قراءة في إعلان الجزائر.. مأمول وممكن.. وإرادة سياسية غائبة
فتحي كليب
تاريخ النشر: 17/10/22 | 12:12يتفق الجميع على ان الانقسام اضعف النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، ومس مصالح كل تجمعات الشعب الفلسطيني: داخل فلسطين حيث الاولوية لمواجهة العدوان الاسرائيلي المباشر، وخارج فلسطين لجهة اتساع دائرة الحرب الاقتصادية والاجتماعية التي تشن عليها منذ زمن وكان من نتيجتها ان المخيمات التي كانت على الدوام خزان الثورة باتت مهددة بتفسخ نسيجها الاجتماعي. كما لا يجادل اثنان من حلفاء واصدقاء وداعمي الشعب الفلسطيني بأن الانقسام نال كثيرا من رصيد القضية الفلسطينية واقفل الكثير من الابواب التي كان يمكن الاستفادة منها في اكثر من منعطف.
لا يعقل ان الشعب الفلسطيني وعلى امتداد سنوات يخوض نضالا يوميا في مواجهة المحتل دون تخطيط مشترك واحيانا دون تنسيق بين القوى التي يفترض انها معنية برسم مسار النضال الفلسطيني امام مؤسسة صهيونية تمتلك كل ادوات القتل والارهاب وترتكب جرائمها في كل مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية، كما تمتلك كل ادوات التخطيط والتكتيك والحرب النفسية ومدعومة بمؤسسات اعلامية غربية تعمل في الليل والنهار على نسج روايات تقدم الوقائع بغير حقيقتها وبما ينسجم مع المواقف الاسرائيلية.. بينما الحالة الفلسطينية بجميع مكوناتها الرسمية الخاصة بالسلطة ومؤسساتها والفصائلية عاجزة عن تقديم الحماية لفعاليات المقاومة الشعبية، بل ان اسرائيل تلاحق وتقتل المناضلين والمقاومين امام اعين من يفترض انه الحراس على امنه ومصالحه..
تجارب اتفاقات وحوارات ولقاءات المصالحة الوطنية غير مشجعة، ولهذا السبب ربما، وغيره من اسباب، لم يعلق الشارع الفلسطيني آمالا كثيرة على حوارات الجزائر التي انطلقت منذ بداية العام 2021 وانتهت في 13 تشرين الاول 2022، متوجة بالتوقيع على “اعلان الجزائر” الذي يحمل الرقم (15 او ما يزيد) في ترتيب الاتفاقات واللقاءات والتفاهمات التي حصلت بين حركتي فتح وحماس منذ العام 2005 من اجل استعادة الوحدة الوطنية ورسم خارطة طريق وطنية تشكل ارضية يمكن الانطلاق منها في معالجة عديد الاشكالات التي تعترض مسار النضال الفلسطيني..
جاء “اعلان الجزائر” مصحوبا بحدثين رئيسيين: الاول هو إقتراب موعد انعقاد القمة العربية في دورتها الـ (31) في الجزائر، في ظل حرص جزائري واضح على التوصل الى مقررات ونتائج تستعيد ما يمكن تسميته بـ “التضامن العربي” وتعكس الحد الادنى من طموحات وتطلعات الشعوب العربية التي لم تعد لديها ثقة لا بالمؤسسات العربية الجامعة ولا بالنظام الرسمي العربي الذي ما زال عاجزا حتى الدفاع عن مصالح شعوبه. لذلك سعت القيادة الجزائرية الى تذليل العقبات وحل ما امكن من خلافات بين الدول العربية، وبعضها مفتعل من دول لا يروق لها التوصل الى نتائج خارج سياق سياساتها الخارجية التي تغرق في وحول التبعية للسياسات الامريكية والاسرائيلية..
الحدث الثاني فعاليات المقاومة الشعبية المتواصلة منذ ما قبل معركة القدس بداية عام 2021، والتي تتوحد في ميادينها جميع الفصائل الفسطينية التي قدمت المقاومة الموحدة بأبهى صورها وارهقت جيش الاحتلال الذي ما زال عاجزا عن مواجهتها، رغم ارتكابه لعشرات الجرائم، حيث زاد عدد الشهداء عن 170 شهيدا منذ بداية العام الحالي. وكان هذا المشهد يستحق من الفصائل التي تحاورت في الجزائر، ان يرتقوا في نقاشاتهم الى مستوى ما يحدثفوق ارض فلسطين ويقدموا لكل الشعب الفلسطيني وثيقة بعناوين واضحة وآليات تنفيذية تضع حدا نهائيا لحالة الانقسام كرافعة للشعب المنتفض في مواجهة الاحتلال والاستيطان..
رغم ذلك وبغض النظر عن تفاصيل”اعلان اجزائر”، لا يمكن لأي فلسطيني الا وان يقدر ما بذلته الجزائر، رئيسا وحكومة وحركة شعبية، من جهود لجمع الفصائل الفلسطينية فوق ارضها وسعيها في لقاءات ثنائية جانبية للخروج بأفضل صيغة يمكن التوصل اليها في الوقت الراهن، بهدف سحب البساط من تحت اقدام بعض النظام الرسمي العربي الذي يتذرع بالانقسام لتبرير انسحابه من مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية ودعم شعبها وتبرير تراجعاته واتفاقاته مع العدو الاسرائيلي.. بهذا المعنى لا يمكن الا ان نشكر الجزائر على كل ما قامت به، واي نقد يمكن ان يوجه لما حمله لاعلان من مضامين فهو للفصائل التي تحاورت ولم تضع في اولوياتها المخاطر الكبرى التي تتهدد القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الالغام والافخاخ العديدة التي من شأنها ان تفجر الاعلان وتجعله مجرد رقم يضاف الى مسلسل الاتفاقات السابقة..
في نقاش البنود التسعة التي حملها الاعلان، يمكن الاستنتاج بأن اعلان الجزائر شكل مسار تراجعيا عن جميع الاتفاقات والتفاهمات السابقة باسقاطه العديد من العناوين. وقد يقول قائل ان ليس من وظيفة الاعلان الدخول في تفاصيل الانقسام التي من شأنها ان تنسف الاعلان، كما حصل في الدعوة الجزائرية الاولى للحوار.. غير ان هذا الكلام قد يكون صحيحا لو كان الاعلان هو الاول، او انه اطار لتفاهمات مستقبلية سيجري مناقشتها لاحقا، وتجربة السنوات الماضية تؤكد ان ما يحتاجه الشعب الفلسطيني هو آليات تنفيذية تعمل على تطبيق ما تم التوافق بشأنه في عديد الاتفاقات السابقة، وان الاعلان بصيغته الراهنة لا يحمل ضمانات كافية لاجبار الجميع على تطبيق ما ورد فيه، بغض النظر عن نوايا هذا وذاك وحدود المسؤولية لكل طرف.. ولو توافرت النية الحسنة لامكن التوصل الى اتفاق نهائي في ساعات وربما دقائق، مستفيدين بذلك من الدعم الذي حظي به المتحاورون من الجزائر ومن دول عربية اخرى، كما قال الاعلان.
اولى هذه التراجعات اسقاط اهداف النضال الوطني في المرحلة الراهنة، واهمية ذلك ليس في التعابير الانشائية، بل بسحب البساط من تحت اقدام الاحتلال الذي يحرض ضد الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني، هنا تكمن خطورة اسقاط مرجعية الاعلان وآليات تطبيقه كما تحددت في عديد الاتفاقات التي وقعت منذ أكثر من سبعة عشرة عاما واستغرق الوصول اليها اشهر وسنوات.. وكان يمكن الاشارة الى هذه المرجعية كما وردت في تلك الاتفاقات وفيمقدمتها: وثيقة الوفاق الوطني (2006)، مخرجات لقاء الامناء العامين (2020) اضافة الى بيان حكومتي الاخ اسماعيل هنية الاولى والثانية (2006) و (2007) وغيرها من اتفاقات حددت بشكل واضح هدف النضال الفلسطيني في المرحلة الراهنة.
كما اسقط الاعلان، وبشكل مقصود ومتعمد، الاشارة الى حكومة الوحدة الوطنية التي يجب ان تتولى الاشراف على تطبيق بنود كل ما تم الاتفاق عليه في مراحل سابقة. وعدم الاشارة الى هذا الامر من شأنه ان يعطي الذريعة للبعض لعدم تحمل مسؤولياته في تذليل العقبات التي تعترض سبل انجاز الوحدة الوطنية وفي مقدمتها تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي ومخرجات اجتماع الأمناء العامين سواء بالعناوين السياسية ذات العلاقة مع الاحتلال او في المسائل الداخلية كقضايا الموظفين وتوحيد الأجهزة الأمنية، والجهاز القضائي والحريات الديمقراطية وغيرها من عناوين لا يمكن التصدي لها الا من خلال حكومة وحدة وشراكة وطنية.
كما تم تجاهل مسألة التطبيع باعتباره خطرا يهدد القضية الفلسطينية وخنجرا في خاصرة الشعب الفلسطيني، وليس هناك من تبرير لهذا التجاهل الا كونه يشكل استجابة لرغبة بعض الانظمة العربية التي رفضت سابقا الاشارة لهذا الموضوع في البيان الختامي للقمة العربية، رغم ان المبادرة العربية اشارت اليه ضمن شروط معينة. وكان على المتحاورين في الجزائر ان يضعوا فاصلا بين ما يريده النظام الرسمي العربي وبيان قمتهم القادمة، وبين متطلبات النضال الفلسطيني الذي يجب ان يتكامل مع نضال الحركة الشعبية العربية في نضالها من اجل مواجهة عمليات التطبيع والشراكات السياسية والعسكرية بين بعض الانظمة الرسمية العربية والاحتلال الاسرائيلي..
وفي خطوة تعكس النظرة الى فعاليات المقاومة الشعبية وضرورة توفير الحاضنة السياسية لها، لم يجر الاشارة الى اللجنة الوطنية المعنية بقيادة المقاومة الشعبية، خاصة وانها عنوان ذو اهمية كبيرة لجهة التأكيد على الوحدة المتجسدة في ميدان المواجهة، وقد سبق للفصائل وان توافقت بشأنها ووردت نصا في مخرجات لقاء الامناء العامين 2020 الذي اشار الى التوافق على “تشكيل لجنة وطنية موحدة لقيادة المقاومة الشعبية الشاملة، على أن توفر اللجنة التنفيذية لها جميع الاحتياجات اللازمة لاستمرارها”. وما ورد عن لقاء الامناء العامين (البند الثامن) هو امر مؤجل لحوارات قادمة ببحث آليات تفعيل هذا الاطار بمعزل عن مخرجاته السابقة.
كما تجاهل الاعلان الاشارة الى قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعوددة وفقا للقرار 194، وهذا الامر شكل قاسما مشتركا بين جميع اتفاقات المصالحة.. ولن ندخل في اسباب هذا التجاهل ونوايا المتحاورين تجاه مسألة هامة نعتقد ان الجميع يعي ضرورة التأكيد الدائم على هذه القضية في جميع الوثائق الفلسطينتية لأسباب لن ندخل في نقاش تفاصيلها الان.
كما يمكن تسجيل ملاحظات على بعض مواد الاعلان التي جاءت صياغتها بشكل غامض، خاصة تلك المتعلقة بانتخاب مجلس وطني والاكتفاء بالاشارة الى تعبير ” القوانين المعتمدة”، وكأن هناك عملية انتخابية دورية للمجلس الوطني الوطني الفلسطيني، وكان يمكن تلافي هذا الحرج بالاشارة الى لقاء اللجنة التحضيرية لانتخاب المجلس الوطني الذي عقد في بيروت في كانون الثاني 2017 وشاركت فيه جميع الفصائل. والغريب ان اهم بند في الاعلان وهو البند الثالث الذي يتحدث عن “اتخاذ الخطوات العملية لتحقيق المصالحة الوطنية عبر انهاء الانقسام” تم ادراجه في الاعلان بهذا الشكل، وكأن المتحاورين قد توافقوا على آليات انهاء الانقسام ووضعوا الادوات الكفيلة بتحقيق ذلك، واذا كان هناك من سيتذرع بأن الاتفاقات السابقة تحدثت عن هذا الامر فكان ينبغي الاشارة الى كل وثيقة واتفاق باعتبارها مرجع الاعلان، كي لا يشكل هذا التجاهل والصيغ العامة فرصة لتهرب البعض من تطبيق ما نص عليه الاعلان.
النقطة الختامية التي ينبغي الحذر منها هو ان تأخذ القمة العربية القادمة هذا الاعلان، بنواقصه وثغراته، وتورده في البيان الختامي باعتباره يحظى باجماع فلسطيني، وان حصل هذا فسيشكل ايضا تراجعا عن بيان القمة العربية في دورتها الـ (30) التي عقدت في تونس عام 2020، والذي دعا الى تقديم كل أشكال الدعم السياسي والمعنوي والمادي للشعب الفلسطيني وتوفير الدعم المالي لميزانية دولة فلسطين بما يمكّنها من مواجهة الضغوط والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تتعرض لها، وبما يسهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، ومواصلة دعم وكالة الغوث.. لذلك وجب لفت انتباه الاخوة في القيادة الجزائرية لهذا الامر.
في معظم الحالات، لن نخرج عن سياق التقييم العام لجلسات الحوار في الجزائر والذي يراه البعض ايجابيا بمجرد جلوس الفصائل على طاولة واحدة بغض النظر عن النتائج التي تم التوصل اليها، او ربما نعتبر، وهذا امر صحيح، ان بعض العناوين يمكن البناء عليها لاحقا خاصة البند الثاني الذي يتحدث عن الشراكة السياسية بين مختلف القوى الفلسطينية والبند التاسع الذي يشير الى اشراف جزائري عربي لتنفيذ بنود الاتفاق ونقله الى القمة العربية..
ولعل التساؤل المنطقي والمشروع الذي لا بد منه والذي تكرر عقب كل اعلان عن اتفاق لانهاء الانقسام: هل جاء الاعلان نتيجة تقييم او مراجعة نقدية من قبل حركتي حماس وفتح لما آلت اليه القضية الفلسطينية واوضاع الشعب الفلسطيني وبالتالي أملت علر الطرفين تقديم التنازلات لفلسطين من اجل التقدم الى ميدان المواجهة السياسية والعسكرية والشعبية بشكل مشترك يضع الدول العربية والمجتمع الدولي امام مسؤولياته، بعد ان تأكد ان جميع المواقف العربية والدولية تتأسس اولا وقبل كل شيء على قوة وصلابة الموقف الفلسطيني الذي لم يقدم نفسه الى العالم باعتباره يملك برنامجا سياسيا موحدا ويناضل بشكل مشترك من اجل تطبيقه ويدعو دول العالم وشعوبه من اجل دعم تحقيقه..
ان المطلوب قبل الذهاب لتوقيع اي اتفاق والتقاط الصور التذكارية والقاء الخطابات الحماسية هو توافر الارادة السياسية على انهاء واقع الانقسام، وحين تتوافر مثل هذه الارادة، فان كافة العناوين الخلافية تصبح مجرد تفاصيل صغيرة يمكن معالجتها خلال يوم واحد. لم نعد بحاجة لمزيد من الاتفاقات والتفاهمات، فقد بات بيدنا الكثير من الوثائق المتقدمة جدا، وبعضها يصلح كبرنامج عمل بامكانه ان يوحد كل الشعب الفلسطيني ويوحد مؤسساته في اطار من الشراكة الوطنية التي من شأن الالتزام بها استعادة التحرر الوطني الفلسطينية لقيم حركات التحرر العالمية، فلننفض الغبار عن تلك الوثائق ونذهب جميعا لنضع آلياتها التنفيذية وننطلق في مسار نضالي جديد من شأنه ان يغير الكثير في موازين القوى القائمة..