قراءة في إصدارات الباحث سمير ابو الهيجاء – قرية عين حوض / فلسطين
الكاتب خالد أحمد اغباريه – فلسطين
تاريخ النشر: 27/10/22 | 7:10أحيي صديقي الاستاذ سمير أبو الهيجاء على نشاطاته وجهوده التي تُعتبر كنزا مهما في ثقافتنا وتراثنا الفلسطيني حيث يوثق رواياتٍ وشهاداتٍ حيةٍ عن نكبة شعبنا في عام 1948 وما قبل أيضا، وبهذه المهمةِ يدحضُ الكثيرَ من روايات من احتل واغتصب وهجَّر شعبَا من أرضه ووطنه . فالكاتب والباحث سمير أبو الهيجاء يقدم لنا في ثماني كتبٍ من اصداراته العشرةِ (( انا من هناك ولي ذكريات، الترانسفير المقنع، اللجوء القسري، إلى فلسطين، الشيخ الصامد، عين حوض ستبقى تشهد، حراس الذاكرة، لما إمي تحكيلي، حكاية صمود، شموخ الأحرار)) شهاداتٍ ورواياتٍ انسانية حيَّةٍ لمرحلةٍ تاريخيةٍ عاشها الشعب الفلسطيني قبل وخلال نكبة عام 1948، والذي قام بزيارتهم في عدد كبير من مخيمات اللجوء في الأردن وقبرص وتركيا والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني، وكنت برفقته في أكثر من ثمانين بالمئة منها ، حيث وثَّق رواياتهم الشفوية كتابة وتسجيلا مرئيًّا من زمن اللجوء والشتات. هذه الروايات هي تجسيدٌ وجدانيٌ لناسٍ هُم ليسوا أرقاما. فكل فلسطينيٍّ له حكايتُه وروايتُه الخاصةُ به، وحياةُ الشعبُ الفلسطينيُّ هي مجموعةٌ من الروايات والقَصَصِ ذاتِ الطابعِ الانسانيِّ الذي واجه مصيرا قاسيا جدا قبل وخلال عام 1948. ويتأثر الكاتبُ في رواياتِ اللاجئين بتجربته الشخصيةِ حيث عاش اللجوءَ بعد أن هاجرت عائلتُهُ من قرية عين حوض الواقعة على سفح جبل الكرمل الغربي مقابل البحر المتوسط في العام 1948 وَوُلد في قرية عين حوض الجديدة بعد خمسة سنوات من تهجير عائلته من عين حوض المهجرة، حيث تقع عين حوض أبو الهيجاء على تلة لا يفصلها إلا وادٍ عن عين حوض المهجرة. وهذه الرواياتُ والشهاداتُ الحيةُ تتحدثُ عن مرحلةٍ تاريخيةٍ فاصلةٍ في حياة الشعب الفلسطيني. فالشخصيات الموجودة في الروايات عاشت النكبة بالواقع، والنكبة القت بظلالها على مجملِ حياة الناس جميعُهُم.
وينطلق أبو الهيجاء في رواياتِ محدثيه بتقديمه عرضا مفصلا لطريقة تهجيرِ وترحيلِ الناسِ من مكانٍ الى مكان، عندما اندلعت الحربُ عامَ 1948 . وكيف سكن الناسُ في العراءِ بعيدا عن منازلهم ويذكرُ قصةً من تلك القَصَصَ الكثيرةَ التي يتداولها اللاجئون عن نسوةٍ فقدن أولادَهن خلالَ رحلةِ التهجيرِ والهروبِ من الحرب. وفي كتابِ “اللجوء القسري” يذكرُ الكاتبُ عن الحاجة أم رياض ابنة قرية هوشة المهجّرة، وهي تتحدّث كيف أنها حملت أختَها الصغيرةَ في رحلةِ العذابِ الطويلة، وقد توجّه إليها والدُها قائلا : “وَلِك ارميها، شباب ماتوا، بتبكي على بنت” ؟
ويحدثنا الباحثُ في كتابه “أنا من هناك ولي ذكريات” في رواية الحاج عبد الرحيم جابر من قرية قاقون المهجرة يقول :”‘بعد عدة هجماتٍ ومعاركَ دارت بين الثوارِ والعصاباتِ الصهيونية، قرر الجيشُ العراقيُّ إخلاءَ قريتنا من المدنيّين لحين الانتهاءِ من المعاركِ، ومن ثم عودتِنا، ورحلنا في البداية إلى منطقة بيارة حَجّاج قرب راس العين، ومن ثم إلى جلجولية، وحتى الآن لا زلنا ننتظرُ عودتَنا التي وعدَتنا بها الجيوشُ العربية”.
وفي كتابه “إلى فلسطين” يروي الحاج فضل الشيخ يعقوب من الرملة ويسكن مخيمَ الحسين في الأردن حيث يروي الكاتب بعد تنهيدة من الحاج فضل ويُتبعها بقوله : “كانت حياة ملؤها السعادة، كنا ثلاثةَ أخوة وكان لكل واحد خمسةَ وثلاثين دونمٍ وكان لنا بنايتين، أعود وأقول لأولادي ” الخطية برقابكم هذه الأرض لنا مش للصهاينة لا تتنازلوا عنها ” ويتابع الحاج فضل أنا خرجت مع أهلي كنا ثلاثة رجال نحن اليوم أكثر من مئة شخص وما في دينه بتروح ووراها مطالب”.
ويكتب لنا أبو الهيجاء في كتابه “حراس الذاكرة” عن “محمد علي أسعد أبو يحيى، الملقب بالصبّارينيي، الذي يسكن مدينة الرصيفة في الأردن، يقول في قصيدة نظمها المُهَجَّرُ شملت معالم صبارين ….
“قالوا تَصَبِّر فقلتُ الصبرُ أضنانا
رُحماك ربي فصبّارين سَلوانا-سَلوا خيامًا سوادُ الليلِ ساترُنا
البردُ زائرُنا والريحُ تغشانا-آه ” فلسطين” عيلَ الصبرُ فانطلقتْ
أحقادُنا تبتغي ثاراتِ “أقصانا”**دارٌ لنا زانَ بـ” الرَّوحاء” منزلُها
وجادَها الغيثُ أشكالا وألوانا-يا موطنا أسبلَ العينين موجِدةً
فارقْتُهُ يافعا غَرَّا وهيْمانا-“وادي الخضيرة” هل في الروحِ بلبلةً
قد عِشْتُ فيك الهوى سهلا وغُدرانا-“عين الصلاة” بها العبادُ ما سُعدوا
مُذ فارقوها غدت للنحس ميدانا-والشيخُ صبّاح والجميزُ مَعْلَمُه
“راسُ المطلةِ” قد دَنا وما دانا- دربُ “الْمَحَطٌّ” و”وادُ التين” إن سَألا
عنا أجابا كفى بُعدًا وهُجرانا-أحِنُّ يا دارُ للكانونِ يُدَفِّئُنا
وللخراريف ماكنا وما كانا-أحِنُّ للتِّبْنِ للطّابونِ مخبزُنا
أحِنُّ للطَّرْشِ أبقارًا وثيرانا-يا” تينُ” يا “توتُ” يا عكوبُ إنَّ لنا
عشنا ومتنا بصبارين عنوانا-يا ساريَ البرقِ ذَكِّر موطني ولهًا
متى لقاءٌ به نجتَّرُّ ذِكرانا-يا ربُّ إنا حُرمنا مَهْدَ موْلدِنا
فأجعل لنا من ثَراها لَحْدَ مثوانا”
وايضا في كتابه “حراس الذاكرة” برواية الحاج موسى سعيد موسى الحِن، من مدينة اللد يسكن في قرية جَفنا قضاء رام الله ، يقول الحاج موسى : “وصل اليهود إلى حيّ الجامع الكبير وكنيسة الخضر، وانتشروا في وحدات صغيرة حول الجامع والكنيسة، أخذوا يدخلون بيوت المنطقة ويُخرجون منها السكان ويُحضرونهم إلى داخل الجامع وساحته الواسعة، إلى أن امتلأت الساحة بمئات الأهالي، كان الجو خانقًا وحرارة الطقس عالية، لذا أغمي على الكثيرين من شدة الخوف والحرارة والعطش، فضلاً عن ذلك كان الجنود يطلقون الرصاص فوق رؤوسهم لتخويفهم”.
وفي كتاب “إلى فلسطين” يقول الحاج مصطفى أبو عواد من مخيم نور شمس قضاء طولكرم أحد مهجري قرية صبارين يقول وهو يحمل مفاتيح بيته في صبارين ” بعد حرب الأيام الستة ذهبت مع أولادي إلى صبارين ومعي مفاتيح بيتنا لكن لم نجد الا الحجارة المترامية وعرفتهم عليها وشربت من البير الّي خسفه اليهود وزرت المقبرة وبكيت وصليت هناك”
وفيما تَرِد قصةُ مفاتيحِ المنازلِ التي حملها اللاجئون عند رحليهم عن منازلهم لاعتقادهم انهم سيعودن اليها خلال ايام واسابيع يشير الكاتب الى اشياء اخرى حيث يذكر “احدهما بيده رشمة الفرس المصنوعة من الصوف.. والاخر على ظهره كيسٌ من قمح او عدس.”
هذه الروايات هي قصص انسانية لكل منها دلالتها عن الحب والحياة والبؤس كان ابطالها شخصيات حملت هموم شعبٍ هُجِّر من أرضه عنوة.
“هذه روايات البسطاء الذين استطاعوا أن يواجهوا مكر التاريخ.”هي روايات لأكثر من مئة وخمسين منكوب ومُهَجَّر.
أما قي كتابيه عن الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، كتاب حكايات صمود وكتاب شموخ الأحرار، فيتطرق الكاتب إلى حكايات وروايات شفوية من أسرى تحرروا من الأسر الصهيوني، وهم من جميع فلسطين التاريخية، ودارت هذه الروايات الشفوية من الأسرى حول الأحداث التي صادفتهم في الأسر، كيف ومتى ولماذا تم الاسر، ويتحدث الأسرى عن معاناتهم ومعاناة أهلهم، فما من بيت في فلسطين إلا فيه شهيد أو أسير في الأسر أو تحرر بعد عناء طويل، ويحتوي الكتابين على إحدى وثمانين حكاية ورواية أسير، فك الله أسرهم جميعا .
أما كتابه عين حوض ستبقى تشهد، فهو روايات شفوية عن عين حوض قرية عائلة الكاتب المهجرة، والروايات جمعها الكاتب من مهجَّرين من عائلته من الداخل الفلسطيني والمخيمات في الضفة الغربية وفي الأردن وغيرها.
فيما نقرأ في كتاب الشيخ الصامد، عن سيرة جده محمد عبد الرؤوف الذي يعتبر مؤسس عين حوض الجديدة وكيف بدأ بتأسيس القرية الجديدة على تلة مقابلة لعين حوض المهجرة والتي بقيت بيوتها حتى اليوم ويسكنها الصهاينة، والتي لا يفصلها إلا وادٍ عن عين حوض المهجرة .
وفي كتابه الأخير الذي خصَّه لأمه ووسمه تحت اسم (لما إمي تحكيلي) الذي يحتوي على مئةٍ وست صفحات، من القطع المتوسط، وسطَّره بالعامية حسب ما حدثته والدته، يُهدي كاتبنا كتابه لأمه الذي أرضعته لبن المحبة وحب الوطن في غياب الأب الذي توفي وعمر كاتبنا ثلاث سنوات، وفي الصفحة التاسعة يقول الكاتب “سنين طويلة عشتها وأنا أعتبرها، أمي وأبي الذي غاب منذ زمن بعيد، فهي التي رعتني وإخوتي، منذ كانت صَبِيَّةً في ريعان شبابها، هي التي رسمت الأَمل في حياتنا، ومهَّدت لنا الطريق لنعبر صعاب الحياة بدون أذى،” يُعبِّر الكاتب عما يجول في صدره من حب لأمه فهي بالنسبة له كل شيء في هذه الدنيا. وفي الصفحة الثانية عشر يقول “هيك حكتلي إمي” حيث جلس بجوارها وبدأت تسرد له روايتها وقصتها من يوم وُلدت إلى حين كتابته هذه السطور، عن عائلتها وحياتها في قرية اجزم، ويذكر في الصفحة إحدى وعشرين كيف احتل الصهاينة قرية اجزم وهجَّروا أهلها، وكيف انتقلوا الى دالية الكرمل ووعد الصهاينة لهم بالعودة بعد سبعة ايام، وفي الصفحة اثنين وعشرين يصف الكاتب كيف خيم الصمت على أمه وتتنهد وتقول “”شو بِدّي أحْكي! هَذولْ اكْثَرْ مِنْ سَبعينْ سِنِةْ، شو عَقْلِي دَفْتَرْ”. ويتحدث الاستاذ سمير عن خطبة أمه وعمرها ما زال ستة عشر سنة وزواجها ووفاة زوجها وهي ابنة واحد وعشرين سنة وتقول “كانت هذيك الفترة أصعب فترة بحياتي، وفي الصفحة السادسة والعشرين يذكر الكاتب والده وكيف عاش في عين حوض ويأتي على ذكر مفكرة تخص والده وموسومة بسنة 1949 وهي يوميات وأشعار لوالده في سنة النكبة وما بعدها، وتحدثه أمه بعد ذلك عن الحياة الصعبة التي عاشتها مع العيلة وهي تربي أولادها الثلاثة في بيت من قش، في الصفحة 35 يصف لنا الكاتب لحظات صعبة ويقول ” صمت رهيب، حبات من الدموع تنزلق من عيون الحاجة، فأندم اني بدأت بتسجيل مذكراتها، وبعد دقائق تتمالك نفسها وتقول: بَعودْ وْبَوَصّي: ما تْجَوْزوا بَناتْكو وِوْلادْكو زْغارْ، هَذَا ظُلُمْ.
ويضيف الكاتب في الصفحة 47عن امه عن حياة العيلة” كانْ ابو مْحِمّد يْحِبْ قَرايْبُهْ، فَكانْ يِشتْعِلْ بالخُضْرا وبِالشّمامْ، وِيْجيبْ وِيْوَزِّعْ عَلى خَواتُه وْإِخِوْتُه، وأنا كُنْتْ ابعَثْ لَمَرْةْ عَمّي أَطَعْميها، وكانَتْ عَلاقْتي مَعْها مْليحَة؛ ما كانْ مَشاكِلْ بينّنا، لكنْ ما بِخلا الأمِرْ من زَعلاتْ بينْ الحَماه وِالكِنِّة؛ فَكُنِتْ دايْما اسْتَسْمِحْ مِنْها فَتِرْضى عَنّي.”
وفي الصفحة الواحد والستين تتذكر الحاجة أم محمد ” فاتْني انّي أذْكُرْ انُّه عَبدالرؤوف قَبِلْ ما يُخْطُبْني كانْ يْعيشْ في الضَّفِّة الغَربِيِّةْ وبِالتّحديدْ في اليامون، وكانْ مَعِ الجيشْ العِراقي في عارَه وْعَرعَرَهْ، هيك كَتَبْ في يَومِيّاتُه، وكانَت عَلاقْتُه مَعْ أَخوه عَبدالحَليم عَلاقَةْ قَوِيِّة، وهَذَا اللّي أثْبَتُه بكِتاباتُه اللّي بَيّنْ فيها إنّه عبدالحليم كانْ يْمِدُّهْ بِالمّصاري، وعِنْدْ ما عاوَدْ عَ الِبْلادْ وْتْجَوَّزْنا وْخَلَّفِتْ محمد وسمير، خَلَّفَتْ مَرْةْ عبدالرحيم بِنْتينْ، فِقالْ عبدالرؤوف لَمَرْةْ اخوه: هَذولْ البَناتْ عَرايِس لَاوْلادي إنْ ظَلْ بِالعُمُرْ مِدِّةْ، وكان هَذَا بَعِدْ مَماتُهْ ب20 سِنِةْ”
وفي الصفحة الثامنة والسبعين تقول الحاجة أم محمد “كانْ يومْ عُرسْ اوْلادي يومْ بكُلْ الحَياةْ بِالنِّسْبِةْ إِلي، أوْ قولْ بْدايْةْ الحَياةْ، لأنّا لَحَدْ هَذَاكْ اليومْ كُنّا نْنامْ في غُرْفِةْ وَحَدِةْ، وِاليومْ صُرْنا نْنامْ كُلْ واحَدْ في غُرُفْتُهْ مَعْ مَرَتُه، ولَأَوَّلْ مَرَّة أنا صارْ إلي غُرُفِة لَحالي، فَكانْ صِعِبْ عَلَيْ بِالأَوَلْ، لَكِنْ ما ازْعِلِتْ، بالعَكسْ كُنْتْ فَرحانِة كْثيرْ لِأَنّي كُنْتْ عارْفِة إِنُّه هَذَا اليومْ جايْ، ومستَنيتُهْ، فَهايْ سُنِّةْ الله في خَلْقُهْ”
في الصفحة الثالثة بعد المئة يسرد الكاتب عدة أقوال في حق والدته من أقاربها وكل يدلي بدلوه عن حياة الحاجة ميسر .
الكاتب لم يترك شيئا من حياة أمه وهي تحكي له كل ما حدث معها طيلة حياتها السبعة والثمانين سنة، أمدَّ الله بعمرها .
بوركت استاذنا وكاتبنا سمير أبو الهيجاء على هذا النشاط وتوثيق روايتنا الفلسطينية .
وأخير نقول “ان اللحظة التي يكف الفلسطيني عن الحلم (بالعودة الى الوطن) يكون قد دمر حلمه بنفسه.”