رواية ” ذاكرة على أجنحة حلم” في اليوم السابع
من ديمة جمعة السمان
تاريخ النشر: 28/10/22 | 9:36القدس: 27-10-2022، من ديمة جمعة السمان: ناقشت ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة رواية “ذاكرة على أجنحة حلم” للكاتبة المقدسيّة نزهة الرّملاوي. تقع الرواية التي قدّم لها الأديب احمد الصمادي ويحمل غلافها الأوّل لوحة لمنال ذيب، في 190 صفحة، وصدرت عام 2022 عن دار ابن رشيق 2022.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان وقالت:
اصطحبتنا الكاتبة نزهة الرملاوي في رحلة نفسية صعبة تدمي القلوب عبر الذاكرة الوطنية، الجغرافية، التاريخية، الاجتماعية والإنسانية التي امتدت عقودا من الزمن، من خلال قصص جاءت على ألسنة الشخوص التي رسمتها، لتكتمل أهم المفاصل للرواية الفلسطينية والعربية، بكل ما تحمل من مآسي تعرّضت لها الأمة العربية في العقود الماضية. عرضتها الرملاوي بأسلوب شيّق ولغة جميلة مليئة بالصور الشعرية والوصف الدقيق، جاء بعضها على ألسنة شخوصها بلهجاتهم العامية لبلداتهم، مما زادها جمالا وإقناعا.
” ذاكرة على أجنحة حلم”، رواية جمعت الماضي بالحاضر،
استخدمت الكاتبة في روايتها أسلوب الاسترجاع، أثناء تواجدها خارج الوطن في رحلة قصيرة امتدت أربعة أيّام، إلى العاصمة الأردنية عمان والعقبة والبتراء. لم تخطّط الكاتبة للرحلة، إذ حصلت عليها كجائزة إثر مشاركتها لإحدى إعلانات شركة سياحيّة. وإذا بها تفوز برحلة الأحلام إلى المدينة الوردية، التي طالما حلمت بزيارتها.
على متن الحافلة ” عزيزة” ابتدأت رحلة الكاتبة من جسر الأردن عبر طريق الأغوار إلى البتراء والعقبة. نجحت الرّملاوي في أنسنة هذه الحافلة العجوز التي شاركتهم في رحلة الأحلام، إذ أصبحت جزءا من الحكاية التي روتها.. حملت عزيزة ركاّبها، تحاول جاهدة أن تصل بهم إلى مبتغاهم بأمن وسلام.
رحلة استمرّت أربعة أيّام نبشت فيها الكاتبة الماضي بكلّ ما يحمل من ذكريات موجعة، قسمتها إلى عناوين مختلفة، كانت موفقة.
كتبت عن الاحتلال وانتهاكاته، وكتبت عن الأسرى وعذاباتهم، وتطرّقت إلى بعض القضايا الاجتماعية من خلال رسائل فيسبوكية، كانت تصلها من امرأة اسمها عبير. كان الطّلاق وتبعاته على الأبناء عنوانها الأكبر، فهم ضحايا تشتت الأسرة.
كما فتح قلمها الجريء بعض الأبواب الموصدة التي تنام خلفه بعض القصص المظلمة التي لا يعلمها سوى المقربين من أصحابها، والتي تشكل لهم عارا يحملونه إلى حفيد الحفيد.
استطاعت الكاتبة أن تضعنا في هذه الأجواء بلغتها الأنيقة والعميقة.
من يقرأ الرواية يشعر بأن الكاتبة تحمل في قلبها العديد من القضايا التي تعتبر أن من واجبها أن تلقي الضوء عليها، وتثيرها بقوّة، لتكون عبرة لمن يعتبر، مما جاء على حسب الحبكة الروائية، وأثقل على القارىء. إذ كان من الممكن توزيعها على أكثر من رواية، لإعطائها حقها من جهة، وللتعمق بدواخل شخوص الرواية من جهة أخرى. فقد جاءت بعض القصص المقحمة بعد صفحة 128، إذ لم تشكل للعمل الروائيّ أيّة إضافة، بل أدت إلى تشتت القارىء وخروجه من جو الرواية، مثل قصة الطبيب راشد الذي تزوج الممرضة الإيطالية روز!
ثم أنني توقعت أن أجد مفاجأة تغني الحبكة الروائية، على إثر منع الكاتبة من العودة إلى وطنها عبر الجسر بعد عودتها من الأردن، بسبب عدم ختم بعض وثائق السّفر من أحد الموظّفين في دائرة الجوازات. وإذا بها تلتقي عمّها، ليحدّثنا عن دوره النّضالي عام النّكسة. وقد كان من الممكن أن نستمع إلى هذه القصص النّضالية من خلال الكاتبة أثناء الرّحلة على متن ” عزيزة”.
كما توقّعت أن تلتقي الكاتبة بعبير، وتتحدّث معها عن قرب، خاصة وأنها تعيش في الأردن، فتكون بمثابة البلسم الشافي لها، وتتعرف على أفراد أسرتها، إذ أنّ عبير معجبة بالكاتبة وتثق بها، كما تسعى للتّعرف بها عن قرب.
حملت الرّواية عددا كبيرا من القصص الجميلة والشّيقة، إلا أنّها فقدت عاملا مهما جدّا، وهو الرّبط بينهما بحبكة تبقي القارىء داخل “شِباك” الرّواية، مقيّدا بإرادته، يبحث عن نهاية تقنعه، حتى ولو كانت مفتوحة.
ويبقى أن أشكر الكاتبة على حضور القدس البهيّ بكلّ ما فيها من جمال وقدسيّة، من خلال الكلمات، ومن بين السّطور، تفرض نفسها سيّدة الأرض، ينحني لها كل من عرفها حبّا وتقديرا.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
في هذه الرواية تسرد الكاتبة روايتين في أنٍ واحد. رواية عبير التي كانت ترسل الرسائل للراوية في الماسنجر، وتطلب منها تدوين روايتها ونشرها، ورواية الراوية نفسها، التي أخذتنا في رحلة شائقة لمدّة ثلاثة أيّام إلى العقبة والبتراء وعمّان. خلال هذه الرحلة التي كانت في الحافلة، تطرّقت الراوية إلى العديد من المواضيع الاجتماعية والسياسيّة والسياحيّة وغيرها. ففي صفحة 46 تصف معاناة المسافرين على المعبر بين إسرائيل والأردنّ، فتقارن بين هذه المعاناة وساعات الانتظار الطويلة وبين التنقّل السريع للأوروبيّين في الدول الأوروبيّة دون جوازات وإشارات مرور. وفي الحافلة ترى شابّا وفتاة هربا دون علم أسرتيهما بعد أن تزوّجا زواجًا عرفيّا، فيحزنها ذلك وتتذكّر جارتها صبريّة التي خدعها جارها خالد فحملت منه، وقام بضربها للتخلّص من الحمل. ص 51، فيسجن ويتزوّجها رغما عنه، فتعاني من مرارة العيش وقسوته خاصّة بعد انحداره إلى عالم المخدّرات، فتترك البيت وتهرب.
تتطرّق الراوية إلى نظرة المجتمع للرجل فتقول:” لن تخفّف ثقافتنا أو تعلّمنا من عنجهيّة الرجل واستبساله في إخضاعنا وقهرنا، أتدرين لماذا؟ لأننا غير مؤمنات بقوّتنا خائفات من التغيير…”. ص 57.
في الحافلة يتحدّث المرشد عن اجتياح العساكر لمخيّم جنين، الخوف والدمار، الجوع والتشريد الذي لحق بالأهالي .كما تذكر الحصار على قطاع غزّة ، وكيف غدا الميناء أسيرا لوّثت الحروب موجاته فعادت الشباك خالية؛ أرعبت أسماكه وأخذت تستغيث في الأعماق. ص 114.
تستذكر الراوية حادثة الحرم الإبراهيميّ، وقتل عشرات المصلّين من قبل متطرّف يهوديّ( باروخ جولدشتاين)عام 1994 . ص 76.
في عمّان تصف الراوية حياة الدعارة والفسوق والمجون التي يحياها الشباب والشّابات، كما تصف جمال عمّان وطيبة أهلها فتقول:” عمّان الجميلة، تتخطّر بثوب من الرخاء في بعض أحيائها، وتخفي في أحياء أخرى ملابس مرقعة تغطّي أجساد الحالمين…. أخذت أغني مع فيروز:” عمان في القلب أنت الأهل والجاه، ببالي عودي ومرّي مثلما الآه”. ص 82. ص 86-87.
تتطرّق الراوية أيضا إلى الوضع التعليميّ في البلاد وانهيار مكانة المعلّم ص 100.
حظيت القدس وعين ماعين والعقبة والبتراء ووادي رمّ بأوصاف جميلة جدّا وبلغة شاعرية ممزوجة بالاستعارات.:” مضينا إلى حمّامات ماعين، رأيت شلّالاتها وهي تتهاوى فوق أجساد المستحمّين، تتدفّق من جبال شاهقة داكنة اللون بفعل الحرارة الجوفيّة”.ص 80.
تستذكر الكاتبة أيضا قصة صديقيها روز الإيطاليّة وزوجها راشد، زوجان طبيبان أحبّا بعضهما البعض، عاشا معًا بسعادة لمدّة عشرين عاما. لم يرزقا بأطفال، فقام راشد بالزواج سرّا من ممرضة، فتنجب له طفلًا مريضا يموت بعد فترة وجيزة من ولادته، وبعد أن تكتشف زوجته روز هذه الخيانة من زوجها، تتركه وتعود إلى وطنها إيطاليا.
على المعبر بعد انتهاء الرحلة والعودة إلى الوطن، لا يسمح للراوية دخول البلاد بسبب عدم ختم جوازها ووضع صورتها عليه، فتضطر للعودة إلى عمان لتصحيح الخطأ ومن ثمّ تعود إلى وطنها بعد رحلة جميلة.
أمّا رواية عبير فيمكن ايجازها بما يلي: تعيش عبير المقدسيّة في السعوديّة مع والدها وأختها ضحى وزوجة والدها، وذلك بعد طلاق أمّها التي لم تتمكن من العيش في السعودية فمرضت، وقد طلبت من زوجها ترك عمله في مهنة التدريس والعودة إلى القدس، لكنه رفض. فتمّ الطلاق ووُضعت الطفلتان عبير وأختها في الملجأ لمدّة سنتين. وبعد زواج والدهما أخذهما معه إلى السعودية. اكتشفت عبير وأختها قصّة طلاق والديهما عندما بلغتا السادسة عشرة، ولم تلتقيا بوالدتهما قبل ذلك. ويحدث أن تتعرّف الأختان على والدتهما وتزوراها في القدس. تصل الرواية إلى ذروتها حين تكشف لنا عبير أن ولدها سامر أحبّ تولين ابنة خاله صالح، لكنّ خاله يبيع بيت أهله وأملاكهم للمستوطنين اليهود فتقرّر ابنته الانتحار، أمّا سامر فيصاب بانهيار نفسيّ.
بعد هذا الاستعراض الموجز للرواية، سأتطرّق في قراءتي إلى أسلوب السرد الذي اتبعته الكاتبة. وقبل ذلك سآتي بمقدّمة عن البنية السرديّة والمبنى الحكائيّ.
أسهم الشّكلانيّون الروس في وضع الأساس النظريّ للسرديّات، فهُم الذين دعوا إلى إظهار “الخصوصيّة الأدبيّة” أو “أدبيّة الأدب”، في حين كانت الدراسات الأدبيّة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ، “تستند إلى المقاربة التكوينيّة والكشف عن طرائق نشوء الأعمال الأدبيّة، ممّا كان يفضي إلى تقليص أهمّيّتها الأدبيّة لحساب الاعتبارات النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة، بحيث كانت الدراسة الأدبيّة وقتها ركامًا من الفلسفة وعلم النفس والتاريخ وعلم الجمال” ابن ذرويل، 2000، ص. 26.
وتعرّف شبيب سحر (2013) المبنى الحكائيّ بأنّه “الحكاية المرويّة التي لا تخضع الأحداث فيها إلى السببيّة أو إلى الترتيب الزمنيّ المنطقيّ، ولنقل إنّها البناء الجديد للحكاية وفق نظام تأليفيّ تخييليّ، يتبنّاه السرد بطريقة فنّيّة إبداعيّة، ومن خلال هذا النظام الفنّيّ الذي نسمّيه السرد يتحوّل المتن الحكائيّ إلى المبنى الحكائيّ” (شبيب، 2013، ص. 105).
ويعرّف الدكتور خليل رزق (1998) المبنى الحكائيّ بأنّه “الحبكة” (sujet)، “وهو بمعنى تنظيم الأحداث في صياغة فنّيّة، حسب ظهورها في الخطاب السرديّ، ولا تتوجّب طريقة عرض أحداث الحبكة التطابق والتسلسل الزمنيّ للأحداث في الحكاية، فالمؤلّف يستطيع ترتيب أحداث الحكاية، بطرق متعدّدة، فقد يلجأ إلى استرجاع الماضي أو استشراق المستقبل” رزق، 1998، ص. 39-40.
بناء على هذا التعريف، يمكننا تحديد عناصر السرد وهي: الأحداث، الشخصيّات، الزمن والمكان.
وعودة إلى رواية الكاتبة نزهة الرملاوي” ذاكرة على أجنحة حلم”، نجد أنّ الكاتبة استخدمت الأسلوب الحداثيّ في كتابة روايتها، وفق نظام تأليفيّ تخييليّ، بطريقة فنّيّة إبداعيّة، فقد قامت الكاتبة بتنظيم الأحداث في صياغة فنّيّة، حسب ظهورها في الخطاب السرديّ، ولم تتّبع في طريقة عرض أحداث الحبكة التطابق والتسلسل الزمنيّ للأحداث في الحكاية، كما هو متّبع في الرواية التقليديّة، وإنّما اتّبعت أسلوب الحداثة في ترتيب أحداث الحكاية، بطرق متعدّدة، فنجدها تلجأ إلى الأحلام، المونولوج، الاستذكار والاسترجاع كثيرًا في روايتها كما نجد في الأمثلة التالية:” وظهرت أمامي صورة خالد زوج صبريّة؛ بعد أن خرج من السجن وتزوّجا ثانية، أصبح مجالسا لرفقاء السّوء مدمني الخمر والمخدّرات، يؤّدي طقوسه وترنّحه في وسط الحارة…”. ص 88.
” استيقظت من سرحاني وعادت عيناي لتلتقط الصور خلف الستارة، أخذتني مشاهد السّكارى إلى أحاديث عمّتي رحمها الله يوم روت لنا القصّة عن زوج ابنتها القادم من السعوديّة في العطلة الصيفيّة..”. ص 90.
” رحت أسأل نفسي كيف ستمضي ساعات نهاري دون نوم؟ أشعر بالضعف والارتخاء…”. ص 99.
” أتتني صور الحصار والدمار والقتل وإقصاء القطاع وتجويعه…”. ص 114.
” فجأة لمعت أمامي صورة روز زوجة صديقنا راشد الإيطالية وهي ترقص في احتفالية تقيمها كل عام؛ احتفاء بذكرى زواجها”.ص 129.
نجد أيضًا أنّ الكاتبة لم تتبّع التعاقب الزمنيّ المعروف في الرواية التقليديّة بل تداخلت الأزمنة في بعضها البعض وتبعًا لذلك تداخلت الأحداث فاختلطت رواية الساردة التي تسرد لنا رحلتها إلى الأردنّ مع رواية عبير التي كانت ترسلها لها عبر الماسنجر، ولعلّ في الأمثلة التالية ما يؤكّد ذلك:” حملت هاتفي مجددا وبدأت ألتقط بعض الصور وأرسلها لأولادي وأحبتي، أيقنت أن عبير سترافقني في رحلة أحلامي، فرحت برسالة جديدة أرسلتها إليّ تقول فيها: لقد عاد الزمن من مخبئه ليكرّر نفسه، بعد سنتين من زواج أختي ضحى واستقرارها بالسعوديّة، تزوّجت من رجل يعمل في منطقة القصيم بالسعوديّة، يا لحظّي المتعثّر، هي ذات المنطقة التي تزوّجت بها أمي ومرضت بها وغادرتها دون وداع”. ص 64.
” تسلّل القلق إلى مضجعي، حاولت النوم، لكنّي أخفقت، فتحت الماسنجر وقرأت ما أرسله أولادي من أدعية بالسلامة والهناء، فرحت برسالة جاءت من عبير فكتبت لي:” أثقلت كاهلي بحمل المسؤوليّة، أنفقت عمري بسعادة أولادي، كنت أنزوي ببكائي حتى لا تقهرهم صور الإهانة، وأنّات الاستغاثة الموجّهة من أبيهم إليّ…”ص 84.
” صرخت أعماقي” كيف لي أن أنام ليلتي يا عبير وجرحك لم يندمل؟ راح جسدي يتقلّب، وتتقلّب أفكاري فلا يغمض لي جفن..”. ص 85.
“ودّعت البحر بابتسامة ودخلت إلى الغرفة، وألقيت تعب جسدي على السرير، آن وقت الراحة، تذكرت عبير، ففتحت هاتفي؛ ألقيت نظرة على صفحتي، وفتحت الماسنجر، سررت بوجود رسالة من عبير جاء فيها: ” بعد وفاة زوجي فكرت بأمّي، وطلبت من أختي رقم هاتفها…”. ص 143.
من المهم الإشارة إلى لغة الكاتبة في هذه الرواية، حيث استخدمت لغة جميلة شاعرية وصفيّة تخللتها الكثير من الاستعارات خاصّة في وصفها للأماكن التي زارتها، على أنّ وصفها للقدس يبقى الأجمل والأصدق فنجدها تقول بعد عودتها من الرحلة:” نزلنا من الحافلة بالقرب من باب المدرسة الرشيدية، عانقت روحي ويديّ المنتظرين، لحظات الفرح تخترق قلبي، تدقّ نوافذ العشق في حجراته، كلّ الأماكن والناس من حولي مبتهجة ضاحكة، باب الساهرة يمدّ يديه ويضحك للعائدة، والأسوار الشامخة تدغدغ العظمة في داخلي وتهلّل باسمة؛ فرحت لوجودي قبالتها، في لحظات التجلّي هذه، تخونني الكلمات فلا تأتيني، ولا أصدّق أنّي في القدس التي أحلم”. ص 162.
ويتجلّى جمال القدس فيما وصفته عبير بطلة الرواية، التي عادت إليها بعد غياب خمسين سنة فتقول في إحدى رسائلها للكاتبة: “أبهرتني الأشياء والمباني العظيمة، أصارحك بأنني مندهشة مما أرى ومسحورة بهالة قدسيّة تظلّل الماشين والراكبين، الجالسين والواقفين، المؤمنين والمرابطين… أريد أن أبكي طويلًا على صدر الأسوار، أن أنثر دمع الحب على طرقات الحارات والعقبات، ما أحسست بأني أمشي، بل أحسست بأني أحلّق وأطير فوق الأقواس وأسطح البيوت.. شعرت بإكليل من الورد والفرح أحمله بين يديّ وألبسه للأسوار”. ص 165-166. وفي وصف مشاعرها عندما شاهدت المسجد الأقصى تقول:” نحن على عتبات المسجد الأقصى، الأبواب تفتح ذراعيها تغني فرحًا للعاشقين. تعرت مشاعري أمام حضرته القدسية، تلعثمت الكلمات في فمي فبكيت خشوعًا وطرت ابتهاجًا، أطلقت أعماقي زغاريد الاشتياق، قلبي يطير مع أسراب الحمام، ويحطّ من شجرة إلى مئذنة، ومن مسطبة إلى سبيل، ومن قوس إلى قبّة إلى أعشاش الحمام وتسابيح الطيور”. ص 167.
ومن الاستعارات الجميلة ما نجده في الأمثلة التالية في وصف الكاتبة للطبيعة:” بعد ساعات من النوم العميق أقبل نسيم الفجر باسمًا، دخل إلى أنفاسي متأنّيًا، نادتني الشرفة بعد صلاة الفجر، فنهضت بلا تردد، لا أريد أن يفوتني ميلاد الصباح وانبعاث شمسه الآتية من خلف البحر لتشرق روح الحياة”. ص 120.
” بدت الشمس باهتة في وسط السماء، رسمت تفاصيلها فوق المسافات المطوية، ورحت أبحث في عينيها عن الملهمات، أخذت تطويني وتنبت في قلبي فرحا جديدًا”. ص 123.
وفي وصفها لمدينة أم الرشراش تكتب:” ها أنا أراها من بعيد تستحمّ في بحرها الأبيض؛ تأخذ قرص الشمس على شواطئ الحبّ وتمضي به نحو جبال رمليّة”. ص 124.
” التحفت ضوء النهار لينير عتمة قلبي، رحت أمشي، وبدأ التاريخ بعظمته وشموخه يمشي معي”. ص 124.
” الحب والحنين يحملان رسائل شوق لا تنتهي، عروس البحر تغفو في بيوت المرجان العميقة، والأميرة النائمة في غابة عشقها، تصحو بين يدي العاشق؛ يحمل لها نور الشمس فتغفو على كتف الساحل بدلال”. ص 126.
كما تخلّلت لغة الكاتبة ألفاظا باللهجة المحكيّة التي أضفت واقعيّة إلى الحوار الذي دار بين ركّاب الحافلة، وقد حفلت لغة الحوار ببعض الدعابة كما في المثال التالي:” يخي الله يسعدك دبّر للصبيّة محلّ، زوجي دايخ، وخايفة تيجي نوبة صرع وهو بعيد عنّي. صاح المسافرون: له له ألف سلامة عليك يا أبو زيد.
-حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا مرة.
– بالله عليك تهدأ، خفت عليك يا زلمة تصيبك الحالة وتوقع في نص الباص.
– شو شايفتيني مصروع، يخرب بيتك مرة نكديّة، تشتري الشرّ شرية، لا تصدقوها يا عالم أنا مش مصروع عليّ الطلاق. ص 102.
بقي أن نشير أنّ الكاتبة أدخلت في روايتها مواضيع عديدة وقد بدا بعضها مقحما في السرد ممّا أعاق الإنسيابية في سردها.
وكتب محمود شقير:
من يتأمل هذا العنوان يدرك من اللحظة الأولى أننا أمام نص تتداخل فيه الرؤى الرومانسية مع التوجهات الواقعية تجاه الوطن وقضاياه، وتجاه الناس ومشكلاتهم التي تتوزع بين النزعات الشخصية والأخرى العامة.
ذلك أن تخصيص البدايات الأولى للنص لامرأة مقدسية اسمها عبير، يبدو فيه انحياز واضح لمعاناة هذه المرأة التي طلقها أبوها من زوجها؛ لأن الزوج رفض الانصياع للشرط الذي فُرض عليه وهو الإقامة مع زوجته في القدس، والسؤال: إلى أيّ حد تعد هذه المشكلة ذات صبغة عامة في أيامنا هذه أو حتى في تلك الأيام التي! نخمن من السياق أنها كانت في خمسينيات القرن العشرين وربما في الستينيات؟
وبرغم أن الكاتبة نزهة الرملاوي كتبت نصها بلغة جميلة شعرية في مواقع شتى، لكنها لم تلبث أن دخلت منذ البداية في حوار مع كاتب على الفيسبوك حول منهجها في الكتابة، ما يوحي أننا لسنا أمام رواية، لأن لغة المقالة التي ظهرت في الحوار لا تناسب السرد الروائي.
وسنلاحظ أن رسائل عبير إلى الكاتبة لا تخلو كذلك من لغة المقالة المباشرة التي تنقد الظواهر المحيطة بنا، وخصوصًا ما يتعلق منها بالسياسة، وهو نقد صحيح في مجمله برغم المغالاة في نقد السياسة بشكل عام.
سنلاحظ أيضًا أن هذه الرحلة إلى البتراء والعقبة تمّت من جراء فوز الكاتبة في مشاركة لإعلان دعت إليه شركة سياحية، وهي التي امتدت ثلاثة أيام في حافلة أطلقت عليها الكاتبة لقب “عزيزة”، التي انطلقت من فلسطين المحتلة إلى الجسر ومن ثم إلى عمان وإلى العقبة، ليستعين ركابها بعد ذلك بسفينة تأخذهم إلى الأراضي المصرية، ثم يعودون عبر المسار ذاته إلى فلسطين؛ وإلى القدس.
2
الجدير ذكره أنه لا وجود لحدث روائي يتطور عبر صفحات الرواية وتتصارع من خلاله الإرادات وتظهر الشخصيات الروائية ويمتد حضورها ويتنامى ونتعرف أثناء ذلك على ما لديها من مزايا وصفات.
نحن هنا أمام حديث حول الأسرى ومعاناتهم في سجون الاحتلال، وأمام وصف للأمكنة التي تمر بالقرب منها أو تدخلها الحافلة، وأمام شخوص لا يظهرون من خلال الحبكة الروائية واشتراطاتها الفنية، بل من رغبة الكاتبة الساردة في إظهارهم وتسليط الضوء عليهم.
ولذلك؛ فهي تمنح نفسها مساحة واسعة لقول كل ما تريد، ولتسليط الضوء على قضايا كثيرة تعاني منها المرأة، ويكابد منها مجتمعنا الذكوري الذي يظلم المرأة ويضطهدها، علاوة على اضطهاد المحتلين الإسرائيليين لشعبنا بجميع طبقاته وفئاته.
من هنا؛ تتوقف الساردة كثيرًا أمام مشكلات عبير التي تتولى عبير نفسها عرضها في رسائل ترسلها إلى الساردة عبر الهاتف المحمول، وتقوم هذه الأخيرة بالرد عليها بما يناسب المقام، وتقوم بين الحين والآخر بتصوير بعض الممارسات البغيضة للاحتلال ومنها المعاناة على الجسر بين فلسطين والأردن، وتتحدث عن خداع خالد لصبرية عبر وعده لها بالزواج، ثم يتخلى عنها حين تحمل منه، كما تتحدث عن الزواج العرفي وعن مخاطره، وتشير إلى ضعف مستوى التعليم في بلادنا وتغير نظرة الطلاب إلى معلميهم، وإلى دور المثقفين المطلوب منهم تأديته من أجل تطوير المجتمع، ولا تنسى الحديث عن الوضع السياسي والاقتصادي وعن البطالة في الأردن، والإشادة بعلاقات الأخوة التي تربط الشعبين الأردني والفلسطيني.
3
ولا تنتهي الرحلة إلا بعد أن نتعرف إلى شخصيات عديدة، من أمثال عزوز ابن مخيم جنين، وجورج الساحوري الذي تحدث عن محاصرة كنيسة المهد حين التجأ إليها عدد من المقاتلين الفلسطينيين أثناء الانتفاضة الثانية، وخضر الخليلي صاحب النكتة الذي يمط الكلام بلهجته الخليلية، والذي تحدث عن جريمة الصهيوني المتطرف غولدشتاين حين قتل عشرات المواطنين في الحرم الإبراهيمي أثناء تأديتهم للصلاة.
وحين يقوم الأستاذ سامي بذمّ القدس التي “ستستمر في نشر بذور التعفن السياسي والتعصب الديني والصراع الذي لن ينتهي” ص108، تتصدى له الساردة بالدفاع عن القدس التي هي “تراتيل فرح وبوح وإلهام، أم الحضارات والثقافات وحامية الديانات” ص108. ويستمر حديثها عن القدس في صفحات سابقة وأخرى لاحقة حتى نهاية النص.
4
أخلص من ذلك إلى القول: هذا نص أدبي يفتقر؛ بحسب اجتهادي، إلى البنية الفنية المحكمة التي تجعل منه رواية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ التي تدلّل على جنس أدبي لا يسلس قياده بسهولة ويسر.
غير أنه نص سردي جيّد يتداخل فيه أدب الرحلات مع فنّ المقالة وأدب الرسائل والمراسلات واليوميّات والمذكرات.
وقالت هناء عبيد:
أهدت الكاتبة روايتها إلى القدس بتفاصيلها، وإلى تهاليل أمّها النائمة على أوجه القمر، وحكايا أبيها الغافية في قناديل السهر، والمنتظرين على أعتاب الغربة ومحطات السفر والوطن الذي تكتبه ويكتبها.
قسمت الروائية الرواية إلى فصول بدأت بالعنوان على أبواب النهار. ثم بنت المدينة ولفح الصحراء وغيرها.
الشوق عنوان كل مغترب، كل كلمة تطرق ذاكرته بالحنين إلى الوطن فكيف إذا كان الحنين إلى القدس؟ ها هي عبير ضحية اغتراب تطرق باب كاتبة مقدسية اتقنت صب الحب في جعبة كلماتها لتنسل إلى قلب عبير دون استئذان وتحثها على إرسال رسالة؛ لتغب من فيض هذا الحب للمدينة المغسولة بنور الفجر، ولكن الاغتراف من هذا الجب يكون مؤلما، فهي تتهمها أنها بكلماتها العاشقة دمرتها نفسيا.
في رسالتها إلى الكاتبة، تسرد قصتها فتقول: إن أبا عبد الفتاح قرر الذهاب إلى القدس من جنين؛ ليخطب لابنه عبد الفتاح فتاة من هناك. يتزوج عبد الفتاح ابنة المدينة وهو القروي الذي عاش بين الأرياف، وهنا تبرز النظرة الاجتماعية التي تسيطر على أهل فلسطين، حيث أبناء المدينة الذين يعتقدون أنهم أكبر منزلة من أهل القرى، يسافر عبد الفتاح إلى السعودية مع زوجته التي لم تتأقلم هناك فتعود لتضع ابنتها ضحى في القدس ثم عبير.
انفصل الزوجان؛ لتعيش الطفلتان في الملاجئ بعيدا عن عطف الوالدين.
في عام 1968 قصف الاحتلال المدرسة التابعة للمشفى الفرنسي، مات الكثير من الأطفال ونجت ضحى وعبير، تزوج أبوهما من سيدة اعتنت بهما، ولم تكن تعرفان أنها ليست أمهما، فتعيشان بين صراع الحب والقسوة.
وتتوالى الحكايات الاجتماعية التي يبدو أنها لن تنتهي يوما.
ولا شك بأن الروح لا بد أن تسكب مخزونها على الورق، لهذا نجد الروائية تتحدث عن الكتابة والموهبة والإلهام تحت فصل بعنوان الكتابة، الإلهام الصعب.
ثم تنتقل ككل قلم فلسطيني مسؤول وروح مفعمة بالأصالة والوطنية؛ لتحدثنا عن ظلمة الأسر وقناديل الكتابة، فكيف لقلم فلسطيني أن لا يسكب الألم والحزن الذي يعيشه أهلها؟ فها هي هنا تحدثنا عن الأسرى في سجون الاحتلال وأحلامهم المبتورة وأبناءهم المهربة نطفاتهم من بين سلاسل الظلم، فترسل رسالتها إلى الأسير كميل أبو حنيش في عالمه البني وتعزيه في فقده لابنه البكر.
وتعرج إلى الشهداء الذين أودعتهم الثلاجات في باطنها وأفجعت قلوب أهاليهم، معها نعيش الظلم الذي يتعرض له السجين تحت عذاب الجلاد، ونتعرف على عذابات أهل الأسير من خلال مفردات استطاعت أن تجعلنا نعيش الحدث بكل حواسنا.
في الفصل المعنون على جناحي حلم وسفر، تسافر الساردة إلى الأردن، فتصف الشوارع التي تسلكها في الحافلة بين القدس وأريحا وتحدثنا عن المستوطنات المعتنى بها، والتي يعيش بها الحاخامات الذين يحللون موت الأبرياء من أجل عيش المحتلين لصوص الأوطان، ثم تحدثنا عن جسر الكرامة.
ورغم السفر ومشقاته، إلا أنها لا تنسى تعاطفها مع عبير فتحاول أن تطمئن عليها، ثم تخوض بالسياسة دون قصد، تلك السياسة التي أفسدت كل شيء.
في رحلة البحث، تبحث ضحى عن أمها، فقد تأثر زواجها لأن أمها مطلقة، المشكلة الاجتماعية التي لن تنتهي، ومحاولة البحث عن الأم، والضياع في بلاد الغربة التي تكلم القلب، وعلى مقاعد الذكريات حيث جسر الكرامة أو جسر اللنبي أو جسر الملك حسين، والتي هي أسماء تعددت لنقطة عبور واحدة، تنشأ الحكايات التي ترتكز عليها الكاتبة لتتابع السرد، فتحدثنا عن قصص العشاق والخطايا، والمجتمع الذكوري الذي يقمع أحلام الصبايا ويخنق عشقهن، ثم تستطرد الحديث عن رحلة الأحلام، حيث طلوع منطقة البانوراما؛ مطلة سيدنا لوط.
وفي كل رواية لا بد أن يكون للوجع والموت والاغتيال نصيب، يسرد عزوز لنا المآسي التي واجهته وهو طفل صغير حينما اجتاح العساكر المخيم، كما اجتاح المدن إثر تصاعد المقاومة وتفجير المقاومين لحافلات وفندق في مدينة نتانيا أم هالد، استطرد حديث الموت والألم والحزن جورج الساحوري الذي أخذ يدق أجراس المهد يوم الاجتياح؛ لتشترك كل الأديان في المقاومة دون كلل أو يأس.
ثم يتحدث خضر الخليلي عن وجع المدينة وعن مجزرة الخليل التي حصدت الأرواح البريئة في الحرم الإبراهيمي بببندقية جولدشتاين ثم عملية تقسيم الحرم.
كل هذه القصص سردتها في الحافلة عزيزة التي جمعت كل حكايات الوجع والظلم والمقاومة.
ولا تخلو الرواية من المعلومات التاريخية عن البتراء وحمامات معين والعقبة، وعمّان التي تبدلت اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وكأننا هنا أمام أدب الرحلات الذي نتنقل من خلاله مع السارد، ونتعرف على المدن وتواريخها وتضاريسها وحكاياها.
المكان: أخذت الرواية مكانها في القدس، والسعودية والأردن.
الزمان: متد ما بين حقبة زمنية بين 1965إلى حين انتهت الرواية.
الشخصيات: الشخصية الرئيسية في الرواية هي الساردة، والتي هي نفسها الروائية نزهة، فالرواية سيرة ذاتية، ثم عبير التي ترسل رسالتها إلى الساردة لتكتب قصتها، هناك أيضا ضحى أخت عبير، وغيرها من الشخصيات التي لم نتعرف كثيرا عليها فقد عرفناها من خلال سردها.
تقنية السرد: السرد كان خطيًا، اعتمد الاسترجاع في بعض الأماكن،وقد
صادفنا تقنية الرسائل في كثير من الروايات، وهنا يتكرر الأمر، لكن من خلال رسائل عصرية، أي رسائل فيسبوكية تصل إلى الساردة من عبير وقد اعتمدت الكاتبة على الحوارات الداخلية التي استخدمت فيها ضمير المتحدث؛ لتكون أكثر قربا إلينا.
الحوارات الخارجية كانت محدودة
اللغة: اللغة كانت مباشرة تتبع السهل الممتنع، جاءت تقريرية في بعض الأحيان، كما تفاوتت متانة اللغة بين فصول الرواية، فتارة نجدها إنشائية وتارة متينة شاعرية.
الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية، وتعتبر من الروايات التوثيقية التي تسرد أوجاع فلسطين وشعبها.
وقال عفيف قاووق:
الرواية كُتبت بأسلوب سرديّ شيّق، إمتاز بالترابط والإنسيابيّة، وبُلغة سهلة ومتينة إتسمت بطابع الحداثة بعد إدخالها الفايسبوك كوسيلة تواصل إلى جانب الرسائل الإلكترونية في تقنيات كتابتها هذا إضافة إلى إعتمادها تقنية الإسترجاع او الفلاش باك لتسّرُد لنا بعض الأحداث التي لها علاقة بشكل أو بآخر بالسياق العام للرواية. وعلى رغم عدد صفحاتها الذي لم يتجاوز المئتين، إلّا انّنا نجد فيها كمّاً لا بأس به من المواضيع والإشكاليّات التي أثارتها الكاتبة، ومحاور إجتماعيّة وسياسيّة، إضافة إلى بعض القضايا التي تمُّس الحياة العامّة والهّم الوطنيّ. وعليه يمكن تصنيف هذه الرواية بمزيج من أدب الرحلات، أدب الرسائل وحتى الأدب السياسي في مكان ما.
وقبل الإنتقال للتطرّق إلى المواضيع المُثارة في هذه الرواية، نشير إلى أنّ الروائيّة لم تشأ إلّا ان تقدّم للقارىء نظرتها ومفهومها للكتابة، حيث أفردت فقرة بعنوان” الكتابة..الإلهام الصعب” طرحت من خلالها رؤيتها لماهيّة الكتابة وطرق صقلها وتنميتها متسائلة لماذا نكتب؟ ولمن؟ وما هي الفكرة التي يضيفها الكاتب؟ وهل كتابته تُلبّي رغبات القارىْ؟ لأنّ القراءة كما تراها هي روح الكتابة (ص26). وفي موضع آخر تربط بين جدوى الكتابة ودور المثقّف والأديب، فالمثقّف الكاتب هو الرسول الموجّه والمؤرّخ لقضايا مجتمعه، فهو يكتب عن الحّريّة والنزوح وآلام اللجوء، وأيضاً عن الأمل والإنتصار، ليكون بذلك المحارب الجيّد في إيصال ثقافة المقاومة الحرّة والنزيهة (ص107).
بالعودة إلى مضمون الرواية، وكما أسلفنا، هناك العديد من القضايا والمحاور التي أُثيرت، فقد تحدّثت عن معاناة التنقّل والعبور من وإلى فلسطين المحتلّة عبر جسر الأردن وما يتطلّبه هذا العبور من شروط الإذعان لإجراءات وتعقيدات وإنتظام في طوابير آلمها الإنتظار لساعات للعبور إلى الضفّة الشرقيّة، وهذا ما لا نجده في البلدان الأوروبيّة التي لا يحتاج العبور والتنقّل بين حدودها إلى تأشيرة دخول أو إلى أختام وما إلى ذلك من إجراءات. كما تطرّقت الى المقارنة بين حالة أمكنة الإنتظار والعبور على الضفّتين، حيث النظافة وحسن التنظيم بادياً في مقلب الإحتلال، بينما في المقلب الآخر لا نظافة أو تجديد لأماكن حاجات المسافرين التي بدت بائدة منذ زمن (ص58).
ومن خلال إحدى الرسائل التي تلقّتها من عبير،أشارت الكاتبة إلى حالة الإعتراض التقليدي من قبل ألأهل على الزواج من خارج العائلة او البلدة على الأقل، وهذا الإعتراض سجّلته جدّة عبير برفضها زواج إبنها عبد الفتّاح من فتاة مقدسيّة، وحجّتها في ذلك قولها، “ومالهن بنات البلد ليتزوّج بنت غريبة”. أما الموضوع الأسريّ الآخر الذي تناولته الرواية فهو التفكّك الذي يصيب العائلة جرّاء حالة الطلاق بين الزوجين وانعكاساته السلبية على الأبناء كما في حالة عبير وشقيقتها ضُحى وعيشهنّ بعيدات عن أمّهما سنوات طوال.
ولم تغفل الرواية عن التعرّض لمسألة الذكوريّة والسلطة الأبويّة التي تجلّت في إصرار والد زوجة عبد الفتّاح على بقاء ابنته في القدس وعدم عودتها مع زوجها إلى مركز عمله في السعودية، ليؤدّي إصراره هذا إلى وقوع الطلاق بين الزوجين وإرغام ابنته على ترك بناتها لوالدهم. كما ظهرت الذكورية في ردّة فعل خالد عندما أخبرته صبريّة انّها حامل وتخشى أن يعيبها كلام الناس وما سيقولون. فكان ردّه “سيقولون عنكِ، أنا رجل لا يُعيبني شيء ولا يعنيني أمرك (ص53). وإستكمالا لتشريح الحالة الذكوريّة للمجتمع الذي له الحكم والسيطرة، والتي ورثت نساؤه عبوديّة من جدّاتهنّ وأمّهاتهنّ، تقول الكاتبة ” لن تخفّف ثقافتنا أو تعلّمنا أو صراخنا من عنجهيّة الرجل، لأننا غير مؤمنات بقدرتنا، خائفات من التغيير، تحكمنا العادات وتحاكمنا التقاليد (ص57).
أيضا فإن موضوع الأسرى ومعاناتهم لم يغب عن الكاتبة، لتصفهُم بأنّهم وحدهم يمتلكون القلوب المرهفة على رغم الألم الذي عاشوه ويعانوه في سجون لسنين طويلة، هم أسرى يقاومون ويتحدّون، يُهرّبون النّطف النقيّة لزوجات طاهرات.
وفي نظرة عامّة على المجتمع الفلسطينيّ، تشير الرواية في نوع من العتب أو الإنتقاد إلى ما آلت إليه الأمور فتقول “أصبحنا أشباه أمّة، تمّ قذفنا في متاهات الإغتراب وبعضنا الآخر تحت خيام اللجوء أو في غياهب السجون والمنافي”.
كان لا بدّ من إظهار بعض النقاشات والإختلاف في الاراء السّياسية، كالحوار الذي جرى بين أحد المقهورين من زملاء الرحلة في الحافلة عزيزة عندما قال “إن القدس مستمرة في نشر بذور التعفّن السّياسيّ والتعصّب الدينيّ، والصراع الذي لا ينتهي، ليأتي الردّ من الكاتبة، بأن القدس خط أحمر ولا تجلب الموت، بل هي تراتيل فرح وإلهام وهي أمّ البدايات وأمّ النهايات. وبجرأة لافتة، جاء الإنتقاد الصارخ بصوت بهيّة إحدى ركّاب الحافلة بقولها: “لقد متنا من الغدر والأسر والتهجير والتهويد، معاهدات تلاها تنازلات ومفاوضات ما جابت إلا الخيبات، العرب مزّقوا أوراق القضيّة، والقادة باعوا البلاد وصاروا يتجبّروا بالعباد، رفعوا شعار القدس، وشحدوا بإسم فلسطين وقبضوا الملايين (ص110). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض الحالات الشاذة التي أقدم عليها البعض مثل والد تولين، حيث باع كلّ ممتلكاته وبيته للمستوطنين والتي دفعت إبنته حياتها ثمنا لخيانته هذه.
وإذا كانت الكاتبة وعبير هما الشخصيّتان الرئيسيّتان في الرواية، إلا أنّنا نجد إلى جانبهما شخصيات ثانوية تولّى كلّ منهم سرد ذكرياته عن المكان الذي أتى منه، وما شهده من أحداث وممارسات إرتكبها العدوّ الغاصب، وهذا ما أضفى على الرواية عنصر التشويق والإثارة، جعلت القارىء ينتقل بخياله إلى تلك الأمكنة، ليشهد بنفسه على تلك الإرتكابات، ويربط بينها وبين أحداث وفظائع مشابهة قام بها العدوّ في أيّ بلدٍ عربيّ تعرض للإعتداء الصهيوني. وعلى طريقة الإسترجاع والفلاش باك، وللحديث عن القدس وما تعرّضت له، كان لا بدّ للروائيّة أن تستعين بشخوص وشهود عِيان لترسم معالم تلك المرحلة، وتحلم معها على أجنحة الحلم بالعودة. ومن أجدر من عمّ الكاتبة للحديث عن تلك الفترة العصيبة وما تعرّضت له القدس من انتهاكات، حيث خاطبها قائلاً: “أعادني وجهك إلى عهدٍ قديمٍ من ذكرياتٍ ما غابت عنّي ولو للحظات، …مضينا في طريقنا للدفاع عن القدس، آخر معقل للعروبة، تعلّقنا بحبال الأمل والنصر، ورفضنا الإستسلام، كنّا نهاجم ونقاتل بشكلٍ فرديّ حتّى آخر رصاصةٍ معنا، جنودٌ كثيرون بقيوا وحدهم، قاوموا حتى آخر نفس تنفّسوه على ثرى المدينة، حتى ارتقَوا شهداء وأبطالاً نُقشوا في جدار الذاكرة” ولكن المشكلة في القيادة، التي لم تضع خطّة للدفاع عن المدينة، ولم تزوّد المقاتلين بما يحتاجونه من سلاح وذخيرة، وحتى أنها طلبت من الجنود الانسحاب” (ص154).
ومن الشخصيات الثانوية التي أشرنا إليها، دليل الحافلة عزّوز الذي لا يزال يتلو على مسامع المسافرين ما جرى على أهله في مخيّم جنين في معركة غير متكافئة مع المستوطنين، وكيف تعرض لإبادة جماعيّة وتدّمير ممنهج على يد المحتلّ: “…كانت رائحة الجثث تنبعث من بين الأحياء… ودبّابات تقصف بلا رحمة… المروحيّات تدور في سماء المخيّم، والمصفّحات تتوغّل بين البيوت. أما “خضر الخليلي” تحدّث عن مجزرة الخليل التي نُفّذت على يد الإرهابيّ الهمجي ” جولدشتاين” الذي ظلّ يطلق النار بلا رحمة، كان مشهداً يصعب وصفه، مصيراً مروّعاً، ملوّناً بالوحشيّة”، مستعيدا ذكرى إستشهاد خاله العريس عندما اعتدى المستوطنون على المصلّين الرّكع السجود في الحرم الإبراهيميّ في شهر رمضان. وأيضا جورج الساحوري الذي إستذكر ما جرى في مدينة بيت لحم ومحاصرة الرُهبان. وكان لا بد أيضاً من التذكير بالحصار الذي وقع على قطاع غزّة وتجويعه.
وبإسترجاع لبعض الأحداث، أعادتنا الروائيّة إلى حادثة جارتها صبريّة وما جرى لها على يد إبن الحيّ خالد الذي غرر بها وإغتصبها ليُرغم على تثبيت زواجه منها، وكذلك حكاية الطبيبين راشد وزوجته روز والذي تزوج بإمرأة أخرى خفيّة عنها بقصد الإنجاب ولكن كانت النتيجة خسارة إبنه المولود وإنهيار زواجه الأول.
شكلت الأماكن عنصراً أساسيّاً من عناصرالرواية، حيث إستحوذ توصيف الأمكنة على حيّز لا بأس به من السرد، هذه الأماكن قُدّمت لنا من خلال رحلة الأحلام التي قامت بها الكاتبة، وأخذتنا معها لنتعرّف على البتراء المدينة الورديّة التي حصّنتها الطّبيعة وحماها الأنباط لتحكي حضارتهم، وهي معلم سياحيّ متميّز حيث الصخور العالية والملوّنة والكهوف النائمة منذ زمن بعيد، وأيضا مدينة العقبة وأسواقها التي تحكي قوّة أجيال مضت، ناهيك عن أم الرشراش وحمّامات ماعين وشلّالاتها التي ترسم لوحة بانوراميّة في أحضان الطبيعة. ولا ننسى مدينة عمّان التي تتخطّر بثوب من الرخاء في بعض أحيائها، وتخفي في أحياء أخرى ملابس مرقّعة تغطّي أجساد الحالمين، مع الإشارة إلى سهرات اللهو والمجون في صالات الفنادق، وما ينتج عنها من إستهتار وترنّح الشباب السكارى والفتيات التي نزع منهن الخجل، وغالبا ما كانت مثل تلك السهرات تنتهي بإرتكاب جريمة قتل فتاة أو إمرأة تحت مُسمّى جريمة الشرف.
ويبقى مسك الختام مع زهرة المدائن مدينة القدس، ورحلة التجوال في احيائها التي قامت بها عبير برفقة شقيقتها سهر، وتجولهما بحنين في شارع صلاح الدين، شارع الزهرة، طريق واد الجوز والشيخ جرّاح، وصولاً إلى نزلة باب الأسباط وكنيسة الجثمانيّة المؤديّة الى باب العامود، ولتتكحّل العيون أخيراً بمرأى قبّتا المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة، فالتجوال في أحياء القدس يُنعش الذاكرة ويبقي على الأمل بحقّ العودة، فالكثير من ألأباء والأمهات علّقوا مفاتيح البيوت بالقلب والذاكرة ولن يُخفق الأبناء حتماً في الوصول إلى البيت والعنوان.
ختاما نقول شكرا للروائيّة نزهة الرملاوي على هذه التحفة الروائية وهذا التألّق الأدبيّ في رواية أعطتنا الكثير، وحرّكت فينا المزيد من الأحاسيس والمشاعر، وكشفت جزءاً من تقصيرنا تجاه القضيّة الأم ، وحلقت معنا على أجنحة الحلم بالأمل والعودة. “فالقدس لنا والبيت لنا، وبأيدينا سنعيد بهاء القدس وللقدس سلام آتٍ”.
وقالت دولت الجنيدي أبو ميزر:
منذ تعرفت على الكاتبة نزهة الرملاوي في ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية شعرت مدى عشقها للقدس، فهي الإبنة الوفية التي عاشت على ثراها، شربت من ماءها، تجولت في شوارعها وحاراتها وطرقها، وكرست معظم كتاباتها؛ لتحكي عن مقدساتها وأماكنها التاريخية، -شوارعها، أزقتها، حواريها، أحواشها وما حولها. عن احتلالها وصمود أهلها ومعاناتهم من المحتل.
في هذه الرواية روائيان هي الراوي الأساسي والراوي الثاني هو صديقتها الافتراضية عبير، التي عن طريق رسائل عبر الفيس بوك وحديثها عن قصتها الحزينة ومعاناتها، تطرح قضايا إنسانية اجتماعية معقدة. مسرحها القدس امتدادا الى بعض الدول العربية. تحكي معاناة المرأة والغربة واختلاف تحمل الناس لها، وما تعانيه المرأة في هذه المجتمعات المتشابهة من ذكورية الرجل واستبداده، وظلم الأهل وانعكاس ذلك على الأبناء، حيث يعيد التاريخ نفسه معهم. وتطرح قضايا إنسانية معقدة مثل هرب بعض المحبين وزواجهم زواجا عرفيا بعيدا عن الأهل ودون علمهم، وما ينتج عن ذلك من قضايا الشرف والقتل.
تكتب عن الأسرى وعن الأسير كمال أبوحنيش وسرقة كتابه، وعن معاناة الأسرى في السجون، وتستذكر قصيدة أبي فراس الحمداني وهو في السجن والحمامة الطليقة تنوح بقربه.
وأمّا الروائي الأساسي فهو الكاتبة نزهة الرملاوي التي تسرد قصة رحلتها التي كانت تحلم بها ومدتها ثلاثة أيام الى مدينة البتراء الوردية. وعن طريق رسائل الى عبير أوحديث بين ركاب السيارة التي أسمتها عزيزة تتحدث في مواضيع مختلفة، منها جسر الملك حسين ومن عبروا عليه من البريطانيين ومن النازحين، وتتداخل المواضيع ببعضها، وتحدثوا عن المعلمين والعملية التعليمية في حوار بين الركاب. وعلى لسان عزوز الجنيني مرافقهم في الرحلة تروي قصة جنين والدرع الواقي. وشارك جورج الساحوري عزوز في سرد الحكاية، وأخذ يدق أجراس المهد يوم الإجتياح ورافق الملاحقين 40 يوما.
وعلى لسان خضر الخليلي تروي قصة قتل باروخ غولد شتاين المصلين في صلاة الفجر، وعن تقسيم الحرم الابراهيمي بعدها وإغلاق شارع الشهداء ووضع البوابات الإلكترونية والكاميرات. وشارك الركاب في الحوار عن الاحتلال والقدس ووضع الناس والسياسة.
تصف حمامات ماعين ثم الحمّة السورية في جنوب الجولان بين الخط الفاصل بين سوريا وفلسطين في الطرف الفلسطيني والفرق بينهما. ثم تصف بعض أماكن عمّان وتصف مناظر وأحداثا سلبية رأتها من نافذة الفندق..
تصف مدينة البتراء وصفا رائعا دقيقا لكل ما تمر به وما حولها. تبثه أشواقها وتنقشه في مخيلاتها، مشاعرها الإنسانية حاضرة في كتاباتها تجعل من المثالب فوائد وتتقبل الوضع مهما كان. تتعلم من الأشياء وتستفيد منها تعلمها تخطي الأزمات والنهوض بعدالانكسار.
تستمتع وتعيش كل لحظة لئلا يضيع من ذاكرتها جمال أيّ شيء حتى يذهب وميض فرحتها ومشاعرها الجميلة حين توقفها دوريات تفتيش العدو،.تكتب عن السياسة والاقتصاد وعمل الغرباء في جميع الأماكن.
في كتابها ووصفها الجميل عشت معها هذه الرحلة بكل تفاصيلها، أعادتني الى أماكن زرتُ معظمها، نقلتني الى عالم الأحلام، وشاركتني في تفاصيل رحلتها.
ولا تنسى الوجه الآخر والمشاعر التي تقطع حبل سعادتها؛ لتذكر مشاهد اللاجئين وجثث أطفالهم العائمة على شواطئ الغربة.
تصف طريق العودة وإرجاعها إلى عمان بسبب نقص في أورراقها، فتزور عمّها الجندي في الجيش الأردني، وعن طريقه تشرح سقوط القدس بأيدي الأعداء وانسحاب الجيش الأردني وجزء من حياة أسرتها.
ورسائل عبير تنهي القصتين معا.
القدس وعشقها محور هذه الرواية والاحداث التي تدور فيها وما حولها، التاريخ معاناة الناس والحياة الاجتماعية زمن الاحتلال. تمزج التاريخ والجغرافيا، تتحدث عن سوريا وحروبها وأعدائها وهجرة سكانها ومعاناة شعبها. تتحدث عن الأردن ومؤاخاته مع فلسطين في كل زمان. عشت معها وشاركتها رحلتها وتقمصت مشاعرها.
هذه الرواية سيرة ذاتية وسيرة غيرية وأدب رحلات وتاريخ وجغرافيا واقتصاد ونموذج حياة. تشد القارئ ليعيش ما يقرأ بأسلوب سردي سلس مطعم بالمحسنات البديعية والتفصيل الدقيق الذي لا يمله القارئ لجمال الوصف وقوة الحبكة.
الرواية لا تخلو من بعض الأخطاء اللغوية.
وقالت نزهة أبو غوش:
في هذه الرواية أخذتنا الكاتبة نزهة الرملاوي في رحلة جميلة عشنا معها بخيالنا لحظة بلحظة، وخطوة فخطوة.
استطاعت الكاتبة بلغتها الغنيّة بكلّ جماليّاتها البلاغيّة من تجسيد، واستعارات وتشبيهات واطناب وتفصيل ووصف دقيق للأحداث والأماكن؛ أن تجعلنا نعيش تفاصيل الرحلة منذ خروجها من القدس حتّى العقبة وعمّان، ثمّ طريق العودة.
يمكننا أن نصنّف هذه الرواية أنّها من أدب الرحلات؛ حيث أنّ الرواية ركّزت على الأماكن السّياحيّة، والأثريّة في العقبة والبتراء ومدينة عمّان وغيرها؛ ثمّ أنّها أبرزت جماليّات الأماكن في المدن بجبالها وصخورها ورمالها وبداوتها، ولم تنس أن تشرح حضارات تلك المدن وثقافاتها وتاريخها.
في لغتها، جعلت الكاتبة للأشياء حركة خاصّة مميّزة، فيها البحر يتنهّد والجبال تتألّم والرّمال تشكو والعصافير تروي حكايات، والمدن حزينة متعبة من تاريخها المفعم بالحروب الّتي أنهكتها. والقدس هي جنّة الله على الأرض.
نجد في لغة الرّواية لونا أدبيّا مميّزا دخلت به الكاتبة من خلال رحلتها الطويلة، حيث استطاعت أن تروي قصصا اجتماعيّة تمسّ حضارتنا العربيّة، وتنقد حالات اجتماعيّة تحدث مع مراهقين يجهلون عواقب تصرّفاتهم العشوائية، وفلتانهم من معايير مجتمع ضيّق الآفاق لا يرحم الأنثى على الأغلب.
تعتبر الرّواية إِنسانيّة بالدرجة الأولى، فقد برزت من خلال علاقات المسافرين ببعضهم خلال الرحلة من الدّرجة الأولى، كما أنّ الرّاوية كانت تحزن وترأف وتساعد مراسلتها لصديقتها المعجبة عبير، وذلك عبر التواصل الاجتماعي، الّتي وقعت بأزمة أسرية، كذلك عطفها مع الأسرى ” ألا يحقّ للأسير أن يكون له قلب ينبض؟ لقد آلمني صراخ المعتقلين في الزنازين.”
مشاركة الفرح والحزن مع النّازحين، والثائرين”، هم الثائرون من يمتلكون القلوب المرهقة ويتقنون فنّ العشق”؛ ثمّ أنّ الرّواية تحدّثت عن الفن والفكر والنجاح والسعادة، وأهميّة القراءة ” فهي الشّمس الموجّه للأفكار” التضامن مع الكاتب والروائي الّذي يستشير القرّاء. رفض الراوية للسياسات الحمقاء والتصفيق الأعمى لهم، وللقادة الّذين يعتريهم النفاق. سلّطت الكاتبة نزهة في روايتها على الصّراعات الّتي يعيشها الفلسطيني على أرض أجداده؛ الصّراعات الدّينيّة، والسّياسيّة، والاجتماعيّة وما يعانيه الإنسان من متاعب وانتهاكات لأرضه وبيته وأبنائه وحياته اليوميّة الّتي يعيشها بخوف وترقّب وحذر.
سردت الرّاوية الأحداث بلغة أخلاقيّة لا تخدش الحياء ولا تتطرّق إِلى المواضيع الجنسيّة، بل تناولتها بحرفيّة من خلال الإيحاء في حالة التّعبير عن العلاقات الّتي كانت بين المراهقين؛ كما أنها كانت تلجأ إِلى الله بالاستغفار والاستعانة به على حلّ المشاكل المختلفة.
كان انتماء الرّاوية للأرض والوطن والقدس بشكل خاصّ بارزا في الرواية ” القدس منارة عشق وتراتيل محبّة وأسطورة عشق.” تساءلت الراوية سؤالا يلفت انتباه القارئ” هل حبّ القدس يورّث في الجينات؟” قالتها على لسان احدى الشخصيّات الّتي لم تعش بالقدس، بل بالغربة، لكنّها أحبّت القدس كما أحبّتها والدتها الّتي تركت أسرتها وعادت لتعيش في بلدها القدس؛ لذلك غفرت الفتاة لوالدتها؛ لأنّ القدس تستحقّ أكثر، هنا يتّضح الجواب: نعم حبّ القدس يورّث في الجينات.
أمّا من ناحية العاطفة، نجد أنّ لغة الرواية قد سيطرت على العاطفة وكأنّ اللغة هي من تخلق العاطفة وليس العكس, من بين السّطور لمسنا العاطفة الجيّاشة الصادقة المفعمة بالأحاسيس؛ حيث أنّ الراوية استطاعت أن تعبّر بلغتها عن فرحنا وحزننا وألمنا وقهرنا وانكساراتنا، وانتصاراتنا الصّغيرة؛ وأحلامنا المدفونة تحت الرّمال.
أمّا الخيال فهو أيضا قد اعتمد على اللغة التّعبيريّة في الرّواية، فمن خلال التشبيهات والاستعارات ظهر خيال الكاتبة الّذي رسم لنا صورا جميلة ملوّنة دخلت إِلى الأذهان بطريقة سهلة وجميلة.
.
من ناحية الصّراع، نجد أنّ الكاتبة قد صوّرت في كلّ حدث صراعا قائما بالفعل؛ لكنّي لم أجد أنها قد خلقت صراعا موحّدا على طول الخط القصصي للرواية؛ من أجل ربط الأحداث، ربّما لأنّها تناولت مسار الرّحلة المشتركة في الحافلة، كخطّ روائي من البداية حتّى النهاية، فقد تغلّب هذا على خلق خطّ ثنائي آخر
لقد بدى واضحا نظرة الكاتبة للزمن الماضي، والحاضر؛ ولاحظت الكثير من التّساؤلات الّتي لا جواب لها عن الغموض المستقبلي في فلسطين ومنطقتنا العربيّة؛ ولم توضّح الرّملاوي عن نظرتها وتوقّعاتها المستقبليّة والصراعات القائمة في المنطقة.
وكتب عبدالله دعيس:
تواصل الكاتبة نزهة الرملاوي رحلة عشقها للمدينة المقدّسة التي ابتدأتها بمجموعتها القصصيّة عشاق المدينة واستمرّت بها في جلّ أعمالها الأدبيّة، حتى وصلت إلى هذه الرّواية التي هي فصل جديد من هذا العشق المتمكّن منها المسيطر على سطورها، فهل نحن أمام نوع جديد من الغزل ولوعة المشتاقين وآهات العشّاق؟ إنّها القدس، مهوى الأفئدة وقبلة المحبّين والمريدين.
ربما أرادت الكاتبة في هذا النّص تجريب نوع آخر من العشق، وهو البعد عن المحبوب والتّلوّع لفراقه، وهذا ديدن المحبّين وسيرة العشّاق مدى الزّمان، فاختارت أن تبتعد عن المدينة ولو إلى مكان قريب ووقت قصير، فارتحلت في ربوع الأردن لأيام قليلة، لتعود متعجّلة إلى حيث ينبض فؤادها بالعشق، إلى محبوبتها القدس. ولا تستطيع الكاتبة أن تفصل نفسها عن رحلة العشق هذه، فاختارت أن تكون هي نفسها بطلة الرّواية وراويتها، فأصبحت روايتها أشبه ما يكون ببوح لما يكتنفها من مشاعر تجاه المدينة وحزن لكونها تحت سياط الاحتلال.
وحشدت الكاتبة تجاربها في رحلتها القصيرة إلى الأردن، وما رأته وما سمعته من مشاكل اجتماعيّة في القدس وخارجها، وما شاهدته من آثار الاحتلال وتسلّط الحكام الفاسدين الخونة على رقاب العباد في العالم العربيّ، حشدت هذا كلّه في صفحات الرّواية القليلة، فكانت زاخرة بالأحداث المتنوّعة والشّخصيّات الكثيرة، وكأنّها كانت تلتقط كلّ ما يدور حولها وما تشعر به تجاهه، فتثبّته في صفحاتها، ثمّ تلتفت عنه إلى أمر آخر وهكذا.
استطاعت الكاتبة أن تربط بين الشخصيات الكثيرة والحكايات المتعدّدة في الرّواية عن طريق رحلتها إلى الأردنّ ولقائها بأناس كثر، وسماعها حكايات اللاجئين الذي نزحوا من مدن فلسطين المختلفة، وتلقّيها الرسائل الإلكترونيّة، فكان هذا المزيج عملا متكاملا مترابطا رغم كثرة الأحداث وتنوّعها وتشتّتها بين الأماكن والأزمنة المختلفة، وهذا مما يحسب للكاتبة. لكن، هذا في المقابل أثقل على القارئ وشتّته، وجعل هذه الشخصيّات الكثيرة هامشيّة وغير مكتملة.
أمّا شخصيّة عبير التي يتعرّف عليها القارئ من خلال رسائلها الإلكترونيّة التي تبعثها إلى الكاتبة في أوقات مختلفة، فقد جمعت فيها حبّ القدس، والمشاكل الأسريّة والتّشرذم الاجتماعي والسّياسي، ومشاكل الاستيطان وتسريب البيوت بالإضافة إلى المشاعر الإنسانيّة المتوقّدة. فكانت هذه الحكاية المتناثرة في الصّفحات، قلب الرّواية الذي جمع أفكار الكاتبة وما أرادت إيصاله إلى المتلقّي، وحملت معها عنصر التّشويق الوحيد في الرّواية، حيث يتابع القارئ قلب الصفحات ليجد ما حصل في حكاية عبير بعد صفحات طويلة.
ربما كانت فكرة بثّ الحكاية في رسائل إلكترونيّة متباعدة تجديدا وحيلة فنّية موفّقة للم شتات الحكايات ورفع عنصر التّشويق، لكنّ ما تخللها من وصف مسهب للأماكن، وسرد لبعض الأحداث العاديّة، مثل المكوث في الفندق مثلا، وتناول وجبة الإفطار والمناكفات داخل حافلة السّفر، أضعف النّص وجعله أقرب إلى سرد الذكريات في رحلة لا شكّ حقيقيّة. كان بإمكان الكاتبة أن تصيغ من حكاية عبير رواية متكاملة تجمع جميع ما أرادت قوله من حبّ للمدينة وتعلّق بها، ومن مشاكل اجتماعيّة تعصف بالمجتمع العربيّ، والتشرذم السياسيّ وآثار السّياسة على النّاس، وكل ما قالته في روايتها، ولكانت الرّواية أكثر تشويقا وأبعد عن كونها مجموعة من الذكريات أو وصفا لرحلة. أرادت الكاتبة أن تجدّد في أسلوب كتابة الرواية فاختارت هذا النهج الذي ربما لم يكن لصالح روايتها.
طارت بنا الكاتبة نزهة الرملاوي على جناح الحلم، فاصطحبتنا في رحلتها المُتعِبة على متن الحافلة عزيزة، وعادت بنا إلى مكمن عشقها، الى القدس التي تحبّ ونحبّ، وكلّ عمل عن القدس هو عمل جميل وهامّ يكتسب جماله وأهميته من جمال المدينة وأهميتها، ونحن بانتظار جولات أخرى من عشق المدينة.
وقال الدكتور عزالدين أبو ميزر:
قرأت للكاتبة قبلا ولدي فكرة عامة عن أسلوبها في الكتابة، وأنها تملك قدرة على تطويع الكلمات الجميلة لقلمها بتأنق، وأرى أثر حبات العرق وهي تسيل على جوانب الكلمات معلنة أنها ما وصلت إلى مواقعها إلا بعد جهد وتعب.
وكعادتي في مداخلاتي أعتمد الاجمال لا التفصيل إلا إذا كانت المداخلة في الشعر وما يتعلق به فأستفيض.
إن كتاب: ذاكرة على أجنحة حلم، هو من أدب الرحلات بامتياز مع سرد على لسان الغير في بعض الرسائل، ومما جلب انتباهي فيه عدة أمور
1- أن الاخطاء اللغوية والمطبعية قلت عما كان في كتابها : كرنفال المدينة وقد كانت ولا زالت تعتز به وبحبها للقدس.
ولا زلت أتذكر يومها كيف كان تأثرها يوم ناقشناه في ندوة اليوم السابع آنذاك.
2- لاحظت في هذا الكتاب أسلوبين في الكتابة عندما كانت تسرد بلسان الغير كان الأسلوب سلسا وسهلا من غير تأنق ولا تعقيد، وكأن غيرها بالفعل هو من كان يكتب، وما أن تنتهي حتى تعود إلى أسلوبها الذي اعتادته من إرهاق الكلمات وتزيينها بالمحسنات اللغوية والخيال المجنح، وليس الكل من الكتاب يعتمد مثل هكذا أسلوب، وكأنه كما قيل في بعضهم قديما أنه ينحت في صخر، في حين غيرهم يغرف من بحر وقد جمعت الإثنين في كذا الكتاب كما ذكرت.
3- في وصف الكاتبة للأماكن والأحداث استفاضت بشكل واضح وجليّ، ولم تترك شاردة ولا واردة قد تخطر على بال إلا ذكرتها، ويا لها من ذاكرة جمعت في طياتها هذا الكم الهائل حقيقة في ثوب حلم سردته على مسامعنا من غير ملل، وهذا يحسب لها ولا يستطيعه كل الكتاب.
وكتبت رفيقة عثمان:
صورة الغلاف نصف وجه المرأة الجانب الأيسر منه، عينها واسعة، وحاجبها ثخين ومعقوف، والنّصف الأسفل من الوجه صورة لشراع مليء بالرّكّاب الرّاحلين، يرتدون الملابس العربيّة التّقليديّة، ويحيط بالغلاف إطار بلونٍ أسود، تتّسم ألوان الغلاف بالألوان القاتمة، ما بين البنّي والأسود. حجم الخط في الرّواية صغير جدّا.
نهجت الكاتبة نزهة الرّملاوي، تقنيّات متنوّعة في السّرد، مثل الاسترجاع السّينمائي،: باستخدام وكتابة الرسائل- عبر البريد الإلكتروني “الفيسبوك” وتبادلها مع البطلة عبير؛ كذلك استخدام التّداعي الحر؛ بربط الأحداث بأحداث ماضية من الذّاكرة؛ بالإضافة للإستذكار المٌتكرّر، الّذي رافق الراوية أثناء سفرها في رحلة الأحلام؛ كما استذكرت الثّوار الفلسطينيين في الأغوار مع الحسيني، واستذكار جدّها المحارب، بالإضافة إلى استذكار قصّة صديقتها صبريّة وزواجها الفاشل، وهنالك أحداث عديدة سردتها الكاتبة بواسطة – الفلاش باك- الاسترجاع الفنّي، وسرد لأحداث قرأتها من روايات .
يبدو بأنّ اختيار الكاتبة للعنوان، (ذاكرة على أجنحة حُلم) مشتق من الذّكريات الّتي سردتها الكاتبة الرّملاوي.
امتازت لغة الكاتبة، بلغة بليغة جزلة، وفيها المبالغة والاستطراد بالوصف، وباستخدام الصيغة البلاغيّة والمحسّنات البديعيّة البارزة في السّرد. امتازت طريقة الوصف بالدّقّة وبالجماليّة، والتجسيدات الحسيّة، لدرجة يخال فيها القارئ بإحساسه وبوجوده في تلك الأماكن دون أن يراها مسبقًا، وتوصف لغة الكاتبة بالسّهل المُمتنع.
دمجت الكاتبة اللّهجة العاميّة الفلسطينيّة أحيانًا، واللّهجات العربيّة الأخرى مثل: السّوريّة، والمصريّة، والأردنيّة؛ بما تتطلّبه المواقف والأحداث في السّرد، كما ورد صفحة 134-135- 110.
احتلّ المكان مساحة واسعة جدّا، وكانت القدس حاضرة وسيّدة الموقف دائمًا. كيف لا والكاتبة نفسها ابنة القدس الشّريف وعاشقتها، ووصفت الأماكن المقدسيّة بدّقة، بأسمائها وحاراتها وأزقّتها؛ كما ورد صفحة 108 ” القدس لا تجلب الموت والحزن، القدس تراتيل فرح وبوح وإلهام، أمّ الحضارات والثّقافات وحامية الدّيانات، أمّ البدايات وأمّ النّهايات. كيف تكون عواطفنا زائفة نحوها وهي من علّمنا الحبّ والانتماء ونقشت فيها الوفاء”. وفي نص آخر عبّرت الكاتبة عن عشقها للقدس على لسان البطلة عبير صفحة 173 بقولها ” سأغفر لك أمّي، سأغفر لك ضياعنا وغربتنا، سأغفر لك أمّي، وأخبرالعالم: إنّ عشق المدينة، يقوى على كلّ عشق في هذه الحياة”. أنهت الكاتبة روايتها بعبارة “وتبقى القدس منارة عشق، وتراتيل محبّة، وأسطورة بقاء”. صفحة 186. كذلك صفحة 43 “أدرك أنّ حبّ القدس ملكة القلوب، كما هي مثيرة للحروب، كانت للغزاة الحلم والخلاص”. ظهر عشق الكاتبة الرّملاوي لمدينة القدس جليًّا في السّرد الرّوائي، كيف لا وهي ابنة القدس الشّريف، الّتي وترعرت فيها وسكنت قلبها وعقلها.
حرصت الكاتبة على اختيار الشّخصيات الرئسيّة للرّواية بدراية، من مدنٍ فلسطينيّة مختلفة الدّيانات واللّهجات؛ ممّا أتاح لها تحريكها وفقًا للأحداث والمواقف؛ مثل: المرشد عزّوز من جنين، جورج من بيت لحم، خضر الخليلي من الخليل، والرّاوية. تلك الشّخصيات رافقت الراوية خلال رحلتها من القدس إلى العقبة.
احتوت الرّواية على الحوارات الجماعيّة والفرديّة، بين شخصيّات الرّواية، والحوار الذّاتي – المونولوج – للراوية نفسها؛ مما أتاحت الفرصة؛ للتّعبير عن المشاعر والأحاسيس المختلفة، لكل شخصيّة في الرّواية، ولم تخلُ الرّواية من الحس الفكاهي، الّذي صدر عن أصوات الشّخصيّات المُرافقة في الحافلة.
تعدّدت أصوات الرّواة في الرّواية، وكان صوت الرّاوية بصوت الأنا، وهذا الصّوت كان مركزيّا؛ عبّرت عنه الرّوائيّة به عن نفسها. يبدو لقارئ الرّواية بأنّ هذا الصّوت يعبّر عن مشاعر الكاتبة نفسها؛ ممّا أضاف مصداقيّة للسرد الرّوائي.
رواية “ذاكرة على اجنحة حُلم”، تُعتبر فسيفساء للوحة فنيّة، تخطَ القضيّة الفلسطينيّة، بمعضلاتها وتاريخ نضالها، واستعمارها وانعكاس الاحتلال على حياة الشّعب الفلسطيني، لغاية عصرنا الحالي؛ وهي رواية لملحمة إنسانيّة تكشف خفايا الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة؛ للشعب الفلسطيني، والشعوب العربيّة على حدٍّ سواء.
تُصنّف الرّواية تحت تصنيف الجنس الأدبي كرواية واقعية، ورواية تاريخيّة، كذلك من من المُمكن إدراجها تحت تصنيف أدب الرّحلات.
نجحت الكاتب في عرض أحداث عديدة، في أسلوب لا ينقصه التّشويق والإثارة، على الرّغم من وجود بعض الأحداث غير الضّروريّة؛ لكنّها لا تُنقص من كمالية الرّواية.
من المُمكن اعتبار الرّواية، مصدرا توثقيّا لأرشفته، والاستعانة به لقراءة القضيّة الفلسطينيّة ومداخلاتها؛ ويوصى باقتنائها في المكتبات الفلسطينيّة والعربيّة على السّواء.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
العنوان”ذاكرة على أجنحة حُلم”يضيء نصّ الرّواية ويكشف عن مضمونها التي تسرد الحكايات المكثفة من خلال الذاكرة والأحلام، ذاكرة ما زالت يقظة لا تعرف النوم، ذاكرة غاضبة،حزينة،حبلى بالوجع والقهر، هي ذاكرة المكان والإنسان، فالذاكرة في الرّواية هي توثيق لما شاهدته وسمعته الرّاوية من خلال تنقلاتها في عدّة مدن في الأردن، والقدس، بما في ذلك الأماكن المختلفة، وقد تمّ تسجيل الذاكرة واستعادتها من خلال الوصف والسرد، فكلّ شخصية من الشخصيات العديدة والمكثفة بما فيها الراوية كانت تقوم بسرد حكاية ما، إمّا حكاية الحرب والوجع أو النقد الإجتماعي أو تبوح بآهات الظروف السياسية، ويمكن اعتبار ذاكرة الرّحلة هي كنصوص أدبية في أدب الرّحلات، حيث أخذت حيزا كبيرا في السرد ممّا خلق حالة بُعد عن فحوى الرّواية الأساسي، ألا وهو قصة عبير، ومع ذلك فإنّ السّرد كان جميلا وممتعا حيث يشعر القارىء فعلا كأنه في رحلة استجمام، وذلك لدقة تصوير المشاهد خاصة في سير الحافلة في الاردن والحوار الذي جرى بين الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر.
يشعر القارىء للرّواية أنه أمام مجموعة نصوص أدبية (وليس قصة أو رواية)، تابعة لجنس أدب الرحلات، وقصة قصيرة هي عن عائلة عبير، ولا يربطهما ببعض سوى رسائل متبادلة بين الراوية وعبير، وكان لسرد أدب الرحلات الأثر الأقوى بالنسبة لي مقارنة مع القصة الثانية، وذلك لأني شعرت أن القصة أصبحت وكأنّها ثانوية ربما بسبب السّرد المتقطع لتلك القصة، أو بسبب عدم وجود صراع وتوتر في القصة الذي يجعلني أنتظر بشغف ماذا سيحدث لشخصية ما، فقد كان السرد بأسلوب غلب عليه الطابع الإنشائي العاطفي الجميل، لكنه لا يحرك القارىء لتطور مدهش، طلاق ثم زواج ثم معاناة وطرح قضية بيع وتسريب البيوت، وعلاقة تولين العاطفية مع سامر، علاقة لم تتوج بالزواج بل بانتحار تولين بسبب بيع والدها بيتهم لليهود،تلك القصة جاءت بشكل هادىء وبشكل عاجل.
أُسلوب الأديبة-إنّ القارىء والمتابع لأدب الرّملاوي يلاحظ تسليط مواضيعها على الجانب الوطني، والقدس حاضرة في أغلب أعمالها الأدبية، وفي هذه الرّواية التي ينطلق المكان من القدس ويتجاوز الحدود نحو السعودية والأردن ومدنها، ثم الرّجوع للقدس، نجد الأديبة محافظة على حضور القدس، وكأنّ لسانها يقول لن أتوقف عن حضور قدسي التي تجري في دمي، فكان طرحها لقضية تسريب البيوت والنهاية الحزينة التي ألمت بتولين، فانتصر عشق المدينة على عشق الحبيب.
استخدمت الأديبة الرّملاوي تقنية الفيس بوك والمسنجر التي من خلالهما تمّ التواصل بين الرّاوية وعبير.
استخدمت الأديبة ضمير المتكلّم، الحوار بين الشخصيات أحيانا كان بالعامية وتارة بالفصحى، أما السّرد فكان بأسلوب جميل ممزوج بالاساليب البلاغية، وتدفق العاطفة الطاغية على النصوص،التساؤلات وعلامة الاستنكار لمشاهد الظلم السياسي والاجتماعي.
نجد بصمة الأديبة في الرّواية، إذ أنّ الرّاوية هي معلمة وأديبة ومثقفة ولا تتردد في النقاش وطرح السؤال وتلك هي أيضا صفات الأديبة الرملاوي، خاصة وهي تدافع عن صورة القدس ونقد الأمور السلبية على لسان الرّاوية. وأُسلوب الاسترسال في النقاش.
برزت شخصية الرّاوية المنفعلة من المشاهد السلبية وفي تدخلها من خلال الاسهاب في النقاش.
نجد أثر الكاتبة بين النصوص والحديث عن مجموعتها عشاق المدينة حيث تخاطبها عبير بذكرها المجموعة، وتلك إشارة ربما أن الراوية هي الكاتبة.
جاء إقحام قصة روز زوجة راشد الإيطالي تحت عنوان في حضرة الذاكرة، فقصتهم لا تفيد القارىء، بل وتعتبر حسب رأيي دخيلة على فحوى الرّواية.
كما جاء استشهاد الأديبة لقصيدة أبوفراس الحمداني “الحمامة المطوقة”بشكل زائد لو أنها اكتفت بأسطر قليلة لكان أفضل.
لم يكن العنوان الذي وضعته الرّملاوي “موت تولين”جيدا بحيث كسر المفاجأة عند القارىء، بحيث عرّفتنا بموتها قبل قراءة النص.
وكتب خولة سالم العواودة:
هذه الرواية الثالثة للكاتبة المقدسية نزهة الرملاوي التي أحظى بقراءتها مذيلة باهداء جميل يخصني، والتي عادة ما تتحفنا بأسلوبها الشيق في الولوج لجماليات معشوقتنا المقدسة، تدخلنا في تفاصيل تفاصيل المدينة، نحن المحرومين من زيارتها أو تنسم هوائها، والانتعاش بروائح بخورها وتقبيل حجارتها، قسرا منعنا لا لسبب سوى لأننا أبناؤها وعشاقها البررة، في كل رواية للكاتبة الرملاوي، أشعر أنني أتسكع في حارات وشوارع القدس، أعيد ذكريات ما قبل المنع عنها، لا لسبب سوى عشقي لكل ذرة تراب فيها، وفي مدن الداخل ، محرومون نعم من الدخول أليها أجسادا، ولكن أرواحنا تحلق فيها عبر أقلام أبنائها الذين لم يتوانوا في إيصال رسالتها المذيلة بالعشق لنا، لذا أرى في كتابات الأدباء المقدسيين في وصفهم للمدينة والتماهي في الحديث عنها عزاء لي ولأمثالي من عشاقها، ومواساة لنا لفراق طال أمده، وحتما سينتهي يوم وسندخلها فاتحين.
الرواية في مجملها حداثية الطابع، فمن رسائل الماسنجر إلى الصداقات الافتراضية. تضعنا الكاتبة في صلب معاناة المقدسي الملتاع شوقا، البعيد عن معشوقته قسرا، أو المسافر عنها لسبب ما يقهره غيابه عنها، تصف الكاتبة بكل اقتدار تفاصيل المعاناة والألم، وتتطرق للعديد من القضايا الاجتماعية بتجرد تام، من مشكلة عبير “المقدسية جينيا المبعدة مكانيا”، التي تطرحها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وإصراراها على نشرها عبر قلم الكاتبة وقرائها، إلى معاناة بطلة الرواية “الكاتبة ” في سرد رحلتها عبر القدس ثم العقبة والعودة، وما لمسته من معاناة المسافر عبر الحواجز والجسور، إلى قضية تسريب العقارات وبيعها للأغراب، والتسبب في كوارث اجتماعية لعوائل لا دخل لها في حماقات أحد أبنائها في تسريب عقار ما يخص العائلة.
الرواية توثيقية بامتياز ، تكاد تكون شكلا من أشكال أدب الرحلات، ووصف الأماكن وجماليات السفر ومشاقه في ذات الوقت.
المأخذ الوحيد على الرواية أنها كتبت بخط صغير جدا، ربما لتقليل عدد صفحات الرواية ، فالأحداث والتفاصيل كثيرة وبحاجة لعدد مضاعف من الصفحات إن لم يكن أقل قليلا، ولكن هذا مأخذ أرجو تفاديه في الطبعات القادمة.