل في بيئة تعتبر الدال نقطة كافية (لدينا في الأوساط الأكاديمية والشعبية مرض دال نقطة مستفحل) لجعل صاحبها متميزاً بغض النظر عمّا خلف هذا اللقب، فتلقفت فرصة وجود منحة لدراسة درجتي الماجستير والدكتوراه في جامعة مكغيل في مدينة مونتريال الجميلة، في مقاطعة كيبيك الكندية في تخصص الخدمة الاجتماعية (الأصح في نظري أن نقول العمل الاجتماعي لأنها مهنة يتم فيها عمل مشترك بين مقدم الخدمة والمستفيد منها، ولكن الخطأ الدارج يكون أحياناً أنسب من الصحيح المتروك)، واندمجت في هذا المجال أي اندماج، لكن ليس لدرجة تنسيني الفيزياء.

تبقى سنوات دراستي في الجامعة الأردنية لدرجة بكالوريوس العلوم في الفيزياء متميزة وتحتل في الذاكرة مساحات حية واضحة، وتبقى استعادة قصصها والحنين إليها أكثر حضوراً مقارنة بسنوات الدراسات العليا التي مررت بها لاحقاً. كان أملي بعد إنهاء الدراسة الثانوية أن أحصل على فرصة لدراسة الهندسة، والكهربائية بالتحديد، في العراق تقليداً لبعض الأقارب والمعارف من بلدتي الذين كانوا يدرسون هناك، وكانوا يعودون إلى البلدة بأحاديث مشوقة عن الدراسة والحياة في بغداد والبصرة والموصل، وشعرت من خلال أحاديثهم أن الفرصة ستكون متاحة لي لتحقيق هذا الأمل. ولكنني، وكما في مراحل ومصادفات كثيرة في حياتي، كنت الحرامي الذي لا تأتي العتمة وفق ما يريد، أو حتى لا أظلم نفسي، فلم أكن لصاً، ربما الأصح أن أقول الطموح الذي تنطفئ الأنوار التي تضيء دربه فجأة وتغلق الطرق في وجهه. ظهرت نتائج الثانوية العامة وحصلت على معدل 85.2% والذي كان يعتبر عالياً في تلك السنوات، ولكني لحظي “المقندل” دائماً، أصبح السفر إلى الأردن بحاجة إلى وثيقة أو تعهد يقوم به شخص مقيم هناك إضافة إلى تصريح للسفر من سلطات الاحتلال الإسرائيلي العسكرية. طال انتظاري للوثيقة الأردنية ممن طلبت منهم من الأقارب مساعدتي في ذلك، وبدأت أشعر بالخوف أن تضيع عليّ الفرصة وأصبحت في حالة نفسية لا أحسد عليها، منطوياً على نفسي دائم التفكير وضرب الأخماس بالأسداس كما يقال. أخيراً أعلنت الداخلية الأردنية عن إلغاء متطلب السفر هذا، وفي ذلك اليوم ذاته وصلني التعهد الأردني الذي لم يعد له لزوم. بدأت أحضّر نفسي للسفر بشراء حقيبة وتقديم طلب للحصول على تصريح من سلطات الاحتلال. ما أجمل تلك الحقيبة، ما زلت أذكرها، بحجمها الصغير ولونها المميز.

قدمت طلباً للدراسة في الجامعة الأردنية من باب الاحتياط، لأن أمل الدراسة في الجامعات العراقية كان ما زال موجوداً، ولكن هذا الأمل تبخر نهائياً بسبب عدم القدرة على السفر إلى العراق الذي كانت حدوده مع الأردن مغلقة بعد أحداث أيلول 1970 وما تبعها، فأصبح الاحتياط واقعاً وكانت الجامعة الأردنية جامعتي الأولى.

تلك الغرفة

بعد انتهاء السنة الأولى في كلية العلوم وانتهاء سنة من معاناة الشتاء في بلدة صويلح التي لم تكن متصلة بالجامعة وبعمان الكبرى كما هي الآن، قررنا الرحيل من صويلح. هل كان السبب أن الشتاء كان قاسياً فحسب أم أن صاحب الشقة التي تقاسمناها قرر زيادة الأجرة بما لا نقدر عليه، أو أنه فضّل أن يؤجرها لعائلة، أم أن كل الأسباب اجتمعت لينفرط عقد مجموعة سكان دار أبو حسين؟ كان زملاء السكن جميعاً أكبر مني سناً، والمشترك بينهم أنهم أعادوا سنة سابقة في دراستهم، إذ كان نظام الدراسة في الجامعة نظاماً سنوياً، وذلك يعني أن من يرسب في مادة واحدة يسمح له بالجلوس لامتحان الإكمال، فإن لم ينجح فيه فإن عليه إعادة سنة دراسية كاملة، ذلك النظام الذي انتهى وحل محله نظام الساعات المعتمدة بعد أن أنهينا السنة الأولى. إضافة إلى ذلك فإن أكبرهم سناً قد درس في الخارج سنة أو سنتين وعاد بسبب الفشل ليلتحق بكلية الاقتصاد، وآخر انقطع عن الدراسة بعد المدرسة وعمل في البناء ومن ثم التحق بالجامعة، والثالث لم يضع سوى سنة الإعادة في كلية العلوم. فكنت أناديهم ممازحاً جدو وبابا وعمو، ومن ثم أصبحت هذه صيغة المناداة المريحة لي لأنهم جميعاً يحملون الاسم نفسه، محمد. لست أدري بالضبط ماذا كان سبب مغادرة تلك الشقة، ولكن أياً كان السبب فقد كانت هناك رغبة بمغادرتها والخلاص من تلك الصباحات الباردة في السير مشياً للشارع الرئيسي لانتظار الباص للوصول إلى الجامعة. كان لديّ أمل أن أسكن في المنزل الجامعي الخاص بالطلاب، مع أن ذلك كان سيعني عبئاً يتطلب مني أن أقتطع من مصروفي، المتواضع أصلاً، جزءاً لتغطية قسط السكن المطلوب، ولكن حتى ذلك الأمل أجهض أيضاً، فعلى بختي “المقندل” دائماً تحول منزل الطلاب في تلك السنة إلى منزل إضافي للطالبات، وأصبح اسمه المنزل الشرقي تمييزاً له عن منزل الطالبات الأول الذي أصبح اسمه الغربي. ولم يعد هناك سكن جامعي للطلاب. كانت الفكرة أيامها أن الطلاب يستطيعون أن يتدبروا أمورهم، أما الطالبات فلا يعقل أن يستأجرن مساكن خارج الجامعة. ضاع حلمي أن أكون في منزل قريب على كلية العلوم، أستيقظ متأخراً إن نمت متأخراً، أو إن راودتني نفسي بنصف ساعة من النوم في السرير الدافئ في أيام البرد، وأن أمارس حلمي في المشي مساء في الجامعة بين أشجار الصنوبر تحت أضواء الشارع المؤدي إلى كلية العلوم، وأن أستمتع بهدوء تلك اللحظات.

كان عليّ أن أبدأ رحلة بحث متأخرة عن سكن جديد. التقيت الشيخ مأمون، صديق وابن بلد وطالب شريعة منفتح، أخبرني أنه ينوي استئجار شقة صغيرة وأننا يمكن أن نتشارك فيها، أعجبتني الفكرة، وكانت الأجرة المطلوبة مقبولة ويمكن تدبيرها ضمن المصروف الشهري المخطط بدقة، مع بعض الشد في الحزام المشدود أصلاً. ذهبنا معاً إلى المكتب العقاري الذي كان الشيخ قد اتفق معه، ففاجأنا بأن صاحب الشقة يرفض رفضاً قاطعاً أن يؤجرها لطلاب، وأنه لا يقبل أن يجاوره طلاب، إذ لديه بنات ولا يريد أن يسكن الشقة شباب “عزابية”. كعادتي، أحاول فتح باب جديد حين يغلق باب في وجهي، قلت للرجل “أعطنا مهلة عسى أن نقنعه”. ذهبت مسلحاً بخطاب ينقط لطفاً لأتلوه عليه وأضرب على وتر عاطفي ومعي الشيخ، وأنه يمكن أن يعتبرنا كأولاده، حيث استبشرت خيراً من اسمه الذي يدل على أنه من منطقتنا. وصلنا باب الشقة، ضغطت على الجرس وخطابي الدبلوماسي الودود جاهزاً للإلقاء وأنا مستبشر بقلب حنون سيرقّ لكنا ولغربتنا في طلب العلم. فتح الرجل الباب، رجل بشعر منكوش، يبدو أنه استيقظ من قيلولة، وما كدت أبدأ خطابي، نحن يا عم ….، حتى صاح “ما بسكن عزابية” وأغلق الباب بشدة. وأغلق الأمل بسكن محترم بسعر معقول.

الشيخ مأمون وجد حلاً لسكنه، مع شركاء آخرين، وأنا بقيت ضيفاً على أقاربي ريثما أجد حلاً.

وسط حيرتي وبحثي عن فرصة سكن بتكلفة مقدور عليها، التقيت زميل السكن السابق، محمد الذي كان “بابا” في سكن صويلح، وعرفت منه أنه وجد غرفة رخيصة بأجرة أرخص مما أتخيل وأننا يمكن أن نتشارك فيها. قبلت عرضه رغم معرفتي بعد توضيحاته أنها غرفة لا غير، بحمام خارجي يرثى لوضعه ودون مطبخ، ومصدر مياه يتمثل بحنفية عند الباب من الخارج، والمصيبة الكبرى أنها دون كهرباء، لكن هناك وعد من جار محترم من بلدة دير استيا سيزودنا بالكهرباء مجاناً لوجه الله تعالى عن طريق سلك من الشباك نضع في نهايته “لمبة” نشعلها بلفها مع عقارب الساعة ونطفؤها بلف معاكس.

عملنا على جعل الغرفة مكاناً مقبولاً، وعوضنا عن كل “تعاسة الوضع” برعاية جارة طيبة احتضنتنا كأولادها ولن أنسى طيبتها وعمق انتمائها لفلسطين ولمدينة صفد التي هجرت منها، إضافة إلى جيران طيبين من ضمنهم عامل فني في البناء طرحت عليه في صيف السنة الأولى من السكن أن نبني مطبخاً بجانب الغرفة وأقنعنا مالك الغرفة أن يكون ذلك من الأجرة، فأصبح لدينا مطبخاً. ورغم تواضعها، كانت تلك الغرفة ملتقى لزملاء الدراسة في كثير من الأوقات للدراسة والسهر.

لتلك الغرفة قصص، من ضمنها تلك الليلة، وكانت ليلة امتحان فصلي، أصرت فيها اللمبة العظيمة أن تتسبب في انقطاع الكهرباء في بيت الجار الذي منحنا الكهرباء، فقمت بإصلاح الأمر بتبديل السلك المنصهر في “الأمّان” مرة، ولكن الأمر تكرر فأصلحته ثانية، ثم انقطع فأصلحته، وخجلنا من محاولة إضاءتها مرة أخرى، فقررنا أن نترك الغرفة ونذهب للدراسة في فندق يعمل فيه صديق من بلدياتنا. قصة تلك الليلة “الدراسية” تحتاج قصة لوحدها.

العلوم والأدب

خلال السنة الأولى في كلية العلوم استمرت اهتماماتي الأدبية ومحاولات الكتابة الطامحة لأن تكون شعراً، ولكنها كانت بوتيرة أقل من سنوات الدراسة الثانوية الأخيرة، وذلك نتيجة المتطلبات والتحديات المصاحبة لدراسة مواد السنة الأولى باللغة الإنجليزية، خاصة مادة البيولوجيا، إضافة إلى محاولة طالب قروي مثلي الاندماج الاجتماعي في الأجواء الجديدة. لم تكن اللغة الإنجليزية مشكلة بالنسبة لي، حتى أن البعض ظنني من خريجي المدارس الخاصة المعروفة، ولكن مادة البيولوجيا بأقسامها المختلفة الميكروبيولوجي والحيوان والنبات كانت عقدتي التي لا حل لها سوى بعمل كل ما باستطاعتي ل”أنفذ” بجلدي منها بنجاح وأودعها إلى غير رجعة بعد السنة الأولى. كان النشاط الممكن في تلك السنة يتمثل في متابعة الندوات والأنشطة التي تقوم بها الجمعيات الطلابية في الكلية ومن ضمنها المعرض الفني السنوي، وقراءة ما “أخربش” على دائرة الأصدقاء. ومن ثمار ذلك النشاط أنني أصبحت من ضمن لجنة إنتاج الكتاب السنوي لكلية العلوم تمثيلاً لطلبة السنة الأولى، ذلك الكتاب الرائع الذي أتصفحه بين الحين والآخر لأتذكر الأسماء والوجوه، ولم يتكرر صدوره بعد تلك السنة، واستبدل بكتاب سنوي على مستوى الجامعة يركز على الخريجين فقط. وجاءت عضويتي في تلك اللجنة بعد أن طلب صديق لنا من جمعية الكيمياء من طلبة السنة الرابعة من زميلي وصديقي سامي عبد الكامل أن يكون عضواً في هذه اللجنة، فما كان من سامي الآخر إلاّ أن رشّحني لأنني الأنسب لقدراتي “الأدبية” من وجهة نظره.

كانت مجلات الحائط منابر ثقافية جيدة، تتسع لموضوعات متنوعة من الأدب والعلوم وبعض السياسة المستترة نتيجة للأجواء التي كان الأردن يعيشها في تلك الفترة. وفي السنة الثالثة والرابعة انضمت إلى هذه المنابر نشرتان واحدة تصدر عن العلاقات العامة في الجامعة (لا أذكر اسمها) وتتسع لمساهمات الطلبة، ولكن بشكل محدود، أما الأخرى فقد كانت مجلة مطبوعة عنوانها “صوت الطلبة” تصدر باسم مجلس طلبة الجامعة، وقد صدرت بناء على امتياز رسمي خاص بقرار من مجلس الوزراء وبهيئة تحرير مذكورة في الامتياز. كنت أحد أعضاء هذه الهيئة عن كلية العلوم، وأذكر من أسماء الأعضاء الزميل محمد عباس من كلية الزراعة، وبسام جرار من كلية الآداب. لا أدري إن كانت تلك المجلة قد استمرت بعد تخرجي أم لا؟ وأتمنى لو أستطيع الحصول على الأعداد التي صدرت منها.

كانت مجلة الحائط “القنديل” التي تصدر عن الجمعية الفيزيائية مجلة نشيطة في مجال الأدب والفن ومتميزة في طبيعة مواضيعها الأخرى، وما اسمها إلاً انعكاساً للفكرة التنويرية التي كانت خلفها تعلوها رسمة جميلة لقنديل وتحتها مقطع من أغنية فيروز في مسرحية “الليل والقنديل”: ضوي ي هالقنديل ع بيوت كل الناس، وكان رئيس تحريرها (أرجو أن تكون ذاكرتي صحيحة هنا) الزميل محمد حجة. ومن الأقسام الأخرى كانت هناك مجلات أخرى. ومن المساجلات على تلك المجلات أذكر المساجلة التالية. كتب أحد الزملاء من التيار الديني السياسي شعراً موجهاً لليسار، يقول في مطلعه “وددت يا رفاق، لو تتركون ال(؟) والنفاق”، فرددت بشعر مطلعه “وددت يا إخوان، لو تتركون اللف والدوران”. مرت الأمور عادية، ولم نتسبب بأزمة، ولم تنقطع العلاقة بيننا كزملاء. روح ديمقراطية نفتقدها هذه الأيام.

أما في “صوت الطلبة”، فقد كان لي فيها زاويتان هما “لقطات” و”إلى أن نلتقي” في الصفحة الأخيرة، إضافة إلى تحرير الأخبار والأنشطة. في “لقطات” استثمرت الكاميرا التي امتلكتها أثناء رحلة قمنا بها أنا و3 زملاء من كلية العلوم (نادر قبرصي، مفيد البشيتي، وهاني الكيالي) من عمان إلى لندن بالبر بطريقة الأتوستوب التي كانت شائعة في تلك الأيام (ولا بد أن أكتب عنها في تحليقات لاحقة).

في “لقطات” كنت ألتقط بعض الصور وأكتب عن كل منها تعليقاً مناسباً، وتنشر الزاوية على صفحتين متقابلتين في منتصف صفحات المجلة مع “عدسة وتعليق: سامي الكيلاني”. إحدى الصور كانت لمجموعة من الطلبة يجلسون في ممر قريب من عمادة شؤون الطلبة بشكل يمنع المرور، وكان التعليق “النشرة الجوية- الطريق بين عمادة شؤون الطلبة والكافتيريا مغلقة بسبب تساقط …..”. وصورة أخرى لطالب يحاول الشرب من ثلاجة مياه عامة معطلة ويضغط دون مياه، وكان التعليق “اضغط أكثر، يا رب يطلع النبع”.

وفي زاوية “إلى أن نلتقي” كتبت مواضيع خفيفة، وسرحت في أحدها سرحة خيالية فيزيائية، حتى أقول إن الماضي لا يمكن إعادته وأن الحاضر ملعبنا الوحيد، فاقترحت من أجل إعادة الزمن للوراء لنعيش الماضي مرة أخرى بأن نربط الكرة الأرضية بحبل طويل نلفه حول وسطها ونخرج إلى الفضاء ممسكين بطرفه ونشده لتدور الأرض في اتجاه معاكس لدورانها المعهود، كما نفعل بلعبة البلبل، أليس الزمان دوران الأرض في الاتجاه المعروف، فماذا لو انعكس الدوران؟ وبالمناسبة فإن دوران البلبل، هذه الحركة البسيطة في نظرنا، تتضمن الكثير من المفاهيم والمعادلات الفيزيائية في علم الميكانيكا حول العزم الزاوي، وعزم القصور، والقوة المركزية، والطاقة الكامنة، والطاقة الحركية، وعزم الدوران، والجاذبية.

وفي السنة الرابعة، سنة التخرج، أصبحت عضواً مؤازراً في نادي خريجي الجامعة الأردنية، حيث يسمح النظام الداخلي للنادي بمثل هذه العضوية، ولكن لم يكن هناك إقبال عليها، فنشطت في لجنته الثقافية وساهمت في الكتابة في مجلة النادي “أبعاد” التي صدر منها عددان أو ثلاثة على ما أذكر، إضافة إلى الندوات الدورية التي كانت تعقد في النادي وتركز على الفكر والفن والثقافة التقدمية.

في المجلة استعرضت في عددين متتاليين كتابيْ الدكتورة نوال السعداوي “المرأة والجنس” و”الأنثى هي الأصل” في وقت كانت كتاباتها مفاجأة للبعض وموضع هجوم من أولئك الذين اعتبروها هزة للقناعات الراسخة التي يحملونها حول المرأة. ولم أسلم من نقد ما كتبت من مصدرين: من المعسكر الديني ومن المعسكر الوطني، فالأول كان انتقاده مفهوماً بالنسبة لي، ولكنني استغربت انتقاد الثاني الذي اعتبر أن هناك مواضيع أهم من هذه للكتابة فيها.

في مجال الندوات، اخترنا مواضيع ثقافية متعددة، من بينها التعريف برموز الثقافة العربية والعالمية التقدمية، فكان نصيبي الحديث عن برتولت بريخت الذي كنت قد قرأت عدداً من مسرحياته وأشعاره، وما زال مقطع من أشعاره في ذاكرتي، مقطع تصدر ترجمة فيصل الياسري لأشعار بريخت، ذلك المقطع الذي يقول “على الغصن سبع زهرات، ست منها للريح وأنا واحدة تكفيني”، واخترته ليتصدر مجموعة شعرية جديدة لي جاهزة للنشر بعنوان مقترح قد يتغير “لزهر اللوز يجود الغمام”. وتحدث زملاء آخرون عن نيرودا ولوركا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة