وهيب نديم وهبه / المجنون والبحر / في لحظة عناق
كتبت: هيام مصطفى قبلان
تاريخ النشر: 16/10/22 | 13:38قد يكون الجنون هروبًا، وقد يكون عودة إلى الواقع، والجميل في هذه الرّائعة الّتي بين يدي، أنّ الشّاعر وهيب نديم وهبه يعيش هاربًا من واقع مرير، وفي نفس الوقت عائدًا إلى الواقع في لحظات من الشّفق الغافي.
هذه الغيبة في نظر الوهيب ربما تعبر عن انطلاقة جديدة، وعودة إلى حياة أخرى بعد انتظار طويل.
كتاب المجنون والبحر ليس نثرًا وليس شعرًا… أنهُ إبداع… أنّهُ الكلام الّذي يتأرجح بين الاثنين ويقف عند نقطة الالتقاء إلى (مسرحة القصيدة) على حد قول الشاعر الوهيب (هي عمليّة دمج بين كلمتين معًا… مسرح وقصيدة)
هذه التّجربة الجديدة للشّاعر، تثبت مدى عمق الكلمات… وقوّة النّبض… ونداء الرّوح للرّوح… تجربة صادقة تتجدّد فيها روح المعاني بعد الغيبة… فإذا الغيبة في كتاب شاعرنا ليست هروبًا، وإنما تحويل النّفس إلى اتجاه جديد وإلى حياة أخرى بعيدة عن الزّيف والخداع والخيانة.
أتحدّث في مقالتي عن النّقاط المهمة التي يكتب عنها الشّاعر وهيب نديم وهبه… وتدور في حلقات من الجنون العاصف والحب العارم والنّسمة العابرة، والرّفض بشتّى أنواعه والّذي يتمثّل بالغيبة مرّة وبالحلم أحيانًا وكل هذه النّقاط بحاجة إلى تشريح وليس إلى نقد.
لقد اختار الشّاعر المجنون لمواجهة الواقع، لأن الجنون في نظره قد يكون أكثر واقعيّة من الواقع الّذي نعيشه، لأن الطيّبة والنّزاهة أصبحت غير مقبولة، وربما سخيفة في نظر المجتمع الّذي يدّعي الصدق والاتزان يقول الوهيب:
أصبحَ الْإنسانُ الطيّبُ النّزيهُ، منبوذًا
ومرفوضًا وكافرًا في استغلالِ الْفرصِ…
ليسَ منَ السّهلِ،
أصبحتِ النّزاهةُ عارًا والدّعارةُ علمًا
والْخداعُ تجارةً والْكذبُ مهنةً…
يشعر وهيب أنّ المجنون الّذي بداخله يتحرك لمواجهة العشق الممزوج بالدم… والخيانة والنّفاق يقاوم المادّة التي تزحف.
أن المجنون يخرج من ذات وهيب ويفتح للفرح كل زجاجات الحزن ويسكر ويركض حتّى البحر، فيغرق هذا البحر بالأحزان، ولا يستيقظ المجنون من سكرته، فيجمع مياه البحر في زجاجة ويضحك، يقف الشّاعر حائرًا بين نفسه وبين عناقه للمجنون الخارج من ذاته… وعند البحر يجري حوار بين الشّاعر والمجنون ويكون لهاله دور، هالة المرأة الّتي عاشت في ذاكرة المجنون وركضت في حقول القلب، وعاشت في شرايين الدّم لتحيي في البحر جفافه، فيترك البحر ويدخل غرفة هالة ويغلق الباب والنافذة ويمارس الجنون حتّى الصّباح.
يتساءل المجنون… لماذا هذا الركض الباكر للإنسان؟ وهذا السّباق العنيف… يقول:
وهذا السّباقُ الْعنيفُ.
كلُّ واحدٍ منهُم يُريدُ أنْ يأكلَ الدّنيا،
والدّنيا كما هيَ…
يحاول الشّاعر أن ينقل حياة النّاس منذُ شروق الشّمس حتّى نومها في حضن البحر، في لوحة فنيّة رائعة بقوله:
والنّاسُ…
النّاسُ صفوفٌ، في عرضِ وطولِ السّوقِ.
وتلكَ الشَتائمُ (على الصّباحِ).
صباحُ الْخيرِ، يا سوقَ الحياةِ…
ودونَ أنْ يدريَ أوْ يدري؟
دكّانُ الدّرويشِ…
مفتوحُ الشّريانِ لشربِ الشّايِ
والْقهوةِ…
يأخذُ الْمجنونُ الكرسيَّ النّصفَ عمرٍ ويجلسُ…
لا يطلبُ شيئًا.
يجلسُ!
ثُمَّ يضحكُ… يضحكُ على الدّنيا.
هذا المجنون الخارج من ذات الوهيب، يحمل معهُ وجع الأرض وأحلام المعذّبين وأشجار الدّمع اليابس… وتدخل في هذه المرحلة قضيّة مهمّة في مجتمعنا هي قضيّة الزّعامة فيقول:
قالَ الْمجنونُ وهوَ يضحكُ، ويشتمُ ويبتسمُ:
“أترى هذا الْبرميلَ الْمقلوبَ؟
هذا عالمُكُم – عالمُكُم فارغُ الْمضمونِ…
وألفُ تاجرِ ممنوعاتٍ – مخدِّراتٍ، صفقاتٍ،
زعاماتٍ…
لذلك فأنّ مستقبل الأجيال سوف يضيع بين البحر واليابسة.
مجنون شاعرنا بحاجة إلى امرأة ليست كل امرأة… أنّهُ بحاجة إلى إعادة الذّكريات، بحاجة إلى لحظات من لقاء الأصابع المتراقصة… ليرقص الفرح العاشق فوق الرّمال… وبذلك تسقط الرّجعية والشّعارات… ففي لقاء المجنون بهالة تسقط كل نصوص التحقير والتصغير في علاقة معها:
سقطوا سقوطَ الْجبناءِ عنْ سروجِ الْخيلِ الْأصيلةِ،
وقوائمُ الْجوادِ غارقةٌ بالْوحلِ والْهزيمةِ.
الْآنَ يدخلُ الْفرحُ، تدخلُ هالةُ،
لحظةُ وداعِ الْاحتيالِ، والْغدرِ والْخيانةِ.
فيرقص المجنون ويقول:
“همْ تجمّعوا، داخلَ زجاجةِ الْمشروبِ،
كلٌّ منهمْ يشربُ كأسَ الْمصلحةِ الْعامّةِ.
فشربوا طوالَ الّليل كأسَ الْخسارةِ،
وشربَ الْمجنونُ كأسَ النّصرِ”
بهذه الكلمات يصل وهيب ذروة الإبداع إذ يجمع بين المصالح في المجتمع والابتزاز ويود لو يضع المبتزّين داخل زجاجة ويحكم الإغلاق. هنا يقارن بين الغدر والخيانة والرّكض وراء المصلحة العامة وبين نقاء وصفاء حبيبته هالة فيقول:
“هالةُ، يا وجعَ الْقلبِ،
وآخرَ قطرةِ دمٍ منْ دمِ الْمجنونِ.
ترشُّ هالاتِ النّورِ،
والْوردَ والْأرزَّ.”
فهي في نظره حاملة طيّب الدّنيا والمحبّة في العينين فهي ماء النّبع الصّافية والّتي تبعث في نفسه تباشير قدوم نسيم الصّفاء… فيغيب المجنون ليرسم على أكوام الرّمل خريطة للشّرق… تختلف عن كل الخرائط الّتي رسمت، فخريطته غريبة لكنها حلم من أحلامه:
“وطني، الْمعلّقُ في ليالي شهرزادَ…”
“ثمَّ يتركُ الْمجنونُ أكوامَ الرّملِ…
وَيُنادي: “على الشّرقِ السّلامُ
ويسهرُ لا ينامُ.”
فتعاتبه هالة ويبث لها أحاسيسه بعد أن تمتدّ قبضة يده وتلف الخصر ويصيح من الألم ويبكي وطنه الجريح فالقتل في وطنه مباح… والوطن العربي مزروع بالغدر والقتل والخيانة فيجن جنونه ويقول:
الْمجنونُ: “الرّكامُ تراثُ تقييدِ الْقيدِ
الْموروثِ يخرجُ منْ بينِ صفحاتِ التّاريخِ
الْعربيِّ الْمزروعِ بالْغدرِ، والْقتلِ والْخيانةِ.
كيْ تحكمَ، كيْ تصبحَ شيئًا. اقتلْ! الْقتلُ مباحٌ،
الْموتُ كتابٌ عربيٌّ، عقدٌ معلّقٌ في عنقِ التّاريخِ.”
يعود المجنون في نفس وهيب لكي يندب عصر الحريّة، وما الحريّة في نظره سوى امرأة… دخلت داخل زجاجة عطر… وأغلق الشّرق فتحة الزّجاجة، فتقترب هالة منه وتقول:
هالةُ: “سجينةٌ، سيّدي، طفلةُ الْأشواقِ،
صغيرةٌ نامَتْ معَ النّجمِ، ذاتَ ليلةِ عاشقٍ.
كبرَ الْإنسانُ، ولمْ تكبرْ. تغيّرَ الْعالمُ،
وما زالَتِ الْحريّةُ طفلةً صغيرةً تلعبُ معَ النّجمِ.”
هكذا صور لنا وهيب الحريّة… ويا لها من لوحة لا تحتاج إلى ألوان، فألوانها النّاعسة تصرخ أن الحريّة سوف تأتي تلعب معه على الشاطئ فيركض بجانب الماء يُنادي الحريّة لأنها لا تأتي إليه، بل هو سوف يذهب إليها، أما المرأة فتبقى في نظر الشّرق طفلة لا تكبر، تغفو على الرّمل السّاخن ولا تتغير وكيف بإمكان شاعرنا أن ينال الحريّة وهنالك:
“في حينَ أنَّ الْملايينِ حولَ الْعالمِ
يعيشونَ بلا مَأوَى، بلا بيتٍ بلا سقفٍ،
وقدْ يكونُ بلا غطاءٍ…
في حينَ يستطيعُ الْكلبُ الْأمريكيُّ
والْقطُّ الْفرنسيُّ والْفأرُ السّويسريُّ
أنْ ينامَ على ريشِ النّعامِ في الْقصرِ
أوِ الْفيلا.”
ويلوم الشّاعر الإنسان الّذي يدمر خمس مساحة العالم بالأسلحة… وينام تحت السماء على اليابسة… وفي لحظة جنون يقترب المجنون ليكسر أوتاد الخيمة التي ينام فيها على الشاطئ… والبحر ينظر إليه بصمت وهالة تتساءل فيجيبها:
“لا أريدُ الْخيمةَ! لقدْ تحوّلَ هذا الشّرقُ
إلى مجمّعِ لاجئينَ ومخيّماتٍ.”
“لا أريدُ يا هالةُ، الصّمتَ والْخيمةَ، ولا مساكنَ الْمقابرِ.
نصفُ الْعالمِ الْعربيِّ، يا هالةُ، يعيشُ في دورِ الْمقابرِ والْخيامِ،
وها هوَ الْبحرُ، ينظرُ بصمتِ الْأمواتِ.”
الشّاعر في هذه الإبداعيّة، لا يريد الصّمت والخيمة ولا مساكن القبور، لأن نصف العالم العربي يعيش في دور المقابر والخيام، في هذه الكلمات تتجلى كل معاني القيم الإنسانيّة للشّاعر بأحاسيسه.
أنّ الوطن العربي يغيب عن الخارطة، لكن غيبته مؤقّتة، فالخيام لن تبقى إلى الأبد والغرباء لن يبقوا غرباء في أوطانهم، فبعد الغيبة لا بد من العودة، وبدل الخيمة ستنبت ألف زهرة وزهرة.
يعالج وهيب في باب من أبوابه قضيّة القتل… قضية القوى والضّعيف، فهنالك من يملك مهنة القتل، وهنالك من يملك الحب، فيختار بين أن يبقى جائعًا والسمكة في البحر أمامه تنتظر الطّعم، فهي جائعة وهالة جائعة أيضًا وما الطّعام إلا سمكة… فتعود الشّمس بعد الصراع تسقط في البحر والمجنون يُنادي:
الْمجنونُ: “والْعالمُ يسقطُ…
يسقطُ في الرّذيلةِ…
والْكلُّ يتحدّثُ عنِ الْأخلاقِ.”
لكنّ حبّ هالة لهُ أقوى من عقدة هذا الشّرق… فهي تتحدّى الأهل، وهو بالنسبة لها حديقة ورد في القلب، لكنّ المجنون يحاول أن يثبت لها أنها بالنسبة للشّرق أنثى… وما الانثى سوى فريسة فيقول:
الْمجنونُ: “في الْقلبِ مثلُ شظايا رصاصةٍ، أوْ طعنةِ سكّينٍ في الظّهرِ.
أنتِ لهمُ – أنْثى – أنتِ لهمُ أنْثى. أنتِ الْفريسةُ، وعلى أنقاضِ هذا الْجسدِ مراسيمُ الْبطولةِ، والْكرامةِ والشّرفِ، مراسيمُ أمجادِ الْعربِ.”
فتبقى في نظر الشّاعر المرأة الضّعيفة كما صورها الشّرق والرّجل يعلق على أكتافه أوسمة البطولة.
يرفض المجنون في نفس الشّاعر كل الّذين ينامون مع الجريمة، وهم رمز الطّهارة والعفّة والشّرف، وما الشّرف إلا كرامة الرّجل في زمن تتعمشق الأقزام فيه على الغصون العالية وتتطاول الأنذال فيه على ضوء النّهار السّاطع… وجائزة الشّرق تبقى دم هالة المستباح.
في نهاية المطاف بين المجنون وعشقه لهالة، وبين جنونه للبحر الّذي أصبح جزءًا من حياته والّذي بنظره يسع العالم فكيف لا يتسع لأحزانه ولحبه الكبير… فيصل المجنون إلى حل مؤقت وهو مغادرة المكان… ولكن مع هالة الّتي تتساءل:
الْمجنونُ: “وأنا جمعْتُ الْخيمةَ، عائدٌ إليهم وأنتِ معي. وإنْ رفضونا،
وسدّوا الطّريقَ وأغلقوا مملكةَ الْحبِّ عليْنا – سوفَ أرتضي منَ الدّنيا.
إنّي قلْتُ! ما يجبُ أنْ يُقالَ، وما يمكنُ أنْ يكونَ… هكذا خلقَنا اللهُ، بشرًا.”
لكنّها عندما تنظر إلى البحر تراه يخلع قميصه الأزرق ويرتدي البياض قميصًا… وفي هذا السّكون وداع إلى دنيا أخرى، لكنّ الغيبة عند مغادرتنا الحياة ليست طويلة بل لها عودة… وتستيقظ الحبيبة فلا تجد حبيبها… أنّها تتذكر أقواله من ليلة الأمس:
“كنْتُ أعرفُ، سيّدي، زمنَ الْغيبةِ، زمنَ الْحضورِ والْغيابِ، وكنْتُ أخافُ!”
وتبكي وهي الّتي هجرت اليابسة والأهل وتركت الأصدقاء ولم تبكِ، لكن غيبة حبيبها الباحث عن زمن أفضل… زمن لا يعرف الزّيف ولا الحقد ولا الخداع… زمن بينه وبين جنون الرّحيل دمعة… يدعوها للبكاء والانتظار…!
إشارات:
• هيام مصطفى قبلان: شاعرة وروائيّة فلسطينيّة – لها مجموعة إصدارات في الشعر والنثر والكتابة الإبداعيّة.
• إعادة نشر المقال بمناسبة صدور الطّبعة التّاسعة “المجنون والبحر” بالعربيّة والانجليزيّة.
• كما تمَّ تسجيل المجنون والبحر في مكتبة المنارة العالميَّة بصوت الإعلاميّة القديرة فادية نحّاس.
• لوحة الغلاف والرّسومات الدَّاخليّة للرَّسّامة الرَّائعة – هيام يوسف مصطفى… الإصدار الأخير بالاشتراك مع الرّسامة الأردنية آلاء مرتيني.