عزوق موسى — ويترجل آخر من ارتدى الشاش والقندورة البرنوس حمامة بوحيدوس–
تاريخ النشر: 31/10/22 | 8:05أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { اَلذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}. سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٥٥.
تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا سيدي إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ. في يوم الجمعة03 ربيع الآخرة 1444 موافق 28-10-2022 بعد صلاة الفجر . توفى الوالد الذي ندعوه “سيدي” حبا وكرامة. الرجل الطيب البشوش المحافظ على صلاته جماعة إلى آخر دقيقة دون كلل .اللهم اغفر له وارحمه وعافيه واعفوا عنه وتولى أمره وفك أسره ….كل كلمات الدنيا والدعاء لا تف حبي الأول عليه رحمات ربي تترا. الحاج محمد عزوڨ دادا مسعود في رحمة الله. ( 1929 – 2022 ) .”93سنة”
سيدي حمامة مسجد بوحيدوس صابر محبوب ، أشهد أنه لم يتخلف عن صلاة الجماعة قط ! وأنا أتجاوز الخمسين سنة, ولم أكن أحافظ على صلاتي كما يفعل ولم ابلغ تلك البشاشة في الوجه والسماحة والمسامحة …كما لم تكن الابتسامة تفارقه , كان اللباس التقليدي من البرنوس والقندورة بوعرضين وسروال عرب كذلك …
كتب عنه الأخ والصديق سي امحمد بوعبد الله قال : ( ” رحم الله سيدي الحاج محمد، أو كما كنا ندعوه في زمورة “ددّا مسعود”، وأجزل الله له العطاء، وتقبله في الصالحين من عباده، وصبّ على قلوب أبنائه وأحبائه -وأنا منهم- شآبيب الرضا والسكينة. هكذا هي الدنيا! عاش رحمه الله حتى كاد أن يقارب المائة بالتاريخ الهجري! ثمّ غادر هذه الفانية، فكأنه لم يعش بيننا إلا أيامًا معدودات!
الحاج محمد أيقونة من أيقونات بلدتي زمورة، وعلمٌ من أعلامها! منذ كنا صغارا ونحن نرى الحاج محمد شيخا كبيرا على نفس هيئته! حتى كان أحدنا يقول لنفسه: وكأن الزمن توقف بهذا الشيخ فلا هو يكبر ولا هو يصغر! دكانه ذاك الذي كان يجمع أترابه وكل قادمٍ من خارج زمورة، جعل منه أيضا أيقونة مثله…تمرّ من أمامه فيتبدّى لك الزمن الجميل في تلك “الڤعدة” التي تضمّ أولئك الشيوخ، وكأنهم جاؤوا من زمنٍ غير هذا الزمن! حتى تلك الأشياء التي كان يبيعها في دكانه المجاور للمسجد، هي أشياء من زمن قد انقضى ورحل! تاجرٌ صدوق بشوش! لا أذكر مرة أنني صادفت “دادّا مسعود” عابس الوجه مقطّب الحاجبيْن، كأنّ الدنيا لا تبخل عليه بشيء، فتملأ وجهه حبورا وسرورا! لا مكان للغيبة في مجلسه! كأنه مجلس زهاد وعبّاد، يضنّون على حسناتهم أن تضيع وتُعطى في حرام!
كنتُ ألتقيه عند كل زيارة لزمورة، فيهشّ ويبشّ لرؤيتي ويقول كلمته المعتادة: مرحبا مرحبا مرحبا، هاذا جِيتّ وَلاَّ! فتحسّ أنه يستقبل أحد أولاده! ويبلّغ السلام للوالد دوما! يحزن القلب والله أنني لم أحضر جنازة هذا الذي يحبه الناس جميعا، ولكنّ أقدار الله غالبة، وقدره ماض في خلقه، ولا يملك المرء من أمره شيئا! عمّر سيدي محمد حتى جاوز التسعين، وحافظ على كلّ صلواته، يؤديها في المسجد واقفا دون أن يجلس على كرسي أو يستند على حائط، ويشهد له مسجد بوحيدوس أنه كان حمامة من حمائمه!
وتدٌ آخر انهدّ، وذاكرةٌ رحلتْ، وبركةٌ غادرتْ، وعمامةٌ ترجّلت وذهبتْ، والموعد الله سيدي الحاج”!).
كان الوالد رحمه الله تاجرا متعددا بدأ بالغطيسة مع والده مسعود واخواله ,ثم بيع زيت الزيتون وفي الستينات والسبعينات كان قد نوع تجارته بكل ما يحتاجه الفلاح والبدوي والحضري من الشواريات والقفف والتمر والغرس والطعمة والقيام …وكانت عملية حرفية للحياك ( اغطية الشتاء ) بنوعيه ” المسرح والمرقوم ” رائجة جدا وكان يدفع للعجائز المنطقة المواد الاولية ويدفع لهم مقابل كل منتج ثمن 25 دج وكان يعلم المتقفن من غيره ويدرك من ينقص من المادة الاولية ليعيل بها عائلة اخرى فيغض عنه الطرف وكانت بعد سنين تاتي وتطلب العفو , لكنه يعلمها انه كان على علم بما فعلت وقد سامح الجميع في وقته وقبل ان يطلبوا ذلك . كان يعيل عدة اسرة دون ان يخبر احد وكان من المساهمين في بناء مسجد بوحيدوس والتكفل بتلاميذه حتى في بيته ابان الثورة والتي كان يجمع الاشتراك وفيه قانون لا يعرفه الا المسبل وهو ان جمع الاشتراك لا يكون ليلا ابدا ؟ حتى ان احدهم لما القي عليه القبض وأصبح مع فرنسا توجه إليه ليلا ومعه قوات فرنسية ولما ناداه وطلب منه الاشتراك ليلا وعرفه قال له : ” أذهب تذهب بك الأرض ” ولم يفتح له الباب , ليُعرف في الغد انه أصبح عميلا ؟ ورغم ذلك سامحه ولم يذكر لنا اسمه إلا بعد أن مات …
هكذا يحكي الصديق والأخ سليمان بن قارة محمد بسردية : (” وتفقد زمورة صالحا من صلحائها، وتاجرا بارا من تجارها الأفاضل، هذا الشريف العفيف لم أره إلا في محله أو في المسجد المحاذي له، مذ عرفته وهو على هذه الهيئة، لم يكبر قط، لا يفتر فمه إلا على ابتسامة عريضة يوزعها بالمجان، في الدكان وفي الشارع وفي المسجد، إذا لقيته حياك هاشا باشا قبل أن تبادره بالتحية أو الحديث، يعتمر عمامته البيضاء التي زادته هيبة ووقارا، وتوجته مسحة وجمالا، ومن حسن حظي أنني كنت أتردد في صغري على دكانه أنا وجملة من رفاق المدرسة الابتدائية (حموش أحمد الزين)أنا و عثمان بن سالم وقريق احسين العياشي، ثابت سعد الدين، وغيرهم من الرفاق، ورغم دخولنا بشكل فوضوي مزعج فرادى وجماعات، في وقت واحد بعد دوام الصباح او المساء، لم ينهرنا يوما واحدا، ولا عبس في وجوهنا.، وكثبرا ما كانت أيدي الصغار المتزاحمين على دكانه الصغير _الذي كنا نظنه قصرا منيفا_ تطال حبات التمر او الحلوى وكان يلتفت إلى جهة أخرى حتى لايحرج الصغار، وكنا نظنه بزعمنا أنه قليل الانتباه، وكنت كثيرا ما اختلف إليه، لأقضي حاجات البيت فيزيدني الكيل، ويهديني في كل مرة شيئا يختلف عن سابقه، فاحتار في قوة ذاكرته، وكم كنت آخذ الطعمة من عنده(خيوط قطنية ملونة تستعمل لصناعة الأغطية) أعيدها اليه غطاء أو برنوسا، بعد ليال من الكدح والمشقة تقضيها الوالدة _ أطال عمرها_ في حياكته ، وكم حزنت لما توقف عن بيعها، فيوجهني بعنايه إلى غيره من التجار، لكنني كنت أحجم، لأنني لم أجد من أصدق منه، وأعود إليه مرة أخرى، ويردني بابتسامته العريضة، هناك من هو أحسن مني، اذهب إلى فلان ستجد الخير والبركة، وحين مات والدي رحمه الله، كان دائم السؤال على أحوالنا من الكبير والصغير،فيتأسف عن فقدان أبي مرة، وينصحني أخرى، ويشجعني على الدراسة مرة ثالثة،كان مدرسة بأخلاقه ونبله،وماتغير منه سوى تلك النظارة التي زادته بهاء، وبعض ندمائه من كبار السن الذين يتحلقون داخل حانوته أو على عتبة بابه الطويلة، في آخر أيامه بالدكان، فتسمع أروع القصص والحكايا، ومئات الابتسامات التي توزع على المارة والأطفال، رحم الله من قضى نحبه من التجار الصادقين ، من المرحوم إلى عزوق سي المداني وسي الساسي والشريف تيلو، وسي لخضر بن حسين، واحسين بن عمار، واحسين قارة، ودالي عصمان رحمهم الله أجمعين، ولتعذروني على مانسيت، تقبلك حفي الصالحين وحشرك مع الأنبياء والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
عزائي لأهله وذويه بجميل الصبر والسلوان . وفي القلب بقية من الشجن.)
كل زمورة قامت بالتعزية وأكثر ما تسمع :” انه ابونا جميعا ” , يا ما سعدوا خالي محمد سيدي , … وحضر الجنازة الجميع , وفي ليلة العزاء ببيتنا المعلوم حضر الطُلبة وختموا القران الكريم , وجاء كل الناس من الجيران الاهل والاحباب وحضر الشيخ رابح وكمال والشيخ طاهر ” الذي تخوخ ” وهو يردد القصيدة المشهورة المشهودة التي تنسب إلى عالم دين ( متصوف) ليبي هو عبد السلام الأسمر بن سليم الفيتوري الإدريسي الحسني. ( 880-981)، من فقهاء المالكية وعالم في عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن أبرز مشائخ التربية والسلوك على منهج أئمة التصوف.
للقصيدة حكاية :
وسواء صحت نسبتها للرجل الصالح أم لا ( لان فيها عدة روايات ومقاطع بالدارج الجزائر والليبي والمغربي ؟) فإن القصيدة لها قصة جميلة ، حيث تحكي عن شاعر منعه شيء ما من الحج إلى بيت الله الحرام ، فطلب من ” الحجاج ” المحظوظين ويسميهم بأهل الشمائل ويؤكد عليهم أن يعزوه ويواسونه « شايلوني» في نظرة بعيونه ( رؤيا مفترضة) للمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ..وهكذا يبني الفكرة والقصيدة …ويصل ” المقام الصوتي ” أعلاه وهو يبلغ المرسول ( المرسل ليبلغ النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم السلام ) : ” روح يارسولي اليهم بسرعة وقبل يديهم واقراء سلامي عليهم لعلهم يرحموني” , ويقبل الايدي افتراضيا لطلب رحمة من الله تقرب البعيد وتجمع المتحابين في الله :
القصيدة :
اهل الشمايل شيلوني ننظر محمد بعيوني نزلة حول المطاية اقولو بالله احميلوني
الى منزلي قومي قد سافر ونسوني بكيت حتى راتاني الطيرو فوق الغوصوني
عن سادت خلفوني ابكي دمعا للعيوني وفي عيونا عيوني وفي جفون جوفوني
ويا قلوب تخبط على الدي فرقوني لوحو على وقولو مسكين قتيل العيوني
روح يارسولي اليهم سرعن وقبل يديهم واقراء سلامي عليهم لعلهم يرحموني
اللهم يارحمان يارحيم ياذا الجلال والاكرام ارحم ابي وجيع المسلمين
والى لقاء محبكم الميتم في الخمسين رحمنا الله جميعا
عزوق موسى محمد
بارك الله فيك سيدي موسى على هاته الإطلالة الطيبة.شرحت لنا من خلالها كل شيى. أشكرك على الشجاعة.ونطلب من الله أن يرحم الوالد بالرحمة والمغفرة ويجعل مثواه الجنة مع خالتي عيشوش المرأة الطيبة الحنونة.